الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة القديمة وخصائصها:
وأول ما يجدر الالتفات إليه -فيما يختص بالشعر القديم- هو أن الشاعر -وكذلك الناقد- كان ينزع نزعة حسية في فهم الجمال وفي تصويره. هذه النزعة الحسية كانت حرية أن تفرض نفسها على "الصورة الشعرية"، فإذا نحن قرأنا بيت ابن المعتزّ المشهور:
وأنظر إليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
تمثلت لنا تلك الخاصة الحسية في الصورة، فقد أراد الشاعر أن يصور الهلال فالتمس له من عالم الحس صورة الزورق الذي يسبح في الماء وقد حمِّل بالعنبر. وإذا نحن مضينا في تحليل هذه الصورة وجدنا أن شكل الزورق يشبه تمامًا شكل الهلال، وأن حجمه يساوي حجم الهلال "من بعيد"، وأن لونه "ولا غرابة في أن يكون لون الزورق فضيًّا" يشبه لون الهلال، والهلال في السماء كالزورق في الماء. وبذلك يتساوى الهلال والزورق من حيث الحجم والشكل واللون والواقع، وهي الأمور الحسية التي تعيّن وجوه التشابه. وقديمًا أعجب النقاد والشعراء بهذا البيت، بل أصبح من الأبيات التي يستشهد بها على الصورة الناجحة. وقد كان نجاح ابن المعتز يرجع إلى أنه استطاع أن يجد في تصويره للهلال الشيء الموازي له في عالم الحس، فراح يضعه في جانبه فإذا هما يتطابقان تطابقًا تامًّا، كما يتطابق المثلثان المتساويا الأضلاع والزوايا. وهذا ينتهي بنا إلى استخلاص صفة أخرى غير الحسية، امتازت بها الصورة القديمة، وهي صفة "الحرفية"، وأعني بالحرفية أن يصرف الشاعر كل همه في أن يأتي للشيء بالصورة الحسية الموازية له، المتطابقة معه جزئيا وكليا. فعناصر التشابه التي رأيناها في المثل السابق تتطابق التطابق الحرفي الذي لا يترك خاصة حسية في الشيء المراد تصويره إلا جاء له في الصورة بما يساويه ويوازيه.
وحتى الآن نكون قد استخلصنا صفتين أساسيتين من صفات الصورة القديمة هما "الحسية" و"الحرفية"، والصفة الثالثة من صفاتها أنها "شكلية". وماذا نريد إذن بالشكلية؟ لا شك أن الشاعر لا يصور لمجرد التصوير، وبعبارة أخرى: لا يسخر الشاعر قواه الإبداعية لكي يحكي لنا الشيء كما هو، فالمحاكاة وحدها قد تروقنا كما حدث في بيت ابن المعتز السابق، ولكننا نطلب في الشعر شيئًا آخر هو الشعور، وهو ما افتقدته الصور القديمة. فإذا وقفت لحظة لتسأل ابن المعتز: أي ربط نفسي بين الزورق والهلال في نفسك حتى حرك الهلال فيها صورة الزورق؟ ثم أي "شحنة" شعورية يثيرها الهلال في النفس قد نقلها ذلك الزورق؟ لم تجد أي رابط نفسي، كما لم تجد أي شعور. إن
الهلال يثير في النفس معاني ومشاعر لا حصر لها، يثير فيها مشاعر الطفولة التي تحبو، ويثير فيها معاني الأمل في مستقبل بسام وضيء، ويثير فيها الشعور بتجدد الحياة، وقد يثير فيها الإحساس بالضيعة، وما أشبه، فإذا انتقلت إلى الصورة التي كان من المفروض أنها ستقرب من نفوسنا واحدًا من هذه المشاعر وتحدده لم تجد بين هذه الصورة وأي شعور من تلك المشاعر علاقة، بخاصة حين نتذكر "العنبر" الذي لم يأت به الشاعر في الصورة إلا لأنه أقرب شيء يساوي ويوازي حسيا منطقة السوداء "المضيء" الذي يقرب من اللون البني، والذي يقع في منحنى الهلال. كل هذا يخلص بنا إلى أن الصورة لم تكن لتتجاوز الشكل الخارجي للأشياء، دون تعمق لها من جهة، ودون استغلالها في نقل مشاعر محددة في نفس الشاعر من جهة أخرى. ولعلني لا أغالي إذا قلت: إن الشاعر كثيرًا ما كان يندفع وراء الصور الحسية التي تبدو له غاية في الجمال، ويتغافل عما يمكن أن يكون بين الشعور الذي تثيره، والشعور أو المعنى الذي كان ينبغي عليها أن تنقله إلى القارئ، من علاقة. وأذكر هنا ذلك البيت القديم الذي أراد الشاعر فيه أن يصور فتاة باكية حزينة نادمة فقال:
فأمطرت لؤلؤًا من نرجس، وسقت
…
وردًا، وعضت على العناب بالبرد
فجعل اللؤلؤ موازيًا للدموع، والنرجس مقابلًا للعين، والورد للخدود، أما العناب فلأطراف الأصابع، وأما البرد فللأسنان. وأعتقد أن كل ذواقة يحس ما يمكن أن تثيره هذه الصورة في النفس من ألوان المشاعر، لا يمكن -بحال من الأحوال- أن يحس بإحساس تلك الفتاة المسكينة الحزينة الباكية النادمة، فالمطر واللؤلؤ والنرجس والورد والعناب والبرد -وهي جميعًا العناصر التي تكونت منها الصورة- لا يمكن أن تكون أداة لنقل مشاعر الحزن والندم، بل لعلها تثير في النفس مشاعر البهجة والارتياح، أي المشاعر المضادة.
فالصورة الشعرية القديمة إذن صورة حسية حرفية شكلية، وقد استتبع ذلك صفة أخرى جوهرية هي "الجمود"، فلم يكن في الصورة أي خاصة عضوية أو حركية، بل كانت عناصر جامدة.
وكذلك كانت الصورة القديمة "جميلة" دائمًا، ولكنه الجمال الذي يتمثل للحس. وإعجاب الناس بها راجع إلى ذلك الجمال الذي يروع الحواس؛ لأن فهمهم للجمال -كما ذكرت- كان يقف عند هذا المدى.