الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"هيوم"1 عملًا فلسفيًّا حاسمًا في الثانية والعشرين، فهل العبقري في الحقيقة مبدع أم مجرد منفذ يعبر روح العالم وعقله عن نفسيهما من خلاله؟ "2.
فإذا قلنا: إن العبقرية مبدعة أسقطنا -أو استطعنا أن نسقط- أثر البيئة وأثر المجتمع في إنتاج الفنان والأديبح لأن "موزار" في سن السادسة لا يمكن أن يقال: إنه حين ألف أعمالًا موسيقية كان قد اتخذ لنفسه "موقفا فكريا" خاصا من مجتمعه، وإن تأليفه كان متأثرًا بهذا الموقف.
وإذا قلنا: إن العبقرية مجرد منفذ ألغينا كيان الأديب وفرديته، وقربنا من القول بالآلية.
وليس هنا مجال التوسع في شرح هذه المسائل3، ولكن الذي يهمنا هو أن نكون على وعي بموقف الأديب من المجتمع، فالأديب له فرديته ولا شك، ولكنها الفردية المتحققة بوجود المجموعة وفيها. وهو كذلك له عبقريته المبدعة، ولكن ما يبدعه لا تكون له قيمة إلا بما يحدث من أثر في المجموعة.
فالأدب إذن -في عبارة موجزة- قيمة إنسانية اجتماعية.
1 دايفيد هيوم David Hume "1711-1776 م": فيلسوف إسكتلندي، قال: إن الاختيار مصدر المعرفة كلها.
2 Joyce cary: What does Art create.، ed، in "Literature and Life"، London 1951، 2nd vol. p. 35.
3 للتوسع في ذلك راجع كتابنا "الأسس الجمالية في النقد العربي" دار الفكر العربي، ط8 سنة2001، وكذلك كتابنا "التفسير النفسي للأدب" ط4 دار غريب.
4-
مناهج دراسة الأدب:
ومن الممكن النظر إلى التاريخ كله، والعوامل البيئية كلها، على أنها تشكل العمل الفني. ومعظم دارسي الأدب يحاولون أن يعزلوا مجموعة خاصة من ألوان النشاط والإبداع البشري، ويعزون إليها وحدها الأثر الحاسم في العمل الأدبي؛ ومن ثَمَّ تنظر مجموعة من الدارسين إلى الأدب على أنه -بصفة أساسية- نتاج مبدع فرد، وينتهون من ذلك إلى أن الأدب ينبغي أن يفحص -بصفة أساسية- من خلال الترجمة لحياة المؤلف، ودراسة نفسيته.
ومجموعة ثانية تبحث عن العوامل الأساسية الحاسمة للإبداع الأدبي في حياة الإنسان العامة، تبحث عنها في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ومجموعة أخرى تبحث عن التفسير السببي للأدب بصفة خاصة في نتاج جمعي آخر للعقل البشري، كتاريخ الأفكار وتاريخ الديانة والفنون الأخرى.
وأخيرًا، هناك مجموعة من الدارسين تحاول شرح الأدب في ضوء نظرية "روح العصر1 Zeitgeist".
ويبدو أن الرجوع بالأدب إلى أن يكون أثرًا لسبب واحد من هذه الأسباب أو غيرها خطأ ظاهر.
وقد قامت نظرية "تين2 Taine" في تفسير الأدب على اعتبار:
1-
الجنس.
2-
البيئة.
3-
العصر.
أما الجنس فلم تكن دراسة "تين" له دراسة حاسمة، أما العصر فقد دخل في مفهوم البيئة، ويبقى تأثر الأدب بالبيئة. ومن الممكن أن يرتبط الأدب بالأوضاع الاقتصادية المادية، والسياسية، والاجتماعية، ولكن بطريق غير مباشر. وطبيعي أن هناك علاقات بين كل ألوان النشاط البشري، فمثلا نستطيع أن نجد علاقة بين طرق الإنتاج والأدب، من حيث إن النظام الاقتصادي له من القوة ما يتحكم به في أساليب حياة الأسرة، وتقوم الأسرة بدور مهم في الثقافة، في معاني الجنس وفي الحب، وفي كل الأمور العادية والتقليدية في المشاعر الإنسانية3.
ولكن هل حقا تؤثر الفلسفة مثلا، أو النظريات الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، هل حقا تؤثر في توجيه الأدب توجيهًا خاصًّا؟ وأين إذن تكون نقطة البداية؟ من أين تنطلق الشرارة الأولى؟ هل تبدأ السياسة فتؤثر في هذه المظاهر الحضارية الأخرى لأمة من الأمم، أم تكون تلك البداية للنظريات الاجتماعية؟ ولماذا -في هذه الحالة- لا نقول: إن الأدب قد يكون هو الموجه الأول الذي يؤثر في اتجاه ألوان النشاط الأخرى؟
من الممكن أن يحاول كاتب من الكتاب أن يبين كيف أن فلسفة معينة لعلم من أعلام الفلسفة قد أثرت في اتجاه الحياة الأدبية في عصر من العصور. وكل ما يمكن أن يقال عن هذا التفاعل بين الفلسفة والأدب يمكن -كذلك- أن يقال عن التفاعل بين
1 انظر Wellek & Warren: كتابهما السابق ص65، 66.
2 هيبوليت أدولف تين Hippolyte Adolphe Taine "1828-1893 م": ناقد فرنسي، حاول أن يطبق المنهج العلمي في النقد الأدبي.
3 انظر المرجع السابق ص107.
الأدب والاجتماع، وبين الأدب وعلم النفس، وبين الأدب والسياسة
…
إلخ، فأصحاب هذه الميادين يستطيعون أن يتطوعوا بتقديم التفسيرات المختلفة، المتضاربة أو المتفقة، لاتجاه أدبي سائد في عصر من العصور.
وقد قررنا أن الأدب يتأثر بظروف الحياة المختلفة، إلا أنه يبدو من الممكن -مع ذلك- قبول وجهة نظر تجعل من لون خاص من ألوان النشاط البشري "نقطة البداية" لكل ألوان النشاط الأخرى، سواء أكانت نظرية "تين" الذي يرد كل القدرة الإبداعية إلى عامل بيولوجي غامض هو الجنس، أم نظرية "هيجل"1 والهيجليين الذين يعدون "الروح" القوة المحركة الوحيدة في التاريخ، أم نظرية الماركسيين2 الذين يأخذون كل شيء عن طريق الإنتاج3.
نحن بذلك نستطيع أن ننفي ما شاع خطأ من أن الأدب يتأثر بالبيئة والثقافة ونظام الحكم، أو بأي لون آخر من ألوان النشاط البشري؛ لأن هذه الأشياء ذاتها قد تتأثر بالأدب بنفس المعنى، ولكن من الأفضل أن نعد كل ألوان النشاط صورًا تعبيرية إنسانية مختلفة لجو عام أو طابع أو روح عام، "فليس الأدب سوى مسرب من المسارب الكثيرة التي يصب فيها عصر من العصور نشاطه، ففي حركاته السياسية، وفي فكره الديني، وفي نظره الفلسفي، وفي فنه، نجد نفس النشاط وقد اتخذ صورًا أخرى من التعبير"4.
وسأستعرض فيما يلي أمثلة من التاريخ نرى من خلالها كيف كان "المذهب الأدبي" تعبيرًا فنيًّا، مباشرًا أو غير مباشر، عن روح الحياة السائدة في فترة بعينها.
المذاهب الأدبية:
في القرن السابع عشر، وفي إيطاليا، يبدأ العصر "الكلاسيكي"5 بالنزعة "الإنسانية". وقد كانت هذه النزعة حركة عقلية امتدت إلى الحياة الاجتماعية، وكان ممثلو هذه النزعة يعيشون في بلاط الأمراء وأعوانهم، وكان لهم تأثير كبير في كل عناصر المجتمع. وسرعان ما امتد هذا اللون الحضاري إلى فرنسا في بلاط الأمراء، وتمثل بخاصة في بلاط "مارجريت دي نافار"6. وقد كان هذا الاتجاه اجتماعيا، ولم
1 جورج فلهلم فريدريك هيجل George Wilhelm Friedrich Hegel "1770-1831م": فيلسوف ألماني، صاحب المنطق الجدلي الهيجلي.
2 كارل ماركس Karl Marx "1818-1883 م": فيلسوف اجتماعي، ألماني الأصل، أشهرآثاره:"رأس المال Das Kapital".
3 المرجع السابق والصفحة.
4 Hudson: An Introduction to the Study of Literature.
5 الكلاسيكي "Classic"، والكلاسيكية "Classicism".
6 Marguerite de Navarre "1492-1549 م": شقيقة الملك فرنسوا ملك فرنسا، وهي أرملة شارل الرابع. تزوجت في عام 1527 من ملك نافاز. وقفت إلى جانب دعاة الإصلاح الديني، وهي شاعرة وكاتبة. لها مجموعة قصصية بعنوان:"L'heptameron".
تكن له أول الأمر علاقة مباشرة بالأدب. وهو وإن كان حقا لم ينتج أدبًا من الطراز الأول، فإنه لولا هذه الحركة لما كان من الممكن أن تكتب الأعمال الفنية الكلاسيكية الرائعة.
وفي القرن الثامن عشر نجد نزعة فلسفية واضحة تمتد لا لتجرف الأدب في تيارها، بل تتعدى ذلك إلى البحوث الذوقية الجمالية الصرف. ومنذ أواخر هذا القرن، وفي القرن التاسع عشر، تظهر "الرومانتيكية"1 وتنتشر، وكان بعض النقاد يصفها بأنها "مرض العصر" وهو مرض لم يتأثر به الأدب وحده، بل كان طابعًا عامًّا للعصر كله.
وعلى الإجمال، من الممكن الكلام عن الأدب الكلاسيكي بوصفه أدب العقل، والصنعة الماهرة، وجمال الشكل، واتباع الأصول الفنية القديمة للأدب، وعن الأدب الرومانتيكي بوصفه أدب العاطفة والخيال والتحرر الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من ربقة الأصول الفنية التقليدية للأدب، والأدب الرومانتيكي يمثل "روح" الثورة، والتمرد، والانطلاق، والحرية.
وقد استمرت الرومانتيكية تحتل الميدان حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، ففي الربع الثالث من هذا القرن ينشط اتجاه آخر هو الاتجاه "الواقعي". وكما كانت الرومانتيكية رد فعل الكلاسيكية، فكذلك كانت "الواقعية"2 رد فعل الرومانتيكية.
والواقعية هي تصوير الحياة على ما هي عليه، ولكن ليس هذا هو التحديد الدقيق للواقعية من حيث هي مذهب أدبي؛ لأن الواقعية في الحقيقة تؤكد بعامة جانبًا خاصًّا من الحياة، هو أقل الجوانب تمدحًا بالنبل الإنساني. وقد فصل "جورج مارلييه" في بحث ألقاه في المؤتمر الدولي لتاريخ الفن الذي عقد في بروكسل سنة 1930 بين الواقعية التي تفهم من حيث هي معاناة حرفية للواقع، والواقعية كما تفهم من حيث هي تصوير لمناظر من الحياة المنحطة3.
وقد كانت الواقعية تعبيرًا عن ذلك الروح الجديد الذي سيطر على الحياة في ذلك الوقت، وهو "الروح العلمي"، فقد ترك الواقعيون خيالات الرومانتيكيين وأحلامهم، وراحوا يلتمسون الحقيقة في الواقع الملموس، فليس للواقعيين إيمان بعالم علوي فوق المحسوس، ولكنهم يؤمنون بالحقيقة الواقعة، وهذه الحقيقة يمكن الوصول إليها عن طريق التجربة.
1 Romanticism.
2 Realism.
3 انظر:
Read H، the Meaning Of Art.، Faber، London، 1st. ed. 1931، pp. 81-3.
ومن المألوف عند الناس أن ينظروا إلى هذه المذاهب الثلاثة: الكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية، على أساس أن بينها صراعًا، والحقيقة أن كل مذهب منها يمثل الحد الأقصى للون فقط من ألوان النشاط الإنساني، فالدوافع البدائية تؤدي بنا إلى الرومانتيكية، وإحساسنا بالحقيقة يؤدي بنا إلى الواقعية، ويؤدي بنا إحساسنا الاجتماعي إلى الكلاسيكية، أي: الفن الذي يحترم فيه الناس القانون والتقاليد. وأحسن الأدب -فيما أعتقد- هو ما حافظ على التوازن بين هذه القوى جميعًا، كما صنع هوميروس1 وتشوسر2 وشكسبير3 ورنسار4 5. غير أن كل مذهب يتطرف في اتجاهه حتى يصل إلى زمن يحس الناس فيه بأنه ليس كافيًا للتعبير، ويمضون يبحثون عن أسلوب جديد. ومن هنا ظهر "المذهب الرمزي" في أعقاب الواقعية.
وزعماء الرمزية الأوائل هم "بودلير"6، و"فرلان"7، و"مالارميه"8.
وقد كان لهؤلاء الشعراء -برغم اختلافاتهم الواضحة- وجهة نظر واحدة في الحياة؛ ومن ثم كانت "الرمزية9 Symbolism" -رغم أشكالها المختلفة- تتحد في عقيدة واحدة حددت طابع شعرها.
كانت حركة القرن التاسع عشر الرمزية في فرنسا حركة صوفية في جوهرها. وقد عارضت -في أسلوب نبيل- الفن العلمي لعصر كان قد فقد كثيرًا من اعتقاده التقليدي في الدين، وأمل في أن يجد بديلا منه في البحث عن الحقيقة. وقد عارض الرمزيون هذه الواقعية العلمية، وكان اعتراضهم "صوفيا" من حيث إنه قام يدعو لعالم مثالي هو -
1 Homer "القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد": شاعر يوناني، صاحب ملحمتي "الإلياذة Ilid، والأوديسة Odyssey".
2 جيوفري تشوسر: Geoffery Chaucer "1340-1400 م": شاعر إنجليزي، ولد في لندن. قلد الشعراء الإيطاليين، وأسهمت أعماله الأدبية في إثراء قواعد اللغة الإنجليزية. ومن أشهر أعماله "قصص كنتربري the Canterbury Tales".
3 William Shakespeare "1564-1616": شاعر إنجليزي، يعد أعظم الشعراء الإنجليز بلا استثناء. وضع عددًا من المسرحيات الشعرية الخالدة.
4 ببير دي رونسار Piarre de Ronsard "1524-1585": يعد أحد مؤسسي مدرسة "Plaiade" التي نادت بالتجديد في الشعر، واستخدام اللغة الفرنسية في كتابة الأعمال الأدبية، مع العمل على تنويع مصادر الإلهام.
5 F. L. Lucas.، Literrature and Psychology. Cassel & Company. London 1951. p. 100.
6 شارل بودلير Charles Baudlare "1821-1867 م": شاعر فرنسي، تميز شعره بطابع رمزي.
7 بول فرلان Paul Verlaine "1844-1896 م": شاعر فرنسي، تأثر بأشعار شارل بودلير. تأرجح في كتاباته بين الخير والشر والإيمان والإلحاد.
8 إسطفان مالارميه Stephane Mallarme "1842-1898 م": شاعر فرنسي، يعد مؤسس المدرسة الرمزية وزعيمها.
9 لمعرفة نشأة مدرسة الرمزية وتاريخها انظر: Max Nordau: Degeneration، William Heineman، London 1931، pp. 100 ff.
في حكمهم- أكثر واقعية من عالم الحواس. ويدعى "مالارميه" وأتباعه رمزيين بحق؛ لأنهم حاولوا أن ينقلوا تجربة علوية في لغة الأشياء المرئية؛ ومن ثم فإن كل كلمة تكون رمزًا، وتستخدم لا في غرضها العادي بل لما تثيره من علاقات تتصل بحقيقة فوق الحواس.
فالرمزية تؤمن بالعالم من الجمال المثالي، وتعتقد أن هذا العالم يتحقق في الفن، والأشواق التي يجدها العابد خلال الصلاة والتأمل تتحقق للشاعر الرمزي خلال عمله. وقد يكون فهم الرموز صعبًا على الآخرين، ولكنها حين تنكشف لهم تنقل إليهم بهجة علوية لا تتحقق بأي أسلوب آخر.
وهكذا خالف الرمزيون الرومانتيكيين من حيث تحاشيهم الموضوعات الشعبية والسياسية. وكذلك كانوا أعداء لوجهة النظر الواقعية أو العلمية؛ لأنها -بطبيعتها- تنكر، أو تحطم العالم المثالي الذي هو مركز لألوان نشاطهم. ويمكن أن يقال -من الناحية السياسية: إن الرمزية كانت رد فعل أرستقراطي لانتشار الأفكار الديمقراطية، فلم يكن الرمزيون يتحدثون إلى وطن أو إلى جيل، ولكن إلى أنفسهم.
وقد اهتم الرمزيون بالموسيقى في شعرهم اهتمامًا كبيرًا، وكان تأثرهم عظيمًا بموسيقى "فاجنر"1، فكانوا حين يستمعون إليها يحسون في عظمتها وقوة دفعها شيئًا جديدًا، وقد وجدوا فيها مثيرًا يشبه تمامًا ما أرادوا أن يحدثوه من خلال شعرهم. ومن هنا كانت الموسيقى أساسية عندهم؛ لأن عملها الإثارة والإيحاء، وكان "مالارميه" يرى أن الشعر يجب ألا يعلم فقط بل يوحي ويثير، ألا يسمي الأشياء بل يخلق أجواءها2.
وإذا كنا نستطيع أن نميز القرنين السابع عشر والثامن عشر بنزعتهما الكلاسيكية، فإننا لا نستطيع كذلك أن نتحدث عن طابع القرن العشرين مثلا؛ ذلك أنه عصر معقد غاية في التعقيد، والمذاهب فيه تظهر وتختفي بين فترة وأخرى، وقد فقد الناس فيه ثقتهم في العقل "الكلاسيكية" كما فقدوها من بعد في العاطفة "الرومانتيكية"، وراحوا بعد ذلك يبحثون عن أسلوب جديد لإدراك الحقيقة، وقد ظهرت نتيجة لذلك مدارس كثيرة مختلفة ومتعارضة، ولكننا نستطيع أن نلمح عاملًا واحدًا يكمن وراءها ويوجهها هو "اللاشعور". فالروح العام لذلك العصر هو البعد عن العالم الخارجي والفرار منه إلى العالم الداخلي، والأديب في هذه الحالة يترك ذاكرته "اللاشعورية" تعمل وتسجل أفكارها الغريبة، وهو بذلك يحاول نوعًا من الكتابة الآلية التي تقترب -بدرجة تختلف
1 ريتشارد فاجنر Richerd Wanger "1813-1883 م": مؤلف موسيقى ألماني، أدخل الدراما في الأوبرا.
2 المعلومات التي عن الرمزية هنا يرجع فيها إلى:
C. M. Bowra: the Herritage of Symbolism.، macmillan، London، 1943، pp. 16.
قلة وكثرة- من عمل اللاشعور عنده، أو يمثل ذلك العمل عن طريق تداعي الأفكار، والروائي الفرنسي "مارسيل بروست"1 في روايته "في البحث عن الزمن الضائع" يعطينا مثالا للاتجاه إلى اللاشعور، فإذا كان "بروست" يحاول أن يستجمع الزمن الضائع فليس ذلك إلا أنه يعتقد أن الماضي دائمًا حاضر في مكان ما من اللاشعور، ولا يحتاج إلا لما يثيره ويخرجه إلى السطح.
هذا الاتجاه يتبلور في وضوح في المذهب "السيريالي"، فالسيريالية2 تعتمد على آلية نفسية صرف، تهدف إلى التعبير -سواء باللغة أو بالكتابة أو بأي طريقة أخرى- عن العمل الحقيقي للاشعور، فهي إملاء اللاشعور، دون وجود أي رقابة للعقل، وبعيدًا كل اهتمام فني أو أخلاقي3.
ويمكن أيضًا تلمس خيوط الاتجاه إلى اللاشعور بتأسيس المذهب "الدادي Dadaism" على يد "تسارا"4 في زيوريخ سنة 1916، ذلك المذهب الذي انتقل إلى فرنسا بواسطة "فيليب سوبر"5. وقد يمكن فهمها بوضوح من الصورة التي عبر بها "سوبر" عن هذا الاتجاه بقوله:"ضع الألفاظ في قبعة، ثم أخرج منها ما يعنّ لك، فبهذا يصنع الشعر الدادي"6.
ومن الجدير هنا بالملاحظة أنه في هذه الفترة التي يحاول فيها الأدب ارتياد اللاشعور والتعبير الآلي التلقائي عن مكنونه، في هذه الفترة كانت فلسفة "برجسون"7 الخاصة بالحدس المباشر8 intuition من حيث هو أساس الإبداع الفني، ونظريات "فرويد"9 النفسية التحليلية الخاصة باللاشعور، كانت قد لقيت رواجًا عظيمًا.
1 مارسيل بروست Marcel Proust "1871-1922 م": روائي فرنسي، عني بالتحليلات النفسية لشخوصه الروائية.
2 Sur-realism.
3 Andre Breton; Les Manifestes du Surrealisme.، Edition du Sagettaire، Paris 1964، p. 45.
4 ترستان تسارا Tristan Tzara "1896-1963 م": كاتب فرنسي من أصل روماني.
5 فيليب سوبو Philippe Soupault: كاتب فرنسي اشترك في تأسيس مجلة: "الأدب" في باريس سنة 1919، حيث ظهر فيها أول عمل "سريالي"، وهو الحقول المغناطيسية.
6 Laurence Bisson: A short History of Literature، Pelican Book، 1943، p. 145.
7 هنري برجسون Henri Bergson "1859-1941 م": فيلسوف فرنسي، مُنح جائزة "نوبل" في الأدب 1927م.
8 الحدسية "intuitionism": مذهب يقول بأن ثمة حقائق أساسية تعرف بالحدس.
9 سيجمند فرويد sigmund Freud "1856-1939 م": طبيب أمراض عصبية ونفسية، نمساوي الأصل. أسس منهج التحليل النفسي Psychoanalysis.
ومن الملاحظ أن الإنتاج الأدبي في هذه العصور المختلفة لم يكن مقسمًا بالتساوي بين الأنواع الأدبية المختلفة، ففي القرن الثامن عشر غلب النثر. ويذهب "درنكووتر1 Drinkwater" إلى أن تاريخ النشاط الأدبي بين سنة 1914 وسنة 1939 -أي: بين بدايتي الحربين العالميتين- هو إلى حد بعيد، تاريخ القصة، ولا عجب في ذلك عنده، فقد كانت هذه الفترة فترة اضطراب اقتصادي وخلقي وعقلي. وقد تبع ذلك أن المادة التي كان على الكاتب أن يتناولها كانت معقدة إلى حد أنه لكي يضعها في شكل أدبي، كان في حاجة إلى صورة تستطيع تسجيل كل أنواع الأفكار والتجارب، والقصة تفي بذلك الغرض؛ ومن ثم أصبحت القصة أداة الجميع في التعبير، فاحتلت المكان الذي كانت تشغله أدوات التعبير الأخرى، كالمسرحية والمقالة والقصيدة الطويلة. وقد شجع الكاتب في هذا الاختيار معرفته أن المستويات الثقافية العالمية قد خلقت جمهورًا لا يشجعه على قراءة الأدب إلا إطار الفن القصصي. وربما كان الميل إلى القصة كذلك راجعًا إلى أن القصة من بين جميع صور التعبير، تبدو أقل هذه الصور خضوعًا للقواعد والتحديدات، وقد كان هذا العصر عصر التمرد على الأصول، وكراهية هذه الأصول هي التي أدت كذلك إلى حركة التدهور في الشعر2؛ ولذلك نلاحظ أن كثيرًا من الأدباء الذين بدءوا حياتهم شعراء في تلك الفترة من القرن العشرين قد تحولوا إلى كتابة القصة. لقد كانت القصة أطوع في أيديهم لتحليل كثير من مظاهر اللاشعور، ويمكن تلخيص اتجاه الأدب في هذه الفترة بأنه كان -من جانب الأديب- تعبيرًا عن اللاشعور تعبيرًا حرًّا، يجتهد في أن يوصله إلى نفس متلقي فنه عن طريق الحس.
وقد حدث تغير كبير في العالم في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها. تغيرت مُثُل، واستُحدثت قيم، وتغير وضع الإنسان تغيرًا واضحًا. ويلاحظ "درنكووتر" أن الإنسان في السنوات الأخيرة قد أصبح تحت ضغط الحوادث حيوانًا سياسيًّا، فقد لعبت السياسة دورًا في حياة الفرد، ولكنه يستطيع أن يختار إلى أي حد ينبغي أن يكون مقدار هذا الدور. ففي القرون الماضية لم تكن جماهير الناس تستطيع القيام بأي دور فعال في هذا الميدان، فكانت تظل مبتعدة عن سير الحوادث في عالم السياسة إلى أن تؤثر هذه الحوادث في حياتهم ومصالحهم. وبقيام الديمقراطيات، وانتشار الثقافة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبحت السياسة هَمَّ كل إنسان. وقد نتج عن ذلك إحساسنا بالتفاعل القوي بين الفرد والجماعة، وكان من أثر ذلك الأدب المعاصر أن
1 جون درنكووتر John Drink Water "1882-1937 م": شاعر وناقد وكاتب مسرحي إنجليزي.
2 راجع:
Drink water "John": The Outine Of Literature. George Newnes، London 1950، P. 752.
القصة -وكانت تعتمد بصفة أساسية على الصراع، والعلاقات بين الأفراد- قد تدهورت، وهي حيثما وجدت أصبحت تقبل العبارات الجديدة التي تشير إلى الصراع الجماعي. وبجانب ذلك احتل الكتاب السياسي مكانته، ولا يخلو من الدلالة أن مجلدات "ونستون تشرشل"1 عن تاريخ الحرب كانت أكثر المؤلفات توزيعًا، مع ارتفاع ثمنها ارتفاعًا كبيرًا، ومع أن "تشرشل" ليس كاتبًا محترفًا.
وقد أصبح الشعر كذلك سياسيا، فقد مال الشعراء بين الحربين العالميتين ناحية الجناح الأيسر، واعتقدوا -مع المثالية الخاصة بهم- أن هناك أملًا جديدًا يظهر للبشرية في انتصار الشيوعية، وفن المسرح الذي يلاقي أكبر نجاح حين يدرس الأفراد قد تحرك نحو الموضوعات الأعم. وقد حاولت المسرحية التعبيرية2 والمؤلفون المسرحيون التعبيريون أن يصوروا بالرموز القوى الهائلة الفعالة في العالم، وتأثر المسرح الروسي بالوعد بمدينة اقتصادية فاضلة، فقدم المسرحيات والباليهات واللوحات المسرحية التي تعظم من شأن الآلة. وفي كل الأقطار التي وقعت تحت تأثير سياسة الدولة الجماعية -كالفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا- كان على الأديب أن يقبل النظرية التي تذهب إلى أن الغرض من الفن هو خدمة الدولة في ظل نظام الحكم القائم.
ويضيف "درنكووتر" أنه من النادر أن تظهر الدعاية الفنية العظيمة. والحق أن روسيا قد أنتجت قدرًا كبيرًا من الأدب منذ الثورة، وبعض هذا الأدب له أهميته، ولكن كثيرًا ما يفسده الإلحاح الساذج على أن جميع أفراد الطبقة العاملة صالحون، وأن كل الآخرين سيئون.
وإلى جانب ذلك ينبغي اعتبار "الوجودية"3، وهي من أوضح الاتجاهات الفكرية الحديثة التي أثرت في الأدب، بمظهريها المسيحي الصوفي المتمثل في مؤلفات "كيركجورد"4 الدانمركي "وجابيربيل مارسيل"5 الفرنسي، والمظهر الآخر الإلحادي
1 Sir Winston Churchill "1874-1965 م": سياسي بريطاني، رئيس الوزراء "1940-1945" و"1951-1955" قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية.
2 التعبيرية Expressionism: مذهب في الفن يسعى لا إلى تصوير الحقيقة الموضوعية، بل إلى تصوير المشاعر التي تثيرها الأشياء والأحداث في نفس الفنان.
3 الوجودية Existentialism: فلسفة معاصرة تؤكد حرية الفرد، ومسئولياته.
4 سورين كيركجورد Soren Kierkegaard "1813-1855 م": فيلسوف ولاهوتي دانمركي، يعد مؤسس الفلسفة الوجودية.
5 جابربيل مارسيل Gabriel Marcel "1889-1973 م": فيلسوف وكاتب مسرحي فرنسي. ولد في باريس، وتحدث في كتاباته عن العلاقات الإنسانية، ومفهوم الآخر، وصولًا إلى الله.
عند "جان بول سارتر"1 و"ألبير كامو"2 و"جان أنوي"3 في فرنسا، و"هايدجر"4 و"يسبرون"5 في ألمانيا تمثل نظرية الفردية المطلقة، وقد أنتج معتنقوها -بخاصة في فرنسا- قصصًا ومسرحيات ومقالات على أساس عقيدتها.
وقد ذهب "كيركجورد" إلى أن "الحقيقة ذاتية"، وأن ذلك الإنسان الذي صنع تلك الحقيقة الذاتية، وتلك الحقيقة التي يمكن أن تعمل في حياة الإنسان، كلاهما قد وجد نتيجة للاختيار الذي يشكل بصورة مستمرة الحياة الفردية.
وقد أعطت ظروف الحرب في بلد مثل فرنسا تحت الاحتلال الألماني، أعطت معنى جديدًا لفلسفة الاختيار هذه، ولكن معتقدات "كيركجورد" الإيجابية التي كانت نشطة في أيامه لم تنشط في القرن العشرين، فالحربان العالميتان، والنتائج السيئة للثورة، قد تركت المثقفين من الناس في الغرب في شك إزاء الله، والتقدم، والتطور، والديمقراطية، ومع ذلك لم يكن الفرد يعتمد عليه في يوم من الأيام اعتمادًا كبيرًا في تقدير المصائر أكثر مما كان في هذا القرن العشرين. وفي حالات الأمم المحتلة كان التقهقر إلى هدوء الحياة الشخصية في ذاته اختيارًا، أي: تعاونًا هادئًا مع الغزاة. وقد كان التمرد معناه الموت أو التعذيب أو -على الأقل- حياة القلق والخطر، وكان لهذا أثره في انهيار كثير من القيم، وكان على الإنسان بعد ذلك أن يختار، وعلى أساس هذا الاختيار يترتب كل شيء في حياته الداخلية والخارجية، يكون له أثره فيما بعد.
كل ذلك كان أساسًا طيبًا للصراع المسرحي ولدراسة الشخصية، وهما العنصران التوءم اللذان يصنع منهما الأدب. ومن ثم فإن الوجودية -مهما تكن قيمتها من حيث هي فلسفة- قد أصبحت عاملًا حيويًّا في مجال الكتابة الإبداعية.
فالوجودية أكثر من فكرة عقلية، إنها فلسفة ولدت نتيجة للقلق في عصرنا، والفراغ الذي يرجع إلى ضياع عقائدنا وتبعثرها6.
1 جان بول سارتر Jean Paul Sartre "1905-1980": روائي وكاتب مسرحي وفيلسوف فرنسي، يعد زعيم المدرسة الوجودية الفرنسية.
2 ألبير كامو Albert Camus "1913-1960 م": كاتب فرنسي، من رواياته:"الغريب" و"الطاعون"، ومن مسرحياته:"كاليجولا"، حصل على جائزة نوبل 1957.
3 جان أنوي Jean Anouilh: كاتب مسرحي فرنسي، من مسرحياته ما أطلق عليه اسم: المسرحيات الوردية، والمسرحيات البراقة، والمسرحيات اللاذعة، والمسرحيات السوداء.
4 مارتن هايدجر Martin Heidegger "1889-1976": فيلسوف ألماني، يعد مؤسس الفلسفة الوجودية.
5 كارل يسبرز Karl Jaspers "1883-1969": فيلسوف وجودي ألماني.
6 في هذا الاستعراض للظروف القائمة رجعنا إلى "درنكووتر" في كتابه السابق ص796-608.
وما يزال القلق والخوف يخيم على العالم بعد المحن القاسية التي مر بها، فليس في الحياة ما يطمئن كثيرًا، إذا كان ما يرجى منه النفع فيها قد ينقلب بين عشية وضحاها أداة للتخريب، وتصبح الإنسانية ضحية لذكائها الخاص، وقد أصبح السؤال عما يجب الحصول عليه حتى نأمن من الخوف أهم الدوافع في الحياة، وإليه توجهت الجهود الطيبة، ومن ثم ظهرت الجدية في الأدب المعاصر. لقد كان الأديب القديم مسليا قبل أن يكون موجهًا، ولكن من منا يقرأ القصة اليوم ليتسلى؟ من ذا الذي يكتب وهدفه الأول الإمتاع؟ إن الكاتب والقارئ اليوم، كلاهما متشبع بالمشكلة المعاصرة، وهي شعورنا القوي بعدم الاطمئنان1. فإذا كان لكل عصر -كما رأينا- روحه وسماته الغالبة، فإن روح هذا العصر وسماته العامة المحركة هي فقدان التوازن، والتحلل، والقلق، والتخبط.
وربما كان آخر مذهب أدبي طلع علينا من الغرب وأحدث في العالم كله ضجة حوله هو مذهب "اللامعقول" Absurd. فمنذ أكثر من ربع قرن راجَ هذا المذهب في فرنسا وسرعان ما لفت إليه أنظار المثقفين، بل إن بعض أدبائنا النابهين قد تأثروا به في بعض إنتاجهم الأدبي. ويعبر هذا المذهب عن السخرية المريرة من منطق الحياة التقليدي وعدم الثقة فيه، كما يصور التمزق الروحي الذي أصاب الذات نتيجة لاصطدامها بهذا المنطق.
هذه خطوط عامة صورنا بها نظرية الأدب من حيث علاقته بالحياة العامة. وقد حرصنا في بيان هذه العلاقة على أن يقف القارئ على المعالم الكبرى الواضحة في حياة الأدب خلال العصور الحديثة بخاصة حتى وقتنا الحاضر، لما له في ذلك من سبيل إلى توسيع إدراكه لحقيقة ذلك الكائن العظيم: الأدب!
1 انظر:
Philo M. Bluk: Directions in Contemporary Literature.، Oxford Univ. Press، New York، p. 4.