المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتابة المسرحية تحتاج إلى نضوج فني خاص يتحقق في مرحلة - الأدب وفنونه - دراسة ونقد

[عز الدين إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة

- ‌افتتاح:

- ‌الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الأدب

- ‌تعريف الأدب

- ‌ مشكلة الأسلوب:

- ‌ العلاقة بين الأديب والمجتمع:

- ‌ مناهج دراسة الأدب:

- ‌الفصل الثاني: نظرية النقد

- ‌معنى النقد:

- ‌أهمية النقد:

- ‌طبيعة النقد:

- ‌قواعد النقد:

- ‌مراحل العملية النقدية:

- ‌الأساس النقدي للأدب القديم والحديث:

- ‌الباب الثاني: الفنون الأدبية

- ‌تمهيد: الأنواع الأدبية

- ‌الفصل الأول: الشعر

- ‌قدم فن الشعر

- ‌محاولة تعريفه:

- ‌طبيعة الشعر:

- ‌الانفعال والفكرة:

- ‌الصورة القديمة وخصائصها:

- ‌الصور في الشعر الحديث، ودورها:

- ‌الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما:

- ‌الفصل الثاني: الفن القصصي

- ‌تعريف الفن القصصي:

- ‌مادة العمل القصصي:

- ‌عملية الاختيار:

- ‌عناصر العمل القصصي:

- ‌القصة القصيرة:

- ‌الفصل الثالث: الفن المسرحي

- ‌مدخل

- ‌الحوار والصراع والحركة:

- ‌علاقة المسرحية بالمسرح:

- ‌المسرحية الفلسفية:

- ‌لغة المسرح بين الشعر والنثر:

- ‌الإطار المسرحي:

- ‌الأنواع المسرحية:

- ‌الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى‌‌ ترجمة الحياة. المقال. الخاطرة

- ‌ ترجمة الحياة

- ‌ المقالة:

- ‌ الخاطرة:

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: الكتابة المسرحية تحتاج إلى نضوج فني خاص يتحقق في مرحلة

الكتابة المسرحية تحتاج إلى نضوج فني خاص يتحقق في مرحلة مزاولة الكتابة القصصية.

وفي القصة يرسم الكاتب شخصياته بأن يصفها من الناحية الشكلية aspect physique كما يصفها من ناحيتها الأخلاقية aspect morale وهذا يساعد على تمثيل الشخصية وفهمها. أما في المسرحية فالشخصية أمامنا، ولا سبيل إلى رسمها عند الكاتب سوى أن يحركها وأن ينطقها، على أن تصدر عنها كل حركة وكل كلمة في كل موقف من المواقف بحيث تأتلف في رسم الشخصية مع غيرها من الحركات والكلمات، وأنا أسمي ذلك "وحدة الشخصية". وهذا لا يمنع نمو الشخصية مع نمو المسرحية، تمامًا كما يحدث في القصة. فالصعوبة في رسم الشخصية المسرحية تأتي من أن الكاتب مضطرّ لأن يحرك الشخصية أمامنا، وأن يخلق لها مجالات تتصرف فيها تصرفات خاصة، وأن يجري على لسانها الحديث في مناسبات معينة حتى نتعرفها، على أن يكون كل ذلك داخلًا في صميم المسرحية ذاتها. ولا تنس أن طريقة المؤلف المسرحي في رسم الشخصية هكذا تكون -حين تنجح- أكثر تأثيرًا من طريقة كاتب القصة، كما أنها تربط بيننا وبين الشخصية برباط قوي.

أما الفكرة فإنها لازمة لكل مسرحية، في الوقت الذي لا تلزم فيه الفكرة في القصة إلا في القصة الدرامية. ومنذ اللحظة الأولى ظهرت المسرحية لتصور موقف الإنسان والطبيعة من الخير والشر. وقد تصور الصراع بين الإنسان والطبيعة، كما قد ترتبط بمشكلات الحياة اليومية، ومن هنا أمكن الحديث عن مسرحيات فكرية وأخرى اجتماعية. والمسرحية قد تستغل التاريخ كما تستغل الأسطورة، وقد تستقل عنهما. أما المسرحية الاجتماعية فهي قد تستغلهما أحيانًا لتلقي من خلالهما الأضواء على مشكلات الحياة الراهنة، أخذًا بفكرة أن التاريخ يعيد نفسه.

ص: 138

‌الأنواع المسرحية:

والمسرحية تنقسم إلى: "كوميديا" و"تراجيديا" أو "ملهاة" و"مأساة". وقد كانت الملهاة تتميز بتناولها الشخصيات غير المهمة، واهتمامها بشئون الحياة العامة، وعلى العكس من ذلك المأساة، فهي تتناول الشخصيات العظيمة. بدأت بالآلهة عند الإغريق، ثم بأبطال من البشر هم في الحقيقة أنصاف آلهة، ثم صار الإنسان هو البطل، وبخاصة في عصر النهضة، حين كان يظن أن الإنسان مركز العالم ولكنه ظل الإنسان الممتاز، كشخصيات الملوك والأمراء. حتى إذا ما تزعزعت تلك العقيدة ذهبت معها فكرة البطولة، ولم تعد البطولة تستخدم إلا لتدل على الشخصية الرئيسية في المسرحية، كما تتناول الموضوعات العالمية البالغة الأهمية. أما في العصور الحديثة فيقوم التفريق بين الملهاة والمأساة على أساس من فكرة "النهاية السعيدة" ففي الملهاة تتحقق النهاية السعيدة، أما النهاية المميزة للمأساة فهي هزيمة البطل أو موته في العادة.

ص: 138

وحينما كانت المأساة ترتبط بالشخصيات ذات المكانة العالية أو الأهمية، ظهر نوع خاص أطلق عليه اسم "المأساة البرجوازية" أو مأساة الحياة العامة.

وينبغي أن نذكر أن المأساة بمعناها الصحيح إنما تتمثل عند كتاب الإغريق بالذات مثل "سوفوكليس"1، حيث يصور صراع الإنسان في اختياره بين المقادير والدافع الأخلاقي، بعكس "يوربيد"2 الذي كان متشائمًا يرى الحقيقة في جوهرها في الشر، ولا يرى قيمة للصراع، ولم يتحقق المعنى التراجيدي فيما بعد، وإن ظهرت مسرحيات كثيرة تصطنع الجدية والخطورة. وبعض النقاد يؤكدون أن المأساة لم تعد ممكنة؛ لأنها تتطلب إيمانًا بالإنسان ومستوًى مسلمًا به من القيم، كلاهما قد هدمه العلم. ومع ذلك فهم يرون أن المأساة تحتاج إلى شاعر عظيم، وربما ظهر.

أما الملهاة فيمكن تقسيمها بسهولة إلى ثلاثة أنواع: ملهاة الأخلاق comedy of manners، والملهاة الرومانتيكية، والفارص farce. والأولى من شأنها أن تحمل على الأوضاع المألوفة في الحياة المعاصرة، كمسرحيات "برناردشو"3. وكما أن هذا النوع قريب من القصة فكذلك الملهاة الرومانتيكية قريبة من الرواية، فهي تتناول جوانب من التجربة لا يألفها الناس كثيرًا وتعالجها معالجة أقرب إلى العطف عليها منها إلى أن تحمل عليها. وعند شكسبير يتمثل هذا النوع، وهو غير مزدهر في العصور الحديثة. أما الفارص فهي تقوم على الحركة المسلية، وفيها تهمل إثارة الحبكة ورسم الشخصية إهمالًا صريحًا. "ينظر إلى الفارص أحيانًا على أنها ملهاة منحطة، وأن الملهاة التي تقوم على رسم الشخصية هي الملهاة الراقية".

وبجانب هذه الأنواع الرئيسية هناك أنواع مختلفة مختلطة أو غير محددة يجب أن تلاحظ. فهناك الملهاة الباكية "Tragi-Comedy" وهي مزيج من المأساة والملهاة، وهي نوع مسرحي ازدهر خلال السنين الأولى من القرن السابع عشر. وهي في أوج ازدهارها قد انقسمت إلى نوعين عامين: أما النوع الأول فقد كانت فيه القصة جادة، وهي تتحرك نحو نهاية مأساوية، حتى إذا كان المشهد أو المشهدان الأخيران من المسرحية إذا بالحوادث تنتهي إلى نهاية سعيدة أو كوميدية. أما النوع الثاني فيتمثل في المسرحية التي يمتزج

1 Sophocles "496-406 ق. م": مؤلف مسرحي يوناني، يعد أعظم المسرحيين التراجيديين في الأدب اليوناني القديم. كتب حوالي 113 مسرحية لم يصل إلينا منها إلا سبع.

2 Euripides "484-406 ق. م": كاتب مسرحي يوناني، وضع نحوًا من 92 مسرحية، وصل إلينا منها القليل.

3 جورج برناردشو George Bernerd Show "1856-1950": كاتب مسرحي إنجليزي أيرلندي المولد، تزخر آثاره بالفكاهة المرة والسخرية.

ص: 139

العنصران التراجيدي والكوميدي خلالها، فالحادثة الرئيسية جادة ولها إمكانات مأساوية برغم أنها تنتهي نهاية سعيدة، وكذلك تتضمن أشد المشاهد جدية عناصر كوميدية تتعارض أحيانًا تعارضًا حادًّا مع النغمة الحزينة الرئيسية. وينبغي الانتباه إلى أن العناصر الكوميدية في "الملهاة الباكية" أجزاء أساسية من المسرحية، فهي تختلف عن المواقف الكوميدية التي تستخدم أحيانًا في المأساة للتخفيف من وقعها حتى لا يضجر المتفرج، وكذلك لتقوي أثر العواطف المأساوية عن طريق التقابل.

ومن الأنواع المسرحية كذلك "الميلودراما Melodrama" وهي في الأصل تعني المسرحية الموسيقية music-drama، وهو لفظ يستخدم استخدامًا غير محدد إلى حد ما؛ ليدل على ما يمكن أن يسمى بالفارص الجادة، وهي مسرحية تعتمد على الوقائع أكثر من اعتمادها على الشخصية، وتميل لا إلى المعنى الكوميدي بل إلى العواطف الحادة.

وهناك أيضًا نوع يسمى "الماسك masque"، وهو ليس مسرحية ولكنه شيء يشبهها. إنه نوع من الاحتفال الذي قد يحدث في الهواء الطلق. وقد ازدهر في إنجلترا في خلال القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، وهو يرتبط بصفة خاصة بحفلات "عيد الميلاد". وهو يجمع بين الحديث العاطفي والحوار والملابس والمناظر والموسيقى والرقص، ولكن بحيث يربط بينها جميعًا قصة بسيطة في طبيعتها، ورمزية في مدلولها، وقد كانت هذه الحفلات تقام في بلاط الملوك، ويقوم بالأدوار فيها النبلاء ورجال البلاط أنفسهم، وحين ازدهر هذا النوع اجتذب إليه أحسن الكفايات في الموسيقى والمسرح والزخرفة، ولكن هذه الحفلات كانت تتكلف نفقات باهظة. وقد انتهى كل ذلك بمجيء الطهريين1 Puritans. وأشهر كتاب هذا النوع هو "بن جونسون2 Ben Jonson"، وأشهر"ماسك" هي التي ألفها "ملتن" بعنوان Camus.

هذه هي الأنواع المسرحية المختلفة، وقد ظهرت عندنا منها المسرحية الشعرية التي تصور مأساة تاريخية، كمسرحيات شوقي وتلميذه عزيز أباظة، كما ظهرت المسرحية الفكرية التي يتناول فيها الكاتب الصراع والمشكلات الإنسانية الكبرى، كمسرحيات توفيق الحكيم الأسطورية، وكذلك ظهرت المسرحية الاجتماعية التي تتناول مشكلات وقتية، وتقدم صورة للمجتمع، ونظرًا لأن هذا النوع تنشره الصحف أحيانًا فقد كانت المسرحية ذات الفصل الواحد One-act Play هي أصلح إطار لهذا الغرض.

1 البيوريتانيون جماعة بروتستانتية في إنجلترا في القرنين 16، 17، طالبت بتبسيط طقوس العبادة، وبالتمسك الشديد بأهداب الفضيلة.

2 Ben Jonson "1572-1637": يعد أعظم كتاب المسرح في عصره بعد شكسبير.

ص: 140

مسرحية "غروب الأندلس" دراسة تطبيقية:

وفيما يلي دراسة ونقد لمسرحية تمثل النوع الأول. أما المسرحية فهي "غروب الأندلس"، وأما المؤلف فهو الشاعر عزيز أباظة، وتمثل له في هذا الموسم بدار الأوبرا مسرحية كتبها أخيرًا عن "شهريار"1.

ومسرحية "غروب الأندلس" مسرحية تاريخية تستمد حوادثها ووقائعها من التاريخ، وكذلك كانت شخصياتها هي الشخصيات التي ارتبطت بهذه الفترة التاريخية، وهي كما نعلم الفترة التي انتهى فيها حكم العرب لإسبانيا بعد أن كان حكمًا عريضًا وملكًا واسعًا، وانقسم العرب في إسبانيا إلى طوائف واستقلت كل طائفة بجهة من الجهات، وأقامت لها فيها إمارة، وأخذ الأمراء يتنافسون ويحاربون بعضهم بعضًا فأضعفت الفرقة من شوكتهم، وأتاحت الفرصة للإسبان أن يقووا وأن يحملوا على ملك العرب ليعيدوه مرة أخرى إلى حوزتهم، ويردوا هؤلاء الغزاة. والمسرحية تصور لنا انهيار الحكم في غرناطة، وهي أكبر إمارة في ذلك العهد. وقد حاول الكاتب أن يجعل مسرحيته صورة لحياة الأمم في الفترة التي يؤذن الحكم فيها بالانهيار، وهي الفترة التي يستبد فيها الحاكم وينصرف إلى ملاهيه وملذاته، ويترك القيادة إلى الضعفاء أو النساء يصرفن الأمور كيف شئن، هذا فضلا عن إهمال هؤلاء الحكام العابثين حقوق الشعب، والعمل على رفاهيته وقوته. وهناك عوامل كثيرة في الواقع تتدخل في انهيار الأمم وتكون سببًا مباشرًا لما يجتاحها من ثورات، أو تنتهي إليها حياتها من انحلال واضمحلال. وقد كانت مصر في ذلك الوقت الذي كتب فيه المؤلف مسرحيته تعاني كثيرًا من الأزمات التي مصدرها عبث الحاكم واختلاف آراء الناس وتفرقهم شيعًا وأحزابًا، إلى غير ذلك من العوامل التي كانت سببًا في انتكاس الحياة المصرية في ذلك العهد، وقد لمس الكاتب شبهًا بين ظروف الحياة في مصر في ذلك العهد وبين تلك الأحداث المريرة التي مرت بها إمارة غرناطة في تلك الفترة التاريخية التي صورها لنا، ومعنى ذلك أن المسرحية لم تأخذ على عاتقها مجرد السرد التاريخي لواقعة أو وقائع لها طرافتها، ولكنها -إلى جانب ذلك- كانت تحمل مضمونًا اجتماعيًّا هو ذلك الذي تمثل في تصوير مساوئ الحياة في مصر ومفاسدها في الوقت الذي كتبت فيه المسرحية، وهو من وراء ذلك يوجه الإنذار ويلفت الأنظار إلى أن تلك الحياة كانت كفيلة -وإن صبرنا عليها- بأن تنتهي بنا إلى ما انتهت إليه الحياة في غرناطة في ذلك العهد.

ويحس قارئ المسرحية بصفة خاصة أن المؤلف كان يلحّ إلحاحًا شديدًا على إبراز جوانب الحياة الفاسدة في المجتمع المصري، بل يحس أنه إنما كان يتحدث في كل لحظة

1 يلاحظ أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب ظهرت في ديسمبر 1955م.

ص: 141

عن مظهر من مظاهر الحياة المصرية ذاتها، ولكن في القرن العشرين؛ ولذلك يكاد الإنسان ينسى أن هذه المسرحية تمثل لنا آخر عهد العرب بإسبانيا، ويخيل إليه أنها تصور لنا أحداثًا مصرية وشخصيات مصرية، وهذا في حد ذاته -بغض النظر عن الناحية الفنية- يمكن أن يكون مقبولا إذا أخذنا بأن مهمة الكاتب هي أن يلمس مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يصورها للناس بحيث يحملهم على تمثلها، ويثير فيهم الرغبة في إيجاد الحل أو الحلول لها، فهي من الناحية الاجتماعية إذن تؤدي هذه المهمة، وهي أن تجعل القارئ يحس بمشكلات الحياة في مصر في ذلك العهد. ولكن تحقيق هذا من خلال مسرحية تاريخية أمر من الصعوبة بمكان، يورط الكاتب في مزالق كبيرة من الناحية الفنية إذا لم يكن من المهارة الفنية على قدر كبير.

ومن أمثلة تصويره لواقع الحياة المصرية قوله:

الملك يلهو والحوادث حوله

متظاهرات والخطوب سراع

والقصر تفهق بالخنا قاعاته

ويبيت يروى إثمها ويذاع

والحكم فوضى، لبه وقوامه

ذمم تسام رخيصة فتباع

والشعب مكدود القوى متحفز

إن الضعيف يصول حين يراع

أو قوله:

يا دولة هوم أحراسها

فاستشرت النيران في غابها

مخمورة يعبث سواسها

والغاصب العادي على بابها

وكذلك:

قد رشوتم -أقولها- وارتشيتم

واستباح المحارم الحكام

واتجرتم بالعدل فالأمر فوضى

فحدود تطوى وأخرى تقام

.....إلخ.

وصور أخرى كثيرة من صميم الحياة المصرية آنذاك.

ووصف الدكتور طه حسين للمسرحية في مقدمتها بأنها مصرية أندلسية، أو أنها مصرية الموضوع، مصرية الأحداث، مصرية التصوير والأداء، يعد نقدًا قاسيًا أكثر مما هو إطراء. وأول ما يدل عليه أن القصة في المسرحية كانت مفككة ولم تأخذ الشكل المسرحي المطلوب، فهي لم تأخذ من التاريخ سوى الأسماء والأشكال، وما عدا ذلك فهو

ص: 142

مصري معاصر. ولعله ذكر مصر والمصريين وما وقع لهم في هذه الأيام الأخيرة أكثر مما ذكر غرناطة وأهلها وما جرى عليهم من الأحداث.

وكان من الممكن أن تؤدي المسرحية مهمتها الاجتماعية إذا اتبع فيها الكاتب طريقة أخرى، هي أن يقتصر على الحادثة التاريخية يصورها لنا في الإطار المسرحي تصويرًا فنيًّا، ويضع في خلال هذا التصوير العناصر المسرحية التي تثير في القارئ شعورًا نفسيًّا موازيًا، فإذا به في كل موقف من المواقف يقف أمام التاريخ لينظر إلى واقع، ويستنتج، ويحس إحساسًا عميقًا بهذا الواقع، ولكن بطريقة غير مباشرة، وكأنه ينبع من وجدانه الخاص، وعندئذ كان المؤلف يظل مرتبطًا في كل لحظة بالتاريخ وبما تم في الفترة التي يصورها، تاركًا القارئ يرسم -موازيًا له- خطا آخر للحياة الواقعة التي يحياها. وإذا كانت مهمة العمل الفني أن يجعلنا نحس بحياتنا إحساسًا أعمق، ونلمس مشكلاتنا عن قرب، فإن المسرحية في هذه الحالة -برغم أنها تصور لنا فترة تاريخية قديمة- تكون قد نجحت في أن تؤدي هذه المهمة الحيوية أداء فنيا. ولكن عزيز أباظة لم يترك للقارئ لحظة واحدة ينظر فيها إلى التاريخ الذي يصوره لنا ليستنبط ويستخرج المضمونات، فكان في كل مناسبة يستنبط للقارئ ويضع أمامه النتائج؛ بل أكثر من هذا فقد كان يعقب على هذه النتائج ويستخلص منها الحكمة، وأوضح مثال على ذلك نهاية كثير من المشاهد ونهايات الفصول، فأكثر هذه النهايات يكون عادة حكمة تلخص لنا الموقف أو تلخص لنا الفصل.

في نهاية الفصل الأول نقرأ -قبل إسدال الستار مباشرة:

من لم يدعم بالأسنة ملكه

والحزم، بات مفزعًا لم يسلم

وفي نهاية الفصل الثاني -أيضًا- قبل إسدال الستار مباشرة:

الله إن أخذ القرى بفسوقها

عصف الخلاف بها فكان قضاء

كذلك في نهاية الفصل الرابع:

واضيعة الإسلام إن لم تقهروا

أهواءكم، واضيعة الإسلام!

وفي كثير من نهايات المشاهد.

ص: 143

ومعنى هذا أن المؤلف كان يقوم بدور المؤلف والقارئ في وقت واحد؛ لأنه لم يترك للقارئ فرصة واحدة يستنبط فيها ما يهدف إليه الكاتب، ويتذوق ويستمتع بالمسرحية.

وهذه النزعة إلى الحكمة أثر من آثار النزعة الخطابية التي تميز بها الشعر العربي منذ القدم، وكما نعرف ليس المسرح ميدانًا للخطابة ولكنه مكان تبرز فيه الحياة طبيعية عادية، ولكن عزيز أباظة الذي أتقن كتابة الشعر على النسق القديم، والذي يعد تلميذًا لشوقي في كتابة المسرح، كان من الطبيعي عنده أن تظهر في مسرحياته تلك النزعة الخطابية.

وتقوم المسرحية في أساسها -كما سبق أن عرفنا- على الصراع، فإذا نظرنا -على هذا الأساس- إلى مسرحية "غروب الأندلس" نبحث فيها عن ذلك العنصر الجوهري وجدنا أن المسرحية تمثل لنا نوعًا من الصراع الحسي بين مجموعتين من الناس. وهو صراع حول الحصول على الحكم، فكلتا الطائفتين تسعى جاهدة لتثبيت أقدامها في الحكم، وتدبر -في سبيل ذلك- المؤامرات التي تنال بها من الطائفة الأخرى. فلدينا عائشة وابنها موسى وابن سراج ومن معهم يتخذون جانبًا واحدًا هو تثبيت الحكم لعبد الله بن أبي الحسن، ووراء ذلك نزعة عصبية تدعوهم إلى أن يتخذوا هذا الموقف محافظة منهم على ملك العرب. وفي الجانب الآخر نجد الثريا وابنها الأمير يحيى ومن والاهما من الإسبان يسعون إلى تقويض هذا الحكم، ويتخذون لذلك الوسائل، وربما كان من أهم هذه الوسائل التي صورها لنا المؤلف عملية التزاوج بين العرب والإسبان، فتزاوج العرب من الإسبان أتاح الفرصة لخروج أجيال تكاد لا تخلص للعرب، وربما كانت ميولها أقرب إلى الإسبان. كل هذا جعل عناصر هذا الملك العربي لا تحتفظ بصفاتها وأصالتها، بل تدخل فيها تلك العناصر الأجنبية التي ستعمل فيما بعد لتثبيط الهمم أو لمساعدة الإسبان. هناك إذن هذا الصراع الحسي الذي نلمسه بين هاتين الطائفتين، وهو لا يسمو إلى أن يكون صراعًا حول فكرة، وكذلك لا يصل إلى أن يكون صراعًا نفسيًّا يتجاذب شخصية أو مجموعة من الأشخاص، ووصفه بأنه صراع حسي يقصد به إلى بيان أن العمل المسرحي هنا لم يكن في أدق مظاهره، فلم يكن صراعًا حول مذهب فكري مثلا، ولم يقم ليصور لنا مشكلة إنسانية -كما هو الشأن في المسرح- ولكن كانت مشكلة هذه المسرحية -كما قلنا- مشكلة الحصول على الحكم. وهي مشكلة لا تتضمن أي موقف فكري إنساني يهتم به كل إنسان في كل زمان ومكان، ومن هنا نلمس مدى تحقق هذا العنصر المسرحي الجوهري -وهو عنصر الصراع- في هذه المسرحية. فقد كان تحققه على هذا النحو البعيد عن مشكلات القارئ

ص: 144

النفسية والمشكلات العامة الإنسانية؛ ولذلك فإننا نقرأ المسرحية أو نشاهدها دون أن تنشأ بيننا وبينها علاقة بالمعنى الدقيق، قد يلفتنا فيها اتصالها بتلك الفترة التاريخية التي لها في نفوس العرب -بصفة عامة- أصداء حزينة، وقد تثير فيها لونًا من الذكريات الإسبانية، ولكن هذا كله شيء واتصالنا بصميم المسرحية شيء آخر. فليس في المسرحية مشكلة فكرية تتصل بنا، وليس فيها مشكلة نفسية تهم كل فرد منا، ولكنها -كما رأينا- تقوم على ذلك الصراع الحسي بين أناس يسعون إلى الحكم، وهم في سعيهم إليه يتخذون كل وسيلة، بالخداع أحيانًا والتهديد أحيانًا، والتضحية إذا لزم الأمر، وما شاكل ذلك من الوسيلة العنيفة أو اللينة التي يلجأ إليها كل من وجد في مثل هذا الموقف، موقف الساعي في سبيل الحصول على الحكم. فإذا وقفنا بعيدًا عن هذه المسرحية، بمشكلاتنا وبمشاعرنا وبكياننا بما نحن أفراد في هذه الإنسانية، ولم نحس بارتباط حيوي بيننا وبينها، فإن ذلك مرجعه إلى أن المسرحية قامت على ذلك الصراع الحسي البعيد عن كل فرد منا، ومن ثم كانت فرصة الاستمتاع بهذه المسرحية من هذه الوجهة فرصة ضئيلة جدا، إذا لم نقل: إنها معدومة. قد تروعنا أشياء أخرى في هذه المسرحية نعجب بها عند قراءتها أو عند مشاهدتها، ولكن هذه الأشياء بعيدة عن صميم العمل المسرحي. ستعجبنا -بلا شك- تلك الأناقة الواضحة في اللغة الشعرية، وهذه الصنعة الدقيقة التي في الشعر، سيعجبنا هذا من ناحية مستقلة كل الاستقلال عن المسرحية، فنقول: إن هذه "القطعة من الشعر" التي جاءت على لسان فلان من الشخصيات قطعة رائعة، فيها صناعة شكلية دقيقة ممتازة، ولكن إعجابنا بهذا شيء آخر لا دخل له بالمسرحية. بعبارة أخرى مجملة نقول: إن إعجابنا "بشعر" هذه المسرحية لا يعني بالضرورة أننا نعجب بالمسرحية ذاتها، وقد يختلف الكثيرون في إعجابهم بهذه الناحية أيضًا، فالصنعة في العمل الشعري شيء ممقوت، وقد زاد المؤلف على هذه الصنعة نوعًا من التكلف، فهو لا تواتيه الفرصة لأن يستخدم صورًا بديعية ولا يستخدمها. ومن أمثلة ذلك:

تصدت له رومية فانطوى لها

"وأسلم حتى كاد أن ينتصرا"

وقوله:

فلتجمعي ولنمض إما حجة

"لجني المنى أو حجة لمنون"

بل أكثر من هذا أنه يمضي في البحث وراء الألفاظ الغريبة، فهو لا يستخدم كلمة "الموج" ويمضي يبحث عن كلمة غريبة تؤدي المعنى، فيجد أمامه كلمة "الدفاع"، ويجد كلمة "فرصة" سائرة على الألسن فيجتنبها ويبحث عن كلمة غريبة -نوعًا ما- فيجد

ص: 145

كلمة "نهزة"، فيستخدمها. وهذا الاحتفال بالصنعة الشعرية قد لا يرضى عنه الكثيرون، وعند هؤلاء ستفقد المسرحية كل ما فيها، ستفقد جوهرها المسرحي، وستفقد أهمية الشعر فيها.

والظاهرة الأساسية الأخرى للعمل المسرحي هي -كما عرفنا أيضًا- الحوار. فالمسرحية قطعة من الحياة، والشخصيات فيها عناصر بارزة تتحرك أمامنا وتتحدث ويتصل بعضها ببعض في صورة عملية لا عن طريق حكاية سردية. فالشخصية أمامنا دائمًا، نراها ونستمع إليها، وهي تعبر عن موقفها وعن شخصيتها أو عن ذاتها بأسلوبها الخاص، وهنا يكون للغة دور خطير في تصوير هذه الشخصيات. وإذا قلنا: إن المسرحية تصور لنا الحياة أقرب ما تكون إلى الواقع كان ذلك معناه أننا ننتظر دائمًا أن يتحدث الأشخاص بعضهم إلى بعض على النحو الذي يمكن أن يتمثل لنا في الحياة العادية. والحوار الذي يدور بين الناس في الحياة العادية تكون له أهميته بمقدار ما يستمد من حيوات الأشخاص المتكلمين، فالشخصيات الحية المتدفقة الحياة يصدر عنها حديث يتمتع بقسط كبير من الحيوية، فحيوية الحوار مرتبطة -إلى حد بعيد- بحيوية الأشخاص، وحيوية الأشخاص مرجعها إلى مواقفهم الفكرية أو النفسية العميقة التي يحسون بها إحساسًا قويًّا، ويصدرون في حديثهم عنها. وهي تتمثل في تلك الحركة النفسية أو الفكرية التي تدور داخل هذه الشخصيات، بعبارة أخرى: فإن حيوية الحوار مرجعها إلى الحركة الذهنية أو النفسية التي تقع في داخل الشخصيات، والشخصيات في تفاعلها وفي اتصالها بعضها ببعض تعبر عن تلك الحركة في لغتها، فإذا بتعبيرها يتمتع بقسط كبير من الحركة والحيوية.

وكل من يقرأ مسرحية "غروب الأندلس" يفتقد فيها الحيوية اللازمة؛ لأن اللغة فيها لم تكن تتصل اتصالًا مباشرًا بالشخصيات، فلم تكن تدل على كل شخصية متميزة كل التميز عن الأخرى، وبنظرة فاحصة إلى الشعر الذي نقرؤه في هذه المسرحية نستطيع أن نعرف السبب في فقدانها الحيوية اللازمة. فالملاحظ أن أسلوب الشعر كان نمطًا واحدًا عند كل الشخصيات، ولم يكن فيه التنويع والتلوين اللذان يحددان كل شخصية ويحددان موقفها؛ ولذلك نستطيع أن نقرأ في بعض الحالات ما يقرب من عشرين بيتًا في وزن واحد وقافية واحدة وتيار نفسي واحد. ثم إذا بنا نجد هذه الأبيات قد قسمت تقسيمًا ما بين شخصين أو أكثر، والانتقال من حيث شخصية إلى أخرى لا نكاد نشعر به في كل حالة، بل يخيل للقارئ أنه يقرأ كلامًا متصلًا لشخصية واحدة، وكأنه على صلة بهذه الشخصية وحدها دون غيرها من الشخصيات التي وجدت في الموقف! وهذا

ص: 146

من شأنه أن يجعل الحوار بهذه الطريقة بعيدًا عما يقع في الحياة، ومن هنا يبتعد عن هذه الحياة ويظل يفتقد الحيوية اللازمة، وكذلك كان المؤلف يجري الحديث على ألسنة الشخصيات دون النظر إلى ما بينها من فروق جوهرية. فنحن نقرأ حديثًا لشخصية من شخصيات الرجال لا نكاد نميز بينه وبين حديث تال له لشخصية من شخصيات النساء، وهكذا تضيع ملامح الشخصيات ولا يبقى أمامنا في الحقيقة إلا القصيدة في مجموعها بوزنها الواحد وقافيتها الواحدة. ويتضح جمود الموقف دائمًا عندما تستقل الشخصية الواحدة بحديث طويل، فنحن لا نكاد نطيق على المسرح مثل هذه المواقف، لا نريد شخصية متحركة متحدثة وبجانبها شخصيات أخرى جامدة صامتة، وإنما ننتظر دائمًا على المسرح حيوية شاملة. ويبدو ذلك واضحًا في الأجزاء الأخيرة من المسرحية بصفة خاصة، فنجد الشخصية الواحدة تستقل بحديث يطول فيشغل أكثر من عشرة أبيات، ثم يليه حديث لشخصية أخرى يمتد امتدادًا يقرب من هذا، ويليه حديث شخصية ثالثة، وهكذا.

هذه الصورة أبعد ما تكون عن الحوار المسرحي الحي، وليس معنى هذا أن المؤلف لم يكن يوفر لمشاهده الحيوية على الإطلاق، ففي المشهد السادس من القسم الثاني من الفصل الأول نجد أن المؤلف ينجح في بث الحركة والحيوية في الموقف. وهو المشهد الذي يخبر فيه الوزير "أبو القاسم""السلطان" أنه أطلق سراح عائشة ومن معها قبل أن يأذن له السلطان؛ تنفيذًا لرغبة الأمير يحيى، ففي هذا الموقف نجد المؤلف يحتفظ لكل شخصية بموقفها الخاص وبانفعالها الخاص، ويداول الحديث بين هذه الشخصيات في سرعة تتناسب مع الانفعالات المفاجئة السريعة التي لازمت هذا الموقف؛ ولذلك يمكن أن نقول: إن هذا الموقف قد أدى أداء مسرحيا ناجحا، وإن فيه من الحيوية ما جعل الحوار طبيعيًّا قريبًا من الواقع.

يبقى أن ننظر في شخصيات المسرحية، وفي ضوء ما قدمنا من مقدمات تتصل بتكوين المسرحية "بنيتها" وبالحركة المسرحية وبلغة الحوار والصراع نستطيع أن ننتهي إلى أن شخصيات هذه المسرحية لم تنجح في أن تكون شخصيات إنسانية بارزة، بمعنى أنها لا تصور لنا ظواهر إنسانية باقية، وإنما هي أقرب إلى الشخصيات العادية في الحياة وإن كانت تقوم بالأدوار التي تتم في الحياة داخل القصور؛ فلدينا شخصيات السلطان والأمراء والقواد والجواري والولاة وكل من له صلة بطبقة الحكام. وخطورة الشخصية بالنسبة للعمل المسرحي لا تأتي من خطورة مركزها الاجتماعي أو مركزها السياسي، ولكن من أهميتها الإنسانية؛ ولذلك نجد كثيرًا من الشخصيات الشعبية تظفر باهتمام

ص: 147

المؤلفين المسرحيين فإذا بهم يخلدونها، لا على أنها قامت بدور سياسي خطير أو لأنها حكمت الناس فترة من الزمان، بل لأنها -قبل كل شيء- ظاهرة إنسانية لها قيمتها؛ ولذلك لم تكن شخصيات "غروب الأندلس" هي تلك الشخصيات الإنسانية ذات القيمة، وإن صورت لنا النوازع الإنسانية. فنحن نصادف ألوانًا من العواطف والميول كالحب والبغض والدهاء والخداع وما شاكل ذلك من النوازع الإنسانية، ولكن هذه الأشياء لم تأخذ وضعًا مسرحيًّا، ولم يركز الكاتب على واحد منها، ولو أنه ركز عمله المسرحي على تصوير نوع من الصراع يدور في داخل شخصية عائشة حول الإبقاء على الحكم العربي والنزعة القومية، والميل نحو ابنها "عبد الله" والعطف على موقفه. أو لنقل: بين النزعة القومية فيها وعاطفة الأمومة، لكان ذلك سبيلا إلى إخراج مسرحية لها قيمتها. ولكن المؤلف لا يستغل هذا الموقف الاستغلال المسرحي على نطاق واسع، أو لنقل: لم تكن المسرحية في أساسها تهدف إلى تصوير هذا الصراع، ولو أنها فعلت لكان لها شأن آخر.

ونعود إلى الشخصيات مرة أخرى فنجد أن كل شخصية من أجل هذا لم تكن تمثل فكرة إنسانية أو اتجاهًا نفسيًّا، ولكنها -جميعًا- كانت تمضي إلى تحقيق غرض واحد وهو الحصول على الحكم. ومن ثم لم تكن للشخصيات طبيعتها المستقلة المنفردة بل كانت تتشابه إلى حد بعيد، وهي -لذلك- كانت تبدو "باهتة"؛ لأن ملامحها الخاصة لم تكن من الوضوح بقدر كافٍ، وربما كانت شخصية عائشة من أبرز الشخصيات. والحق أنها قامت في المسرحية بأكبر دور، وتحركت بشكل يلفت النظر، فنحن نصادفها في مصر وفي وادي آش أكثر مما نصادف أي شخصية أخرى، وربما كان وجودها عنصرًا لازمًا لهذه المسرحية، ولكن لا ننسى أن هناك شخصيات أخرى كان من الممكن استغلالها مسرحيا ولكنها اختفت سريعًا، كشخصية الأمير يحيى، وكذلك كانت شخصية الوزير أبي القاسم شخصية درامية ناجحة، فقد ركز فيه المؤلف مفهومات الوزير ومبادئه، فاستطاع أن يعطينا صورة صادقة لحياة الوزراء الضعاف القلقة المضطربة التي لا تخلو من ذلة أمام الحكام، والتي تصطنع البطش والجبروت والقوة مع الشعب الضعيف، بعبارة عامة كانت شخصية الوزير أبي القاسم مرسومة رسمًا دقيقًا وأدت دورها على النحو المفروض. وفيما عدا ذلك نصادف شخصيات أبطال وقواد ليس لهم إلا أن يتحمسوا لعائشة وأن يبذلوا لها النصح أحيانًا، أما شخصية السلطان أبي الحسن فقد كانت ناجحة إلى حد ما، فيها عناصر الشيخوخة وفيها آثارها وتصرفاتها، ثم فيها -إلى جانب ذلك- بقية من حماسة قديمة ونجدة عربية أصيلة. أما شخصيات الإسبان فقد كانت أهميتها في أن تكمل القصة، ولم تكن شخصيات لها أهمية في ذاتها. هي

ص: 148

شخصيات يقتضيها تكوين المسرحية، وتكوين الحادثة فيها، ولكن لم تكن شخصيات لها في ذاتها قيمة مستقلة. كذلك كانت شخصيتا الوصيفتين "وجد" و"أمل" فهما شخصيتان جانبيتان ليس لهما قيمة خاصة، ولكن تتحدد أهميتهما بضرورة موقفهما المسرحي الذي يتكرر في بداية القسم الثاني من الفصل الأول، وفي بداية الفصل الخامس. وهذا الموقف يفيد دائمًا في التعريف ببعض الشخصيات التي لم يسبق لنا معرفتها والتي سيبدأ دورها.

وعلى العموم نستطيع أن نقول: إن شخصيات المسرحية لا تعدو أن تكون أدوات لازمة لتكوين القصة أو لتكوين الإطار المسرحي، ولكنها -في مجموعها- لا تتضمن شخصية بارزة لها قيمة مستقلة في ذاتها.

ص: 149