الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سعد زغلول:
المتوفى سنة 1347هـ-1927م.
بيئة سعد، ونشأته:
ولد "سعد" في قرية من قرى مديرية الغربية تدعى "إبيانة"، وكان أبوه "إبراهيم زغلول" عميد بلدته، من سراتها، ووالدة "سعد" هي السيدة "مريم" بنت "الشيخ عبد بركات" انحدرت من أسرة عريقة اتصل آباؤها بالولاة منذ "محمد علي الكبير"، وجمعتهم المصاهرة بأمجد البيوت في إقليمي الغربية والبحيرة.
وليس في سجلات المواليد تاريخ لميلاد سعد، ولكنه ذكر لبعض سائليه عن ميلاده أنه ولد في ذي الحجة سنة 1274هـ، أما التاريخ المرقوم بشهادة "الليسانس" التي حصل عليها من "باريس"، فيقال: إنه أول يونيه سنة 1890م.
ورث "سعد" عن أبويه بنية الفلاح، وصدق العزيمة وصلابة الحق، وعوجل في السادسة من عمره بوفاة أبيه، فحرم عطف الأبوه، وعوض عنه الاعتماد على النفس.
ربي "سعد" بعد موت أبيه في كفالة أخيه الأكبر الذي استطلع فيه منذ صغره مخايل الذكاء، وقرأ في محياه أمارات النباهة والطموح، فأدخله المكتب ليتعلم القراءةء ومباديء الدراسة، وحفظ القرآن كي يتهيأ لإشخاصه إلى الجامع الأزهر؛ ليتعلم به العلوم اللغوية والدينية.
دخل "سعد" مكتب القرية في السادسة من عمره، وانتهى منه في الحادية عشرة من عمره، وامتاز من أقرانه بخلتين لزمتاه طوال حياته هما الفهم
والعزم، فكان كما قيل يصحح ما يكتبه بعد قراءة واحدة، ويفرض على نفسه واجبا دونه ما يفرضه المعلم.
ولما أتم حفظ القرآن، وظل يتردد على الشيخ "أحمد أبي رأس" شيخ معهد دسوق الديني إذ ذاك، ويتلقى عنه دروسا في النحو والفقه، كما يتلقى أصول التجويد، ثم صحت النية على إيفاده إلى الجامع الأزهر ليجد فيه من الثقافة ما يتوق إليه، وقد طرب لرحلته إلى الأزهر، ووفد إليه إذ كان إصلاحه قد حان حينه، فقد كان ذلك في سنة 1871م، وهي السنة التي تولاه فيها الشيخ "محمد العباسي المهدي"، وشرع في إصلاحه وتنظيمه، وفي مطالع هذا العام قدم إلى القاهرة المصلح الخطير السيد "جمال الدين الأفغاني"، يحمل دعوته الجريئة التي ملأت الأذهان والقلوب، كان في الأزهر فريقان يتشاجران: فريق المحافظين على القديم المتشبثين به، وفريق النازعين إلى التجديد الداعين إليه.
نهل "سعد" من علم "جمال الدين" والشيخ محمد عبده، وكان له من الانتفاع بعلمهما، وتوجيههما أبلغ الأثر في حياته، وكان زملاؤه في الأزهر إذ ذاك من طبقة الشيخ "عبد الكريم سلمان" والشيخ أبي خطوة"، فقيض له من هذه البيئة ما شجعه على المضي في الإصلاح المنشود للأزهر، ودعى سعد للعمل مع هذه الطائفة على تحقيق الإصلاح المرجو، فكتب منشورًا علقه في جنح الظلام على أعمدة الأزهر يبين الداء ويصف العلاج، وقد قال حين رأى "الأفغاني" لأول مرة هذا يغبتي"، ومما روى أن "السيد جمال الدين استكتب تلاميذه موضوعا عن الحرية، فبذ سعد أقرانه بكتابته، وأعجب "الأفغاني" به حتى قال "من علامة نشأة الحرية في هذه الأمة ألا يجيد الكتابة فيها إلا ناشئ كهذا الفتى".
كان جمال الدين زعيما اجتماعيا مصلحا، البيان أقوى دعائمه، وأبلغ أسسه وتلاميذه، وشيعته يجرون معه في هذا المضمار، ومن ثم قد دلف سعد إلى هذا الميدان، وأقبل على الخطابة والكتابة، وتوفر على المطالعة قوى الرغبة صادق
العزم، وما هو إلا أن قرأ كتاب "ابن مسكويه" في تهذيب الأخلاق، فقام بتلخيصه وهو حدث لما يناهز العشرين، ثم نشط للكتابة في الصحف والخطابة في المجامع، ثم عين رئيسا للقسم الأدبي، بالوقائع المصرية ثم أشرقت كفايته، وتجلت مواهبه وظهرت قدرته على نقد الأحكام، وفهم القانون، فانتقل إلى وظيفة معاون بوزارة الداخلية، فنظر لقلم قضايا الجيزة.
ثم اندلعت الثورة العرابية، فكان ممن أشعلوا نارها وخاضوا غمارها وهنا يبدأ جهاد تتقد فيه عزيمته، وتكبر رجولته.
اشترك سعد في الثورة بقلبه الكبير وعزمه الجبار، وناله من أذى الاعتقال وفقد الوظيفة ما ناله، ولما نفي أصحابه الثائرون خطر له أن يعود إلى وظيفته، أو يجد في الحكومة عملا فلم يقيض له ما أراد، وإذ ذاك رغب في المحاماة على ما كانت توصم به إلى هذا الحين من التطاول والفحش، واتخاذها تجارة قد يكون ربحها بغير الشرف والعفة، وكأنه كان يريد أن يهيئ لها كرامة وشرفا جديدين.
ثم اتهم بأنه ألف جماعة سرية سماها "جماعة الانتقام" لتقتل الجواسيس الذين خانوا الثورة العرابية، والرؤساء الذين نكلوا بالعرابيين فألقي القبض عليه، وعلى الرغم أن دليلا لم يقم على اتهامه ظل معتقلا أكثر من ثلاثة أشهر؛ لأن النية كانت متجهة إلى نفيه للسودان.
سعد المحامي 1:
عاد "سعد" إلى المحاماة بعد خروجه من السجن، فكان الآية الناطقة بالكرامة، كما كان أبلغ الأمثال في قوة الحجة، ورصانة الجدل ورسوخ المادة، واتزان المنطق وانطلاق اللسان، وحسن الأداة وشدة العارضة، والعفة في القول ودقة الاستنباط وصحة الاستدال، وقد سأله "أحمد بليغ باشا" في لجنة الامتحان عن واجبات المحامي، فقال:"درس القضية جيدا والدفاع عن الحق، واحترام القضاء".
كان ذلك هدفه في المحاماة لم يقم عن الباطل مدافعا، ولم يقف للحق قصما، وما تكفل بقضية إلا وهو دارس متأهل ليدافع عن بينة، وما درس قضية فوجد فيها القضاة، أو وكلاء النيابة، أو الخصوم ثغرة ينفذون منها إليه، ومن عجيب أنه إذا لاحت له فرصة للصلح انتهزها، وشجع موكله على المضي فيها ورد له "مقدم الأتعاب" الذي كان يقيده في "باب الأمانات" حتى إذا توفرت أسباب الصلح رد المال للموكل، وقال: هذه أمانتك ردت إليك".
سما "سعد" بالمحاماة، وبلغ بها أقصى درجات العظمة والكمال بلاغة وقوة وبرهان، وأمانة عمل هي أسمى ما ينشده الشرفاء لهذه المهنة، والقائمين عليها وكان سعد تمثل في قضية الفرد قضية الأمة، وألهم أن لليوم ما بعده، فشرف في المسلكين، ووفى في القضيتين.
1 مع أنه لم يكن يشترط في مزاولة المحاماة إجازة عليه بل مجرد امتحان يعقد في المحكمة يسوع النجاح فيه الاشغال بالمحاماة، ترى سعدا قد جد في تعلم الفرنسية، وما زال يتعلم في فرنسا في كل عام ليكتمل في مواد القانون، حتى أحرز شهادة الحقوق "الليسانس" من إحدى كلياتها.
وإنك لترى أثر الأزهر واضحا فيما تميز به "سعد" المحامي، فقد نضحت عليه البلاغة، وطلاقة اللسان، ودقة البحث وغزارة المادة، وترتيب المنطق، وتلك من أهم ما يمتاز به الأزهريون، وكان من خصائصه الأمانة والنزاهة اللتان هما من ألزم الصفات لرجل نشأ في ظلال البيئة الدينية.
على أن دراسة الأزهريين، والتفرغ فيها بالتروي، والمثابرة للوصول إلى النتائج، والتقصي الدقيق الذي هو من لوازم الدراسة الأزهرية كان من أقوى الأسباب التي أنجحت "سعدا" في مهنة المحاماة، وجعلته سيد المحامين جميعًا.
سعد القاضي:
ظل "سعد" يزاول المحاماة ثماني سنين، أو تسعا كان فيها المثل الأعلى في الإيمان والبيان، ثم سعى له أستاذه الشيخ "محمد عبده"، فعين "سعد" نائب قاض بمحكمة الاستئناف، وظل يرتقي في مناصب القضاء بما يعد طفرة ووثوبا، وقد ابتهج المحامون والقضاة بتعيين "سعد"، وكان في قضائه كما كان في دفاعه لم تسم إليه ريبة ولم يدنس يوما بظن.
سعد وزير المعارف:
كانت الأفكار مبلبلة والخواطر هائجة، والمصريون يضمرون للإنجليز شرا؛ لأن الإنجليز بدأوا بالشر، وبيتوا لهم أمرًا؛ لأن بني التاميز جاءوا بشيء إمر، وذلك عقب حادث "دنشواي"، واتجهت سياسة الاحتلال إلى تهدئة الخواطر، وتنحية النهم التي اكتنفت النيات البريطانية، وخاصة ما اعتقده المصريون من
أن الإنجليز يصدون عن تعليمهم، وينحون الشباب المصريين عن التربية الصالحة والثقافة النافعة، خشي الإنجليز خطر ما في الصدور، ورأوا خلل الرماد وميض نار، فعملوا على تهدئة الخواطر وتسكين الفتن، وكان أول ما فعلوه أن دعى سعد ليتولى وزارة المعارف، وهو الذي جاهر بنقد التعليم في مصر وصاح صيحات متصلة مطالبا بإصلاح التعليم، وكان في طليعة الذين أسسوا الجامعة المصرية، ولم تكن هذه أول مرة عرض فيها اسم "سعد" لتولية الوزارة، فقد كان من المصريين المعروفين بالنزاهة والفصاحة، وكان يخشى خطره من طول ما ينادي به في إنهاض الأمة والعمل على رقيها، كان ترشيحه للوزارة من المطالب التي اشترك في طلبها المستر "بلنت" الشاعر الأرلندي المستشرق، "والشيخ محمد عبده"، و"محمد المويلحي بك" في سنة 1891م، إذ كتبوا بذلك خطابا إلى "اللورد كرومر" ذكروا فيه اسمه مع تسعة آخرين من زعماء من الناهضين.
ولي "سعد" وزارة المعارف سنة 1906، وكانت من قبله بيد المستشار الإنجليزي "دنلوب" يصرفها على هوى الاستعمار ومذهبه، ويؤازره في ذلك أعوان فرنسيون وانكليز، ويؤيده صنائع الاستعمار من المصريين الضعاف النفوس الذين رأوا السلطان في يد المحتل، فهابوه ولم يرقبوا في الوطن إلا ولا ذمة.
أقام "سعد" في وزارة المعارف قرابة ثلاثة أعوام غير فيها وجه التاريخ، ومضى في عمله قويا جبارا ذا شخصية، ورأي ووطنية، وطامن بسطوته بغي المستشار فلم يحس له من أثر، ولن ينسى له الزمان أن نقل التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، وقيض للدراسة ما تتطلبه من الكتب العربية النافعة، ومهد السبيل لتحقيق هذه الغاية، فترجمت كتب العلم الحديث إلى العربية، ونشط المتعلمون للتدريس، والتأليف فيها1.
1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص294.
وزود المدارس بطائفة من المدرسين ليعاونوه على نشر الثقافة في صورتها العربية الجديدة، ونقل التعليم إلى مرحلة نافعة مثمرة بعد أن ظل جامدًا في ظل الاحتلال والعبودية.
وكان من آثار "سعد" في وزارة المعارف أن أنشأ في سنة 1907م مدرسة القضاء الشرعي على نظام بديع وطريقة مثمرة، فخرجت طائفة من العلماء البارزين، والقضاة النابهين استمدتهم من نابغي الأزهريين.
كما أثبت وجود المصريين في الوظائف الضخمة بعد أن لم يكن له ظل فيها، وهيأ لهم وظائف الإدارة، والتفتيش واختار منهم وكلاء للمدارس الثانوية تمهيدا لترقيتهم إلى وظائف النظار، وما بعدها.
ولا ينبغي أن تتجاهل الروح المعنوية، والقوة الهائلة التي سكبها في نفوس المصريين من الاعتداد بالنفس والتربية الوطنية الصالحة، واستماعه لكل شكاة وإنصافه كل مظلوم.
سعد وزير الحقانية "العدل":
استقالت الوزارة الفهمية التي كان "سعد" وزير معارفها في أواخر سنة 1908م، وكانت وزارة الحقانية نصيب "سعد" في الوزارة التي خلفتها، وكان الغرض من إسناد "وزارة الحقانية""لسعد" التحجير عليه، وتفادي الخلف معه؛ لأنها وزارة التشريع والقضاء، وهما من أعمال مجلس الوزراء مجتمعا لا من عمل الوزير وحده، والقضاء من عمل المحاكم، ولا شأن للوزير به إلا الإشراف من بعد عليه، وإذن فقيام "سعد" على هذه الوزارة يراد منه نشدان أمنه، وسلامه وتلافي ما يثيره وحي شخصيته، ووطنيته من عقبات ومشاكل.
ولكن سعدًا عاش في هذه الوزارة يحمل معه نفسه وطريقته، وظل يلبي ضميره، ويعمل برأيه وتصرفه الخاص، فجد في إصلاح نظم القضاء، وتعقب القوانين القائمة بالتهذيب، والتعديل حتى أصبحت تساوق الحاجة، وتدارج روح العصر.
حفظ "سعد" للمحامي كرامته، وللقاضي حرمته، ولم يعبأ برأي متبع أو عرف مألوف، ووقف العدالة من كل مظلوم، ولم يتراجع، ولم يقف عند حد الحذر والمجاملة حينما عرضت قضية من القضايا لمصادمة مرهوبة جمعت عليه كل قوة من البلاد المصرية؛ لأنها مصادمة المال، ومصادمة "اللورد كتشنر"، ومصادمة الأمير "عباس الثاني"، وهما قابضان على كل قوة فعلية، أو شرعية في الحكومة1.
وقصة هذه القضية أن أميرة مصرية تزوجت من فتى رومي مسيحي، فصدر أمر "الخديو" بمحو اسمها من الأسرة، وإحالة ملكها إلى قيم يشرف عليه، ويقدم حسابه إلى وزارة الحقانية، وكان هذا القيم من رجال الخديو، وكان إلى جانب ذلك من الأصدقاء المقربين من "كتشنر" يصاحبه في غدوه ورواحه، ويقضي معه شطرًا من شئونه، فقد اجتمع الخديو و"اللورد" على حبه تقديره.
لاحظ "سعد" في حساب هذا القيم أثناء مراجعته خللا ظاهرا استوقفه، واستغضبه فأشار بعزله، وإذ ذاك عز على "كتشنر" أن ينال ذلك أحد الأوفياء له، وأن تذاع الهزيمة القاصمة للرجل الجبار، فاستعدى على "سعد" حكومة "لندن"، وبينما يترقب الرد وقعت بينه وبين "سعد" مشادة عنيفة خرج "سعد" منها ثائرا محنقا، وقدم على إثرها استقالته.
وإذا كان بعض الناس يخضعون للمناصب، ويغضون الطرف عن بعض
1 سعد زغلول للأستاذ عباس العقاد ص28.
الحقوق في سبيلها، فإن "سعد" كان الأسد حق الأسد، سما بالمناصب فجعلها أسباب خلوده، وسجل فيها كريم وقفاته وروائع جهوده.
مراحل جهاده:
صدر القانون بإنشاء الجمعية التشريعية، وتطلعت إلى التمثيل فيها مواهبه، واستشرقت إلى منبرها فصاحته، ونزل ميدان الانتخاب بعيدا عن الأحزاب لكنه وحده القوة الهائلة، وقد خطب في ناخبيه فشرح لهم بمنطقه الخلاب رسالته في الجمعية، وما هو فاعل لو توجوه بثقتهم "ولأول مرة في تاريخ الانتخابات بمصر سمعت الخطب الانتخابية، وتقرب المرشحون إلى الناخبين ببيان الخطط التي ينوون اتباعها1".
ظفر "سعد" بالنجاح مع أنه رشح2 نفسه في دائرة من دوائر العاصمة، وكان في هذه الجمعية شعلة متقدة يخشى خطرها، وكان فيها وفي مجلس النواب بعدها يمثل صفاء الذهن، وإشراق الفكر فياض البيان، بليغ الأداء جم الأدب، عفيف اللسان، وقد قال عن نفسه في هذا العدد:
"لست شتامًا بل أقر وأعترف أمامكم بأنني عاجزًا أمام كل شتيمة، فليس لي مطلقا قوة في هذا الميدان تدفعني، لأن أنازل فيه أضعف إنسان
…
".
شبت الحرب العظمى، واندلع لهيبها في البلاد وأعلنت الأحكام العرفية، ثم الحماية على مصر ونقض الإنجليز ما عاهدوا المصريين عليه، وضيقوا الخناق على الأحرار، واسترسلوا في الكيد والأذى والانتقام، فدعا سعد ناديه، ونفخ في الأمة من روحه، وهو العلم الخافق والصوت المدوي، وفي
1 سعد زغلول للأستاذ عباس العقاد ص155.
2 فلان يرشح للملك يربي، ويؤهل له "قاموس".
هذه الغاشية، وتلك الوحدة المجمعة، تألف الوفد المصري من أعلام الجهاد والوطنية، وكان "سعد" زعيم هذا الوفد ينفحه القوة من مضائه، والحكمة من بلائه، وكان يقول قبل نفيه من مصر بأسبوعين لا بد لنا من قارعة، وما هي إلا أيام قلائل حتى أعلن الإنجليز رغبتهم في تنقية الجو المصري من سعد، فنفي إلى "مالطة"، ومع نفر من أصحابه.
الثورة الجامحة:
سرى هذا النبأ فاندلعت الثورة في كل مكان، وفي كل وجدان، وكانت ثورة قومية انتظم في عقدها طلبة الأزهر والمدارس، وأفراد الشعب مسلمين ومسيحيين.
وبدأت السلطات تسرح "سعدًا"، وأصحابه فشخصوا باريس "مثوى مؤتمر الصلح"، حيث وافاهم أعضاء الوفد جميعا، ولما لم يلق هذا المؤتمر لقضية مصر بالًا عاد بعض الأعضاء، وبقي "سعد" في "باريس".
وفي سنة 1920 شخص إلى "لندن"، ومعه بعض زملائه بدعوة من الحكومة البريطانية لمفاوضتها في المطالب المصرية، وكان الإنجليز ممثلين في لجنة يرأسها لورد "ملنر"، ولتشدد الجانب المصري في حقوقه لم تثمر هذه المفاوضات، فعاد الوفد إلى مصر، واحتفلت به الأمة "كأنها طائر مد جناحيه لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله على كله1".
وظل سعد مدوي الصوت موصول الثورة حتى اضطرت السلطة إلى نفيه ثانية مع بعض رفاقه إلى جزيرة "سيشل"، فلبثوا بها مدة نقل "سعد" بعدها إلى جبل طارق، وأطلق من معه فشخص هو إلى "فرنسا"، فمكث بها مدة، ثم
1 من مقال للمرحوم مصطفى صادق الرافعي في الرسالة العدد 147.
عاد إلى البلاد المصرية حيث كان الجهاد قد آتى شيئا من أكله، فحصل على تصريح من الحكومة البريطانية في 28 من فبراير سنة 1922م يخلي بين مصر وشئونها، ويعترف فيه بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، إلا أن الإنجليز احتفظوا لأنفسهم ببعض الشئون، وأعلن أثر ذلك الملك فؤاد استقلال مصر، ثم أصدر "الدستور" في سنة 1923، وكانت هذه خطوات موفقة في سبيل الاستقلال، وبواكير طيبة من ممار الحرية لولا أن إحدى اليدين تسلب ما أعطت الأخرى.
وفي مطلع سنة 1924 ألف "سعد" وزارته الشعبية حيث ظفر بالأغلبية النيابية، ثم اعتزل الوزارة في ذلك العام، وأسندت إليه رئاسة مجلس النواب، وظل فيها حتى أغمده المنون في 22 من شهر أغسطس سنة 1927، فجزعت نفوس، وفزعت قلوب، وكان رزء مصر به أجل رزق، وخطبها بوفاته أقدح خطب.
زعامة سعد:
لو تفرس الناس في "سعد" منذ صباه لطالعتهم زعامته المشرقة، ولو تفطنوا إلى مواهبه حدثا لاجتلوا رجولته الناطقة، ذلك؛ لأن "سعدا" لم تواته الزعامة بعد خمول وقعود، ولكنه شب كالزهر الناضر فواح الشذى ريان العود، ولم تكن زعامته رأيا واتاه في مصادفة الحوادث فجن به، وافتتن بل كانت إحساسا يخالط جوانحه، ويقينا يملأ جوارحه.
كان الجهاد معنى في نفسه، والعظمة دما في جسمه، والقوة جوهرا في إرادته والحرية صرخة في دمه.
عبد "سعد" الطريق الحياة الكريمة لمصر، وعلم الجيل كيف يفنى في سبيل المجد ليعيش ماجدًا، وكان يجاهد لا لمعاصريه بل لمن بعدهم، ويوقظ الجيل
الحاضر والمستقبل معا، ويعمل لتنهض مصر في اليوم والغداة، قال له الشيخ "المنفلوطي" في يوم من أيام جهاده في الجمعية التشريعية: ما الذي تستفيده يا مولاي من إجهاد نفسك في شئون قلما تنال فيها الأغلبية في الجمعية؟ فأجاب جواب الرجل الذي يعرف أين هو من عمله، ويعرف السلاح الذي يستخدمه في نضاله: سواء لدى أنجحت أم لم أنجح، فإني لا أخطب في الجمعية التشريعية وحدها بل في الأمة جميعها، ولا أخاطب الحاضر وحده بل أخاطب المستقبل أيضًا1.
تفتحت عيناه على هضيمة مصر وتهدج في سمعه صوت الحرية المخنوق، وهاله أن يكون الوطن أسلابا يغنمها الدخيل.
لقد تمثلت زعامة "سعد" في ثورته المبكرة التي أذكى روحها الأفغاني والإمام، فشب وهو حدث متمردا على كل فاسد، فإنه ليأبى وهو طالب بالأزهر مسايرة الجمود في بعض نواحيه، فيصيح فيمن يصيح طالبا الإصلاح والتهذيب.
ثم تبدت زعامته في كل ما كان يكتبه، وهو طالب في مستهل صباه، ثم كانت الزعامة فيه محاميا منزها، وخطيبا مفوها وقاضيا عادلا ووزيرا مناضلا، ثم مجاهدا جبارا يوقظ الأفئدة المصرية، فلا يعيش أحد في عهده بغير روح ثائر وقلب خافق.
دعا فتجاوبت الآفاق بدعوته، وهتف فرددت القصور والأكواخ هتافه، واستجابت لرغبته، وأنشد نشيده العذب فكان للعقول غذاء:
إنما تنجح المقالة في المر
…
ء إذا صادفت هوى في الفؤاد
لقد صنع هذا الرجل العظيم ما تصنع حرب كبيرة، فجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتناقض، ودفعها بروح قومية واحدة لا تختلف، وجعل
1 سعد زغلول للعقاد ص149.
عرق السياسة كما يفور العرق المجروح من الدم1.
وكانت زعامته قدوة المجاهدين في الشرق، فنهجوا نهجه وجروا مجراه، وقد قال غاندي زعيم الهند:"على هذا التقدير يكون سعد هو صاحب الفضل في السبق والابتداء، ثق أن الحركة الهندية سارت على أعقاب الحركة المصرية، إني اقتديت بسعد في إعداد طبقة بعد طبقة من العاملين في القضية الهندية، فلا تعتقل طبقة منهم إلا لحق بها خلفاؤها على الأثر، وعن سعد أخذت توحيد العنصرين، ولكني لم أنجح كما نجح فيه، إن سعدًا ليس لكم وحدكم، ولكنه لنا أجمعين2".
دعابته وبديهته:
من مستلزمات الزعيم أن يكون ذا دعابة تروح عن النفوس إذا لفحها حر السياسة، وبديهة ينفذ بها من المفاجآت والمآزق، وكثيرا ما يخيم في جو السياسة سحائب من الكآبة والهموم، فيبددها الزعيم بمزاحه المحبب ودعابته العذبة، وكثيرا ما تكون بديهته سلاحا يتقي به ما يحرجه، ويدفع به ما يسوءه، والزعيم القوي هو الذي يملك مواقفه، ويسيطر عليها فينشر في الجو فكاهة إذا شاء، ويكون ذا بديهة يلوذ بها ويعتصم، وكان سعد في الأمرين الزعيم كل الزعيم.
فما روي من دعابته أن صحفيا إنجليزيا أنبأه أن "اللورد جورج لويد"
1 من مقال للمرحوم صادق الرافعي في العدد 174 من مجلة الرسالة.
2 روى ذلك موظف مصري كبير لقيه غاندي في لندن حيث زارها لحضور المؤتمر الهندي فيها، والقصة في كتاب "سعد زغلول" للأستاذ العقاد ص506.
صاحب الأزمات المعروفة يقول: "إن صحة سعد باشا تتقدم على الأزمات" فقال "سعد" للصحفي: قل له "ربنا يطيل عمره".
وجاءه من أنصاره في أثناء احتدام الخلاف بين الوفد، وإحدى الحكومات فشكا إليه من أنهم فصلوه، ولم يجن ذنبا بعد أن قضى سبعة عشر عاما في منصبه، فابتسم سعد وقال:"وهل ذنب أكبر من ذلك"، أو لم تسمع بعذر الرجل الذي طلق امرأته بعد عشرة طويلة في صفاء ووئام؟ طلقها فراحت تشكوه، وتعتب عليه ما ذنبي يا فلان؟ أبعد خمسة وعشرين سنة تفعل هذا؟ قال لها: مهلا يا أم فلان هداك الله، وهل ذنب أكبر من خمس وعشرين سنة في عيشة لا تتغير؟
وقيل له: إن صحفيا ممن يهاجمونه مريض فسأل: ماذا أصابه؟ فقالوا: عسر هضم ومغص معوي1، فقال: لعله بلغ مقالة من مقالاته.
ومن بديهته التي كانت توائيه عفو الخاطر، ووحي الساعة أن خصومه كانوا يدسون عليه في المكان الذي يخطب فيه من يحدث الشعب في أثناء خطبته. وكان هذا الكيد عسير العلاج إذ إن الجمهور يحار في أمر الشاغبين، فلا يستطيع الضرب على أيديهم حرصا على روعة المقام، وجلال الموقف، وقد تمادى يوما أحد هؤلاء، وضاق الناس به ذرعا فأخذوا بتلابيبه، وهم مشفقون على هدوء الحفل ولا يدرون ما يفعلون، ولكن "سعدا" تساعفه البديهة، فيقول:"لا يضرب في بيتي"، ويترك مقام الخطابة، وفي اللمحة الخاطفة يفهم الناس، ويفعلون وينقطع كيد الشاغبين فلا يحاولون.
وقال لبعض الحاضرين في مجلسه عقب عودته من المفاوضة مع "مستر ما كدونالد"، ماذا تروننا صانعين في مواجهة الإنجليز؟ فقال أحدهم: الإضراب
1 المعي بالفتح وكإلى من أعفاج البطن وقد يؤنث، ج أمعاء، والعفج وبالكسر وبالتحريك، وككتاب ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ج أعفاج قاموس، فكأنها منسوبة إلى "معي".
العام يشترك فيه الموظفون حتى تجاب مطالب البلاد، فقال "سعد": وهل يقع هذا الإضراب؟ فقال بعض الحاضرين: يقع عاما، فقال فريق: يقع في بعض الجهات، وخالفهم آخرون، فقالوا: إنه لا ينتظر ولا يطول. فقال سعد: "الدليل على أنه لا يقع ولا يصعد طويلا إن وقع أنكم مختلفون فيه"، إن هذه الحركات لا تأتي إلا عفوا، وعندما يكون الجو مهيأ لن تختلفوا فيه بل تجيبوا بلسان واحد: إنها أمر واقع لا ريب فيه.
سعد الأديب:
كان لسعد فطرة الأدب، وموهبة البيان، وملكة النقد، اتفق له من روعة الخطابة ما تسامى إلى الإعجاز، وكان له الأسلوب الكتابي الرائع، وله في إصلاح الكتابة يد من أسبق الأيدي إلى التجديد في العصر الحاضر، ولم تشغله السياسة مع احتوائها مشاعره، وخواطره عن العناية باللفظ واختيار المعنى، وتجويد الأسلوب، وكانت له في الأدب حصافة رأي ورجاحة فكر وأصالة قول.
وكانت مجالسه تضم الأدباء والكتاب والشعراء، جرى أمامه الحديث في أساليب بعض الكتاب، فقال رحمه الله:
"إنني أتناول أساليب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس بها في الصياغة والتركيب، ولكنني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها، فلا أخرج منها بنتيجة، ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها، فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون بالمفرق، ولا يبيعون بالجملة".
وتحدث يوما عن الإيجاز والإطناب، فقال:
"إن الإيجاز متعب؛ لأنه يحتاج إلى تفكير وتعيين، ولكن الإطناب
مريح؛ لأن القلب يسترسل فيه غير مقيد ولا ممنوع".
وقص قصة رجل كتب إلى صديق له رسالة مسهبة، ثم ختمها بقوله:"اعذرني من التطويل، فليس لدي وقت للإيجاز، ثم قال سعد: "إن هذا الاعتذار قد يبدو عجيبا لمن لم يمارس الكتابة، أما الذين مارسوها فهم يعلمون صعوبة الإيجاز وسهولة التطويل".
وذكرت أمامه المحسنات البديعية، والتهالك عليها فقال:"إن المحسنات حلية والشأن فيها كالشأن في كل حلية ينبغي أن تكون في الكتابة بمقدار، وإلا صرفت الفكر عنها وعن الكتابة، وعندي أن المقال الذي كله محسنات كالحلة التي كلها قصب لا تصلح للبس ولا للزينة".
وتحدث في مجلس ضم "حافظا والعقاد" و"صروفا"، ونخبة من أعلام الأدب فقال:"إن عيب صاحب هذا الكتاب كثرة الاستعارة"، ثم قال:"ما أظن صاحبه يريد ما يقول؛ لأن الذهن الذي يملك معناه عبارته بغير حاجة كثيرة إلى المجاز"، إنني أفهم الاستعارة للتوضيح والتمكن، ولكني لا أفهم أن تكون هي قوام الكلام كله، وكل استعارة عرفت وكثر استعمالها أصبحت كلاما واضحا، وذهبت مذهب الأفكار المحدودة؛ لأن الذهن يطلب الاستعارة ليستعين بها على التحديد، فإذا وصل إلى التحديد كان في غنى عن الاستعارة، وعن المجاز1.
أما حديثه عن الشعر والشعراء، فإنه مقل فيه؛ لأن نفسه لم تستجب للشعر روي عنه أنه قال:"إنما أحب الشعر السهل الواضح البين، أما الشعر الذي يحوجني إلى التنجيم فلا أستطيبه"، وكان يرى أن شعر الحكمة أفضل الشعر وأعلاه ويقرأ للمتنبي ويحفظ له أبياتا كثيرة، ويستشهد بها في بعض الأحاديث
1 روى عنه هذه الآراء الأستاذ العقاد، وأذاعها فيما كتبه في البلاغ الأسبوعي لسنة 1927 بعنوان "آراء لسعد في الأدب".
ومن الشعر الذي كان يجري على لسانه، ويستشهد به قول أبي العلاء المعري:
هذا كلام له خبئ
…
معناه ليست لنا عقول
ومنه بيت عبد الله بن الزبير يريد مالكا الأشتر النخعي"
اقتلوني ومالكا
…
واقتلوا مالكا معي
وقول البارودي:
خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة
…
علي يدا أغضى لها حين يغضب
ومنه هذه الشطرة:
بو بغير الماء حلقي شرق
وبقية البيت:
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ومن رأيه من الأدب أيضا أنه لما كتب العقاد في كتابه: "مراجعات" عن المنفلوطي، وفضل الكتاب على المنشئين قال "سعد": إن الإنشاء فيما يبدو له أعلى من الكتابة؛ لأن الإنشاء خلق وابتداع، ولا يشترط في الكتابة أن تكون كذلك فالمنشئ كاتب وزيادة، والكاتب يأتي بشيء من عنده، وقد يأتي ببضاعة غيره.
هذه آراء لسعد في البيان والأدب، وأوردناها لندل على أنه أديب لم يقتصر أدبه على ما ذاع من براعته، وتفوقه في الخطابة.
ومهما يكن شيء فإن سعدا أعان على أسباب النهضة الأدبية، فإنه حرك عواطف أمه، وأيقظ أفئدة شعب، واستنهض بثورته السياسية الأقلام والألسن، وجعل من الصحف أسفارا أدبية قيمة، فهذه صحف الوفد تدعو دعوتها، وتبسط رأيها، ويجري على صفحاتها أسلوب الأدباء والكتاب البارعين، وتلك هي الصحف المعارضة تساجل صحف الوفد، وتذهب في رأيها السياسي مذاهب، فيحتدم خلف في الرأي، وتشتد ملاحاة في الفكرة، ويتبارى في هذا المضمار أعلام الأدب والبيان، ويمتعك من كل فريق شعر شعرائه..
وتلك هي الأندية السياسية كان فيها صيال بالخطب، وسجال البيان يتنافس فيها الأحزاب، ويجود فيها السياسيون والمتأدبون، فانفكت عقد الألسنة، ونشطت الأفكار والقرائح، وزخرت المنشورات والنداءات السياسية بأدب حي وبيان خصب.
ومن آثار سعد الأدبية أن خلف ثروة من الكلمات الأدبية الخصبة تناقلها الناس وجرت مجرى الأمثال، كقوله:"أخجلتم تواضعي"، وكقوله في وصف بعض خصومه:"النكرات الشائعة والإمعات الضائعة".
ومن تشبيهاته الرائعة ما حديث به بعد عودته من منفاه عن تصريح 28 فبراير على أسلوبه في سرد الأمثال إذ قال: "هو ناقة البدوي التي تباع بمائة درهم، وتباع التميمة التي في رقبتها بألف، ولكن لا تباع الناقة بغير التميمة فما أملحها من صفقة لولا الملعونة في رقبتها".
ومن كلماته الشائعة: "الأمة مصدر السلطات، الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة، ويعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل، وأن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون".
"يظهر لي أن العدالة الحقيقية لم توجد حتى اليوم في أي قانون من قوانين العالم، وإنما تتفاضل القوانين فيما بينها بالعدالة النسبية".
"ليس للحكومة أن تغضب كلما قلنا لها: إنها مخطئة، فإننا ما جئنا هنا لننبهها على خطئها".
"إن الحكومة لم تحتكر الصواب لنفسها، فلا ينبغي لها أن تستنكر مخالفتنا لها في رأيها، بل إن وقوع الخلاف بيننا وبينها لازم من لوازم وجودها معنا، وعرض مشروعاتها علينا، بل إنها في حاجة إلى وقوع ذلك الخلاف؛ لأنه هو الذي يكشف لها الصواب فيما يلتبس عليها وجه الصواب فيه من أعمالها، ويوصلها إلى الحقيقة".
سعد الخطيب:
خطابة سعد أبلغ معجزاته، وأروع آياته، وأبرز صفاته، فقد كان خطيبا ساحرا، يخلب الألباب، ويهز المشاعر، ولم تر مصر بل الشرق في التاريخ الحديث مثل سعد خطيبا ندي الصوت، بليل اللسان، زاخر الخاطر، رائع البيان.
كان جم البديهة، قاهر الحجة، بليغ اللهجة، يؤثر بفصاحته وسمته وهيمنته ويلائم بين الإقناع والامتناع، ويتصرف في أفانين القول، وغرائب الفكر، وأطايب البيان برقة أسلوبه، وجمال إيقاعه وتطريبه.
يبلغ النفوس العاتية فتخضع، والرءوس المكابرة فتخشع، ويسمعه المظلوم فيثور، والظالم فيكاد يتقد غيظا، وبينما تراه هادئا كتغريد الطير إذا بك تراه هائجا كغضبة البحر، يجذب السامعين إليه، ويطيعهم على شعوره وإحساسه. فيضحكون مرة ثم يبكون أخرى، ويطمعهم ثم يؤنسهم، فما يزال يطوع أفكارهم، ويلين قيادتهم حتى لا يدع لهم إرادة، وذلك من بعض سحرة وأخذه.
أما بديهته، وأما دعابته وجاذبيته فهو في كل ذلك آية الآيات.
كان عذب المنطق، مسلسل الفكر، مجود العبارة، صحيح الإعراب، غزير العلم، يخطب فيهدي إليك ما يطربك من السياسة والقانون والأخلاق.
وقد أنكر عليه خصومه كل مواهبه، ونالوا من فضائله ونواحي عظمته ما نالوا، ولكن واحدا منهم لم ينكر عليه فصاحة منطقه، وروعة خطابته، وقوة أسره، وعظيم تصرفه في البيان.
ولقد يكون سقيما نهكته العلة، وليس له من القوة ما يمكنه من الحديث، ولو خفض الصوت ولم يكثر، ولكنه يحن إلى الخطابة على رغم دائه، ويلج به الشوق لها، فإذا به ينسل من علته، ويتهادى على إعياء إلى منبره، ثم
يبدأ على ضعف واحتباس صوت، فما يزال يعلو ويسترسل، ويرتفع ويجلجل حتى لتراه في أشد ما يكون قوة وفتاء، فكأنما لم يصبه من الداء قليل، ولا أقل من القليل.
عاد من رحلة إلى الصعيد مكدود الجسم مجهود القوى، ورأى الأطباء أن يجافي الضجة، ويؤثر الصمت والراحة، فلما حان الاحتفال بذكرى عيد الجهاد القومي ألح في أن يحضر الاحتفال فتوقف الأطباء، ثم أدنوا على غضاضة على أن يكف عن القول مهما أوجز، وعهد إلى بعض زملائه أن يروي في الحفل جانبا من حديث الرحلة وعمل الحكومة، فقام أحد محامي أسيوط ليشرح ما طلب له، ولكنه استغضب بلاغة سعد واستنفر بيانه، وحرك فيه الخواطر فاندفع إلى المنبر بين شوق والحفل وإشفاقه، وارتجل خطابا ملهما ضاقت عنه ساعات ثلاث حتى كأنه استعاد شبابه واسترد صباه، ولم يكن به أثر من علة.
وكان سعد بليغ الارتجال تفد إليه الوفود، وتفجأه المواقف فيصول ما شاء مرتجلا وهو الفصيح البيان، والمنطق اللسان، الخصب الذهن، القوي المنطق، ولم يعرف عنه يوما ما أن غلبه موقف أو ارتج عليه في جمع، أو خانه بيانه، وخذله لسانه.
وكان يطرب إلى الخطابة خطيبا كان أو مستمعًا، وأول ما كان يتطلع في زائريه أن يستمع إلى خطيب منهم ذي فصاحة وبيان حتى ليسأل الوفد الزائر عن خطيبه حين مقدمه، فإذا لم يلق في الوفد خطيبا هز منكبيه، ولم يظفروا بترحيبه.
ذكر الأستاذ "البشري" أنه كان بحضرته، وقد مثل أمامه وفد من الوفود، فمد بصره إليهم وقال: من خطيبكم؟ فلما لم يصب فيهم خطيبا كاد يعرض عنهم لولا حاجته إلا مناصرتهم، لذلك تقربت إليه الوفود بالخطباء، وشاع في نفوس النشء حب الخطابة تشبها بسعد، فكثرت الخطباء، وفي كثرتهم
مظهر من مظاهر النهضة الوطنية المباركة، فسعد مدرسة لا تقفل أبوابها يؤمها الطلاب من أنحاء القطر1.
وقد تأثر الخطباء بسعد، فنهجوا نهجه في اختيار الأسلوب، وتجويد العبارة، والميل إلى السهولة والسجاحة، وقد كان ذلك الوضوح في خطابة سعد، ومتابعة الخطباء والسياسيين له في هذا المنحى من ملائمات السياسة؛ لأنها تعتمد على هز المشاعر وتوضيح الغرض، والحث على الجهاد، ولا يتفق مع ذلك التعقيد والالتواء والالتجاء إلى التعالي والإغراب.
وكان من أثر النشأة الأزهرية في سعد الخطيب أن جاءت خطبة قوية النسج، صحيحة الإعراب، قوية الحجة، منطقية في سياقها وتسلسلها.
وأول خطبة ألقاها في الحركة الوطنية هي التي ألقاها في الاجتماع الذي عقد في دار المغفور له "حمد الباسل باشا" في يوم 13 من يناير سنة 1919م، وقد هيأ بها النفوس للجهاد المتصل، والنضال المستمر.
وأما كلمته الثانية فهي التي ألقاها في دار جميعة الاقتصاد السياسي، والإحصاء والتشريع في يوم 17 من فبراير سنة 1919م بعد سماع محاضرة "مستر برسيفال"، إذ وقف في جمع حافل من خيرة المثقفين المصريين والأجانب، وقال كلمته المشهورة:"إن الحماية باطلة"، ثم تلت ذلك حياة كانت سلسلة من خطبه
الرائعات وآيه البينات.
1 في المرآة ص25.
نماذج من خطبه:
خطب في حفل تكريم، فقال:"يقولون إنما تكرم المبادئ""قول خطأ"، فإن المبادئ لا وجود لها إلا في الأشخاص، وإذا كرمنا الإنسان فإنما نكرمه؛ لأن هذا الإنسان نفذ ذلك المبدأ كما أننا إذا ذممنا شخصا، فإنما نذمه؛ لأنه اعتنق مبدأ رذيلًا، هكذا جرى الناس من القدم، وجاءت به الأديان، فإنما يعذب الشخص؛ لأنه ضل، ويثاب؛ لأنه أطاع ربه ولم يعصه، فلم تخلق الجنة لمثوبة المبدأ ولم تخلق النار لتعذيب المبدأ، ولو أن المبادئ هي التي تكرم وهي التي تعذب لرأينا جهنم مملوءة بالمبادئ، ولرأينا الجنة مملوءة بالمبادئ كذلك، ولو كنا نقيم مأتما لراحل، فالشخص يفنى والمبدأ باق.
لماذا نبكي وننوح على موت الكرام والكرم باق من بعدهم؟ ذلك؛ لأننا نكرم الأشخاص الكرام ولا معنى لتكريم المعاني المجردة من الأشخاص".
ومن خطبة له من حفل التكريم الذي أقامه له الطلبة في إبريل سنة 1921م":أفتخر بأن أكون على رأس أمة حية شاعرة مفكرة ذات آمال قوية في الاستقلال التام، وأتقبل أيضا أن أعاهدكم عهدا لا أحيد عنه بأني أموت في السعي لاستقلالكم التام، فإن فزت فذاك إلا تركت لكم تتميم ما بدأت به".
"وليس لرئيس جنوده مثلكم أن يلحقه ضعف، أو يميل به ميل إلى غير الخطة التي رضيتموها".
حرام علينا وكبير وزر، حرام علينا وكبير جرم، أن نأتي لكم بمشروع يخلد ذلكم جناية كبرى، نعم جناية كبرى أن تسلموا لنا أموركم، وأن نجعل المستقبل مظلما أعينكم، يجب علينا إما أن نحفظ حقوقكم، أو نترك العمل لكم، وما دامت الدول نفضت يدها منا، فلا يمكننا أن نأخذ منهم لاحقا، ولا باطلا؛ لأن طبيعة الكون تقضي بأن يتغلب اللون على الضعيف إذا شاركه
وعلى كل حال ستكون هذه الشركة كشركة الحصان مع الخيال، من يركب الخيال بلا كلام؟.
وخطب في 13 من نوفمبر سنة 1921، فكان مما قاله:
"نحتفل اليوم بهذا العيد في بلادنا، وسنحتفل به إن شاء الله في غير بلادنا، حيث ترفع أعلام الدول المتحابة احتراما لمعناه، وإكراما لمغزاه.
ومهما تكن حالنا من سعادة أو شقاء، من سراء أو ضراء، فإن علينا إحياء ذكرى ذلك اليوم، وليكن بيننا يوم صدق وإخاء، يوم ثقة ووفاء، يوما يرجع فيه كل مصري إلى نفسه، فيحاسبها على ما قدمت من خير فيستزيد منه، ومن شر فيستغفر له، وإلى ربه فيطلب منه المعونة على تحقيق آماله وإعزاز بلاده، وإلى وطنه العزيز، فيحدد له قسم الصداقة والمحبة والفداء.
عدنا وشعرت من نفسي أن ليس هناك محل، لأن يكون في صدري غل أو حقد أو غضب على أحد، وإنه يجب علي أن لا أكون لشخصي بل أكون لأمتي وحدها.
ولم أشعر أن لي كرامة غير كرامة أمتي، ولا شخصية غير شخصيتها، أحسست بأني متفان فيها، وهي متفانية في.
ورأينا من الواجب علينا أن نحسم كل خلاف، وأن نعمل على تأييد الاتحاد في الأمة، وأن نوجه كل مجهوداتنا للسير إلى الغاية التي ننشدها، ولهذا فإنه مع علمنا بما كان من المخالفين لنا من زملائنا بعد عودتهم من "باريس"، ومن دسهم الدسائس ضدنا والطعن سرا وعلنا في حقنا، ومن إسناد أشنع القبائح لنا، واختلاق أفظع الأكاذيب علينا، ومع حصولنا من الوفد على قرار بفصل من أخلوا منهم بمبدأ التضامن بيننا، وحنثوا في إيمانهم التي أقسموها أمامنا، رأينا نعتذر لهم عن خطاياهم".
سعد الكاتب:
نمت موهبة البيان في سعد وهو طالب في الأزهر، وشبت معه القدرة على الكتابة، وهو حدث يافع فشرع في مدارج شبابه يكتب مقالاته القيمة في صحف "البرهان والحق" و"مصر المحروسة"، وغيرها من صحف ذلك العهد، ولما اتصل بالإمام أعجب الإمام بأدبه ومواهبه، وشخصيته واختاره لتحرير "الوقائع"، كما قلنا فوجد سعد منها منبرا يدعو منه إلى الثورة، والاستقلال الذي ملك عليه مشاعره، وكانت له في الكتابة، وترقيتها آثار ملموسة، وربما جهل بعض الذين بهرتهم جوانب سعد السياسية أن له يدا في إصلاح الكتابة من أسبق الأيدي بالتحديد في الآداب العربية، فقد كتب في الوقائع طائفة من مقالاته الفذة، وأعاد البلاغ منذ سنتين نشرها، وإن الأسلوب الذي كتبت به تلك المقالات يقارب أسلوب العصر في العلم والأدب، ويخلو من عيوب ذلك العصر الذي كان التلفيق، والتكلف ديدن كتابه ومنشئيه، فكأن سعدا سبق الكتابة العصرية بجيل كامل، وكان طليعة التجديد من خمسين سنة، وليس هذا السبق على الآداب العربية بقليل1.
ويتسم أسلوب سعد بالصفاء والوضوح، وقوة الحجة وسطوع البرهان وتسلسل المنطق، والتحلي بآيات من كتاب الله وأدب نبيه، وهو أسلوب يجمع إلى إشراق بيانه غزارة العلم ودقة البحث، ولعل للأزهر يدًا في توجيه يراعه وتزويدها بما هو من خصائص أهله قوة في الحجة، ودقة في البحث وفيضا في البيان، ومما أعاد البلاغ نشره من مقالات سعد كلمة نشرت في 12 من ديسمبر سنة 1881 بعنوان في الشورى، والاستبداد نقتطف منه ما يلي:
"تكلمت بعض الجرائد في الشورى والاستبداد، وأشربت بعض جملها
1 عباس محمود العقاد في البلاغ الأسبوعي الصادر في 2 سبتمبر سنة 1927م.
عبارات في الاستبداد أوهم ظاهرها، وعمومها بعض الناس أن القصد منها مدح الاستبداد الذي عرفوا من آثاره ما يكرهون، ولقوا من جرائه ما لا يودون، فشدوا على محررها نكيرا وولوا عنه نفورًا، وقالوا: مدحه ظلما وزورا، وكانوا في ذلك من المخطئين.
وقد فرض على الأمة الإسلامية أن تقوم أمة أي طائفة وظيفتها لدعوة للخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظا للشريعة من أن يتجاوز حدودها المعتدون، وصونًا لأحكامها من أن يتعالى عليها ذوو الشهوات، فينتهكوا حرمتها، ويخلوا نظامها وتحرفهم عن العمل بها الأهواء إذا تركوا وشأنهم، ولم يأخذوا
على أيديهم في الاسترسال مع داعيات الشهوات، فلم يجعل الله الشريعة في يد شخص واحد يتصرف فيها كيف يشاء، بل فرض على العامة أن تستخلص منها قوما عارفين لجلب كل ما يؤيد جانب الحق، ويبعد كل ما من شأنه أن يحدث خللا من نظامه، وانحرافا في أوضاعه العادلة.
ولقد قلنا: إن الملوك والسلاطين داخلون تحت من يجب على تلك الطائفة إرشادهم، وذلك لتضافر الأحاديث الصحيحة، والأخبار الشريفة على وجوب نصيحة الأمراء قال صلى الله عليه وسلم:"إن الدين النصيحة"، ثلاث مرات قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وقال:
"إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاة الله أمركم" الحديث.
وقال تعالى مخاطبا نبيه الذي لا ينطق عن الهوى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، قال ابن عباس: وقد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد الله أن يستن به من بعده، وقال بعض المفسرين: إن الله تعالى لما علم أن العرب يثقل عليهم الاستبداد بالرأي، أمر نبيه بمشاورة أصحابه كيلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم.
فوضح من كل هذا أن تصرف الواحد في الكل ممنوع شرعا، وأن الرعية يجب عليها أن تجعل الحاكم والمحكوم بحيث لا يخرجون عن حد الشريعة الحقة، فمن رامها، فقد رام أمرا شرعيا قضت به الشريعة، وحتمته على المحاكم والمحكوم جميعا بحيث لو منعناه لا كتسبنا بذلك إثما مبينا.... إلخ.
هذه الكلمة العذبة السائغة السهلة المتدفقة يغلب عليها الطابع الأزهري، بل هي أنطق المقالات بتأثر سعد بأدب الأزهر وأسلوبه، ففيها دقة وتشقيق، واستفاضة وفيها وقوة حجة وسلامة منطق، ويشيع فيها على طريقة الأزهر والتمثيل بكلام الله، وبكلام رسوله.
مقالات سعد في البلاغ اليومي:
وعلى ذكر مقالاته في الوقائع يلتفت الذهن إلى مقالاته في البلاغ اليومي فيما بعد، فإن له في كليهما آثارا في نضج الصحافة، وأدبها، وسمو أسلوبها وبلاغ رسالتها.
رأى "سعد" أن وزارة زيور باشا أشد ما تكون عسفا، وتعنتا ورأى في عهده مجافاة لروح الدستور، وحكم الشورى، فنشر في البلاغ سلسلة مقالات عنيفة ملتهبة بعنوان "ثورة الوزارة على الدستور" بتوقيع "س. أ"، وكان البلاغ يشير إلى كاتبها بأنه:"إمام في البحث والبيان يشار إليه بالبنان"، وطالما تشوف الناس لهذه المقالات، ووقعت من نفوسهم موقع الإعجاب والرضى، ثم كشف "البلاغ" الستار عن سعد، وصرح بأنه صاحبها وأعاد نشرها تباعا، ومن مقاله الأول الذي نشر في البلاغ الصادر في 29 من سبتمبر سنة 1925 ما يأتي:
"من المعلوم من الدسنور بالضرورة أن التشريع ليس من اختصاص
الوزارة التي تنحصر وظيفتها في الأمور التنفيذية دون سواها، وإنما هو من اختصاص البرلمان الذي لا يجوز إصدار قانون بغير إقراره، وبديهي أن تعديل القوانين تشريع، وعليه يكون تعرض الوزارة لتعديل قانون الانتخاب خروجا عن اختصاصها، واعتداء صريحا على وظيفة البرلمان، واغتصابا واضحا لسلطته.
أيها الوزراء: أنتم الذين لا كفاية عندكم، ولا ثقة للأمة فيكم، فهي لم تنتخب من انتخبت فيكم إلا رغم أنها بالوسائل التي تعرفونها من إكراه وغيره، وأعمال الوزارة شاهد عليكم، وناطقة بأنكم قتلتم الحرية في مأمنها، وسلطتم على الناس عوامل الظلم والإفساد.
إن وجهوا إليكم أيها الوزراء هذه الخطاب فبماذا تجيبون؟ إنكم لا تجدون من الحق جوابا؛ لأنكم خذلتموه في كل مواطن، فلم يكن إلا القوة تعتمدون عليها في تبرير أعمالكم، والقوة لا تغني من الحق شيئا".