الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ محمد شاكر:
المتوفي سنة "1358-1939":
نشأته وحياته 1:
هو، "السيد محمد شاكر" بن "أحمد" بن "عبد القادر" من أسرة "أبي علياء" من أشراف الصعيد.
ولد بمدينة "جرجا" في منتصف شوال من سنة 1282هـ، الموافق مارس سنة 1866م، وحفظ كتاب الله، ثم رحل إلى القاهرة"، فتعلم بالأزهر.
وفي منتصف رجب سنة 1307هـ الموافق 4 من مارس سنة 1890م عين أمينا للفتوى مع مفتي الديار المصرية أستاذه الشيخ "محمد العباسي المهدي"، وفي السابع من شعبان سنة 1311هـ الموافق 13 من فبراير سنة 1984م، ولي منصب نائب محكمة مديرية القليوبية، ومكث به أكثر من ست سنين، وقد اطلع خلال الفترة التي قضاها في المحاكم الشرعية على وجوه النقص فيها، وما يتطلب العلاج منها سواء منها ما كان متعلقا بإجراءاتها المعقدة، أو نظمها الملتوية، فوضع تقريرا فيما أوحت به غيرته، وأملته خبرته، ورفعه للأستاذ الإمام "الشيخ محمد عبده"، مفتي الديار المصرية إذ ذاك في أوائل سنة 1899م، وهذا التقرير مصور ضوئيا ومحفوظ بدار الكتب"، ولما طاف الإمام بكثير من محاكم الوجه البحري متفقدا أحوالها دارسا شئونها كان رأيه في الإصلاح متفقا في كثير من الأمر مع ما اهتدى إليه المترجم، ولعل الأستاذ الإمام لاقتناعه بوجاهة نظرة في الإصلاح رأى أن يمهد له ليشغل منصب قاضي قضاة السودان، فاقتنع ولي الأمر بذلك، وأسند إلي هذا المنصب
1 رجعنا في بعض ترجمة إلى مقال نشره الأستاذ "أحمد شاكر" في المقتطف الصادر في أغسطس سنة 1939م.
في 10 من ذي القعدة سنة 1317هـ، الموافق 11 من مارس سنة 1900م.
ظل الشيخ "شاكر" في السودان أربعة أعوام يمثل الرئيس الديني الجريء الذي يستمد سلطانه من حاكم مصر الأعلى، وكان معتزا بهذا السلطان يغار على كل مظهر من مظاهره، فقد أعاد تعيين القضاة الشرعيين الذين تسلموا عملهم قبل حضوره، ولم يعترف بتعيينهم من قبل، وبعث لكل منهم بإذن يباشر بمقتضاه عمله الشرعي متضمن إجازة ما أصدر من قبل من الأحكام الشرعية1.
ومن اعتزازه بمكانته، وذوده عن حقوق عمله التي يخولها له منصبه شجر خلاف بينه، وبين كاتم السر القضائي في السودان، ولكن الشيخ اقترن موقفه في هذا الخلف باللباقة والكياسة، وبراعة الحجة وقوة المنطق، وتم له النصر في كل نزاع دون أن يثير حنفا على مسلكه، أو موجدة من تصرفه.
وفي سنة 1902 قام قاضي محلة "الرباطات" الشرعي بالإجازة من غير أن يستأذن "الشيخ شاكرًا"، فلما علم بذلك كتب إلى كاتم السر القضائي يلفته إلى خطأ ذلك التصرف، وأرسل بالبرق إلى قاضي "الدامر" يأذن له بمباشرة الأحكام الشرعية في محكمة "الرباط" في أثناء غياب قاضيها، ولكن كاتم السر كتب إلى الشيخ شاكر ينبهه إلى أن محكمة العموم التي يرأسها الشيخ بصفته قاضيا القضاة موغلة في التدخل "إداريا" في شئون المحاكم التابعة لها -ولم يكن قاضي القضاة القوي العنيد يغضي على هذه اللفتة، فجرد قلمه ورد عليه ردا يحفظه التاريخ كان في ختامه، وإلى هذا الحد أرجو أن تعيدوا النظر في هذه الملاحظات، وتقدروا موضوعها حق قدره، فإن بقاءها على ما هي عليه يذهب بكثير من الثقة التي هي عماد الاشتراك في المصالح، والتي إن فقد الموظف
1 من مذكرات خطية للشيخ.
شيئا منها، فخير له أن يفقد مركزه ليحتفظ بها، وأنا أول رجل يسخو بمركزه في سبيل الثقة بنفسه1.
فقد مكث في السودان رجلا مصلحا يرعى الحدود في تقية، وكرامة، واستحدث به من التشريع ما مست الحاجة إليه حتى كان السودان أسبق حظا في الإصلاح بسبب ما تهيأ له من جهد هذا الرجل الذي بث فيه أفكاره، ونشر في ربوعه هداه، فضلا عما نفح فيه من العلم، وألقى من الموعظة فقد كان يلقي خطبا محكمة يدعو بها إلى الدين والفضيلة، ومما يذكر أنه قرأ للسودانيين صحيح البخاري بأسلوبه العذب، وطريقته الحبيبة.
وحين عاد إلى القاهرة كان قد رؤي قبل عودته بعام أن تخضع الإسكندرية للجامع الأزهر في التدريس والامتحان، وكان الجامع "الأنور الإسكندري" موقوفا للتدريس من قبل "الشيخ إبراهيم الباشا" الجد الأعلى للشيخين "محمود الباشا"، و"أحمد الباشا"، وأبى أبناء الواقف أن يتبعوا مجلس إدارة الأزهر في نظامه وإدارته2.
وقرر مجلس الأزهر تعيين شيخ لعلماء الإسكندرية غير "الشيخ محمود الباشا" إذ ذاك فكر "الشيخ محمد عبده" المصلح الذي يقول على هذا العمل الجليل، ونثر كنانته، فلم يجد أصلح من "الشيخ شاكر" همة نفس، وكفاية عمل وقوة عزم، "فاختبر رغبته فلقي منها تلبية، وواقفت حكومة السودان على نقله إلى عمله الجديد، ورضي الخديو بتعيينه، وصدر الأمر العالي به في 26 من إبريل سنة 1904"2".
صدع الشيخ بالأمر، وتلفت هؤلاء الشيوخ في الإسكندرية، فإذا هم أقل من القليل، ولهذا المعهد فإذا هو صورة ضئيلة متواضعة، إذ ذاك فكر في إيجاد معهد ديني جليل، وبعد أن طاف بمدارس الثغر الوطنية، والأجنبية، ودرس
1 تاريخ الأستاذ الإمام ج1 ص470.
2 تاريخ الأستاذ الإمام ج1 ص470.
مناهجها ونظمها، وعكف على إعداد ميزانية هذا المعهد، وأعد العدة لوجوده وعرض الأمر على الخديو "عباس"، فوافق على تفكير الشيخ الذي يتطلب من مال الدولة سبعة آلاف جنيه، واختار جامح "أبي العباس" مكانا للدراسة، وأعلن قبول الطلاب بامتحان يحرر لهم، فأمه النشء من كل صوب، ولم يهل أول العام إلا وعلى مقاعده ثلاث مائة طلب، وكان خلف "أبي العباس" فراغ تابع لمصلحة البحرية، فارتأى الشيخ أن يقيم عليه مساكن للطلاب، وتفضل الخديو بتنفيذ رغبته، كما اتجه إلى إقامة بناء فخم يضم طلبة المعهد، وإدارته فطلب من البلدية قطعة أرض تبلغ 18 ألف متر بجهة "الورديان"، وإذ تقوم في طريق مشروعاته العقبات، وتقف في مجرى إصلاحه السدود يجد من لباقته البارعة، وحيلته الواسعة، وعطف ولي الأمر ما يمضي به إلى النجاح قدما.
أذكى الشيخ في هذا المعهد نهضة علمية متوثية، وبث في الطلاب روح الجد والمثابرة، وقام على شئونهم بعزيمة نافذة، وفكر موفق، فألف الطلاب النظام ودرجوا عليه، والأساتذة ضبط المواعيد ورعوا حدودها، وواظبوا على إلقاء الدروس، وتنظيم ساعات العمل، والتقيد بمنهاج مرسوم1.
وكان يرفع كل عام تقريرًا عن أعماله لولي الأمر أولا، ولمن يهمهم التعليم الديني ثانيا يعد هذا التقرير بنفسه، ويصوغ بأسلوبه، ويتحدث فيه عن الامتحان والمتقدمين له، والناجحين فيه وبضمته خطبتة التي يلقيها في نهاية العام الدراسي، ويوضح في مناهج الدراسة مما يدل على فهمه، وتمكنه من أساليب التربية والتعليم.
من سننه الحميدة في الإسكندرية أنه كان يقيم آخر العام الدراسي حفلا جامعا تمنح فيه الجوائز للناجحين، وكان يوزعها عليهم نائب الخديو، أو رئيس مجلس النظار حثا للطلاب، وتشجيعا لعزائمهم، ويظهر حبه الأدب في إيثاره
1 تاريخ الأستاذ الإمام ج1 ص471.
كتبه وآثاره واختياره أسفاره، وأمهاته جوائز للطلاب فيمنحهم ما يفيدهم في اللغة والأدب، وعلومه كمقدمة ابن خلدون، والمثل السائر، وديوان الحماسة ونهج البلاغة، وتاريخ أبي الفداء، وديوان المتنبي، وفقه اللغة وغيرها.
وكان كبار المفكرين، ووجوه الناس في الثغر لصلتهم به، وإعجابهم بنهوضه يهدون الطلاب كتبا ذات قيمة في الأدب والتاريخ كالمرحوم "محمد طلعت حرب باشا" -الذي أهدى إليهم مائة نسخة من كتاب تاريخ دول العرب والإسلام"، "ومحمود بك أبي النصر" أحد كبار المحامين بالإسكندرية إذ ذاك الذي أهدى إليهم تسعين نسخة من كتاب "إرشاد القاصد لابن ساعد الأنصاري".
ومما يؤثر أن اللورد "كرومر" المعتمد البريطاني في مصر إذ ذاك كان قد تعرض للإسلام، فآثر الشيخ أن يرد عليه في هذا الحفل الجامع، وكان يومًا ذا خطر عظيم إذ يفد لسماع خطابه الكبراء والعظماء والأعيان، والعلماء فبعد حديث طويل في خطابه اتجه إلى العلماء، وقال: "إن هذا الدين القويم الذي استضاء بنوره أبناء الإنسان منذ أربعة عشر قرنا لا تزال مزاياء القاضلة محجوبة عن أعين كثير من الناس حتى من الذين اقتضت الإدارة الإلهية أن تمزجوا بأهله، إن احتجاب هذه الفضائل الإسلامية عن العيون، وإعراض الكثير من المسلمين عن التمسك بها، وتقاعد العلماء عن التنويه بشأنها، والحث عليها سوغ لرجال نظروا إلى أحوال الأمم الإسلامية الحاضرة، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن حقيقة فضائل الإسلام، وآدابه أن ينسبوا إلى الإسلام عيوب هذا العصر، وأن يعلنوا في مشارق الأرض، ومغاربها أن التعاليم الإسلامية هي التي وقفت تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام1.
1 التقرير الرابع من أعمال مشيخة الإسكندرية، مطبعة الملاجئ العباسية صفحة 20.
وظل الشيخ يعرض أقوال المهاجمين، وينفذ إليها قولا قولا، ويسفهها فكرة فكرة حتى خلب العقول، وأخذ بنواصي الألباب.
هذه بعض الجهود التي بذلها الشيخ، وتلك آثاره الجلية في إنشاء هذا المعهد الجليل وسهره على العلم فيه.
ولا بأس بالإشارة إلى ما كان بينه وبين الخديو من وثيق الصلة، وثابت الود فقد كان الخديو يجزل له الحب، ويغمره بالثقة الكريمة، ويستشيره في أخطر المسائل، ويقدر رأيه حق قدره، ويحرص على إيثاره بالإجلال والتكريم.
ومما يذكرونه في ذلك أن الشيخ اختلف مع "الشيخ محمد بخيب الطيعي"، الذي كان إذ ذاك رئيسا لمحكمة الإسكندرية الشرعية، وكان الشيخ شيخا لمعهدها اختلفا في مناسبة من المناسبات الخاصة بالتشريف الرسمية بأيهما يسبق الآخر في مصافحة الخديو، يقول الشيخ شاكر: أنا نائب شيخ الأزهر، وهو مقدم على جميع العلماء، ويقول الشيخ: بحيث أنا نائب قاضي القضاة، وقاضي القضاة يعين بأمر السلطان، ويحتدم النزاع بين الشيخين، ويعنف الخلف دفاعا عن الكرامة، ويسمع الخديو بحديثهما إذ كان قد نقل إليه، فيتقدم ويفتح الباب بيديه، ويقول:"تقدم يا شيخ شاكر".
وفي أواخر سنة 1324هـ ندب للقيام بأعباء مشيخة الأزهر نيابة عن الشيخ "عبد الرحمن الشربيني" شيخ الأزهر إذ ذاك، "فجمع بين ذلك وبين مشيخة المعهد الإسكندري، حتى كان التاسع من ربيع الآخر سنة 1327هـ، الموافق 29 من أبريل سنة 1909م، فصدر الأمر العالي بتعيينه وكيلا للجامع الأزهر، فمضى في طريق إصلاحه بفكر موفق، ورأي مسدد، وهمة لا تعرف الونى أو الفتور.
وفي عهد وكالته صدر قانون النظام في الأزهر سنة 1911م الذي قسمت بمقتضاه الدراسة إلى مراحل لكل منها نظام ومواد خاصة، وعهد إليه بتطبيق القانون الجديد، فأنشئ القسم الأولى، وعين شيخا له مع بقائه وكيلا
للجامع الأزهر.
وقد قام برحلة إلى الصعيد، وجال في كثير من قراه ومدنه متفقدا الدراسة الدينية في مساجد توطئة لإنشاء معاهد دينية تتبع الأزهر وتخضع له، وقد نفذ ذلك بإنشاء معهدي أسيوط وقنا.
ولما شرع قانون الأزهر في سنة 1911م، وأنشئت فيه "هيئة كبار العلماء" كان أحد أعضائها، وظل يرفع صوته مناديا بالإصلاح مدافعا عن الوطن بما خلد في العاملين ذكره.
وفي سنة 1913م أنشئت الجمعية التشريعية، وكان قد زهد في المناصب لما يجد فيها من العناء، وما يرتصد له من سعي السعاة وكيدهم، ولم يكن يستطيع أن يطلب إحالته إلى المعاش إذ كان في السابعة والأربعين من عمره، وذلك ما لم يبحه القانون، فاهتيل إنشاء هذه الجمعية فرصة، وحدث "محمد سعيد باشا" ناظر النظار إذ ذاك، وكان صديقا له فعين عضوا بها.
ولما اشتعلت الثورة المصرية سنة 1919م، صال فيها وجال ذكاها بقلمه ولسانه، ورأيه حتى إذا وافت سنة 1931م أعرضت عنه الدنيا، ولزم داره لمرض "الفالج" الذي أصابه، وظل ينتظر المنون حتى دعاه مولاه، فلباه في صباح الخميس الحادي عشر من جمادى الأولى سنة 1358هـ، الموافق التاسع والعشرين من يونية سنة 939 غفر الله له، وأكرم في جنته مثواه.
وكان رحمه الله وثيق الدين، طيب الخلق، مخلصا في عمله، جريئا في رأيه، كما كان فقيها ضليعا في الفقه وأسراره، واسع الأفق في تفسير كتاب الله مدركا لدقائقه متفطنا لكريم مغزاه متمكنا من الأصول والمنطق والحديث، وله في كل ذلك لفتات دالة على بعد غورة، وصفاء ذهنه.
وقد ديج بقلمه الرشيق الدقيق، بحثا ضافيا سماه "القول الفصل" في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وهو مجموعة من مقالاته الممتعة التي نشرها
في الصحف مؤيدًا بها رأيه في هذه المسألة التي كان ينكر على مجيزيها أشد نكير، ويراهم "لولا حسن الظن -فئة من ملاحدة هذا العصر، عصر التجدد والانتقال"، وقد طبع هذا البحث سنة "1343هـ-1925م".
كتابته:
كتب عدة مقالات في السياسة والعلم والاجتماع، والقانون، فأشرقت على صفحات الصحف، والمجلات كمجلة الأحكام الشرعية التي صدرت أربع سنوات مبتدئه من سنة 1902م، وكان ينقد في هذه المجلة بعض أحكام المحاكم الشرعية، ويوجهها الوجهة الصالحة.
وأكثر الصحف التي حفلت بمقالاته، وبحوثه هو صحيفة المقطم، فقد كانت له بها جولات موفقة، وكلمات في السياسة لا تزال ملء الأسماع.
وكانت الأقطار العربية تتلقف كتابته، وتستشرف لها حتى قال بعض البغداديين:"فحينما يصل المقطم في البريد نفتح أعداده بلهفة شديدة، وتتصفح مقالاته لعلنا نجد مقالة لحضرة الشيخ مذيلة بإمضائه، فإذا وجدنا ذلك عددنا اليوم من أسعد أيامنا".
ومن عجيب أنه يتحدث في شئون السياسة العامة، ويتناول القضية المصرية ويدرس ما يجد من أحداثها، وما يظهر كل يوم من مواقفها وتطورها، فتستشف مما يكتبه روح الخبير الدارس الملم بأطوار الحياة السياسية العارف دقائقها جملة وتفصيلا، فيهدي برأيه، وينير بفكره، ويوجه بعقله، وتراه في كل ذلك كأحد الزعماء السياسيين الذين يخبون في السياسة ويضعون، والذين يحيون في بر السياسة وبحرها، ويقضون فيها صباحهم والمساء.
هذا إلى روحه الوطني الغيور، وضميره اليقظ المؤمن الذي تسمع صوته في كل حرف، ويناديك في كل خطرة وهاجسة.
وأسلوب الشيخ يمثل الأسلوب الأدبي المصفى من كل تعقيد الذي لا تشوبه
شائبة من التواء أو معاظلة، والذي يطول ويطول، ولكنك لا تعثر فيه على لوثه الجناس التورية، ولا يوافيك منه في قليل، ولا كثير شيء من آثار الصنعة والطلاء.
وهو منطقي في أسلوبه، بارع في حجته، يغمرك بالأدلة ويفيض عليك بالبراهين حتى لا يدع إلى الشك مجالا فيما يذهب إليه من رأي، أو ينفذ إليه من غرض.
وتجد كتابته الشابة الثائرة كأنما خطها، قلم شاب متحمس جريء، فلا تحفظ ولا خوف ولا تمليق، وهي مع ذلك لا تفوت الرصانة والاتزان.
وقد جمعت طائفة قيمة من مقالاته التي رفعها لحضرة صاحب المعالي رئيس الوفد المصري باسم "الشرح التفصيلي لمذكرة الاتفاق"، الذي قدمه الإنجليز للمصريين، وبيان ما تضمنه من الشروط التي تتعارض مع الاستقلال، وقد "أحصى منها ثلاثين شرطا سوى التنصيص على إلغاء الحماية، وسوى مسألة السودان التي هي الجزء الحيوي المتسمم لمصر".
كما جمعت طائفة أخرى من مقالاته الممتعة التي سبق نشرها في الصحف، فضمها كتيب بعنوان "من الحماية إلى السيادة"، يقول في مقدمته:"أقدم هذه الكلمات إلى كل عامل في سبيل الاستقلال التام لوادي النيل من منبعه إلى مصبه، بدون أي تدخل أجنبي في شئونه الداخلية والخارجية".
واطلعت على تقرير كتبه بخطه الجميل الأنيق سنة 1899م، إذ كان نائبا لمحكمة بنها الشرعية، "حينما كانت مديرية القليوبية"، وقد أودع هذا القرار خلاصة آرائه، ومشاهداته وما يراه من إصلاح شامل في المحاكم واللوائح والنظم، وختم التقرير بفصل ضاف يبين حالة ديار المحاكم الشرعية، وما هي عليه من سوء الإهمال.
نماذج من كتابته:
مما كتبه بعنوان "من الخماية إلى السيادة":
يقول مكاتب التيمس: -والطريق الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو إيجاد حكومة برلمانية بقدر ما يمكن من السرعة عمليا، ويقول فخامة اللورد في خطابه: أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف، والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم، وإلى الشعب المصري من ذا الذي لا تطربه هذه النغمات، ولا تستهويه رشاقتها؟ ولكن الشعب المصري لا يسره الخروج من هذه الأزمة بالسرعة التي يريدها مكاتب التيمس، فدعونا زمنا ما حتى نتعرف هذا المصير الذي تسوقنا الحوادث إليه، لقد أنكرنا الحماية وعالجناها حتى ألقيناها من عواتقنا، وضحينا في سبيل الخلاص منها ما ضحينا، فليس من السهل، ولا من الميسور أن نستشفي من داء الحماية بداء السيادة، وما ترك أبو الطيب المتنبي في مصر رجلا، ولا امرأة إلا، وقد عرك أذنه حتى أدماها، وهو يعظه بقوله:
إذا استشفيت من داء بداء
…
فاقتل ما أعلك ما شفاكا
لا والله ما كنت أحب لبريطانيا أن تضرب على رءوس المصريين بنا قوس السيادة البريطانية، وهي ترى ماذا يفعل الشرق والشرقيون، وإلى أية غاية يسير ويسيرون، وكان عليها أن تتريث في الاتهام نصيبها من تراث الرجل المريض، حتى تنظر بعيني رأسها إلى موضع أنيابه من أحشاء خصومه وأعدائه.
إلى أن يقول: -وها هي الآن قد اضطرت إلى الظهور بما كانت تضمره، وإن كانت لا تزال تحاول كتمانه، وإلى هذه الحقيقة تشير "التيمس"، حيث تقول: -ولا شك أن نتيجة هذا الاتفاق ستقيم علاقاتنا مع القطر المصري على قاعدة جديدة، وستقوى نفوذنا الذي تقلص تقلصا خطيرا بالنظر إلى ما حدث في غضون السنوات الأخيرة من سوء التفاهم، ولقد رفعت المسألة برمتها إلى مستوى أسمى من ذلك المستوى الذي تدلت إليه من خلال المفاوضات التي دارت بين الحكومة الإنكليزية، وبين ممثلين مختلفين من قبل
مصر -وحسبنا في هذا الموقف الدقيق أن نتمثل بقول الشاعر العربي:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فلنصبر ولننتظر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا
ومما كتبه للرد على مبيحي ترجمة القرآن الكريم
وحدثونا أيها القوم بما تعملون، لماذا نجد من بين الدعاة إلى تعميم نشر الترجمة الإنجليزية للقرآن الكريم في مختلف الجهات من أقاموا السنين الطوال، وهم ينشرون دعوتهم هذه مستعينين بكبار المتضلعين من اللغتين العربية والإنجليزية. ولا يزال هؤلاء على طول عهدهم بالإسلام يؤدون الصلاة المفروضة بالقرآن الإنكليزي الذي يلحون في الدعوة إلى تعميم نشره، ولو شاءوا لتعلموا من القرآن العربي المبين ما لا تصلح الصلاة بدونه، وهو لا يتجاوز فاتحة الكتاب، وأقصر سورة من سوره كما تعلموا من اللغة العربية العامية ما ليس لهم من تعلمه بد في مختلف الأحاديث، فهؤلاء وأمثالهم يعتبرون من القادرين على القراءة بالعربية لا من العاجزين عنها، فإن الامتناع عن التعلم لا يسمى عجزا. ولذلك فإنا نحكم حكما قاطعا ببطلان كل صلاة صلوها بهذا القرآن الإنكليزي، وهم قادرون على تعلم ما لا تصح الصلاة بدونه من القرآن بنظمه العربي.
لا خلاف بين الأئمة المجتهدين في بطلان القرآن بغير العربية، وهم قادرون على أن يتعلموا منه بالعربية ما لا تصح الصلاة بدونه.
الله يشهد أننا فيما كتبنا لم نذهب إلى أن "نضيق على الناس سبيل تفهم أصول الدين"، كما يقولون، وكان حقا عليهم أن يعرفوا ما بين الترجمة والتفسير من الفروق المعقولة حتى يعلموا أن أئمة الإسلام الذين أجمعوا على تحريم ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية، لم يختلفوا في جواز تفسيره اللغات الأعجمية، كما أجازوا تفسيره باللغة العربية.
تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث.