المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشيخ عبد الرحمن الجبرتي: - الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة - جـ ٢

[محمد كامل الفقي]

الفصل: ‌الشيخ عبد الرحمن الجبرتي:

‌الشيخ عبد الرحمن الجبرتي:

المتوفى سنة "1240هـ-1825م".

نشأته وحياته:

عبد الرحمن بن حسن الجبرتي نسبة إلى جبرت من أعمال الحبشة.

كان والده "الشيخ حسن الجبرتي" من كبار علماء الفلك والرياضة، وآثار جليلة فيهما كما كان عالما في كثير من علوم الأزهر على حظ من الأدب وروايته، وقد ترجم له ابنه "عبد الرحمن" في عجائب الآثار بين وفيات 1188م، وشرح عدة مؤلفات مودعة في المكتبة الخديوية.

نشأ "عبد الرحمن" في بيئة علمية أدبية، فقد كان مجلس أبيه حافلا بالعلماء والأدباء يبحثون في العلم ويطارحون بالأدب، حدث "عبد الرحمن" أن والده كان يفاكه أخصاءه ويمازحهم، ويرفه عنهم بالمناسبات والأدبيات، والنواد والأبيات الشعرية، والمواليا، والمجونيات والحكايات اللطيفة والنكت الطريفة1.

وكانت لوالده شهرة علمية حتى إن كثيرا من الأقطار الإسلامية كان يراسله ويكاتبه كما كان له تلامذة، ومعجبون "وعبد الرحمن" بقية أخواته وإخوته الكثيرين الذين عجل الموت بهم، فكانت له في نفس والده مكانة مغمورة بالحب، والعطف مما جعله شديد العناية به كريم العطف عليه يضعه إلى مجلسه على رغم ازدحامه بالعلماء والكبراء، وهذا مما فتق ذهنه، ووسع أفقه ونمى رجولته.

بدأ "عبد الرحمن" حياته العلمية، فانخرط في سلك الأزهر، وأخذ العلم

1 عجائب الآثار ج4 ص396.

ص: 108

عن أبيه، وعن جمهرة من كبار الأساتذة، وعني بالأدب فكتب ونظم وراسل. وكان أحد الذين اتصلوا بالفرنسيين في مصر، فشاهد علمهم الحديث وأدواتهم الفنية وطرائفهم العملية، وأسلوبهم في التفكير والسياسة، وربما كان أكبر سبب لتطوره هو دخول الفرنسيين مصر، واتصاله الاتصال الوثيق بهم والتحاقه بديوانهم الذي أنشأوه، وقد كان ممن يترددون على المجمع العلمي، فوصف ما شاهده من مخترع حديث، وما أجري أمامه من تجارب.

ولما خرج الفرنسيون من مصر، وانتهى ديوانهم الذي ألحق للكتابة فيه انقطع للتأليف، وتفرغ للكتابة التاريخية، وظل كذلك حتى وافته منيته.

الاضطراب في تاريخ وفاته:

وقد اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته، إلا أن "جورجي زيدان" يذكر أنه وقف على نسخة من تاريخه في مكتبة "محمد بك آصف" بمصر، جاء في آخرها أنه أتم تبييضها سنة 1237 هجرية، وعلى هامشها ما نصه بخط واضح بلغ مقابلة وقراءة على مؤلفه من أوله إلى آخره في يوم السبت المبارك 14 ربيع الأول سنة 1240 هجرية بمرأى، ومسمع من مؤلفه متع الله الوجود بطول حياته

رقعه بيده الفانية أحمد بن حسن الرشيدي الشافعي الشهير بصومع1.

فهذا الذي نقله نص في أنه لم يمت قبل ذلك، فوفاته في سنة 1240هـ، أو فيما بعدها لا قبل ذلك كما رأى بعض المؤرخون2، أما مولده فهو سنة 1167هـ، ولم يكن كوفاته موضع اضطراب.

1 تاريخ آداب اللغة العربية ج4 ص283.

2 وفي الكتاب الألماني الذي ترجمه المرحوم الشيخ عبد العزيز المراغي أن وفاته سنة 1824م.

ص: 109

آثاره:

الجبرتي مؤرخ العصر ومدون أحداثه، ومسجل ما وقع فيه من اضطرابات سياسية، وفتن داخلية يشرح ذلك شرح محقق اطلع عليه وسمع به، فروايته رواية عليم، وحديثه حديث مكابد، ولقد مكن بتاريخه من إثبات ما يتصل بهذا العصر إثباتا لا شك فيه، ولا عناء في الحصول عليه.

ويعتبر كتابه عجائب الآثار من أوفى المراجع لكثير من أدباء العصر، وعلمائه ولا سيما الأزهريين الذين خالط الكثير منهم، واتفقت له بمعاصرتهم، ومشاهدتهم دراسة أحوالهم ودراية شئونهم.

وفي الكتاب كثير من آثار العلماء والأدباء والشعراء، وجمهرة من النثر والشعر يذكرها عقب ترجمته لهم، ويوافيك بها مقرونة بالحادث الذي قيلت فيه، ووردت بصدده -فهو كتاب أدب وتاريخ معا.

ويحدث الجبرتي عما لقيه من الجهد في تدوين هذا الكتاب، واستيعاب حوادثه فيقول:"إني كنت سودت أوراقا في حوادث القرن الثاني عشر "الهجري"، وأوائل الثالث عشر الذي نحن فيه جمعت فيها بعض وقائع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن مما أدركناها، وأمور شاهدناها، واستطردت في ضمن ذلك إلى سوابق سمعتها، ومن أفواه الشيخة تلقيتها، وبعض تراجم الأعيان المشهورين من العلماء، والأمراء المعتبرين وذكر لمع من أخبارهم، وأحوالهم وبعض تواريخ ميلادهم، ووفياتهم".

ولما عزم على جمع ما كان قد سوده أراد أن يصله بشيء مما قبله، فعز عليه إلا بعض كراسات سودها بعض العامة من الأجناد على اختلاف ترتيبها، وركاكة تركيبها، ونقص في وقائعها، وكان قد ظفر بتاريخ من تلك الفروع، ولكنه على نسق في الجملة مطبوع لشخص يقال له:"أحمد جلبي" بن "عبد الغني" يبتدئ فيه من وقت تملك بني عثمان الديار المصرية، وينتهي كغيره إلى خمسين ومائة وألف هجرية.

ص: 110

ثم إن القوم عبثوا بهذا الكتاب، ولم يعثر على شيء مدون في هذا الشأن، فرجع إلى الشيوخ يروي عنهم إلى صكوك الكتبة، وما نقش على قبور الراحلين عساه أن يجد ما يعنيه في هذه السبيل، ومن أول القرن إلى السبعين وما بعده أمور شاهدها، ثم نسيها وذكرها.

وهكذا يتبين وجه الدقة والنقص في هذا التاريخ، ويستبين أنه ثقة فوق الظنون والأوهام.

وقد طبع هذا الكتاب سنة 1297، ثم طبع بعد ذلك أكثر من مرة، "ويقال: إنه طبع طبعة قبل هذه صادرتها الحكومة لأن فيها طعنا في أعمال محمد علي باشا رأس الأسر الخديوية، ثم أصدرت الحكومة هذه الطبعة بعد حذف الطعن، وكل ما ظهر من الطبعات منقول عنها1".

والحق أنه كان مسرفا في هجومه على محمد علي باشا، بل إنه ليقسو في مهاجمته، ويتتبعه خطوة فخطوة، وربما كان ذلك ناشئا من صداقة والده لبعض المماليك المصريين، ولعل ذلك يظهر عند خروج الفرنسيين من مصر، فإنه يشايع الألفي بك، وينصره على محمد علي باشا.

هذا وقد سما الجبرتي بكتابه عن الغايات، وارتفع في رأيه فوق الريب إلا في قليل، فقد كتب تاريخه للعلم، ولم يقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم يداهن دولة بنفاق أو مدح، أو ذم مباين للأخلاق2.

وربما حملته نشأته الدينية على أن يعف لسانه، فلا يطعن أو يجرح أو يذكر مثال الناس، وإذا ترجم لشخص عند وفاته، وذكر عيبا من عيوبه بادر بقوله:"ولكنه كان طيب السريرة، وفيه محبة الناس غفر الله له"، وقد يقول:"رحمه الله، وتجاوز عن سيئاته، اذكروا محاسن موتاكم".

وقد يتسع مجال القول لنقد كبير، أو تناوله ولكنه يمسك، ويقول: "يضيق

1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص284.

2 عجايب الآثار ج1 ص6.

ص: 111

صدري ولا ينطلق لساني، وليس الحال بمجهول، حتى يفصح عنه اللسان بالقول، وقد أخرسنى العجز أن أفتح فما، أفغير الله أبتغي حكما".

وتجد على رغم تناوله محمدا عليا لا يغفل آثاره في التعمير والإصلاح، ولا يغضي عن جلائل أعماله، وعظيم نهوضه.

والكتاب على سعته لا يتحدث إلا عن القاهرة، ولا يصف غير مباهجها وأحداثها، فلا حديث فيه عن الريف أو مدينة أخرى، ولعل ذلك لأن الجبرتي آثر في القاهرة وفتن بها وحدها، ولو أنه نزح إلى غيرها من مجالي القطر لأتاح لنا وصفه، وحدث عنه حديثه التاريخي المستطاب.

موضوع الكتاب:

يقع كتاب "عجائب الآثار في تراجم الرجال والأخيار"، في أربعة أجزاء ضمته حوادث مصر التي جرت من أواخر القرن الثاني عشر الهجري إلى سنة ست وثلاثين من الثالث عشر، مبينا أعظم الأحداث التي وقعت في هذه الفترة يوما فيوما حسب وقوعها.

بدأ في كتابه يذكر مقدمة تاريخية إلى سنة 1142هـ، ثم حدث عن الوفيات من سنة 1100هـ إلى سنة 1142هـ، ثم جرى على سرد الحوادث تباعا حسب وقوعها يوما فيوما، وإذ ينتهي من سرد الحوادث لكل عام يقفي بذكر الأعيان المتوفين من علماء، وأمراء وكبراء مترجما لهم مبينا آثارهم؟

والكتاب يقع في أربعة أجزاء ينتهي الجزء الأول منها بالكلام عن الأحداث، والرجال إلى سنة تسع وثمانين ومائة ألف من الهجرة، وينتهي الجزء الثاني منها بالكلام عن الأحداث، والرجال إلى سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف من الهجرة، وينتهي الثالث بسنة عشرين ومائتين وألف، وينتهي الرابع وهو الأخير بسنة ست وثلاثين ومائتين وألف، وهو آخر ما كتبه.

وقد نقل تاريخ الجبرتي إلى الفرنسية بهمة بعض فضلاء مصر، وهم "شفيق

ص: 112

بك منصور وعبد العزيز كحيل بك، وجبرائيل نقولا كحيل بك، وإسكندر بك عمران1، وطبع في القاهرة سنة 1888م.

تلخيص العجائب:

وقد ألف الشيخ عبد الله أبو السعود المتوفى سنة 1295هـ "1888م" كتابا اختصره من عجائب الآثار، ولخصه عنه، وسماه "منحة العصر بمنتقى تاريخ مصر".

مظهر القديس بذهاب دولة الفرنسيس:

يرجح "جورجي زيدان بك، وكاتب فهرس المكتبة الخديوية"، وقد نقل ذلك عنه لويس شيخو في كتابه الآداب العربية في القرن التاسع عشر أنه لعبد الرحمن الجبرتي، ونسبه له "المفصل" أيضا، وقد صدر هذا الكتاب بمقدمة موجزة في تاريخ مصر يبتدئ من المحرم سنة 1013هجرية، وينتهي إلى وقت لتأليفه سنة 1216، ثم تكلم على حادث احتلال الفرنسيين مصر في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وخروجهم منها من زيادات مما نمقه معاصر المؤلف، وصديقه الشيخ حسن العطار من منظومه ومنثورة، وكان الفراغ من تأليفه في شهر شعبان سنة 1216هـ، وهو نسخة في مجلد مخطوط بخط أحمد رزق، وفرغ من كتابتها سنة 1293هـ، وهناك نسخة أخرى مخطوطة تمت كتابتها سنة 1224هـ، والكتاب مترجم إلى الفرنسية والتركية.

أسلوب الجبرتي:

الجبرتي ممن عالج الأدب وأصاب منه حظا، وأبرز آثاره التي يتجلى فيها أسلوبه هو عجائب الآثار في تراجم الرجال والأخبار لسعته، وكثرة ما ضم من تحريره. ومن يدرس في هذا الكتاب أسلوبه يجده على نسقين، أما الأول

1 الآداب العربية في القرن التاسع عشر للويس شيخو ج1 ص21.

ص: 113

فإنه يتأنق في كتابته ويشمر في تحريره، وهو إذ ذاك مجار عصره في السجع غالبا يتخير لفظه، ويجود في تعبيره، فتراه إذ ذاك "مسلوكا في أعيان الكتاب والشعراء"، وترى له في كلا البابين البدائع بالنسبة لعصره1، وقد يترك السجع، ويرسل الكلام إرسالا لا صنعة فيه، فيكون أسلوبه ضعيفا لا أثر فيه لاجتهاد، أو تجويد.

وهو حين لا يعني فيما يكتبه بالأسلوب، ولا يحرص على التأنق، وحسن العبارة تراه ركيك التعبير مختل الأسلوب نازل التركيب يهبط إلى العامية حتى ليكتب بها غير مهذب لها، أو متحاش طريقها.

وإذا شفع له في بعض الأحيان أنه ينقل عن العوام، ومن ألسنتهم أحداثا بتعبيرهم، وتصويرا بعاميتهم، ومقالات شافهوا بها، وكان في قدرته أن يعبر بأسلوب عربي رصين -فليس من السائغ له أن يطرد ذلك في كتابته، وأن يمثل الجمهرة العظمى من أسلوبه.

نماذج من كتابته:

مما كتبه عن الأمير "مراد بك محمد":

...... وحظي عنده كل جريء غشوم عسوف ذميم ظلوم، فانقلبت أوضاعهم، وتبدلت طباعهم، وشرهت نفوسهم، وعلت رءوسهم فتناظروا وتفاخروا وطمعوا في أستاذهم، وشمخت آنافهم عليه، وأغاروا حتى على ما في يديه، واشتهر بالكرم والعطاء فقصده الراغبون، وامتدحه الشعراء والغاوون، وأخذ الشيء من غير حقه، وأعطاه لغير مستحقه، كما قال القائل:

وإنما خطرات من وساوسه

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما

ثم لما ضاق المسلك، ورأى أن رضا الناس غاية لا تدرك، أخذ يتحجب عن الناس، فعظم فيه الهاجس والوسواس، وكان يغلب على طبعه

1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص365.

ص: 114

الخوف والجبن مع التهور، والطيش، والتورط في الإقدام مع عدم الشجاعة، ولم يعهد عليه أنه انتصر في حرب باشره أبدا على ما فيه من الادعاء، والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم، والجور كما قال القائل:

أسد علي وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصافر

ومن أسلوبه الضعيف الذي يقرب من العامية، ويمتزج بها ما كتبه إذ دون حوادث شهر جمادى الآخرة سنة 1216هـ:

"وفي يوم الخميس سابع عشرينه مروا بزفة بسوق النحاسين، وبها بعض أنكشارية، فحصلت فيهم ضجة، ووقع فيهم فشل فخطفوا ما على العروس، وبعض النساء من المصاغ المزينات به، وفي أثناء ذلك مر شخص مغربي، فضربه عسكري رومي "ببارودة"، فسقط ميتا عن الأشرفية، فبلغ ذلك عسكر المغاربة، فأخذوا سلاحهم وسلوا سيوفهم، وهاجت حماقتهم وطلعوا يرمحون من كل جهة، وهم يضربون البندق ويصرخون، فأغلقت الناس الحوانيت، وهرب قلق الأشرفية بجماعته إلى أن يقول: ورجعت القلقات إلى مراكزها، وبردت القضية، وكأنهم اصطلحوا وراحت على من راح".

ص: 115