الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
الخطابة في العصر الحاضر
…
الخطابة في العصر الحاضر:
كانت الخطابة في العصر السابق ضعيفة مخلة يلتزم فيها السجع، ولا تعتمد على الارتجال بل تتلى في ورقة أو ديوان، ثم هي مقصورة على الجمعة والعيدين وغيرهما من المواسم الدينية، وقد ظل هذا طابعها عصر محمد علي أيضا لم تجد في المواقف الرسمية أو غيرها احتفالا بشأنها ولم ينهض الأمير أو رجال الدولة بها، فالدولة إذ ذاك تركية النشأة.
وإذا كانت الخطابة تعتمد على الملكة ووفرة الأسلوب، وروعة البيان فقد عدم كل ذلك أوائل هذا العصر حتى أن الجيش الذي تنفق فيه سوق الخطابة لتهيئة النفوس وإرهاف الحس، وإثارة الخواطر والذي طالما تحركت به الألسن وأذكيت المواهب لم يقم على قيادته، وتعليم كتائبه إلا نفر من "الطليان" وغيرهم من ذوي العجمة والرطانة كما كان تلامذة مدرسة الحربية إذ ذاك من أبناء المماليك وهم غرباء عن العربية، وقد بقيت روح الجيش وصبغته تركية أو قريبة منها إلى عهد قريب حين أعلنت مصر استقلالها.
الخطابة من عهد إسماعيل:
ازدهرت الخطابة في عصر "إسماعيل" حين شاعت الحرية وذاعت الصحف، وأنشئت الجمعيات والأندية السياسية والأدبية واستيقظت الأفكار، وهبت الأمة تطالب بحقوقها وتذود عن مجدها، وكان الأثر أبلغ الأثر في إنهاض الخطابة للحكم الشورى، وما استلزمه من المجالس النيابية التي تعتمد على إثارة الرأي والذود عن ومجاهدة الخصم بالحجة والبيان ولقيام الأحزاب وتناحرها، واعتمادها في نشر دعوتها ومناهضة منافسيها على الخطابة التي هي أداة الإقناع، ووسيلة البلاغ للرأي العام.
وقد قدم إلى مصر الزعيم "السيد جمال الدين الأفغاني"، فكان
كعبة حجها الشباب الحافل بالأمل والتوثب الطامح إلى الحرية والمجد، والتف حوله من تلاميذ الأزهر النابهين طائفة كان لها أعظم الأثر في نهضة مصر الوطنية والثقافية من أمثال "الشيخ محمد عبده" وسعد زغلول، فبعث فيهم "جمال الدين" روح الحياة الكريمة، وتجاوب مع أرواحهم الطامحة شعوره وتوجيهه، وأذكى في نفوسهم حب الوطن والذود عنه ونقد لهم أساليب التعليم وعكوف المتعلمين على الألفاظ، ثم أخذهم بأسباب الارتجال ومرسهم بالنقاش والجدال، والوقوف بجانب الحق تنافح عنه الحجة ويحمي حماه الدليل، فتفتحت أذهانهم ولانت بروائع القول ألسنتهم وشغفوا بجمال الدين حبا، وأشربوا رسالته، فبثوا أفكاره وتحدثوا عن الأخلاق والاجتماع، وتجاوزوا ذلك إلى الحديث في السياسة وشئونها، فألفوا جمعية سرية "بحلوان" لهذا الغرض، ولكن حكومة إسماعيل تفتحت عيونها على خطر هؤلاء، فكبحت جماحهم وقبضت عن "جمال الدين" يدها التي كانت تمتد إليه بعشرة جنيهات كل شهر تقديرا لفضله، ولم تطق بقاءه بمصر فنفته إلى مكان سحيق ولم تكن هذه الشعلة التي أوقدها الأفغاني ليخبو نورها بنفيه من مصر، فقد ظل فريق من تلامذته وعشاقه ينشرون دعوتهم ويؤيدون بالخطابة والاجتماع فكرتهم، وألفوا لهذه الأغراض الجليلة جمعيات غذوها ببيانهم وأنهضوها بأفكاهم.
وإذا كان "إسماعيل" على رغم حبه الحرية مخوف الجانب مرهوب البأس، فإن "توفيقا" عرف بالتسامح ولين العريكة، وذلك مما هيأ لهذه الحركات الفكرية تربة خصبة نمت فيها وترعرعت وأتت أكلها، ولم تزل جمرات الفكر تتأجج في عهده حتى اشتعلت الثورة العرابية، فهزت القرائح وأجرت البيان، ولكن كانت هذه الثورة وبالا على مصر وحربا على أهلها، فقد أثمرت غير ما رجى منها فبسط الاحتلال على الوادي ظلاله وفرض على الأمة سلطانه، وخنق الحريات الناشئة وحول التعليم إلى أداة حكومية لا تمت إلى الثقافة المرجوة بسبب.
وشاء الله أن يقيض لمصر من فل حد الظلم ورد كيد البغي، وأثار في الأمة روح الذود والنضال، فهبت تسترد مجدها وتعيد ما غصب من حقها، وكان في طليعة هؤلاء الذين هبوا في وجه البغاة باعث النهضة وبطلها الأول المرحوم "مصطفى كامل" صاحب "اللواء" و"العلم" وغيرهما من الصحف فقد كان جذوة من الشعور الثائر، والجهاد المتقد.
اتخذت الخطابة في هذه الفترة شتى المظاهر، ومختلف الألوان والأساليب فهذه خطب سياسية قارصة وتلك أندية أدبية واجتماعية وعلمية يقوم بها الخطباء والمحاضرون في الأدب والاجتماع والعلم، ويرودها من الأمة وشبابها طوائف وأشتات، فكثرت المرانة على القول، وتخرج في هذه المدارس خطباء مصاقع هذبوا العبارة وجودوا الأساليب.
وكان من مظاهر الخطابة أيضا التقاضي أمام المحاكم والمساجلات التي تجري بين هيئة الدفاع والنيابة، فقد كانت أسواقا تزخر بالأساليب القوية والحجج الدامغة والمنطق الرصين، كما كان من مظاهرها التمثيل الذي يدور في كثير من مواقفه على الأسلوب الخطابي الفصيح ليؤثر في النفوس، وتذعن للغرض النبيل الذي تدعى إليه.
وفي سنة 1919م اندلعت نار الثورة الوطنية في مصر، فألهبت الخواطر وأرهفت الحس واستدعت الأحكام العرفية والسيوف المصلتة على الرقاب أن يفزع أولوا الغيرة على الوطن النافرون من البغي، فصالوا بالقول وجالوا بالخطاب وألهبوا العزائم وخلقوا من الأمة جمرات تتقد، هذه الثورة حلت الألسن من عقالها وسلت من البيان سيوفا مواضي. وكان الأزهر منبرها وأبناؤها لسنها المقاويل، وسعدت مصر في هذه الفترة بالخطباء الفحول.
ثم قدر لهذه الثورة أن تسكن أولئك الفورة أن تهدأ، واستقر نظام كان مضطربا وانقشعت الحماية عن مصر وعبد الطريق لاستقلال لا نزال نمضي في سبيله ونجهد لنيله، واستجدت للخطابة مظاهر أخرى كان من بينها المناضلة