الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيد مصطفى لطفي المنفلوطي:
المتوفى سنة "1342هـ-1924م".
نشأته وحياته:
"السيد مصطفى المنفلوطي" بن "محمد المنفلوطي"، ولد في سنة "1876م" بمدينة "منفلوط" واليها ينتسب، وقد انحدر من أسرة عريقة، عرفت بالوجاهة والحسب، وتوارثت القضاء الشرعي، ونقابة الصوفية زهاء مائتي عام، وأما أبوه فعربي واضح النسب يمتد إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وأما أمه فهي وثيقة القرابة بأسرة "الجوربجي" التركية الضاربة في الشرف والمجد.
حفظ القرآن بالمكتب، ثم اتجه إلى الأزهر فتلقى علومه به، وكان معروفا بين أقرانه بحدة الذكاء، وسلامة الذوق وصفاء الفكر، وقد نزع إلى طريقة ارتضاها لنفسه غير الطريقة التي درج عليها أبناء الأزهر، فكان يطالع الدروس على طريقة يخلص منها إلى تحرير الفكرة وتحديد الجوهر، غير مبال بما يعترضه من جدل ونزاع لفظي، وأكب في صباه على كتب الأدب يغذي هواه ويروي فطرته، فقد نشأ شغوفا بالأدب مفطورًا على التقليب في آثاره، والتروي من روائعه ومحاسنه ودرس فيما درس طائفة من كتب الطبيعة والحكمة والأخلاق، وأقبل على الأشعار يحفظها، والشوارد بتصيدها، ونظم الشعر وحرر الرسائل، وذاع صيته بين الناس وبين الأزهريين خاصة، فقربه الإمام المرحوم "الشيخ محمد عبده"، ووجد في ظلال الإمام التوجيه النافع والهدى الموفق، وما لبث "المنفلوطي" أن اتسع له صدر الإمام، فلازمه وصاحبه وتردد على درسه، وتمشى منزله، ودامت هذه الصلة الوثيقة عشر سنين، كانت "المنفلوطي" غذاء لروحه وتوجيها لفكرة، وتعبيدا لطريق حياته، وأثمرت صلته بالإمام معرفته بالمرحوم "سعد باشا زغلول"، فهش له وقدر مواهبه، وتفطن لما شب عليه من صفاء القريحة، وسلاسة الأسلوب
فقربه ورعاه.
وقد بلغ من حب "المنفلوطي"، للإمام وتعلقه به أنه انتبذ مكانا قصيا إلى أهله "بمنفلوط"، حين استأثر الله بالإمام، وأظلمت الدنيا في محياه، وابتأس حين أوحشت حياته من لقائه.
ثم بدد عزلته النائية التي بكى فيها أستاذه، وموجهه "الشيخ محمد عبده"، فراسل "المؤيد" برسائله الممتعة التي طالما أتلع الناس إليها أعناقهم واستشرفوا للقائها، وتزاحموا على ورودها.
وقد كانت ترد إليه رسائل من أقاصي البلدان تسأله أن يعالج موضوعا، أو يجلي حادثا، أو يعلق على أمر ذي بال، والناس لمطلعها مشوقون.
وقد تأثر "المنفلوطي" بالشيخ "محمد عبده" فطبع بطابعه، ونهل من شعوره، وانصرف منصرفه في معالجة الشئون، وتناول الإصلاح الوطني، والخلقي والاجتماعي.
ويتجلى تأثره به في الحملة التي شن غارتها على المفاسد التي دخلت على الإسلام، وفي دعوته إلى الإصلاح، تلك الدعوة التي اصطبغت بالصبغة التي نجدها في كثير من كتابات الشيخ "محمد عبده"1.
وقد نسب إليه في أثناء طلبه العلم بالأزهر أنه هجا الخديو السابق بقصيدة نشرتها إحدى الصحف الأسبوعية، فحكم عليه بالسجن، وقضى به مدة عقوبته ثم شفع له بعض المقربين لدى الخديو فعفا عنه، ويرى بعض الأدباء أن القصيدة من عمل غيره، ونسبت له.
ولما ولي "سعد زغلول باشا" نظارة المعارف عينه محررا عربيا لها، فأصلح من أسلوب الكتابة بها، وأشرف على لغة الكتبة، وتعهدهم بالرعاية، والإرشاد حتى إذا ما حول "سعد" إلى نظارة الحقانية استصحبه معه لمثل
1 الإسلام والتجديد ص206.
هذا العمل فكان له فضل عظيم في ترقية الكتابة، وتقدم لغتها وتخلصها من الركة والعجمة، والضعف بقدر ما وسعته الجهود، وبعد عامين فصل من هذا العمل.
ولما انعقد "البرلمان" عين كاتم سره، وكان القدر قد أراد أن تنطفئ شعلته، فمضى إلى ربه في العقد الخامس من عمره عام 1924م.
وكان رحمه الله عالي النفس عزيزا متوقرا، يجافي صغائر الأمور ولا يتعلق إلا بجلائل الأعمال، نزاعا إلى الحرية عيوفا من كل ما يدنس صفحته كريم الخلق طيب السريرة في تواضع جم، وكرم نفاح.
وقد عاش طول حياته لم يلوث يده بأجر على ما كان يكتبه على جلالة شأنه، ونباهة ذكره ما يهيئه من الرفعة، وعلو المكانة لمن يحظى بقلمه مؤيدا ومعاضدا.
وقد اجتمعت عليه عداوات، وأرثت أحقاد من طول ما لقيه من الشهرة بأدبه وبعد الصيت بقلمه، وتألبت عليه الأقلام تنوشه، وتنهشه حقدا وموجدة، وهو ثابت كالطود موفورًا الحلم والأناة، واسع العفو والإغضاء، فكان كما قال:
إذا ما سفيه نالني منه نائل
…
من الذم لم يحرج بموقفه صدري
أعود إلى نفسي فإن كان صادقا
…
عتبت على نفسي وأصلحت من أمري
وإلا فما ذنبي إلى الناس أن طغى
…
هواها فما ترضى بخير ولا شر
وقد صور المرحوم "أحمد شوقي بك" أمير الشعراء خصومة حساده، وكلفهم بتتبعه، وأنصف حلمه وسعة صدره، وعفوه عن خصومه اللد، فقال في رثائه له.
سكن الأحبة والعدا وفرغت من
…
حقد الخصوم ومن هوى الأشباع
كم غارة شنوا عليك دفعتها
…
تصل الجهود فكن خير دفاع
والجهد مؤت في الحياة ثماره
…
والجهد بعد الموت غير مضاع
فإذا مضى الجيل المراض صدوره
…
وأتى السليم جوانب الأضلاع
فافرغ إلى الزمن الحكيم فعنده
…
نقد تنزه عن هوى ونزاع
أدب المنفلوطي:
لقي الأدب "بالمنفلوطي" حياة جديدة، وتهيأت له بقلمه جدة وروعة، فأينع وانتعش، كان رشيق القلم عذب البيان، فصيح التعبيير مشرق الديباجة محكم الرصف متين النسج، وكان مرهف الحس دقيق التفطن لمواطن البلاغة طروبا للتعبير الفخم، والتركيب المحكم، يحتفل بأسلوبه، ويجود في صياغته إذا هبطت عليه سجعة، فذاك وإلا لم يتكلف طلبها، ولم يتعمل1.
وإذا جاز أن يكون الأدب العربي المعاصر قبل "المنفلوطي" دائرا على اللفظ يغل الفكرة، فلا يتوخاها ويغضي عن المعنى، فلا ينفذ إلى روائعه، فإن "المنفلوطي" كان أحد أولئك الأدباء القلائل الذين أدخلوا المعنى، والقصد في الإنشاء بعد أن ذهب منه كل معنى، وضل به الكاتبون عن كل قصد2.
وقد حدث المستعرب "أغناطيوس"، فيما قاله عن الأدب العربي الحديث، ورجال له، فقال:"امتاز مصطفى لطفي المنفلوطي، وهو أصغر تلاميذ الشيخ عبده سنا بالجهود الموفقة لابتكار أسلوب جديد شائق، ويمكننا أن نقول: إنه نجح كثيرا عن جدارة، واستحقاق3".
وكان المنفلوطي صاحب طريقة في الأدب وذا مكان ملحوظ فيه، ولقد بهر الناس أدبه وفتنهم روعته وجذبتهم طريقته السهلة المشرقة المتدفقة حتى كان محفوظ التلاميذ مرقوب المتأدبين، وكان بحيث لو لم يذكر المنفلوطي مع ما يكتبه لنم أسلوبه عنه، وهدى إشراقه إليه.
1 المفصل ج2 ص388.
2 مراجعات العقاد ص170.
3 ترجم الأستاذ أمين حسونه النواوي هذا البحث في مجلة الرسالة ص2086 "السنة الرابعة".
ومن أهم ما يسر له هذه المكانة بعد روائع أسلوبه الذاتية بروز شخصيته فيما يكتب، ويصور حتى قال المرحوم "سعد زغلول باشا": إني لأرى لك في كتابتك شخصية أتمنى أن أجدها كثيرا في أقلام الكاتبيين".
وكان رفيع الأدب في كل ما يكتب، فلم يسف في مقال ولم يتدل في موضوع بل كان" الكاتب الفريد الذي يحافظ على أسلوبه في جميع حالاته، وشئونه سواء في ذلك المعاني المطروقة لكتاب العربية الأولى، أو التي لم يكتبوا عنها شيئا، ولم يرسموا لها أسلوبا مما يدل على أن السليقة العربية ملكة من ملكاته لا عارية من عواريه1.
ولم يكن مفتونا بالصنعة، متهافتا على تجويد الأسلوب، بل كان طبعه يغلب صناعته، ولم تكن الصنعة لتخلق أديبا "كالمنفلوطي" في نباهة شأنه، وروعة أدبه، ولو رجحت الصنعة في أدبه لضل في ثناياها الغرض، وغمرت الفكرة وعز عليك أن تجد له هذه الأفكار الحية، وتلك الموضوعات الاجتماعية التي يتهم فيها وينجد، التي عبر فيها عن خلجات النفوس، وخفقات القلوب ومسارح الفكر والشعور، وصور بها الآلام والأحزان صورة يرتسم فيها الأسى حتى كان من أشد الأدباء تأثرا بالأدب الغربي، واصطباغا بصيغته.
وأول ما بهر الناس من أدبه، وفتنهم من جمال أسلوبه ما نشره من "نظراته" في صحيفة "المؤيد" سنة "1908"، فقد اهتزت لها القلوب والأسماع، "ورأى الأدباء والقراء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ، وسجعات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة، وركاكة الترجمة فأقبلوا عليها إقبال الهيم على المورد الوحيد العذب2".
1 أشهر مشاهير أدباء الشرق للسندوبي ج2 ص186.
2 أحمد حسن الزيات من مقال له في "الرسالة" السنة الخامسة العدد 210.
هذه "النظرات" التي كان الأدباء يتشوقون إليها، ويعدون لها أيام الأسبوع يوما بعد يوم، ويترقبون لرؤيتها ما يترقبه الضال في ظلمة الليل البهيم من الفجر الطالع، والظاميء في المهمة القفر من الغيث الهامع1.
امتازت هذه المقالات بطابعها الأنيق، ومعالجتها شئونا مختلفة بأسلوب رشيق جمع بين الأدب العالي، وإرضاء الذوق؛ لأنها كتبت بلغة موسيقية صافية، فكانت بمثابة الوحي يهبط على جمهور تعود قراء الكلفة والتصنع، وقد انتشرت انتشارا واسعا بين قراء العربية من بغداد إلى مراكش، وهذا مما يدل على أنهم ألفوا فيها شيئا قيما، كما كانت تمثل الشعور الذي تردد صداه في العالم الإسلامي أبلغ تمثيل2.
كان "المنفلوطي" رحمه الله رحيم الفؤاد رقيق العاطفة، يهتز لكل مأساة، ويبتئس لكل كارثة، وتسيل عبراته على ما تقع عليه العين من شقوة أو بأساء، ومن كتب في البؤس والمأساة فبلغ ما لم يبلغه أحد، وصور ما يعتلج في الأفئدة من هموم وأحزان بقلم باك، وبراعة دامية وقال فيه عارفوه ومن صاحبوه:"إنه لم يكتب إلا عن فيض شعوره وحسه، وإن كتاباته صورة حقيقية لنفسه".
المنفلوطي القصصي:
ثم إن "المنفلوطي" تناول القصة فمهد لها في الأدب العربي طريقا، وفسح لها في فنونه مكانا وبلغ بها منزلة سامقة، وذلك أنه كان يستعين بإخوانه ممن يعرف لغة أجنبية، فيستوحيه معاني القصة، فإذا ما استقرت في نفسه
1 أشهر مشاهير أدباء الشرق للسندوبي ج2 ص181.
2 من مقال لمستعرب إنجليزي في مجلة "إسلاميك كلنشر".
صاغها بعبارة الساحرة، وزانها بقالبه الجميل1، ولم يكن يتقيد إذ ذاك -بعبارات المؤلف ومعانيه.
ولهذه الطريقة حسنات أهمها أنها تمكن الناقل من إظهار ما لديه من شخصية، ومقدرة وعبقرية، ولكنها من الجهة الأخرى قد تخطئ الغرض الأصلي إذا كان الغرض نقل الأثر الغربي إلى اللغة العربية2، فالقصص التي ينقلها "المنفلوطي" بهذه المثابة قد تبعد عن الأصل في ترجمتها، أما إذا اعتبرت من وضعه على أنه استعان بواضعها الغربي، فهي من جهده الذي يفاخر به.
وأيا ما كان فقد كانت القصص، والروايات التي تناولها "المنفلوطي" مرآة تنطبع عليها العيوب، والمآسي الخلقية والاجتماعية بأسلوب مؤثر وعبارة فصيحة، وإذا كنا لا نستطيع أن نقول: إن "المنفلوطي" في عصره كان أبرع القصاص، وأنبغ الرواتيين، فإنه لا ريب من خير من عبد هذه الطريق، ومن طلائع الذين أودعوا خيال الغرب، وذلك لا يعفيه من ضعف الأداء، والتحريف في التعبير أحيانًا.
المنفلوطي الناقد:
"المنفلوطي" إذا نقد الأحوال السياسية أو الشئون الاجتماعية، أو الأدبية أو تناول نقدا شخصيا بينه وبين مصاول كان بارع النقد لماح الفكر يعالج الموضوع في تحليل مستوعب، وإلمام شامل، ولا يجمح قلمه فيما ينقد، أو يتجاوز العفة والنزاهة، وتوخي الحق فيما يرى، وقد أثر عنه كرم القلم
1 مذكرة المرحوم الأستاذ محمود مصطفى في الأدب الأندلسي والمعاصر، وما بينهما ص349.
2 مجلة الهلال العدد الصادر في 12 من شعبان سنة 1338هـ، أول مايو 1920.
وترفع الأسلوب، ونزاهة الرأي على رغم ما ارتصد له من عقارب تنفث سمومها على الصحف وفي المجتمعات، ولكنه كان يعتصم دائما بقوله:"إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يغير طبيعة الإنسان".
ومهما يكن من شيء "فالمنفلوطي" في الأدب أمة وحده، نهج فيه نهجا رفيعا مبتكرًا، وخلد بهذا الفن الرائع ذكره، واستحق أن تصفه صحيفة "الهلال" بأنه "أمير النثر العصري"، وأن يقول فيه الأستاذ "أحمد الزيات":"فإذا قدر الله لأدب المنفلوطي أن يفقد سحره، وخطره في أطوار المستقبل، فإن تاريخ الأدب الحديث سيقصر عليه فصلا من فصوله يجعله في النثر بمنزلة البارودي في الشعر1".
شعره:
"للمنفلوطي" شعر جمع بين الجزالة والسهول، رصين القافية فخم التعبير، وله قصائد رائعة متينة السبك محكمة النسج لطيفة المعنى بارعة الوصف، وله في الوجديات غرر وفي الحكم بدائع، غير أنه مقل لم يتجه إلى الشعر اتجاهه إلى النثر الذي ملك عليه نفسه، واستأثر بقلمه، ولو أن ولعه بالنثر ترفق به وخلى بينه، وبين الشعر أحيانا أخرى لكان من أبرع الشعراء، وأنبه الفحول.
آثاره الأدبية:
النظرات:
وهي مقالات الفذة الرائعة الأسلوب التي كان ينشرها في المؤيد تباعا، ويعالج فيها شئون المجتمع، وقد كانت مثار شهرته وبعد صيته، وهي
1 مجلة الرسالة السنة الخامسة العدد 210.
العبرات:
مجموعة روايات موجزة وضع فريقا منها، وترجم فريقا آخر وقد ساقها عظة وتذكرة، وهي اليتيم، والشهداء، والححاب، والذكرى، والهاوية، والجزاء والعقاب، والضحية ومذكرات "مرغريب"، وهي مطبوعة تكرر طبعها.
الشاعر أو "سرانو دي برجراك":
رواية أدبية تهذيبية غرامية تمثيلية استخلصها من روايات "ادمون اوستان" تكرر طبعها أيضًا.
ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون:
ألفها الكاتب الفرنسي "ألفونس كار"، ونقلها عن الفرنسية إلى العربية "المنفلوطي" في قالب قصة خيالية تخيل وقائعها في ألمانيا، وأملي عليها ترجمتها الحرفية صديقة الأستاذ "محمد فؤاد كمال بك"، ثم تصرف فيها "المنفلوطي" بأسلوبه، وهذبها بحذف ما يجافي الذوق العربي منها مع حفاظه لطابع الرواية ومغزاها1.
وقد كتب الأستاذ "خلاصة شعرية لهذه الرواية، وهي نسخة في مجلد واحد تكرر طبعها.
الانتقام:
رواية أدبية اجتماعية أخلاقية تصور حكاية المسيو "كابريني"، وكيف قضى شطرا طويلا من حياته سعيدا بزوجته وثروته، حتى عصف الدهر بهما مع تصوير ما وقع لابنته مع زوج أبيها من بؤس، وتعس إلى غير ذلك من مشاهد، طبعت بمطبعة المكتبة التجارية سنة 1923م غيرها.
1 إذا قلنا نقل هذه الرواية من الفرنسية إلى العربية المنقلوطي، نعني أنه كلف من نقلها لجهله الفرنسية.
في سبيل التاج:
ألف هذه الرواية الشاعر الفرنسي الشهير "المسيو فرانسو كوبيه"، ثم نقلها "المنفلوطي" إلى العربية، وقد وقعت أحداث هذه الرواية في القرن الرابع عشر بين العثمانيين وشعوب البلقان، وأراد مؤلفها أن يجاري بها "كروفي" و"راسين" عميدي الشعر التمثيلي في القرن السابع عشر طبعت بالمطبعة الرحمانية بالقاهرة سنة 1920م، ثم توالى طبعها.
الفضيلة:
رواية ألفها الكاتب الفرنسي الشهير المسيو "برناردين دي سان بير"، ثم نقلها "المنفلوطي" إلى العربية بتلخيص وتهذيب، وهي من الروايات الأدبية الأخلاقية الاجتماعية التي تؤرخ لحوادث غريبة كتب عن جزيرة "موريس" إحدى جزر أفريقية الواقعة في المحيط الهندي قريبا من "مدغشقر"، وقد وصفت طبيعة هذه الجهة، وصورت الاستعمار الأوروبي بها، وتحدثت عن أشخاص عاشوا بهذه الأصقاع، وبآخر قصيدة في العظة والعبرة خاطب بها "بول"، و"فرجيني" اللذين هما بعض سكان هذه الجزر التي شاهدها المؤلف في رحلاته، طبعت بالمطبعة الرحمانية سنة 1923م، ثم أعيد طبعها.
مختارات المنفلوطي:
هي روائع من النظم والنثر مما استجاده، واهتز له فؤاده ووقف عنده معجبا بأسلوبه وتصويره، وقع عليها من كثرة ما يحيل النظر في الكتب العربية وآدابها، وهي دالة على حسن ذوقه، وروعة اختياره.
نماذج من نثره:
الحرية:
نبذة مما كتبه بهذا العنوان:
"إن كثيرًا من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به هذه الهرة المحبوسة في الغرفة، والوحش المعتقل في القفص، والطير المقصص الجناح من ألم الأسر، وشقائه بل ربما كان بينهم من لا يفكر في وجه الخلاص، أو يلتمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن ويأتي به، ويتلذذ بآلامه وأسقامه.
من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها أن يكون الحيوان الأعجم أوسع في الحرية ميدانا من الحيوان الناطق، فهل كان نطقه شؤما عليه، وعلى سعادته؟ وهل يجعل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدا بحريته؟ كما كان قبل أن يصبح ذكيا ناطقا؟.
....... ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته بل جنايته الكبرى أنه أفسده عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها.
ولو عرف الإنسان قيمة الحرية المسلوبة منه، وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من السلاسل، والقيود لا نتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص، وكان ذلك خيرًا له من حياة لا يرى فيها شعاعا من أشعة الحرية، ولا تخلص إليه نسمة من نسماتها.
لا سبيل إلى السعادة في هذه الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا لا يسيطر على جسمه، وعقله ونفسه، ووجدانه وفكره إلا أدب النفس.
الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش منها محروما عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر.
الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة التماثيل المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.
ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثا جديدا، أو طائرا غريبا، وإنما هي فطرته التي فطر عليها مذ كان وحشا يتسلق الصخور، ويتعلق بأغصان الأشجار.
إن الإنسان الذي يمده يده لطلب الحرية ليس بمتسول ولا مستجد، وإنما هو يطلب حقا من حقوقه التي سلبته إياها المطالع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه، ولا يد لأحد عنده.
مضى الليل إلا أقله و"سوزان" جالسة إلى نافذة قصرها المشرقة على النهر تلتفت إلى سرير ابنتها مرة، وتقلب وجهها في السماء مرة وأخرى، وكان القمر في ليلة تمه، فظلت تناجيه، وتقول:"أيها القمر الساري في كبد السماء ها أنذا أراك في ليلة تمامك للمرة الرابعة والعشرين، فهل يعود إلي "خطيبي جوستاف"، فيراك معي كما كان يفعل من قبل؟ لقد كنت لي أيها الكوكب المنير نعم المعين في ليالي الموحشة على همومي وأحزاني، فهل تستطيع أن تحدثني عن "جوستاف" أين مكانه ومتى يعود؟ وهل نلتقي فتتم بذلك يدك عندي؟ حدثني عنه هل يذكرني كما أذكره، ويحفظ عهدي أحفظ عهده، وهل يجلس إليك حينا، فيسألك عني كما أسألك عنه؟ فإن فعل فقل له: -إن ابنته جميلة جدا جمال الابتسامة الحائرة في فم الحسناء، بيضاء بياض الفطرة
الصافية فوق الزنبقة الناصعة تحت الأشعة الساطعة، وقل له: إنها لا تهتف باسم غير اسمه، ولا تبتسم لرسم غير رسمه، وإن رآها أغنته رؤيتها عن المرآة المجلوة؛ لأنه يرى صورته في وجهها كما تتشابه الدميتان المصبوبتان في قالب واحد.
ولم تزل تناجي القمر بمثل هذه النجاء حتى رأته ينحدر إلى مغربة، فودعته وداعا جميلا، وقالت: إلى الغد يا رفيقي العزيز، ثم قامت إلى سرير ابنتها، فحنت عليها برفق وقبلتها في جبينها قبلة المساء، وذهبت إلى مضجعها، وما هو إلا أن غشت بجفنها السنة الأولى من النوم حتى أسلمتها أحلامها إلى أمانيها وآمالها، فرأت كأن "جوستاف" قد عاد من سفره، فاستقبلته هي وابنتها على باب القصر، فنزل من مركبته، وضمهما معا إلى صدره ضما شديدا، وظل يقبلهما، ويبكي فرحا وسرورًا.
فإنها لمستغرقة في حلمها إذ شعرت بيد تحركها، فانتبهت فإذا صدر النهار قد علا، وإذا خادمتها واقفة على رأسها ضاحكة منطلقة تقول لها: بشراك يا سيدتي فقد حضر سيدي، فاستطارت فرحا وسرورا، وقالت: أحمد اللهم فقد صدقت أحلامي، وأسرعت إلى غرفة ملابسها، فبدلت أثوابها ثم دخلت عليه في غرفته باسمة متهللة تحمل ابنتها على يديها، فرأته واقفا في وسط الغرفة متكئا على كرسي بين يديه، فهرعت إليه ولكنها ما دنت منه حتى تراجعت حائرة مندهشة؛ لأنها رأت أمامها رجلا لا تعرفه، ولا عهد لها به من قبل، بل هو بعينه، ولكنها رأت وجها صامتا متحجرا لا تلمع فيه بارقة ابتسام، ولا تجري فيه قطرة بشاشة، فأنكرته، إلا أنها تماسكت قليلا، ومدت إليه يدها تحييه، فمد إليها يده بتثاقل وفتور، كأنما ينقلها من مكانها نقلا، ولم يلق على وجه الطفلة، وكانت تبتسم إليه، وتمد نحوه ذراعيها نظرة واحدة، وكانت أول كلمة قالها: -أباقية أنت في القصر حتى اليوم، فازدادت دهشة وحيرة ولم تفهم ماذا يريد، وقالت له: وأين كنت تريد أن تراني يا سيدي؟ في القصر كما تركتك، ولكني أظن أنك لا تستطيعين
البقاء في بعد اليوم قالت: ولماذا؟ قال: لأن زوجتي قادمة إليه، وربما كانت لا تحب أن ترى فيه من يزعجها وجوده.
...... ثم سقطت على يده تقبلها، وتبللها بدموعها، وتقول: -ها أنذا "يا جلبرت" جاثية تحت قدميك فارحمني، واغفر لي ذنبي فقد أصبحت امرأة بائسة شقيقة ليس على وجه الأرض من هو أحق بالرحمة مني، وكأنما أحس بنغمة صوتها فارتعد قليلا، ثم مال بنظره إليها شيئا فشيئا، حتى رآها فسقطت من جفنه دمعة حارة على يدها كانت هي آخر عهده بالحياة وقضى.
ولما دنا مني السياق تعرضت
…
إلي ودوني من تعرضها شغل
أتت وحياض الموت بيني وبينها
…
وجادت يوصلي حين لا ينفع الوصل
ومما كتبه بعنوان "الشرف".
لو فهم الناس معنى الشرف لأصبحوا كلهم شرفاء -ما من عامل يعمل في هذه الحياة إلا وهو يطلب في عمله الشرف الذي يتصوره، أو يتصوره الناس إلا أنه تارة يخطئ مكانه، وتارة يصيب- يقتل القاتل، وفي اعتقاده أن الشرف في أن ينتقم لنفسه، أو عرضه بإراقة هذه الكمية من الدم، ولا يبالي أن يسميه القانون بعد ذلك مجرما؛ لأن البيئة التي يعيش فيها لا توافق على هذه التسمية وهي في نظره أعدل من القانون حكما وأصدق قولا، يفسق الفاسق وفي اعتقاده أنه نفض عن نفسه بعمله هذا غبار الخمول والبله الذي يظلل الأعفاء والمستقيمين، وإنه استطاع أن يعمل عملا لا يقدم عليه إلا كل صاحب حيلة وشجاعة وإقدام........ هكذا يتصور الأدنياء أنهم شرفاء، وهكذا يطلبون الشرف ويخطئون مكانه، وما أفسد عليهم تصوراتهم إلا الذين أحاطوا
بهم من سجرائهم وخلطائهم، وذوي جامعتهم
…
لولا فساد التصور ما جلس القاضي المرتشي فوق كرسي القضاء يفتل شاربه، ويصعر خديه، وينظر نظرات الاحتقار والازدراء إلى المتهم الواقف بين يديه موقف الضراعة والذل، ولا ذنب له إلا أنه جاع، وضاقت به مذاهب العيش فسرق رغيفا -ولولا فساد التصور ما تصور ذلك اللص الكبير أنه أشرف من هذا اللص الصغير، ولولا فساد التصور لوقف هذان اللصان في موقف واحد أمام قاض عدل يحكم بإدانة الأول؛ لأنه سرق مختارا ليرفه عيشه، وببراءة الثاني؛ لأنه سرق مضطرا لإنقاذ حياته من براثن الموت.
نماذج من شعره:
قال في الوجديات، وشعره فيها أشبه بشعر البدو:
سقاها وحيا تربها وابل القطر
…
وإن أصبحت قفراء في مهمه قفر
طواها البلى طي الشحيح ردائه
…
وليس لما يطوي الجديدان من نشر
مرابض آساد ومأوى أراقم
…
تجاور في قيعانها الفيل بالجحر
يكاد يضل النجم في عرصاتها
…
ويزود عن ظلمائها البدر من ذعر
لقد فعلت أيدي السواقي بنؤيها
…
وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر
وقفت بها وحشية الليل وقفة
…
أثار شجاها كامن الوجد في صدري
ذكرت بها العهد القديم الذي مضى
…
ولم يبق منه غير بال من الذكر
وعيشا حسبناه من الحسن روضة
…
كساها الحيا منه أفانين من زهر
فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى
…
إلى أن رأيت الصخر يبكي إلى الصخر
وما حيلة المحزون إلا لواعج
…
تفيض بها الأحشاء أو عبرة تجري
إلى أن قال:
وفي القصر بين الظل والماء غادة
…
تميس بلا سكر وتنأى بلا كبر
تريك عيونا ناطقات صوامتا
…
فما شئت من خمر وما شئت من سحر
لهوت بها حتى قضى الليل نحبه
…
وأدرجه المقدار في كفن الفجر
لعمرك ما راحت بلبي صبابة
…
ولا نازعتني مهجتي سورة الخمر
ولا هاجني وجد ولا رسم منزل
…
عفاء ولكن هكذا سنة الشعر
ومن كان ذا نفسي كنفسي قريحة
…
من الهم لا يعني بوصل ولا هجر
كأني ولم أسلخ ثلاثين حجة
…
ولم يجر يوما خاطر الشيب في شعري
أخو مائة يمشي الهوينى كأنه
…
إذا ما مشى في السهل في جبل وعو
إذا شاب قلب المرء شاب رجاؤه
…
وشاب هواه وهو في ضحوة العمر
حييت بآمالي فلما كذبتني
…
قنعت فلم أحفل بقل ولا كثر
وأصبحت لا أبغي سوى الجرعة التي
…
أذوق إذا ما ذقتها راحة القبر
وقال في الشيب:
ضحكات الشيب في الشعر
…
لم تدع في العيش من وطر
يا بياض الشيب ما صنعت
…
يدك العسراء بالطرر
ليت سواد الشباب مضت
…
بسواد القلب والبصر
هن رسل الموت سانحة
…
قبله والموت في الأثر
أنت ليل الحادثان وإن
…
كنت نور الصبح في النظر
فالصبا كل الحياة فإن
…
مر مرت غبطة العمر
وقال في الإمام المرحوم "الشيخ محمد عبده":
بدأ وقد حفت به هيبة
…
كأنما عثمان في برده
ما فيه من عيب سوى أنه
…
محمد الناس على مجده
ما حيلة الحساد في نعمة
…
أسبغها الله على عبده
وقال يصف القلم:
يا يراعي لولا يد لك عندي
…
عفت نظمي في وصفك الأشعارا
يا يراع الأديب لولاك أصبـ
…
ـح حظ الأديب يشكو العثارا
غير أني أحنو عليك وإن لم
…
تك عونا في النائبات وجارا
أنت نعم المعين في الدهر لولا
…
أن للدهر همة لا تجارى
يتجلى في النفس شمس نهار
…
في دجى الليل تبعت الأنوارا1
جمع الله فيك بين نقيضـ
…
ـين فكان الظلام منه نهارا
فهو حينا نارا تلظى وحينا
…
جنة الخلد تنشر الأزهارا
وتراه ورقاء تندب شجوا
…
وتراه رقطاء تنفث نارا2
وتراه مغنيا إن شد حر
…
ك بين الجوانح الأوتارا
وتراه مصورا رسم الحسـ
…
ن ويغوي برسمه الأبصارا
فتخال القرطاس صفحة خد
…
وتخال المداد فيه عذارا
هو جسر تمشي القلوب عليه
…
لتلاقي بين القلوب قرارا
صامت يسمع العوالم منه
…
أي صوت يناهض الأقدارا
فهو كالكهرباء غامضة الكنـ
…
ـه وتبدو بين الورى آثارا
كم آثار اليراع خطبا كمينا
…
وأمات اليراع خطبا مثارا
قطرات من بين شقيه سالت
…
فأسالت من الدما أنهارا
1 النقس بالكسر المداد -والجمع أنقاس.
2 الورقاء الحمامة -الرقطاء حية خبيثة.
كان غصنًا فصار عودا ولكن
…
لم يزل يحمل الأثمارا
كان يستمطر السماء فحال الأ
…
مر فاستمطر العقول والغرارا
يسعد الناس باليراع ويلقي
…
ربه منه ذلة وصغارا
واشقاء الأديب هل وتر الد
…
هر فلا زال طالبا منه ثارا؟
أرفيق المحراث يحيا سعيدا
…
ورفيق اليراع يقضي افتقارا
ما جنى ذلك الشقاء ولكن
…
قد أراد القضاء أمرا فصارا
ليس للنصر من جناح إذا لم
…
يجد النسر في القضاء مطارا
حاسبوه على الذكاء وقالوا
…
حسبه صيته البعيد فخارا
أوهموه أن الذكاء شراء
…
فمضى يسحب الذيول اغترارا
يحسب النقد للقصيدة نقدا
…
ويرى البيت في القصيدة دارا
ليس بدعا من هائم في خيال
…
أن يرى كل أصفر دينارا
إن بين المداد والحظ عهدا
…
وذماما لا يلتوي وجوارا
فاللبيب اللبيب من ودع الطر
…
س وولى من اليراع فرارا