الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضرب المثل؛ لما لذلك من أثر قوي في تقرير الفكرة المطلوبة في الأذهان. وربما بدا في بعض الأحيان مستطردًا، على نحو ما صنع في إيراد أجزاء من الرسالة التي بعث بها إليه أحد القراء، ولكننا ما نلبث أن ندرك أن هذا الاستطراد لم يخرج بنا عن صلب الموضوع، وأنه كان نوعًا من الاستشهاد بالوقائع، شأنه شأن ضرب الأمثال. وأخيرًا، فإن المادة الغزيرة المتنوعة التي بنى منها الكاتب موضوعه كانت مترابطة الأجزاء، ومتسلسلة تسلسلًا منطقيًّا مقنعًا.
3-
الخاطرة:
والخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حجر الصحافة، ولكنها تختلف عن المقال من عدة وجوه:
فالخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد، ولكنها فكرة عارضة طارئة.
وليست فكرة تعرض من كل الوجوه، بل هي مجرد لمحة.
وليست كالمقالة مجالًا للأخذ والرد، ولا هي تحتاج إلى الأسانيد والحجج القوية لإثبات صدقها، بل هي أقرب إلى الطابع الغنائي. وما زلت أذكر للأستاذ الدكتور أحمد أمين "وكان من كتاب الخاطرة، وقد جمع خواطره في عدة مجلدات" تلك الخاطرة التي كتبها عن قطعة الورق التي مزقها وهو جالس إلى البحر فحمل الريح أجزاءها وذهب بكل جزء إلى جهة ما، كما تصنع الحياة بالناس ومصائرهم. فهنا لا نجد فكرة تحتمل الاتفاق أو الاختلاف، ولكنها لمحة ذهنية بمناسبة ذلك الحادث العرضي "تمزيق الورقة" محملة بمشاعر الكاتب.
ثم لا ننسى الاختلاف في الطول، فالخاطرة أقصر من المقال، وهي لا تجاوز كثيرًا نصف عمود من الصحيفة، وعمودًا من المجلة. وإذا ذكرنا الصحيفة والمجلة فإنما نذكرهما لنعود لتقرير أن الخاطرة في وقتنا قد أصبحت عنصرًا صحفيًّا نطالعه في كل جريدة وكل مجلة، والصحف تعطي هذا العنصر عنوانًا ثابتًا؛ لأن الخاطرة تكون عادة -وهي تختلف في ذلك أيضًا عن المقال- بلا عنوان. من هذه العناوين:"فكرة"، "نحو النور"، "شموع تحترق"، "ما قل ودل".. إلخ.
وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان، وهو يتمشى مع الطابع الصحفي العام في الاهتمام بالأشياء الصغيرة السريعة وتفضيلها على الكتابات المطولة. وأهميتها تأتي من أنها تستطيع لفت القارئ إلى الأشياء الصغيرة في الحياة، التي لها دلالة كبيرة.
ولنقف الآن وقفة أطول عند خاطرة من خواطر الأستاذ أحمد أمين الممتعة، ومن الطريف أنه نشرها بعنوان:"من غير عنوان"1.
يبدأ الكاتب خاطرته بالحديث عن أكلة أكلها فساء هضمها في معدته، فانقبضت نفسه نتيجة لذلك، وتغير مزاجه، وفارقه المرح، وسئم كل شيء حوله، وبرم بمخالطة الناس كما برم بالعزلة عنهم، وكره السكوت كما كره الكلام. وعلى الجملة فقد اسودّ كل شيء في عينيه، فصار يرى العالم متجهمًا، "ثقيل الروح، فاسد المنطق"، يستوي فيه السعيد والشقي، والفقير والغني، والذكي والغبي، فقد سوى بينهم القبر. أما نظام هذا العالم فقد لاح له أنه فوضى، وأما الحياة فكلها فساد، وأما العيش فهذيان وتعلل بالأباطيل، وأما الدنيا فتلعب بالناس لعب الكرة. "وكل شيء في العالم مفترس؛ أسد يفترس ذئبًا، وذئب يفترس حَمَلًا، وإنسان يفترس كل شيء حتى نفسه". ثم زاد تلبّك معدته فزادت نقمته على الحياة. وفي خلال ذلك كانت أقوال قديمة للشعراء تتقاطر في ذهنه، مؤكدة كل المعاني السلبية البشعة التي رآها في العالم وفي الحياة وفي الناس.
ثم تناول -كما يقول- دواءً هاضمًا فتغير مزاجه وتغيرت نظرته من النقيض إلى النقيض، فأخذ يهش للحياة، وينظر إلى العالم بوجه منطلق، فإذا العالم يتألق في عينيه جمالًا، ورقة، وعذوبة، وإذا كل شيء حوله يتهلل بالبشر، وإذا الدنيا "قيثارة يوقع عليها شجى الألحان
…
". وكما تقاطرت الأشعار القديمة على ذهنه في الحالة الأولى، تقاطرت أشعار قديمة أخرى في ذهنه، مؤكدة في هذه المرة كل الجوانب الإيجابية المحببة في الحياة.
وهنا يقف الكاتب ليتأمل ما حدث في الحالين فيهوله الأمر، ويقول:"رحماك اللهم! إن كان درهم من دواء هاضم يغير وجه العالم، ويحيل السواد بياضًا، والشقاء سعادة، والقبح جمالًا، والظلام نورًا، والحزن سرورًا، فأين الحق؟ ".
ومن الواضح أن الكاتب هنا لم يناقش موضوعًا بعينه، ولم يصدر في كتابته عن فكرة محددة ومختمرة في ذهنه، ولم يرد أن يقرر في نفس القارئ وجهة نظر خاصة، فالأمر كله لم يخرج عن ملاحظة حالته المعنوية عندما ساء هضمه وتلبكت معدته، وحالته عندما زال هذا السوء وهذا التلبك. والغريب أن يتم هذا التحول من النقيض إلى النقيض نتيجة لتناوله جرعة دواء هاضم، ولكن الأغرب منه أن نجد الشعراء يتحدثون بلسانه في الحالين، فإذا هم -بما قالوا- يدعمون ذلك التناقش. ومن هنا ينهي الكاتب
1 أحمد أمين: فيض الخاطر، ج1، ط5، "مكتبة النهضة".
كلامه بهذا السؤال الكبير: أين الحق؟ وهو يلقي هذا السؤال على القارئ في اللحظة التي يقرر فيها أن يصمت وكأنه يدعو القارئ إلى التأمل في قضية الحياة وموقف الإنسان منها، وكيف أن هذا الموقف قد يتأثر إلى أبعد حد بالحالة التي تكون عليها معدة الإنسان، أليس هذا الأمر مدعاة للسخرية؟!
وعلى هذا النحو تصبح الخاطرة المكتوبة -على الرغم من صغر حجمها- عملًا مثيرًا للذهن وممتعًا في الوقت نفسه، فيه من الشعر خاصية التركيز، وعمق النظرة، وحدة الشعور بالأشياء.
هذه هي ترجمة الحياة والمقال والخاطرة، رأينا ضرورة عرض أصولها بعد أن عرضنا نظريات الأدب والنقد والشعر والقصة والمسرحية.
وبذلك نكون قد وقفنا على أبرز فنون الأدب بأنواعها المختلفة، ونرجو -بعد- أن نكون قد حققنا الغاية التي من أجلها ألف هذا الكتاب.