الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشهر الخطباء السياسيين من الأزهر:
السيد عبد الله نديم:
المتوفى سنة 1314هـ-1896م
نشأته وحياته:
هو، عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، ينتهي نسبه إلى إدريس الأكبر من أسباط الحسن بن علي، ولد بالإسكندرية سنة "1261هـ-1843م"، فحفظ القرآن ولما يناهز التاسعة من عمره، وكان أبوه متوسط الحال فلما لاحت له مخابل نبوغه وأدخله معهد الإسكندرية1 الديني، فدرس فيه ما درس من العلوم الدينية واللغوية والعقلية، وأتقن فقه الشافعية والأصول والمنطق، وبرع في الأدب والعلوم اللسانية، وهو حدث باكر الشباب ونظم الشعر الرقيق والنثر المحكم الرصين، وما لبث أن طار صبته وذاعت شهرته، وتسابق أعلام الكتاب والشعراء إلى مساجلته ومطارحته، وكان رحمه الله جريئا ثبت الجنان يركب الأحداث، ويخوض الأخطار في سبيل مجده ورأيه، ثم بدا له أن يتعلم صناعة "البرق"، فلم تمض مدة وجيزة إلا وقد أتقن تعلمها وبرع فيها، وشغل إحدى وظائفها في مكاتب مختلفة، كان أبرزها مكتب "تلغراف"
1 كان معهد الإسكندرية إذا ذاك من المعاهد الدينية الحرة التابعة للأزهر يدرس فيها أزهريون، وتدرس فيها الكتب الأزهرية على طريقته، وهذه المعاهد هي دمياط وطنطا ودسوق، فلما نهض محمد عبده بالإصلاح امتحن طلابها وألحقهم بفرق يناسب معلوماتهم ومداركهم، وتعطي علماءها شهادة العالمية على أن يدرسوا في معاهد بلادهم، فحسب دون أن يتنقلوا إلى معاهد أخرى.
القصر العالي في عهد المغفور له "الخديوي إسماعيل باشا"، وعلى الرغم أن الأعمال ترهقه وتستبد بوقته كان يروى من العلم ظمأه، ويشبع من فنون الأدب نهمه، فيتردد ساعات فراغه على الجامع الأزهر يطالع الدروس مع رفاق الصبا ويفيد علما وأدبا، ومن أخص زملائه صحبة ودراسة المرحوم الشيخ حمزة فتح الله.
ثم استجد له ما استوجب فصله من عمله، فاتصل بجمهرة من الكبراء والعظماء، وكان له معهم ندوات أدبية مشهورة غشيها أعلام الشعر والأدب فناظروه وطارحوه، وكان أسطعهم نجما وأسبقهم غلبا.
ثم إنه نهج في الحياة نهجا آخر، فاضطلع بالتجارة عساه يجد فيها غنية ومتاعا. فأنشأ بالمنصورة متجرا نفقت سوقه، ودر ربحه إلا أن كرمه المتلف عبث برأس المال والربح معا، ولئن كانت تلك خسارة متجرة لقد كان له ربح أدبي خصب إذ آمه الأدباء والشعراء، وجعلوا من المنتجر منتدى يتسامرون فيه، ويتساقون من الآداب كؤسا مترعات.
حياته السياسية:
عاد النديم إلى الإسكندرية في أوائل سنة 1879م، فبدأ حياته السياسية التي كان له هواه، وكان أول اتصاله بها أن اجتمع بصديقين وفيين له هما "محمود أفندي واصف" أحد اللذين جمعوا كتاب "سلاقة النديم"، ومحرر جريدة العدل "ومحمد أفندي أمين" كبير كتاب محكمة أسيوط الأهلية إذ ذاك، وكانا حينئذ من مؤسسي جمعية "مصر الفتاة"، فكان الأول نائب رئيسها والثاني كاتم أسرارها، كما اجتمع بكثير من أعضاء هذه الجمعية، فشرع يبث أفكاره في جريدتي "مصر""والتجارة"، ولما رأى أن جمعية مصر الفتاة سرية، ويخشى عليها من الحكومة أوحى إلى أصدقائه بالانفصال عنها، وإذ ذاك حدثهم في إنشاء جمعية سافرة واضحة الأغراض تعمل لنفع مصر والمصريين، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فاستمع الأصدقاء وكثير من الناس
له وتألفت قلوب أهل الثغر وتم له ما رمى إليه فقامت الجمعية الخيرية الإسلامية في أواخر عهد إسماعيل، والقلوب واجفة والنفوس قلقة والأنفاس محبوسة في الصدور.
ولما ولي الأمر "الخديوي توفيق" اطمأنت الخواطر واستقرت الأمور وانطلقت الألسن من عقلها، ولقي الناس في ظلاله حرية رأي وطلاقة فكر، فاهتبل النديم هذه الفرصة فدعا الناس وحضهم على مؤازرته ومعاضدته فيما يهم به، فبرزت الجمعية في مظهر الائتلاف، وأجفل السراة والوجوه والكبراء للانتظام في عقدها، وكانت أول جمعية إسلامية أسست في البلاد1، والغرض من إنشائها تربية النشء وتثقيفهم وبث روح المعارف، وترقية أفكارهم وطبعهم على مكارم الأخلاق، وتوجيهم وجهة دينية وطنية.
أنشأت الجمعية مدرسة يتعلم فيها اليتامى والعاجزون عن أسباب التعليم، وقد ظل النديم يسعى لها عند الخديو حتى أمدها برفده، وأظلها برئاسة ولي عهده، وأجرت عليها نظارة المعارف مالا سنويا غير قليل، فكان ذلك حنا للجمهور على مؤازرتها واستنهاضا للعزائم لمعاضدتها، وقد استقدم لها نوابغ
1 غير خاف ما كان لهذه الجمعية من أثر في نهوض الخطابة، وتدريب الألسن وبهذه المناسبة نذكر أن أول جمعية أدبية ظهرت في مصر هي جمعية رواق الشوام بالأزهر، نقل ذلك جورجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية ج4 ص94، فقال أثباتا بخبرها حفني بك ناصف مفتش أول اللغة العربية في نظارة المعارف قال: "وكانت كلما عزم طالب سوري على الرجوع إلى الشام نهائيا تحدد ليلة للاجتماع تعلنها إلى أهل الرواق، فيعد الشعراء قصائد الوداع، ويتلوها ليلة السفر بمحضر من علماء الأزهر وأدبائه، وكانوا يبتدئون القصيدة بالغزل، ثم يتخلصون إلى المديح والوداع وكان الشعراء يتبارون ويتنافسون فيها أيما تنافس، ولم يكن الشعراء من السوريين فقط، بل كل من أراد أن ينظم قصيدة مصريا كان أو سوريا تقبل منه ويؤذن له بتلاوتها، وقد تأسست هذه الجمعية سنة 1873م.
الأساتذة من العرب والغربيين، فأمدوها بعلمهم وثقافتهم وتوجيههم، وأما النديم فقد أقيم مديرا لها، فتعهدها برعايته وبذل لها كريم جهده وعنايته، وعلم فيها الأدب العربي والإنشاء، وقد أربى طلابها على ثلاثمائة في زمن يسير، وما زال "النديم" يحشد لها كل قواه حتى أثمرت أطيب الثمرات، ولبى الخديوي رجاءه مرة أخرى، فمنح الجمعية مدرسة البحرية لسعتها وجمال موقعها.
وكان النديم يعقد الحفلات العامة في بهو المدرسة يحضرها عظماء القوم، وسراتهم فيسمعون ما يطرب ويعجب منه ومن تلامذته، ثم ينصرفون ولا حديث لهم إلا ترديد ما سمعوه من العبارات الآخذة بمجامع الألباب مما نشط الأدب وروج سوقه، ودرب الألسنة على القول والارتجال.
ولم يقف نشاط النديم على ذلك، بل صور حال البلاد، وبين كيف تنال المروءة والشهامة بروايتيه الشهيرتين "الوطن -والعرب" مثلهما مع تلامذته بحضرة الخديوي فاهتز لهما، وبلغا من نفسه مبلغ التقدير والارتياح، ونفح الجمعية بما يقوي ساعدها ويحفز همتها.
ثم إن الحسد ألقي في نفوس حاسديه فسعت الوشايات، ودب دبيبها ففصل النديم من الجمعية، وأقصي عن إدارتها.
وكان من قبل ذلك يعالج الكتابة في الشئون السياسية والاجتماعية بقلم متحرر من السجع والصنعة، فعظم شأنه وذاع صيته، وتهيأت له مكانة أدبية بما كان يكتبه في صحيفتي "المحروسة -والعصر الجديد" اللتين قامتا على أثر إلغاء صحيفتي "التجارة- ومصر"، ثم أنشأ جريدة أسبوعية سماها "التنكيت والتبكيت" ظاهرها الهزل المضحك، وباطنها الجد اللاذع وحررها بأسلوب بديع لم يسبق إليه، ثم استبدل بها "الطائف" التي كانت سياسية محضة يخب فيها ويضع، وقد توانى لها من الشهرة والصيت ما لم يتوات لصحيفة قبلها، فإنها كانت أفسح ميدان للثائرين من حملة الأقلام ثم اغتصبها منه أمراء الجند في أثناء الثورة العرابية، فلم يدعوا له إلا اسمها ونشروا فيها كل ما يشتهون حتى انتهت الثورة العرابية.
كان "عبد الله النديم" أحد الذين أضرموا نار الثورة العرابية، فلما كانت موقعة التل الكبير في الخامس عشر من شهر سبتمبر سنة 1882م، فر عرابي وجماعة معه وتبعهم النديم، ثم ألف وفد من الثائرين، واتجه إلى الخديوي بالإسكندرية يلتمس عفوه، ولكن النديم لم يتم رحلته معهم بل لجأ إلى الهرب، واختفى عشر سنين ضاربا في آفاق القرى متنكرا بمختلف الأزياء، وقد جدت الحكومة في طلبه، وأوصت بالعثور عليه وأرصدت ألف جنية مكافأة لمن يهدي إلى مكانه، وكان كثير من الناس يعرف مقره وتنقله، ولكن كان أكرم عليهم وأحب لديهم، فلما كان آخر عهد المرحوم توفيق باشا عثرت الحكومة عليه فسجن أياما، ثم أمر الخديوي بإبعاده إلى بلد يؤثره، فاختار فلسطين منفى له، وبعد أن لبث بها حينا تنقل في مدينة "الخليل" ونابلس، وبيت لحم، والمسجد الأقصى، ثم عاد إلى "يافا" التي غادرها إلى مصر حيث كان الخديوي قد تفضل بالعفو عنه، وقد أنشأ بعد عودته من منفاه صحيفة "الأستاذ" التي بلغت ما بلغت من الشهرة والصيت، وأثرت في أفكار الأمة ووجهتها، ثم لم يطل بها البقاء فكان نصيبها التعطيل، ولقي النديم مثل ما لقي من الدس والكيد وأبعد عن بلاده مرة أخرى، وطاب له المقام بالآستانة إذ أكرم السلطان وفادته وآثره بالعطف والتقدير، وعين مفتشا للمطبوعات في هذه الديار، وظل ينشر فضله ويذيع أدبه حتى استأثر الله به.
ومن تأمل بعين الاتعاظ في تقلب الأحوال بالمترجم، وما ذاقه من حلو الزمان ومره وقاساه مدة الاختفاء، ثم النفي حتى مات غريبا طريدا حق له العجب، وعرف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بنيه1.
شخصيته:
تبدو عظمة الشخصية في كل مظاهر النديم، وفي جميع مراحل حياته فلقد
1 أعيان القرن الثالث عشر والرابع عشر لأحمد تيمور باشا ص27.
كان أكبر من أن يدل عليه في كل أمر يتصل به، إنما تنطق شخصيته وتطالعك قوتها وبروزها حتى تعجب لها، تبرز شخصية النديم في كتابته وخطابته وأحاديثه، ولقد أشرب حب جمال الدين وتشربت مبادئه إلى شغاف قلبه فنم عن الإيمان بها كتابة وخطابة وحديثا، وما كان للحكومات المتوالية أن تضيق الفذة من معاني النحوة والشجاعة والثورة، وهو هو النافذ إلى القلوب إذا خطب أو كتب لأن التأثر به كان من بيانه ووجدانه أو هما معا.
ولقد تظهر شخصية النديم في وطنيته الجارفة التي لا تبالي بقوة في الأرض والتي تزيدها المحن مضاء وعزما، لقد فنى في الثورة العرابية ووهب لهما نفسه وحسه، ولو اقتصر وفاؤه لها على الدعوة لها ومؤزارتها والجهد في نجاحها لكان كأحد أبطالها لا يتميز منهم إلا بفصاحته، ولكنه امتاز بالوفاء للثورة بعد فشلها وإخفاقها، فإن دعاة الثورة وأنصار كل حركة يتنكرون لها بعد الهزيمة، ولكن النديم من الشخصيات القليلة التي أخلصت للثورة في محنتها وهذا ما يسمو به إلى مصاف الأبطال - وهو الزعيم الوحيد بين العرابيين الذي استمر في جهاده السياسي ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال وهي ميزة كبرى انفرد بها دون بقية الزعماء الذين أثرت فيهم الهزيمة فوهنت لها روحهم المعنوية وانطفأت فيهم شعلة الأمل والحماسة والجهاد، أما هو فقد ظل على جادته واستمر يجاهد ويناضل حتى آخر نسمة من حياته، وهذا وحده يدلك على مبلغ علو نفسه وقوة شخصيته إذا لم تنل منه الشدائد ولم يضعف إزاء المحن والكوارث ولم يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا1.
ولما تولى "عباس الثاني" بعد وفاة "توفيق" عفا عن النديم وأذن له بمغادرة منفاه إلى مصر، كانت الفرصة سانحة له أن يمالئ الاحتلال وأن
1 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك 533 و537.
يخفض جناحه لجبروته وسلطانه، وأن يخفف من العناد الذي أضناه والجهد الذي كابده، وكان من الميسور له لو جنح إلى السلم أو كف عن مجاهدته، ونضاله أن يجد في كنف "اللورد كرومر" معتمد البريطانيين إذ ذاك أرقى المناصب، وأسمى الوظائف، وخاصة بما اتسق له من المواهب الأدبية الممتازة، وكفايته العلمية الفذة، ولكنه عاف هذه الحياة، وآثر الوطن الحبيب إليه وحن طبعه وإحساسه إلى استئناف النضال، فكانت مجلته الأسبوعية "الأستاذ" سيفا مصلتا على رقاب الإنجليز يسكب فيها عصارة فكرة الثائر مقالات، وأزجالا ومناظرات، فتفعل بالنفوس الأفاعيل، ويتعلق الناس بها، ويتأثرون بأسلوبها ويسايرونها في إيمانها واتجاهها، ويغيظ ذلك الإنجليز ويألمون لأسلوبه ما يألمون، وهو هو المتدفق إيمانا وثورة الماضي في نضاله لا يلوي على شيء.
وإذ يتفاقم الخلف بين الخديو والإنجليز على أثر عزله "مصطفى باشا فهمي" رئيس النظار إذ ذاك، والذي كان أداة لهم وصنيعة يبث "النديم" في مجلته "الأستاذ" روح الخلف مع الإنجليز، ويستحث الهمم والعزائم لمناصرة الخديو، ومؤازرته فيشتد الإقبال عليها، ويجتمع عليه عداء الإنجليز، وسخطهم على مسلكه وحقد الصحفيين، وحسدهم لمكانة صحفه فيرمى بالتعصب ويتهم بالتهييج، وإثارة الخواطر وتعطل صحيفته، وينفى من وطنه.
وكان مما ودع به قراءة في آخر عدد من مجلة "الأستاذ" الصادر في 13 من يونية سنة 1893 قوله:-
"ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في عين الواقفين عند الظواهر، وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلا:-
أودعكم والله يعلم أنني
…
أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلى كان الرحيل وإنما
…
دواع تبدت فالسلام عليكم
تأثر مصطفى كامل النديم:
لا ريب في أن كثير من الناس قد تأثر بالنديم في دعوته، وأنه جذب إليه جمهرة ممن وجدوا فيه مثلا لجهارة الرأي وفصاحة القول، فمثل "النديم" من يكون مدرسة يتخرج فيها الناهضون، ولقد كان ممن أوحى النديم إليهم، ولقنهم مضاء العزم الزعيم الشاب المغفور له "مصطفى كامل"، فقد عرف "النديم" فيه روح الثورة، وطالعته من مواهبه أمارات الزعامة، واستهوى "النديم" جمهرة من الشباب الأحرار، كان "مصطفى كامل" في طليعتهم وفي مقدمة الذين وثقوا اتصالهم به، وكان من نتائج هذا الاتصال أن اكتسب "مصطفى" بعض صفات النديم، وتلقى عنه فكرة الاتفاق مع الخديو حتى تسهل الدعوة إلى الاستقلال، وكان من أول ثمرات هذه الفكرة أن أقيم احتفال سنوي في عيد الجلوس1.
ويقول تشارلز آدمس: لما عاد "السيد عبد الله النديم" من "يافا" في المرة الأولى سنة 1892 سمع "بمصطفى كامل"، الذي كان حينذاك طالبا بدأ يحرر في الصحف ويهيج الطلاب، فبحث السيد "عبد الله نديم" عن ذلك الوطني الشاب وقص عليه قصته، وروى ما مر عليه من حوادث، وليس من شك في أنه غرس في نفسه آراءه المتطرفة2.
خطابته:
كان "النديم" خطيبا مفوها بليغ التأثير نافذ القول قوي الأداء جهير الصوت، يرتحل فلا يعجبه الارتجال ويفجؤه الموقف فلا يزيده إلا حسنا، يملك مشاعر السامعين بحسن أسلوبه وعذوبة صوته، ولا غرو أن لقب بحق
1 تراجم مشاهير الشرق لجورجي زيدان بك ج1 ص289 و301.
2 الإسلام والتجديد ص213.
"خطيب الثورة العرابية" ولقد لقب بحق "خطيب الشرق1 كما لقب "بخطيب الحزب الوطني".
كان من النافخين في ضرام الثورة العرابية، ولما تأججت جمراتها كان خطيبها الفذ وفارسها المعلم، وكان خلابا في خطابه غلابا في جدله قويا في برهانه، رائعا في بيانه، وقد أعانه على ذلك جرأة قلبه، وإقدام نفسه، وصفاء قريحته، وتوقد خاطره في الأدب، وتمكنه من الفصاحة، ومما يؤثر عن السيد جمال الدين الأفغاني"، أنه قال:
"ما رأيت طوي حياتي مثل النديم في توقد الذهن، وصفاء القريحة وشدة العارضة، ووضوح الدليل، ووضع الألفاظ وضعا محكما بإزاء معانيها إذا خطب أو كتب
…
".
ويصفه "السيد رشيد رضا" بأنه اشتهر من بين تلاميذ "جمال الدين" بخطابة التهييج في عهد الثورة العرابية، فكاد يسعر نارها.
ولم تك تصلح إلا له
…
ولم يك يصلح إلا لها
فإنه ذو خلابة وغلو، ولا يهيج العامة إلا الغلو.
ويقول الأستاذ "أحمد سمير" مترجمه في صدر مختاراته المعروفة "بسلاقة النديم": ويعلم الله أني ما رأيت طول حياتي أخطب منه على كثرة من سمعت في الشرق والغرب من كبار الخطباء الذين تضرب ببلاغتهم، وقوة براهينهم الأمثال".
وكان "النديم" غزير مادة الفصاحة، فلا تنفد بتعدد الموقف ولا يلجئه تكرارها إلى إعادة قول أو فراغ معنى بل هو في آخر مواقفه الخطابية المتصلة كأولها قوة وفيضا وعذوبة، ولقد أقامت جمعية المقاصد الخيرية في فبراير 1882 حفلا جامعا احتشد فيه خطباء مصر إذ ذاك، وجلجل فيه فحول البيان، وكان النديم صاحب الخطبة الأولى في هذا الحفل، وكان أسبق فحوله
1 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ص523.
فصاحة لسان وأبلغهم قوة بيان، وأقدرهم على المباغتة والارتجال إذ نهض للخطابة خمس مرات في هذا الحفل، فجود في موضوعاتها المختلفة، وبلغ من الروعة ما تتقاصر دونه الفصاحات دون تهيؤ أو إعداد.
وكان يغشى كثيرًا من المجالس والمحافل ليلقي فيها خطبة الحماسية التي تثير روح الثورة، وتبث روح الوطنية في نفوس الجماهير، ولم يبق محفل أو ناد إلا علا فيه صوته حتى مجالس الأنس والطرب لما أنها مجتمع للناس، وملتقى لطوائفهم كان يقتحمها فيلقي خطبة الحماسية فيها، وشهر النديم بذلك حتى إن المرحوم "محمد عثمان" المغني سئل في أي فرح تغني الليلة؟ فأجاب: في فرح فلان مع "عبد الله النديم".
وكثيرا ما كان النديم يستصحب معه الطلاب، فيقدم إلى الحاضرين أحدهم ليلقي خطبته، ثم ينهض على أثره فيلقي خطبه يؤيد فيها أفكار الطالب، ويتوسع في الشرح والبيان، ويثني على بلاغة الطالب وقوة حجته، وحسن منطقه، وما زال كذلك حتى ربى في نفوس النشء ملكة الخطابة، وشجعهم على النهوض بها فحل عقدة الألسن، ونشطها من عقالها وأجرى البيان من أفواه النشء المتقد حماسة ووطنية:
ويقول الأستاذ "أحمد شفيق باشا": إنه شاهد النديم يقدم المرحوم "فتحي زغلول" في إحدى الحفلات ليلقي خطبة، وكان الثاني طالبا في مدرسة الحقوق، وبعد أن أفاض في خطبته أمسك النديم بذراعه أمام الجمهور، وقال:"ألا تعجبون لما أبداه هذا التليمذ في خطبته من العلم والبيان، والتفنن في موضوعات مع أن "غلادستون" خطيب انجلترا لا يتناول في خطبته إلا موضوعا واحدا، وقدم مرة أخرى في إحدى الحفلات الطالب النجيب "مصطفى ماهر باشا"، وألقى في القوم خطبة بليغة فياضة استرعت إعجاب الحضور، وما انتهى منها حتى وقد النديم على أثره، وقال: "أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد على أمرها".
وكان على مقدرته في الخطابة عذب الحديث حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز1.
كان يبهر الساحر مجلس الخاصة والعامة، ويهيمن بطلاوته وأخذه على العالم والجاهل معًا، ومن سحر حديثه أن يأنس به الخديو "توفيق"، وهو أعنف الثائرين عليه، وأن يأنس به "عباس" حين لقيه في الآستانة، وهو خليفة "توفيق" ولولا حرص السلطان "عبد الحميد" على بقائه عنده لعاد به "عباس" إلى القاهرة، وأذن له بفراق منفاه2.
ومما امتاز "النديم" به فيض خاطره، وحضورة بديهته وسرعة جوابه، وكان ذلك غلى جانب مادته والغزيرة في البيان، وامتلائه من أدب العرب وشعرهم ميسرًا له أسباب السبق بين الأدباء وأعلام البيان، اتصل "النديم" بكثير من رجالات مصر وعظمائها، وكانت له مجالس مشهورة نظم عقدها الأدباء والشعراء، فطارحهم وناظرهم في أساليب مختلفة من الأدب، وفنون متنوعة من البيان، فظفر بهم جميعا حتى كانوا لديه كالراعي لدى جرير، أو كالخوارزمي أمام بديع الزمان، فاعترفوا له السبق وهم بين طائع وكاره3.
ومن بديهته التي ساعفته، وكان له بها سبق أن حضر اجتماعا حافلا لدى "شاهين باشا"، فاقترح بعضهم إليه إنشاء قصيدة دالية يعارض بها المتنبي في داليته المشهورة التي مطلعها:
أقل فعالي بله أكثره مجد
…
وذا الجد فيه نلت أو لم أنل جد
1 تراجم أعيان القرون الثالث عشر وأوائل الرابع عشر لأحمد تيمور باشا ص27.
2 شعراء مصر وبيئاتهم للأستاذ عباس العقاد ص96.
3 المصدر نفسه ص88.
وقال: إنه لا يتأتى لشاعر أن يعارض قوله في هذه القصيدة:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
…
عدوا له ما من صداقته بد
فغضب المترجم وأمسك القلم، وأنشأ قصيدته الدالية التي يقول في أولها:
سيوف الثتا تصدا ومقولي الغمد
…
ومن سار في نصري تكفله الحمد
إلى أن قال معارضًا ذلك البيت الذي ظنه المتعنت معجزًا:
ومن عجب الأيام شهم له حجا
…
يعارضه غر ويفحمه وغد
ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما
…
لتحفظ أعراض تكفلها المجد
وأردفهما بخمسة أبيات على شاكلتهما، يحدث الأستاذ "أحمد سمير" في "سلاقة النديم" أن طول الأيام ذهبت بها، وأنه بهذا الشعر أقحم المعارض، وأبلس ولم يدر كيف يقول.
كتابته:
كان النديم أحد الذين حرروا الكتابة من قيود السجع والصنعة، وجروا بها مجرى السهولة والتدفق، وقد كانت كتابته مطبوعة بطابع الوضوح والإشراق والتسلسل، وكانت صورة ناطقة تمثل المجتمع المصري، والحياة الفكرية في مصر وقد أعانه على ذلك صفاء نفسه من التعقيد، وسهولة منحاه وميله إلى الفكاهة والنكتة التي هي من جوانب الحياة المصرية.
وأغلب ما يتسم بهذا الطابع إنما هو كتابته الصحفية، فقد جاءت سهلة العبارة واضحة المعنى مسترسلة الأسلوب، فكان إذا كتب فإنما يرتجل الخطابة لسهولة منحاه، وتدفق كلامه وسهولة عباراته1.
على أن تعقيد التراكيب والتواء الغرض، وخشونة العبارة كل ذلك لا يلائم رسالته الصحفية، ولا يعنيه على معالجة الشئنون المختلفة التي كان يتناولها قلمه
1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص93.
في صحف غيره ثم في صحفه، ولو أنه جاء مستغلقا مبهم الغرض، ملتوي الأسلوب لما اتسقت له هذه المكانة المحسودة، وتلك الشهرة الذائعة.
ومما امتاز به "النديم" أسلوبه الساخر اللاذع، فقد كان يودع كتابته الحقيقة المرة والمغزى الموجع دون أن يصخب أسلوبه، أو يثير في متجهه ضجة.
على أن "النديم" يسهل ويتبسط، ويرق أسلوبه ولكنه يتصفح في عبارته، ويتأنق في صياغته، ويشك السجع ويمر بالمحسن لمامًا إذا أراد مجاراة الأدب في زمانه، فيأتي بما يشاكل أدب أقرانه مطبوعا بطابع التجويد والصنعة في رسالة إخوانية، أو خطبة منبرية يحررها، أو مقامة أدبية يصنعها إذا كتب في هذا الضرب من الكتابة نهج نهجا متبعا؛ لأن هذه الأساليب، ليست من عمل الفطرة والارتجال، ولا بد لها من قالب متفق عليها في أساليب المتقدمين1.
وللنديم مقالات قريبة من اللغة العامية في صحفة مثل مصري تفرنج وغيرها من هذا النوع، وصف فيها الرذائل الفاحشة، ونقد أحوال المجتمع وغيرها2.
شعره:
نستطيع أن نقول: إن النديم كان خطيبا مطبوعا، ولكنه لم يكن شاعرًا مطبوعا وذلك؛ لأن النديم رجل ثورة والثورة لها خطباء فحول تعتمد عليهم، وكتاب أفذاذ تنهض بهم، ولكن ليس لها من شعراء من يغني هذا الغناء فما كان الشعر متسعا لهذه الأفكار الهائجة، وتلك الخواطر الصاخبة اتساع الكتابة والخطابة لذلك، نعم قد يتأتى للشاعر المقتدر أن يودع قريضه الخواطر الثائرة، ولكن الخواطر الثائرة شيء، والتحريض شيء آخر يتطلب أقوى من الشعر وسيلة وأداة، وأفسح منه ميدانا ومجالا، فقيود الشعر تحد
1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص93.
2 الأستاذ المرحوم أحمد ضيف في صحيفة دار العلم السنة السادسة العدد الأول.
من انطلاق الفكر وتضع التعبير موضعا ملتزمًا على أن الشعر لخواص الناس، والطبقة العليا منهم في الفهم والإدراك، فإذا أثار الشاعر بشعره، فإنما يثير الخاصة، ولا يبلغ من العامة مبلغا ينهضهم على ما يريده الرجال الثائرون.
ولكن الخطابة والكتابة يعلو كل منهما، ويهبط ويضيق حسب المقام، ويتسع فيتأدى بهما الخطيب والكاتب إلى كل نفس، ويداخل بهما كل شعور وحس.
فالثورات إنما تخلق زعماء خطباء لا زعماء شعراء.
نلخص من هذا كله أن النديم رجل الثورة خطيب في المرتبة الأولى من الخطباء، ولكنه ليس في هذا الأفق بشعره، وقد أتم شعره بسمة العصر، فتهافت على الصنعة وشد البديع، وإن لم يكن في كل حال كذلك، فإنه قد يصفو من أكدار التكلف وينحو نحو السلامة والوضوح، وقد يطمح أحيانا إلى أن يجاري بشعره فحول الشعراء.
والذي بأيدينا من شعر النديم قليل بالنسبة لما خلفه من ثورة شعرية عبث بكثير منها الأيام، فقد حدث الأستاذ "أحمد سمير" مترجمة في السلاقة بأن مؤلفاته منها ديوانان من الشعر يحتوي أحدهما على أربعة آلاف بيت من الشعر، ويحتوي الثاني نحو ثلاثة آلاف، ويقول:
"ولما كان في يافا أول مرة بعث إلى محررا يكلف به أن اطلب ديوان شعره الصغير من صديقه المرحوم عبد العزيز بك حافظ، فلما قصدته وجدته مصابا في قواه العقلية بما لم يدع للطلب مجالا، ثم كتب إلي ثانيا بأن ديوانه الأوسط عند. م. بك. ف فطلبته منه فاعتذر بأنه ضاع
…
".
فهذه ثروة شعرية كان فيها لذة لو أبقت عليها الأيام.
زجله:
للنديم كثير من الزجل المطبوع الذي يمثل الحياة الاجتماعية في مصر بأسلوبه الدارج وتركيبه العامي، وقد كان غزير النبع لا يغيض معينه منه، ولا تعيا به قريحته، وإذا كان الزجل المرتجل يعتمد على البديهة، وشدة العارضة فإن النديم كان آية الآيات في ذلك حتى إنه لتعرض لمواقف الزجل المرتجلة، ويقوم على مناظرة المتمهرين فيه يكون أكثرهم غلبا وأعلاهم كعبًا، وقد ذكر في مجلته "الأستاذ" قصة تشهد باقتداره على الزجل، ومعاطاته على طريق الارتجال، وتفوقه على الذين جودوه وتفرغوا له.
قال النديم في مجلة الأستاذ: "اتفق لي أن كنت بمولد سيدي أحمد البدوي" رضي الله تعالى عنه سنة 1294هـ، وكان معي السيد علي أبو النصر والشيخ رمضان حلاوة، والسيد محمد قاسم، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، فجلسنا على قهوة الصباغ نتفرج على أديب وقف يناظر آخر، فلما فطن أحدهما لانتقادنا عليهما استلفت أخاه إلينا، وخصانا بالكلام فأخذا يمدحاننا واحدا فواحدا إلى أن جاء دورهما إلي، فقال أحدهما يخاطبني:
أنعم بقرشك يا جندي
…
وإلا أكسنا أمال يا أفندي
ألا أنا وحياتك عندي
…
بقي لي شهرين طول جيعان
فقلت على سبيل المزح معه:
أما الفلوس أنا مديشي
…
وأنت تقول لي ما مشيشي
يطلع علي حشيشي
…
أقوم أملص لك لودان
ثم أخذنا نتبادل الكلام نحو ساعة حتى غلبا إذ فرغ محفوظهما، فلما قمنا وتوجهنا إلى منزل المرحوم شاهين باشا1، وكنا نازلين عنده جميعا أخبره
1 شاهين باشا كنج مقتش الوجه البحري إذ ذاك، وكان مجلسه محط رجال الأدباء، ومجتمع الشعراء والندماء لا يخلو من مطارحات، ومساجلات شعرية تراجم الأعيان القرون الثالث عشر، وأوائل الرابع عشر لأحمد تيمور باشا ص5.
السيد علي أبو النصر بما كان مني مع الأديبين فلما أصبحنا استدعى شاهين باشا شيخ الأدبية، وطلب منه أن يستحضر أمهر الأدبية عنده، ووعده أنهم إن غلبوني يعطهم ألف قرش، وإن غلبتهم يضرب كل واحد منهم عشرين سوطا، فرضي بذلك واستحضروا الشيخ داود، والحاج إسماعيل الشهيرين بعمل الزجل، وإنشاده ارتجالا في أي غرض، واستحضر معهما ستة من أشهر الحفظة المقتدرين على الارتجال أيضا، وعقد الباشا لذلك مجلسا أمام بيته بطنطا، وأجلسني بينه وبين المرحوم جعفر باشا مظهر، وقد وقف الناس ألوفا والعساكر تدفعهم عنا:
ابتدأ الشيخ فقال:
أول كلامي حمد الله
…
ثم الصلاة على الهادي
ماذا تريد يا عبد الله
…
قدام أميرنا وأسيادي
فقلت:
إني أريد أحمد ربي
…
بعد الصلاة على المختار
وإن كنت تطمع في أدبي
…
أسمعك حسن الأشعار
فقال:
دعنا من الأدب المشهور
…
وادخل بنا باب الدعكة
تدخل على أسيادنا بسرور
…
وتغنم الخير والبركة
فقلت:
هيا احتكم في البحر وشوف
…
فن النديم ولا فنك
دلوقت اسمع يا متحوف
…
أحسن أدب وحياة دقنك
فقال: هات مدح في الحضرة على قد:
تعلم عمايلك يا منصان
…
يابو الشفيفة العسلية
يا صاحب الحجل الرنان
…
ودي الامور الحيلية
ماذا تريد من دي الولهان
…
قل لي واسعف
أحسن أنا من خمر ألحان
…
قصدي أرشف
وإن كنت تسمع يا أبو الخير
…
يبقى الوصال الدواليه
فقلت:
المجلس العالي محمود
…
فيه الأمارا والأعيان
واليوم يوم مشهود
…
خلعت عليه حلة إحسان
شاهين باشا فيه موجود
…
حظو أزهر
أما المدير هذا المسعود
…
جعفر مظهر
فإنه في الناس معدود
…
من ضمن أرباب العرفان
"دور"
مجلس عليه حسن مهابه
…
كأنه مجلس سلطان
والحاضرين أهل نجابه
…
وينفذوا قول الإنسان
أترك بقى شرب الغابه
…
وانشد تسمع
وإن كان تغني بربابه
…
تطرب مجمع
حسن الكلام مثل سحابه
…
تمطر على شجر البستان
فقال:
القصد منك يا نديمنا
…
نعمل زجل هيله بيله
ألا أنت دلوقت غريمنا
…
قصدي أحدفك بالقلقليله
وإن كنت تجهل تقريمنا
…
اسأل عنا
أو ما تغيب في تكليمنا
…
واحذر منا
أحسن أوديك لعظيمنا
…
بشيلك ألفين شيله
فقلت:
انتا صغار لسه نونو
…
وفي الزجل منتشى مجدع
اتبع نديم تلقى فنونو
…
تأتيك من المعنى الأبدع
أما عظيمك وجنونو
…
يأكل نفسه
وإن كان يعارض بمجونه
…
يطلب عكه
لأن فني وسجونو
…
لكل متعنتظ يردع
وبعد أن دار بيني وبين الكلام في كثير من هذا الوزن قام الشيخ داود، وقال:
قصدي أقول كلاما
…
يحكي لضعات الزهور
هات أشجنا بنظام
…
من فن كان وكان
أدخل بنا لمعان
…
كالبكر من خلف الستور
في قلب متحل
…
في النظم بالإتقان
فقلت:
اسمع كلام نديم
…
من طيه كل سرور
واعقل نصيحة حر
…
ينعوك للعرفان
لا تستخف بخصم
…
لو كان من أوهى الطيور
واصفح فكل صفوح
…
يعلو على الأعيان
واخش اللئيم دواما
…
فاللؤم داع للشرور
واحفظ مودة حر
…
في عهده ما خان
لا تصطحب بوضيع
…
ينزلك عن سرج الظهور
واصحب أخي شريفا
…
واطلب رضا الإخوان
وانزل ببيت كريم
…
إن كنت ضيفا في العبور
واسمع سؤال فقير
…
أودى به الحرمان
هذه نصيحة حر
…
قد جرب الدهر الجسور
إن كان يعجب هذا
…
أولا فخذ تبيان
فالبحر بحر لآل
…
إن قلت زانت النحور
والفكر فكر ذكي
…
لا يعرف النسيان
فأعرض عن كان وكان عجزًا منه، وقال: هات فخرًا على قد!
يا صبا نجد ورامه
…
هجت للمتشاق وجدا
كل صب في غرامه
…
ما اشتكى في الليل سهدا
عنفوني عذبوني
…
ذقت في التعذيب شهدا
والهوى أحرق ضرامه
…
كل أحشائي وقلبي.
قلت:
فخر مثلي في بيانه
…
والغني يفخر بماله
والأدب أحسن صفاتي
…
فالذكي حسنو كماله
واللبيب يظهر بعلمو
…
والغلام مجده جماله
كل قول المرء يفنى
…
غير محمود المآثر
…
"وإلى هنا صفق الحاضرون والباشا، ثم عدنا للزجل المعتاد بما يطول ذكره، فإن الشيخ رمضان كتب من هذا الزجل خمسة كراريس، وكله محفوظ عندنا لم يضع منه شيء، وقد استمرت المناظرة ثلاث ساعات إلى آخر ما ذكر النديم في مجلة الأستاذ".
هذا طرف مما أورده النديم في مجلته عن قصة الزجل، ويقول "أحمد تيمور باشا":"لقد سألت بعض من حضروا هذا المجلس عما كتبه المترجم، فأنكره وأخبرني أنه تغالى فيما كتب، وذكر أناسا لم يكونوا حاضريه1".
1 تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر ص15.
وقد يكون النديم مغاليا كما قيل "لتيمور"، ولكن هذه المغالاة لا تنفي أصل الحادثة، وليس النديم على مكانته الأدبية والاجتماعية بالذي يخلق حادثة مثل هذه لم تكن، ثم يطالع بها قراءة في مجلة كانت تتلقفها الأيدي، وتستشرف لها الأبصار، ويمعن في الادعاء، فيزعم أن المجلس حضره فلان وفلان ممن سماهم بأسمائهم، وممن هم ذو مقام بين الأدباء والشعراء والعلماء، فإنه إن فعل تعرض لخصومه يكذبونه، ويسفهونه وهم كثير وكثير، وعندي أن اتهام الذي سأله تيمور باشا عن القصة فنفاها، أو زعم مغلالاة النديم فيها أخف لدى العقل من اتهام النديم بالكذب والوضع.
هذا وإن زجل النديم بالغ حظا عظيما من الرقة، وسعة الأفق والقدرة على المجاراة، وتصوير العامة في مظاهرهم وحياتهم.
كلماته الجارية مجرى الأمثال:
للنديم كلمات جرت مجرى الأمثال لها روعة البلاغة، وقوة الصوغ وعذوبة النطق ومجاراتها لكلمات الفصحاء من فحول العرب، ومن هذه الكلمات التي تزين الحديث، وينجلي بها الأسلوب، وتشرق في ثنايا ما ينفصح به الأدباء قوله من النثر "أدبك حياتك فطول أو قصر- روحك غذاؤك فأصلح أو أفسد- علمك قدرك فارفع أو اخفض - ترك الحزم يضيع الفرص - بعدك عن الشر مع حب أهله، وقوع فيه - كن حيث صرت تقطع العقبات، وأنت جالس - كل خلاف كذاب - أمرك بيدك، فإذا جذبته فطاوعك تبدد - بين الجد أو الغاية التبصر فاحفظ نصلها - يومك كأمسك فأعد لغدك ما تخيرته منهما - مملكة يسوقها غارق في الشهوات مقبرة تزار، ولا تسكن - إذا طلبت الراحة، فارجع إلى ظهر أبيك - لن للظالم ما تنبه، فإن غفل فاحمل عليه - إذا وصلت الغاية، فقف فورًا كانت أو خذلانا فما بعدهم إلا العدم -
المشرب السياسي يغالب الجنسية والدين، فانظر مع من تكون -إذا نفذت كلمتك، فاحفظها بالرفق وأيدها بالاستقامة، من الشعر:-
جزاء فعال السوء في العدل مثلها
…
فنفس بنفس والجروح قصاص
دنوك من مرضى القلوب تعرض
…
لعدواك فاحذر فالدواء عزيز
ذوق المعاني لذة
…
وسواه يأتي بالهوس
ذم النقى وأهله
…
أمر يحسن لي الطرش
خذ من زمانك صفوة
…
ودع التعمق تسترح
آثاره الأدبية والعلمية:
خلف النديم آثارا أدبية وعلمية ضخمة تشهد بكريم فضله، وعظيم جدواه في الأدب والعلم، فمن ذلك شعره الخصيب الذي عبثت به يد الضياع، ولم تبق منه إلا النزر اليسير، ومقالاته الأدبية الممتعة التي كان ينشرها في صفحه المختلفة، وهي ثورة أدبية ممتعة تمثل أطوارًا مختلفة من مظاهر الحياة الاجتماعية في هذا العصر، وله روايتا الوطن والعرب، ورسائل أدبية لم يصل إلى أيدي الذين احتفلوا بجميع آثاره إلا أربع عشرة منها بعد سعي ممض، وعناء موصول وله كان ويكون، وهو الذي طبع بعضه في مجلة الأستاذ ألفه حين اختفائه في سنة 1883م، وهو كتاب أدبي تاريخي يحتوي بحوثا أدبية ودينية، وتاريخية وسياسية، وتضمن الحديث عن عادات الأمم المختلفة، والمقارنة بين هذه الأمم فيها كما يتضمن طرفا من شئون الأجناس الشرقية والغربية، والكتاب نسخة في مجلد واحد طبع في مطبعة النديم بالقاهرة سنة 1892م، وله كتب قيمة مختلفة منها "النحلة في الرحلة"، والاحتفاظ في الاختفاء، والشرك في المشترك، وكتاب في المترادفات، وآخر في اللغة سماه "موحد الفصول وجامع الأصول"، وله الفرائد في العقائد واللآلي والدرر في فواتح السور، والبديع
في مدح الشفيع، وأمثا العرب، وغير ذلك من الآثار الجليلة الدالة على مكانته السابقة في هذه النهضة.
وقد عني شقيقه "عبد الفتاح أفندي نديم"، وصديقه "محمود أفندي واصف بجمع ما عثرا عليه من آثار، وأودعاه كتابا أسمياه "سلاقة النديم" في منتخبات السيد عبد الله نديم.
والحق أن النديم كان أنجب نموذج من نماذج الشخصيات في تاريخ الأدب المصري، "ويتعذر عليك أن" تبحث عن مثيل له ذوي الأدوار -المحددة الذين تنجب طلائع النهضات في عالم الأدب والثقافة، فلا تظفر له بمثيل1.
نشر "النديم" فن الخطابة بين النشء الحديث، فكان ذلك فتحا في سجل النهضة2 إذ مرن الألسنة على القول، وفتق الأذهان للتبصر وكان صوتا انبعث في خطابته وكتابته، فاستيقظ به همم وصحت عزائم، وضرب أبلغ الأمثلة في الجهاد للرأي، والذود عن الوطن
…
نموذج من خطبه:
من خطبه في الثائرين العرابيين قوله:
من قرأ التواريخ، وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل، عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات، فقد ارتقيتم ذروة ما سبقكم إليها سابق، ولا يلحقكم في إدراكها
1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص96.
2 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ص523.
لاحق، ألا وهي حماية البلاد وحفظ العباد، وكف يد الاستبداد عنها فلكم الذكر الجميل، والمجد المخلد يباهي بكم الحاضر من أهلنا، ويفاخر بأثركم الآتي من أبنائنا، فقد حي الوطن حياة طيبة بعد أن بلغت الروح التراقي، فإن الأمة جسد والجند روح، ولا حياة للجسم بلا روح، وهذا وطنكم العزيز يناديكم ويناجيكم ويقول:-
إليكم يرد الأمر وهو عظيم
…
فإني بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى
…
فمن أين يأتي الديار نعيم
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه
…
تأخر عنه صاحب وحميم
فردوا عنان الخيل نحو محرم
…
تقلبه بين البيوت نسيم
وشدوا له الأطراف من كل وجهة
…
فمشدود أطراف الجهات قويم
إذا لم تكن سيفا فكن أرض وطأة
…
فليس لمغلول اليدين حريم
وإن لم تكن للعائذين حماية
…
فأنت ومخضوب البنان قسيم
ولقد ذكرت باتحادكم وحسن تعاهدكم، ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند تغيب سيدنا عثمان في أهل مكة من مبايعة أهل الشجرة على استخلاص صاحبهم، فصاروا يعنونون بالعشرة المبشرين بالجنة، وأنتم قد تعاهدتم على حفظ الأوطان، وبقاء سطوة مولانا الخديو، وتأييد ملكه وتبايعتم على الدفاع، ووقاية أهليكم من كل ما يذهب بالثروة، ويضعف القوة أو يخدش الشرف، فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم.
ثم قال:-
هذا أخوكم الحر يودعكم، ويسير بإخوانكم إلى دمياط، فاجعلوا عروة الود وثيقة، ولا تحلوا حبل الاتحاد الذي جاهدتم الأنفس في إحكامه، فقد:
زالت موانعنا التي
…
كانت تجر إلى الفساد
والأنس دار رحيقه
…
بين الجيوش أولي الرشاد
ولا تعمر الدنيا إذا
…
لم يترك الخلق العناد
فالأرض تنبت زرعها
…
لحياتنا بالاتحاد
ومن محاسنكم التي تفخرون بها، ويعرف لكم بها الفضل، طاعتكم لأوامر الحكومة وامتثالكم لإشارتها، وربط قلوبكم بمحبة مولانها الخديو، ورجاله الكرام خصوصا هذا الرئيس البر والرءوف القائم بخدمة الأمة وبلادها.
ثم ختم خطبته بقوله:-
وأحسن ما يؤرخ به اسم الجهادي عند النوازل أن يقال -مات شهيد الأوطان- فنادى الجميع، رضينا بالموت في حفظ الأوطان، ووقاية أميرنا من كل ما يمس سلطته1.
نماذج من كتابته:
مما كتبه في العدد الأول من صحيفته "التنكيت والتبكيت" الصادر في 8 من رجب سنة 1298 هـ، الموافق 6 من يونيو سنة 1881م.
إعلان إلى النبهاء، والأذكياء من أبناء بجدة اللغة العربية:
إليكم يراعي فاستخدموه في مقترحات أفكاركم العالية، وصحيفتي فاملأوها بآدابكم المألوفة، وبدائعكم الرائعة، فاليراع وطني يخاطب القوم بلغتهم، ويطيعهم فيما يأمرون به، والصحيفة عربية لا تبخل بالعطاء، ولا ترد الهدية وأنتم كرام اللغة، وإخوان الوطنية فشدوا عضد أخيكم بالقبول والإغضاء عن العيوب، وساعدوه بأفكار توسع دائرة التهذيب، وتفتح أبواب الكمال، وكونوا معي في المشرب الذي أشربته، والمذهب الذي انتحلته: أفكار تخيليه، وفوائد تاريخية، وأمثال أدبية وتبكيت ينادي بقبح الجهالة، وذم
1 مصر للمصريين لسليم خليل النقاش ج4 ص95.
الخرافات لنتعاون بهذه الخدمة على محو ما صرنا به مثله في الوجود من ركوب متن الغواية، واتباع اللذين أضلانا سواء السبيل.
وكتب فصلا عن الخطابة قال فيه:-
ألسن الخطباء تحيي وتميت، حكمة إذا عقلت معناها وقفت على سر الخطابة وحكمة حدوثها، وعلمت أنها للعقول بمنزلة الغذاء للبدن، وكانت الخطابة في الأعصر الخالية غير معلومة إلا من أمتي العرب واليونان، فكانت ساحتها في جزيرة العرب عكاظا، ومنابرها ظهور الإبل، وهذه الساحة كانت معرضا للأفكار يجتمع فيه الخطباء والبلغاء، والشعراء وأمم كثيرة من المجاورة للجزيرة، فيرقى الخطيب ظهر ناقته، ويشير بطرف ردائه، وينثر على الأسماع دررا وبدائع، ثم يباريه آخر ويعارضه غيره، فتتضارب الأفكار وتتنبه الأذهان، وتحيا الهمم، وتتحرك الدماء، ويرجع كبار القبائل وأمراؤها لما يثير إليه الخطيب إن صلحا وإن حربا، ولم يقتصروا في خطاباتهم على مسائل الحرب والصلح، بل كانوا يخوضون بحار الأفكار، فلا يتركون حكمة إلا شرحوها، ولا يذرون فضيلة إلا حثوا عليها.
وبلغه أن أستاذه المرحوم "الشيخ محمد العشري"، كان راكبا عربة مع بعض الناس في زمن المطر، فوقعت بهم ونجا الشيخ من بينهم وأصيب من كان معه، فكتب إليه هذه الرسالة التي تأنق وابتكر في سجعها.
"منحتنا اللهم سلامة الروح، فلك الحمد على هذه المنحة حمدا بلا عد، ووهبتنا صحة لب البيان فلك الشكر على هذه الصحة شكرا بلا حد، يلوح بدره ويفوح عطره روح هو عين الحياة ومدد العقل، ولب هو منطق الشفاة وسند النقل طال عمره، وجال أمره غذاء النفوس، وبهجة المهجة، ونور الشموس، ومهجة البهجة أمنا سره وعمنا بره.
أستاذي وقدوتي وملاذي، وعمدتي محمد العشري قام ذكره، ودام شكره سيدي ومصيري ومؤيدي، ونصيري يخصك بالتحية غرس بستانك، وغصن
وقتك وزهر إحسانك، وثمر دقتك الطيبة الشهية، إن تكلم بلسان فبيان من جنانه، وإن خط ببيان فإحسان من فرقانه، وإن انتسب فنعم النسب مع الحسب، ولا عجب فإلى العرب فن الأدب.
آباؤه الغر أهل الجود والكرم
…
وكلهم غاية في الحلم والكلم
وكيف لا يكون لساني قوس البديع، وكلامي السهم السريع، وأنت باريه وراميه، أو كيف لا يكون مقامي الحصن المنيع، وقدري العزيز الرفيع، وأنت معليه وبانيه، فوجه جمال العلم أنت غرته، وإنسان عين الحلم أنت قرته، وحاليه وجاليه، وجبين العقل أنت طرته، وكتاب الفضل أنت صورته، وطالبه وتاليه.
على بابك العالي من الفضل راية
…
على رأس أرباب المعارف تخفق
فعلمك جنات وحلمك جنة
…
وظلت خيرات وغيثك مغدق
أرى غصن من يدعو إلى الفضل نفسه
…
من الفضل عريانا وغصنك مورق
إذا رمت إنشاء فعن صدق فكرة
…
تهادي بأبكار وغيرك يسرق
ثم أنهى لفضيلتك وحضرتك السنية، ما وصل إلي "فأوجب الشكر علي" ما دمت حيا، وهو سلامتك من تلك البلية، بمعرفة العربية، وقد وقع في الري من أدركه العي ولم يسع شيا، أدخله التقصير في جمع التكسير، فكنت في جمع السلامة تحية وكرامة إذ كنت نفيسا، وظهر ذراعه الكسير ظهور الضمير، ومذ رأى أولاده آلامه، وفهموا كلامه صاحوا بكيا، فقد أتى أهله فساءت دياره، إذ وهت رحله، وبانت يساره".
وكتب بعنوان "الجنون فنون" في صحيفة التنكيت والتبكيت"، فقال:
"جلس أحد المحتالين في قهوة، وأخذ يقرأ أكاذيب سماها قصة عنترة، فاجتمع إليه عدد كثير من الرعاع والهمج الذين ولعوا بسماع الأكاذيب
والخرافات، فلما رآهم منصتين إليه أخذ يفتري عبارات ينسبها إلى عنترة، وكلمات يعزوها إلى عمارة، وقد افترق القوم فريقين، وكل فريق منهم يدفع لهذا المحتال نقودا ليؤيد مشربه، ويمتدح بمن يميل إليهم، والمحتال مجد في التحريف متفنن في الكذب حتى قرب الفجر، فقال: -وبينما هم في قتال ونزال، وقد انكشف الغبار عن أسر عنترة: وسنخلصه الليلة القابلة- فقال أحد المجانين لا بد أن تخلصه الآن وخذ عشرة جنيهات، فأبى المحتال وسكت عن الكلام، فشتمه المجنون وهلت أصواتهما بالقبائح، وآل الأمر إلى الضرب والإهانة.
ثم ذهب المجنون، وقد تذكر أن عنده قصة عنترة، ولكنه أمي لا يقرأ فقصد غرفة ولده وأيقظه من النوم، وهو يبكي وقاله له: يا ولدي أبوك رزيء بمصيبة عظيمة، فقال له ولده: هل مات أخي؟ قال: أهون، هل هدم البيت الجديد؟ قال: أهون، هل ماتت أمي؟ كان أهون، ما الذي أصابك يا والدي؟ يا ولدي في هذه الليلة أخذوا عنترة أسيرا، فهات الكتاب وخلصه وإلا قتلت نفسي.
الولد: من عنترة يا ولدي؟ أتتكدر على حكاية مكذوبة، وقصة كلها تخريف وما لنا وعنترة؟ إن هو إلا عبد أسود أخذ شهرة بما صنعه من الشعر، وقتل بعض الناس بلاحق لولوعه بالنهب، وسعيه خلف مقاصده.
الوالد: أنت تشتم عنترة يا ابن آل..... ونزل عليه بعصاه حتى أسال دمه، وحلف عليه بالطلاق لا يبيت عنده ولا يعاشره، فخرج المسكين، وهو يسب الجهل وأهله، ويعجب من فساد أخلاق والده الذي أحدثه عدم التهذيب حتى ألحقه بالبهائم، وسلخ عنه جلد الإنسانية، فعارضه أحد جيرانه، وسأله عن حاله فقص عليه قصته مع والده، فقال:
طالما قلت لأبيك: فضك من عنترة وتعال اعمل "زغبي"، فما سمع كلامي فضحك الولد من سخافة عقل الاثنين، وقال:"لا شك أن الجنون فنون".
ومن أسلوبه وصفه اللاذع التهكمي الذي طبع بطابع الجدة والطرافة
على فصاحته، وحسن وصفه ما أوصى به أحد أبنائه إذ قال:
"أي بني -إني أعظك لئلا تكون من الغافلين، ولا أعظك بأحسن من مصادفاتي، وما لاقيته في حياتي من حسنات، وسيئات"، فقد طلبت الرزق بجدي وسعيي لا عن فاقة، ولا إلزام ولكن كرهت العجز، وأنفقت من التقاعد، فقضيت سنين عديدة أتقلب في الخدمات، وأتفنن في أسباب المعاش، وصحبت الكثير من أهل زمانك مع اختلاف المقامات والاعتبارات، فاستخلصت من جميع الأخلاق خلقا إن رضيته عشت به ناعم البال طيب الخاطر، وإن أبيته كنت مثلي في الحظ والطالع والصفات.
خلق الإنسان ميالًا للتعاظم والتفاخر يزداد هذا الأمر بزيادة الجهل، ويقل بسطوة العلم، وسيف التهذيب، فإذ بليت بخدمة من لم يهذب صغيرا، فعانقه لتوافقه، وإياك أن تظهر علمك أمامه، وإن سئلت في أمر، فليكن جوابك بخشوع وخضوع، وإن كذبت فيه فاعترف بالخطأ ولا تجادل، وإن قويت حجتك، وإن خاطبك بما لا يعقل فاطرب، وتبسم واعجب من حدة الذهن ورقة المعنى وذم من يقول غير ذلك، وإن سمعت كذابا وكنت على يقين من كذبه، فكذب عيانك وخطئ حواسك وصدق ما يقول
…
وإن علمت علما فانسبه إليه إن كان حسنا، وعنونه باسمك إن كان قبيحًا، وإذا غبنك في أجرتك، فأظهر له المدح
…
وإذا افتخر فقل: أنت فوق ذلك، وإذا ادعى الفصاحة فعب كل متكلم دونه، وإن ادعى الكرم فذم حاتما، وإذا جبن فقل: هكذا تكون الحماسة، وإذا بخل فقل: هكذا يكون الاقتصاد، وإذا بغي فقل هكذا العدل، وإذا سفه فقل: اتقوا غيظ الحليم، ولا تلبس أمامه إلا ما يتفضل به عليك، ولا تزد في بيتك ما يدل على ثروتك، وألزم هذه الحال حتى يموت، أو يخليك من الخدمة، فاظهر ما شئت وافعل ما تريد.
وهذا هو الخلاف المناسب لمن يريد أن يكون محبوبا عند الأغنياء مألوفا
لذي الجاه والمظهر الذين فسدت أخلاقهم بفقد التهذيب لا من تربوا على الآداب -وفطروا على محاسن الأخلاق".
نماذج من شعره:
قال متغزلًا:
سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه
…
وكفوا إذا سل المهند حاجبه
وعودوا إذا نامت أراقم شعره
…
وولوا إذا دبت إليكم عقاربه
ولا تذكروا الأشباح بالله عنده
…
فلو أتلف الأرواح من ذا يطالبه؟
أراه بعيني والدموع تكاتبه
…
ويحجب عني والفؤاد يراقبه
فهل حاجة تدني الحبيب لصبه
…
سوى زفرة تثني الحشا وتجاذبه؟
فلا أنا ممن يتقيه حبيبه
…
ولا أنا ممن بالصدود يعاتبه
فلو أن طرفي أرسل الدمع مرة
…
سفيرًا لقلبي ما توالت كتائبه
ومن رواية "الوطن" التي مثلها بحضرة المرحوم "الخديو توفيق باشا"، قوله:
أنوار عدلك تهدي حتى نادينا
…
وحسن سيرك للعليا ينادينا
لكننا في طريق ضل سالكه
…
فمن يدل إلى الحسنى ويهدينا؟
أفتية ساءهم إنصاف سيدنا
…
فاستقبحوا العدل والإحسان والدينا؟
كنا نناجي بألفاظ تقربنا
…
صرنا ننادي بديناد يغادينا
وكان يمشي على الديباج سالفنا
…
فصار يمشي على النيران حالينا
هل في القصور رجال غير من عظموا
…
بما لدينا وكانوا من موالينا؟
أو في الديار أناس غير من وفدوا
…
من القفار فصاروا في مبانينا؟
هذي معالمنا تبكي وتنشدنا
…
قول "ابن زيدون" إذ قامت تعزينا
"بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
…
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا"
لو أننا مثل أهل الأرض في همم
…
ما قام يندبنا أحيا مغنينا
قل للنفوس التي ماتت بلا أجل
…
أين القلوب التي كانت تجاربنا؟
أين الشيوخ الأولى ساروا وسيرتهم
…
مسك ذكي يباهي مسك دارينا؟
أين العلوم التي كانت توصلنا
…
باب السعود فصارت من أعادينا؟
أين الصنائع أين العارفون بها
…
أين الديار التي كانت لأهلينا؟
كانت وكانوا وصار الكل في عدم
…
واستبعدتنا بما نهوى أمانينا
نمشي حفاة على شوك القتاد فلا
…
يؤذي النفوس وكان الخز يؤذينا
أستودع الله قوما كان طبعهم
…
يبدي لك الحالتين البأس واللينا
شدوا الجياد وجابوا كل بادية
…
كي يعمروها فعموا الأرض تمدينا
وسيروا الحق في الآفاق أجمعها
…
فاستحسنته ونادتهم سلاطينا
واستخلفونا فكانوا شر من ورثوا
…
إذا لم نحافظ على ملك بأيدينا
إذا سمعنا خطيبًا ذاكرًا حكمًا
…
قلنا له عزة الآباء تكفينا
لا نشتري المدح لو جادت به فئة
…
من السماء فإن الدم يرضينا
وليتنا إذا رضينا هجو أنفسنا
…
نستحسن البعد عما يوهن الدينا
ماذا نرى في أناس لو تقربهم
…
إلى العلا بعدوا مما يرقينا
ما خالفوك ولكن خالفوا شرفا
…
لو يعرفوا قدره مما يولينا
فاجمع من القوم من ترضى خلائقه
…
واجعل لكل من الأعضا قوانينا
وشدد الأمر حتى لا يضيع سدى
…
واجعل زمانك فيه العدل واللينا
وطهر القطر ممن طبعه شره
…
وخائن يحرق المأوى ويشوينا
وكن لأهل الوفا حصنا وملتجأ
…
وكن لأهل الهوى سيفا وسكينا
واجعل رياضك للأفكار منتزها
…
وسس بعزمك قاصينا ودانينا
فالفخر يحسن من سامي المقام لدى
…
"مبارك"، فهمه يبديه تبيينا
ولا يساير أرباب الفنون سوى
…
"على" قدر يجل العلم تدوينا
والله يحفظ "بالتوفيق" دولتنا
…
"ويرحم الله عبدًا قال: آمينا"
ومن شعره في الفخر، وقد تهافت في المحسن البديعي:
أتحسبنا إذا قلنا بلينا
…
يلينا أو يروم القلب لينا؟
ولسنا الساخطين إذا رزينا
…
نعم يلقى القضا قلبا رزينا
فإنا في عداد الناس قوم
…
بما يرضى الإله لنا رضينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا
…
ولكنا نهينا أن نهينا
وكتب إلى أحد أصدقائه مدة اختفائه:
وبعد فهذا شرح حالة غائب
…
عليه من اللطف الخفي ستور
تدور به الأهوال حول مدارها
…
فيصبرو القلب الرضي صبور
عسى فرج يأتي به الله إنه
…
على فرجي دون الأنام قدير
ومن أبياته السائرة قوله:
دع عنك لومي في شيء خصصت به
…
وانظر لنفسك تعذر مثلك الجاني
فتركك الشيء لا يغنيك منقبة
…
بل ذاك للمرء يدعى حسن إيمان
وقوله:
أنظر لما تبديه من فعل يرى
…
فعل الرجال لعقلهم عنوان
والناس شتى في التنافر والمرا
…
والكل إن ألفتهم إنسان