المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إبراهيم الهلباوي بك: - الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة - جـ ٢

[محمد كامل الفقي]

الفصل: ‌إبراهيم الهلباوي بك:

‌أشهر الخطباء القضائيين من الأزهر:

‌إبراهيم الهلباوي بك:

المتوفى سنة "1359هـ-1940م".

نشأته وحياته:

نجم "الهلباوي" من إحدى أسر الغربية العريقة في المجد، وإن كانت رقيقة الحال، فلما يفع ألحق بالأزهر فتلقى به علوم الدين واللغة -وكان معروفًا بين أقرانه بالذكاء وحدة الذهن، والصبر على البحث، والمثابرة على الاطلاع كما عرف بجرأة الرأي، ولجاج الخصومة مع شيوخه إذا اختلف معهم في الرأي.

ولما وفد إلى مصر "السيد جمال الدين الأفغاني" كان "الهلباوي" أحد التلامذة الذين هرعوا إليه، فانتفع بعلمه واهتدى بتوجيهه، وتفجرت ملكة البيان فيه بما هيأ له "الأفغاني" من الخطابة والحوار، وبما جرأه عليه من المجاهرة بالرأي، والذود عنه.

ولم يتح "للهلباوي" أن يتم دراسته بالأزهر، ولكنه ظل على صلة بزعمائه ورجالاته، فهو في دروس "الأفغاني" مع أذكياء الأزهر، ونابغيه "كالإمام" و"سعد زغلول" و"الشيخ عبد الكريم سلمان".

وحين فوض للشيخ "محمد عبده" بأن يشرف على تحرير الوقائع اختار "الهلباوي"، فيمن اختارهم لمعاونته في تحريرها، غير أنه فصل من التحرير لأمرها1، وقد شغل عدة وظائف كان من أهمها وظيفة كاتم السر لمجلس

1 تاريخ الوقائع المصرية لإبراهيم عبده ص192.

ص: 88

النواب، والمستشار القضائي لوزارة الأوقاف، ووكالة الجمعية الخيرية الإسلامية التي شادها الإمام ودعمها "سعد"، و"قاسم أمين"، و"حسن عاصم".

ولما شبت الثورة العرابية كان من أنصارها الثائرين وخطبائها الفحول، وقد حكم عليه بالنفي إلى النيل الأبيض ليقضي بقية عمره هناك، ولكن بعضهم شفع له لدى الخديو "توفيق"، فعفا عنه بعد أن ظل في السجن بضعة أشهر.

ومن ثم انضم إلى طائفة اتخذت المحاماة مهنة لها فظل يمارسها، ويدوي صوته ويذيع صيته من براعته النادرة، وقوته التي لم تتح إلا لقليل من المحامين، وفي سنة 1936م انتخب لعضوية مجلس النواب عن دائرة "ثكلا العنب"، ثم انتخب نقيبا للمحامين سنة 1938م.

ولما ألف الوفد المصري برياسة "سعد زغلول" كان "الهلباوي" أحد السياسيين البارزين، ثم لم يلبث أن اختلف مع "سعد"، والتأم مع حزب الأحرار الدستوريين، وكان يخطب في ناديه في مناسبات مختلفة.

صفاته وأخلاقه:

كان رحمه الله طويلا فارع الطول، وعظيم الهامة، قوي الجسم، مفتول العضل، أبيض الوجه في حمرة، عنيدًا أيلج في عناده، ويسرف في خصومته ولا يبالي بمن يخاصمه، وكان سديد العقل حاضر البديهة، قوي الذاكرة حتى إنه ليقض عليك جلائل الأعمال، وتوافهها من سنين تقضت دون أن ينسى واقعه، أو يحرف في حادثة.

و"الهلباوي" محدث نادر عاصر أحداثا جساما، وصاحب محنا سياسية كان وثيق الصلة بها، فهو يحدثك عنها حديث مكابد، ويرويها رواية خبير مشاهد، فكأنه رهط مجتمع من الرواة والثقافة، وكنت تستمع إلى حديثه

ص: 89

فتدرك أنه يحمل في صدره تاريخ جيل لم يدون في كتاب1.

وكان رحمه الله على جانب عظيم من البر والعطف، وقد ضرب مثلا من بره أنه صادف ذا حاجة على بابه في يوم ما، فشغله الحديث معه عن أن يقرئ خدمه السلام عند انصرافه، فلما تذكر ذلك وكان قد بلغ بسيارته "عابدين" أمر السائق، فقفل راجعا ليقوم لهم: إنه نسي السلام عليهم.

خطابته:

"الهلباوي" خطب قد عرف بأسلوبه وطريقته، وامتاز بطلاقة لسانه، وقوة حجته، حين يخطب تطالعك منه عدة شخصيات، فهو رجل التاريخ الذي عاصر أحداثه وصنعت على عينيه، وهو رجل القانون الذي نشأ في مهاده، وصاحب أطوار التشريع حتى آخر مراحل، وهو رجل الأدب المتمكن من العربية، النافذ إلى عميق أسرارها، الذي يعرف سر التراكيب، وموضع البلاغات، وموطن الإقناع وهو الفكه الظريف الذي يغير على العامية متى شاء، فيقتبس من أمثالها وفكاهاتها ما يطرب ويمتع.

كان جهوري الصوت، فصيح اللغة، مشرق العبارة، يلوح للسامعين بنكتته فيطربون لها ويقبلون عليه، فيهتبل هذه الفرصة ليلقي بما يحب من المعاني، وما يريد من الأغراض.

وكان في هجوم متلاحق مع سامعيه متدفقا في بيانه لا يكاد يخلص من غاية حتى يدخل بهم في غيرها، ولا يوشك أن ينتهي من غرض حتى يصله بغرض آخر، والسامعون في كل ذلك مشوقون مأخوذون بسحره مشددون إليه شداء.

وكان متمكنا من القول متصرفا في فنونه، فمرة يحلو ومرة يمر وطورًا تسمعه هادئا كالنسيم، وآخر يزأر كالأسد الهائج.

1 من مقال الأستاذ أحمد أمين بك في العدد 214 من مجلة الرسالة.

ص: 90

"وكان إذا خطب خطب بكله، بلسانه وبعقله، وبنخاعه وبعصبه، وبرأسه وبيديه وبرجليه أيضا، وله صياح يقد أصفق الحناجر، ثم تدلى عن المنبر بعد أربع ساعات كاملات في هذا البلاء، وهو أشد وأفتى من أكثر من سمعوه إن لم يكن أفتى ممن سمعوه جميعا1".

هذا إلى حضور بديهته، وقوة ذاكرته وصفاء ذهنه، وشدة أسره.

دفاعه:

كان "الهلباوي" حاذقا في دفاعه قويا جبارا لا يكاد يلحقه في براعته إلا أقل من القليل من أقرانه، وقد اجتمعت له أسباب الدفاع كلها، فقد نشأ في الأزهر، وكان أحد أدبائه القادرين على الجدل، والراسخين في المنطق الذين يقهرون بالحجة الغلابة والبرهان الناقد، لا يخفى عليه من ملابسات القضية شيء أو يخلطه بشيء آخر، وقد استمكن من مواد القانون، فصرفها في كل مقام واتكأ عليها في كل موطن، على قوة في الاستشهاد بها، وأعانته طلاقة لسانه، وغزارة بيانه وفصاحة عبارته، وحضور بديهته على اتصال القول، وفصاحة العرض والتصرف في المواقف بتفطن غريب لا يدع منفذا إليه.

كان في دفاعه قوة من قوى الطبيعة الغلابة، وأقوى ما تراه في المواقف الشاذة التي تعجز المتوسطين من المحامين، أرأيت إليه حين يدافع عن قاذف في حق الخديو، وهو مستشار للخديو، ثم أرأيت إليه حينما يلتمس "شفيق منصور" و"السورداني" معونته، وقد كان يناصبانه العداء؟

كان حاذقا في مثل هذه المواقف التي لم تألف غيره من المحامين.

سأله رئيس المحكمة: كم ساعة تكفيك؟ قال: "لا أستطيع أن أضبط زمام عبارتي ما لم أفرغ من التعبير عن أفكاري، فلا أعدك الآن بشيء".

وكان حريصًا على النزاهة في الدفاع لا يحاول الدفاع في قضية ما لم يجد لها من الحق حظا.

1 الشيخ عبد العزيز البشري في كتابه في "المرآة" ص48.

ص: 91

حكى صديق عنه في دراسته قضية لم يقتنع فيها بعدل موكلته أن قال: إن من سوء حظ هذه السيدة أنها وكلتني، فأجابه؛ بل من حسن حظها، فقال: كيف؟ قال: لأنها ضمنت ألا تكون عليها.

ومن عجب أنه قد يتعرض للدفاع عن قضايا ذات بال، وبينه وبين الدفاع لحظات لدارسة القضية، ثم يقف من الدفاع موقف ذي الحجة الغلاب.

كان يوما على مائدة "البرنس حسين"، ثم استأذنه في الانصراف؛ لأنه مسافر للدفاع في قضية، فطلب إليه "البرنس" أن يحدثه فيها، فقال له: إنني لم أقرأها وسأقرأها في القطار، ثم مضت الأيام وراح المحامون الأهليون يطوفون بعرش السلطان ليهنئوه فقال لهم: ذاكروا قضاياكم ولا تقرأوها كالهلباوي في القطار، ويقول الهلباوي في ذلك: ليت "أفندينا" كان يعرف أنني قرأت هذه القضية في طريقي من كفر الدوار إلى قنا مرات ومرات.

وإنك ليهولك أن تسمعه حينما يقاطعه خصمه، إذ ذاك يتفجر غضبه وتقدح بالشرر عيناه، ويدوي صولته حتى يكاد يقد الآذان، ثم يرجع إلى الوراء بصدره، ويشمخ إلى السماء بهدامته، ويدق على المنضدة دقات عنيفة، ولخصمه الوبل والثبور.

كان يعمد إلى القضية فيكيفها وتملأ من دقائقها، فإذا انتهى من ذلك انقادت له، وأصبحت ملء خواطره وقبض بنانه.

وكان جذابا إلى حد غريب في دفاعه، فهو يضم السامعين إليه ضمار، وينفعلون معه انفعالا، وتنظر إلى القاضي المعجب فيخيل إليه أنه ليس في موقف الحكم في جانب المتهم.

وإلى جانب هذا كان حاضر البديهة سريع النكتة، عرض عليه رئيس المحكمة لطول إسهابه في الدفاع كوب ماء، فقال: أعطها للخصم الذي نشف ريقه.

تولى الهلباوي الدفاع في أخطر القضايا في العصر الحاضر، فكان فارس حلبتها ودافع عن المحاماة التي كان شرفها، وفخارها، وعمل على تكوين نقابة لها.

ص: 92

ودافع عن الأمة المصرية في قتل "السردار" ذلك الدفاع الذي بكى له الرئيس، وبكى له سعد زغلول بكاء.

موقفه من حادث دنشواي 1:

تبدو في تاريخ "الهلباوي" نقطة حالكة السواد، فقد وقف من الأمة المصرية موقفا غير كريم، وتحدى شعور الشعب المصري كله في وقت بلغ الغيظ والحزن بالأمة مداه، فقد رضي لنفسه أن يقف موقف المدعي العمومي في هذه القضية الدامية، أي إنه أساغ أن يجمع الأدلة من هنا وهناك ليثبت اعتداء المصريين من دنشواي على الإنجليز، وواتته من الغلظة والقسوة ما تذوب له الأكباد، وأمعن في خصومة المتهمين المصريين حتى ليقول:"إنه لا يوجد مصري لا يشاركه في هذا الشعور، ولذلك يطلب الحكم على المتهمين بأشد عقوبة"، ويقول: إذا تقدمت إليكم وطلبت رفع كل رحمة من نفوسكم لمعاقبة هؤلاء المتهمين، وخصوصا رؤساء العصابة لا أكون مغاليا، "وأن المتهمين ارتكبوا عن إصرار، وإني أشرح لعدالة المحكمة الإصرار قانونًا".

كانت النفوس تجزع من تحكم الإنجليز، وإزهاق الأرواح البريئة، و"الهلباوي" يصم أذنيه ولا يرعى وطنه ولا إخوته المصريين، ولا يلتفت

1 خلاصة هذه الحادث أنه في يوم الأربعاء 13 من يونيه سنة 1906 قام خمسة من جند الإنجليز من معسكرهم، واتجهوا إلى بلدة "دنشواي" بإقليم المنوفية من أعمال مركز تلا لصيد الحمام، وهناك أصيب بعض الأهلين، فالتحموا بالإنجليز فأصيب بعض الجند بإصابات أفضت إلى الموت، فثار "اللورد كرومر" عميد البريطانيين في مصر إذ ذاك، وعقدت المحكمة المخصوصة لمحاكمتهم، وكان المدعي العمومي الهلباوي بك، وقضت هذه المحكمة بإعدام أربعة من الأهلين وجلد وحبس ثمانية منهم، ونفذ الإعدام والجلد على مرأى ومسمع من البلد وأهله بين البكاء والعويل، وكان في ذلك من الغلظة والقسوة ما أزعج النفوس، وأطلق ألسنة الوطنيين والزعماء بثورة دامية، وشكوى صاخبة.

ص: 93

إلى أهون مبادئ المجاملة، ومن ثم قد أثار سخط الناس عليه، وكالت له الصحف أعنف اللوم، ولم تتورع عن أن تحثى على عطفيه التهم والظنون، تحدثت مجلة "المجلات" التي أصدرت عددا خاصا بهذا الحادث، ورسمت على غلافه صورة "الهلباوي" في إطار من الجماجم فقالت: إن "عثمان بك غالب" التقى "بالهلباوي"، فلم يقو على رؤيته بل صاح فيه، وهو مستشيط غضبا: إني لا أستطيع رؤية جلاد مصر أمام عيني، بل يخيل لي أن الدماء التي أسلتها تلوث يديك، وتجري تحت أرجلك.

وروت أن رجلين كانا يتكلمان في مطعم، فطال الجدال بينهما في مسألة شخصية، فقال أحدهما للآخر: ما أراك إلا كالهلباوي، فاعتبر المخاطب ذلك أكبر سب سمعه، وأشد ما مست به كرامته، واستل مدية الطعام وطعن بها صاحبه عدة طعنات.

وتحدثت الصحف، وتحدث الناس أيضا أن الإنجليز، وعدو الهلباوي بأن يكون من رجال القضاء، وأنهم سيكفلون له مغانم طيبة، ونظم الشعراء في ذلك قصائدهم، وكان مما قاله المرحوم حافظ بك إبراهيم في هذا مخاطبا به الهلباوي بك.

أيها المدعي العمومي مهلا

بعض هذا فقد بلغت المرادا

قد ضمنا لك القضاء بمصر

وضمنا لنجلك الإسعادا

فإذا ما جلست للحكم فاذكر

عهد "مصر" فقد شفيت الفؤادا

لا جرى النيل في نواحيك يا مصر

ولا جادك الحيا حيث جادا1

أنت أنبت ذلك النبت يا مصر

فأضحى عليك شوكا قتادا2

1 الحيا: المطر.

2 القتاد شجر صلب له شوك كالإبر، يخاطب مصر بأنها أحسنت إلى بعض أبنائها، وبرت بهم فأساءوا إليها، وجحدوا نعمتها.

ص: 94

أنت أنبت ناعقا قام بالأمس

فأدمى القلوب والأكبادا1

إيه يا مدرة القضاء ويا من

ساد في غفلة الزمان وشادا2

أنت جلادنا فلا تنسى أنا

قد لبسنا على يديك الحدادا

كتابته:

أما كتابة الهلباوي، فإنها دون خطابته ودفاعه شأنا، غير أنه اتجه فيها إلى السهولة والوضوح، وجانب الزخرف والصنعة، وكان أحد الأدباء الذين حرروا الكتابة من السجع والتكلف، وتوخوا بها الفكرة وأودعوها أغراضا جليلة، واتخذوها وسيلة للإصلاح في مختلف شئونه.

نموذج من كتابته:

خطب في الحفل الذي أقيم تكريما للمرحوم حفني بك ناصف حين عين رئيسا لمفتي اللغة العربية في وزارة المعارف.

أيها السادة:

أسمحوا لي أولا أن أشكر لجنة الاحتفال عمومًا، وحضرة رئيس هذا النادي خصوصا على تشريفي بالدعوة للاشتراك في هذه الحفلة؛ لأنها تعطيني فرصة أعرب فيها عن بعض ما عندي من شعائر الاحترام، والإخلاص لحضرة المحتفل به، وإني أعلم أن شعوري هذا يشترك في إخواني جمهوري المحامين، حضرة الأستاذ حفني بك: هذا العدد تراه حولك مهما رأيته عديدا، فهو

1 الناعق: المدعي العمومي في هذه القضية، والنعيق: بالعين المهملة، وفي كتب اللغة بالعين المعجمة أفصح -صياح الغراب.

2 المدرة: خطيب القوم والمتكلم عنهم.

ص: 95

قليل جدًّا بالنسبة للعارفين بفضلك، والذين إن غابت عنا أشباحهم فهم معنا بأرواحهم يشتركون في تحيتك، وتهنئتك بمركزك الجديد في نظارة المعارف.

حضرة الأستاذ: إن الفرح بترقيتك لم ينسنا الأسف على حرمان القضاء المصري من خدماتك له نحو ربع القرن، وأن لسان حال المتقاضين، وهم المحامون يعرفون لك هذه الخدمة السابقة التي أديتها بصبر، وذمة تليق بشأن القاضي الحكيم والعادل معا، وأحسن شيء مما يجب أن تعطر به هذه الحفلة، ويذكر لك عن لسان محام أنك كنت حريصا، وعادلا بالنسبة لقضائك بين المتخاصمين، فقد كنت فوق هذا، وأنت على منصة القضاء، وخارجها رقيق الحاشية عذب اللسان بشوش الوجه رحب الصدر.

حفني بك: إن كنت بين إخوانك، وبين جمهور المتقاضين معروفا بالعدل في قضائك، فقد كنت معروفًا ألف مرة عند الجميع، وبالأخص المحامين بالأدب والتهذيب؛ فلا غرو وهذه شمائلك أن يبقى أثر من الأسف على فراقك لمنصة القضاء، نشرت في المؤيد بتاريخ 25 من شوال سنة 1330هـ الموافق 6 من أكتوبر سنة 1912م.

نموذج من دفاعه:

قطعة مما قاله في دفاعه عن الورداني قاتل بطرس باشا غالي:

"خدمت نحو الخمسة والعشرين عاما محاميا، ولم يخطر ببالي يوما أن أسأل، أو أقرأ سبب اختيار الرداء الأسود حلة رسمية للمحامي الذي يتشرف بالدفاع بين يدي القضاء، ولا سبب انتخاب اللون الأخضر للوسام الذي تزدان به صدور من عهد إليهم إصدار الأحكام النهائية، أما الآن وقد أبعدت عن قلبي هذه القضية كل راحة، وجعلتني مرآة لتلك القلوب المتفطرة كأم المتهم، وشقيقته وباقي أهله قلت: إن كل مختار هذه الألوان أراد باللون الأسود رمز الحداد

ص: 96

والمصائب للمحامي الذي يمثل السقائم هو بالدفاع عنه، وباللون الأخضر الذي يتحلى به صدر القاضي الرمز إلى الطاووس ذي الريش الأخضر، وهو مثال ملائكة الرحمة، فنعم الاختيار.

إلى أن قال مخاطبا المتهم: "اذهب إلى لقاء الله الذي لا يرتبط إلا بعدالته المجردة عن الطروف والزمان والمكان، اذهب مودعا بالقلوب والعبرات اذهب فقد يكون في موتك بقضاء البشر عظة لأمتك أكثر من حياتك"، اذهب فإن قلوب العباد إذا ضاقت رحمتها عليك، فرحمة الله واسعة.

نموذج من كتابته:

كتب وهو في "بروكسل" إلى الشيخ "عبد الكريم سلمان" يعزيه في وفاة الشيخ "محمد عبده"، فكان ما قاله:

حضرة الأستاذ الشيخ عبد الكريم:

ماذا أكتب لك، والخطب إذا عظم يبلبل الخواطر، ويجرح القلب ويمسك اللسان عن الكلام، ثم إذ أستطيع القول فماذا عسى أن أقول، وبأي عبارة أعزي؟

إن كان شيء من هذا فلمن يوجه العزاء في هذا الفقيد؟ ألعائلته وزوجته وبناته وإخواته مع أنها لم تكن أكثر حظا وفائدة من كثير من الطبقات الأخرى التي كانت مغمورة بفيوضات الأستاذ رحمه الله.

ألعشيرته من رجال الدين والعلم بالجامع الأزهر المعمور على حرمانهم من رجل قضى فوق الأربعين عاما بين طالب، ومدرس وموظف، وهو يجتهد في تحسين حال أهل هذه الطبقة أدبيا وماليا، وإن المرتبات التي توالت عليهم من نظارة المالية، أو من مصلحة الأوقاف كانت من نتائج مساعيه؟

ص: 97

أللناشئة الجديدة من المدرسين والطلبة، ولقد كان شغوفا ولوعا بالعناية بتربيتهم، وبث روح الدين الخالي عن الخرافات، والأوهام في نفوسهم؟

كان أول مثال للوفاء مع أهله، وأصدقائه غير متغير في أمياله، ولا مبادئه للذين اتخذهم في أيام شبيبته الأولى أصدقاء، وأصفياء هم الذين بقي معهم إلى الأيام الأخيرة من حياته.

كان من أولى الهمم الشماء والمروءة الكبرى، كان كما كان مقصودًا لكل قاص ودان لحاجة العلم -كان مقصودا للمساعدة على حاجات هذه الحياة الدنيا من مال، أو توظف أو أي مساعدة أخرى.

إن رجلا كانت حياته لكل الناس كرجلنا الفقيد، إنما نعزي فيه الأمة بأسرها، وحيث كنت أيها الأستاذ منه بمنزلة هارون من موسى عضده، ومعينه ورفيقه الأول من عهد الطفولية إلى اليوم، وجهت كتابي هذا إليك معزيا في شخصك كل الذين أصيبوا بوفاته، والله يوفقك إلى إتمام ما بدأ به المرحوم، ويرزقنا، وإياك الصبر والسلام".

ص: 98

الكتابة في هذا العصر:

أولا: الكتابة الديوانية:

كانت التركية هي لغة الكتابة في مصر في العصر العثماني وصدر هذا العصر، نعم إن العربية صارت بعد قليل من حكم "محمد علي" هي اللغة الرسمية لدواوين الحكومة، ولكنها كانت عربية ركيكة ضعيفة متخاذلة، بل إنها كانت عامية غريبة عن العربية في لفظها، وأسلوبها وتركيبها.

كذلك كنت تجد في لغة الدواوين في مستهل هذا العصر طائفة من الألفاظ الأعجمية تطالعك بين الحين والحين، وقد يكون ذلك راجعا إلى أن المترجمين الذين كانوا يتوسطون بين الفرنسيين، والأهلين في مصر فيما يترجمون من مراسلات ومنشورات لم يكونا عربا خلصاء، بل "كان بعضهم من غير أبناء هذه اللغة، فإذا ترجموا عبارة صاغوها في قالب أعجمي، وما لم يجدوا له لفظا عربيا تركوه على لفظه الأفرنكي، أو وضعوا له لفظا عاميا1، وهذه الترجمة التي أدخلت على لغة الدواوين عجمة غريبة، وأنهتها إلى العامية أحيانا في عهد الفرنسيين هي نفسها التي فعلت فعلها عندما شرع "محمد علي" في إنشاء الدواوين، واحتاج إلى من يترجم بين حكومته وحكومات أوروبة، ومن ثم فقد حشد في مراسلات الحكومة، ومشوراتها ولوائحها ما لم يمت إلى اللغة العربية بسبب، وقد أبى الكتاب إذ ذاك، "فأعجموا وأنفوا أن يكونوا مفصحين في العامية، فصاروا معجمين في العربية2".

وظلت الكتابة الديوانية على هذه الحال ردحا من الزمان أعان على انحطاطها فيه أن تتولاها قوم ناقصوا الثقافة لم يتموا تعليمهم، وأما الذين أتموه

1 تاريخ أدب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص271.

2 مذكرة الأستاذ محمود مصطفى ص272.

ص: 99

فقد كان يعهد إليهم بغير العمل في هذه الدواوين، على أن كتابة الدواوين بقيت محتكرة في أيدي الأقباط مدة طويلة كاد يكون عملهم فيها متوارثا، وهؤلاء دون المسلمين عربية وفصاحة، فأما المسلمون فقد لانت بكتاب الله ألسنتهم، وهذبت بالحديث النبوي والأدب العربي ملكاتهم، ووجدوا من الأزهر، والمدارس التي على غراره عونا على الفصاحة وسلامة اللغة، ومن ثم كان شيوع العنصر القبطي في بعض المصالح الحكومية، وقيامه على شئونها الكتابية إلى اليوم مما أقعدها على النهوض، وشل أقدامها عن مسايرة النهضة الأدبية الحثيثة الخطا كوزارة المالية، ومصلحتي البريد، والسكة الحديد التي لا تزال هذه الطائفة ذائعة في كثير من أعمالها.

وقد تنبهت الأفكار وفصحت الألسن، ونهض الأدب وجرت الأقلام في الصحف والمجلات بما يعجب، ويطرب واللغة الديوانية مثقلة بهذه القيود، لا تزال مشابهة لحالها في أوائل هذا العصر حتى قيض الله لها في عهد "إسماعيل" من ينقح لغتها وينقي عبارتها، ويسمو بأسلوبها، ويحاول جاهدًا أن يخلصها من ركاكتها وعيها، وهو المرحوم "عبد الله باشا فكري" إلا أن جهده تقاصر دون فسادها المستشري، ثم تهيأ للكتابة بعد من عوامل النهوض ما كفل لها التخلص شيئا، فشيئا من عيها وضعفها، فقد توفر المثقفون الذين أربوا على الأعمال الفنية التي كانت من قبل تستأثر بهم، وانخرط في سلك الدواوين منهم طائفة مهذبة القلم فصيحة العبارة، وكان لهم فضل يذكر في تحرير هذه الكتابة.

الأزهر ولغة الدواوين:

وكما أراد الله أن يكون أول تهذيب للغة الدواوين بيد أزهري نابه، وهو "عبد الله باشا فكري" أراد كذلك أن يتم ما بدأه، وينهج نهجه من هم إلى الأزهر نسبا، وفي أفقه مطلعا، فقد اتجه "سعد زغلول" إلى الإصلاح هذه الكتابة حين كان ناظرا للمعارف.

ص: 100

فعهد إلى الكاتب الفذ الشيخ "مصطفى لطفي المنفلوطي" بالإشراف على لغة الكتابة بنظارة المعارف حتى إذا ما أصبح ناظرًا للحقانية نقله معه لمثل هذه الغاية، فكان له أثر ملموس في نهوض الكتابة بهاتين النظارتين، وفي سبقهما غيرهما في هذه السبيل يضاف إلى الأثر البليغ الذي يحدثه إسناد الوظائف إلى القضاة، والمعلمين الذين لهم بالعلوم، والآداب، وأوثق الصلات1.

هذا إلى الأثر العظيم الذي أحدثه نفوذ "الشيخ محمد عبده" باعتباره مديرًا لإدارة المطبوعات، فقد كان من أحكامها أن جميع إدارات الحكومة، ومصالحها وكذلك لمحاكم مكفلة أن تعد للنشر في الصحيفة الرسمية تقريرات بأعمالها وقراراتها، وما شرعت في إنقاذه من مشروعات، وما اعتزمت إنقاذه في المستقبل، وكان من حق "الشيخ محمد عبده" بهذا الوصف أن ينقد لغة هذه القرارات، وصوغ المشروعات، وكل ما يرسل إلى الصحيفة الرسمية.

أحدث هذا النقد في نفوس الموظفين نوعا من اهتمامهم بلغتهم، وحاولوا تهذيب كتابتهم حتى اضطر كثير من الكتاب إلى تلقي دروس في اللغة العربية، وأنشئت لهذا الغرض مدارس ليلية يتعلم فيها الكتاب، ومحرروا الصحف، وبلغ من رعاية الإمام للغة، وحرصه على ترقية الكتابة أنه تطوع بإلغاء درس فيها، وقد بينا ذلك في موضعه.

وقد غلب على لغة الدواوين من أثر هذه العوامل الإغضاء على السجع، وهجر البديع والمحسنات اللفظية، وإيثار الإيجاز والقصد إلى الغرض دون الترادف التكرار.

أما ما كان في البدء والختام من رسوم، وتشبث ببراعة الاستهلال، فقد ذهب في مطاوي النسيان، ولم يعد يعول عليه في هذه الكتابة.

1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص365.

ص: 101

ثانيا: كتابة التأليف

كانت لغة التأليف في صدر ذلك العصر في أحد درجات الضعف، والتخاذل عدا ما يجهد المؤلفون فيه من الالتواء والتعقيد، والإسراف في الإيجاز بما يعي القارئ في الفهم، ويحول بينه وبين المراد، والغريب أن يكون ذلك طابعهم في جميع ما يؤلفونه من الكتب حتى لا تجد فرقا في التعقيد، والغموض بين تأليفهم في علم الكلام، أو علم البلاغة، وما ذلك إلا لنبو البيان عن طبعهم، وعدم تأصله في ملكاتهم، فإن ظهر لك شيء من بلاغاتهم، فإنما هو من ثمرة الاجتهاد والتشمير، وشدة الجهد حتى إذا أرسلوا أقلامهم على السجية جاءت مسفة1، وواتتك عبارتهم عامية، أو من العامية على شرف، وذلك هو مؤرخ العصر "الجبرتي" ينهض بالشعر، والنثر الرائع أحيانا، وذلك إذا تكلف، فإذا مضت نفسه في غير هذه الحدود كان ركيك التاليف، مرذول الآراء عامي التعبير.

ولم يكونوا بمعزل عن السجع في كتابتهم، بل ورثوه من الماضي الزاخر به، ولم يعرضوا عنه إلا حيث تفتحت عيونهم على نهضة الغرب، ووافاهم من علمها ألوان من أدبها فنون، فكان من الحتم لمسايرة هذه النهضة العكوف على معجمات اللغة، واستخراج صيغها التي تؤدي إلى التعبير عن مقومات هذه النهضة، واستلزم ذلك أن تطبع الكتب الأدبية التي لم تحتفل بالسجع، والمحسنات بل عمدت إلى الفكرة، وصورت الرأي في سهولة، وحسن سبك وتمام ارتباط، فاضطر المؤلفون إلى تقليدهم، وهجر هذه الصناعات التي لم تعد ملائمة للعصر، وروحه كما تهيأ للأدب أمثال "السيد جمال الدين" والشيخ "محمد عبده"، ممن سلفوا هؤلاء الكتاب الصناع المتكلفين بألسنة حداد، فكان من آثار نقدهم أن تقلص ظل هذه الصناعة، وأن انطلق الكتاب يتوخون المعنى في يسر وسهولة، وليس أثر الصحف التي تقرأ بأسلوبها السهل المبين، والعناية التي تبذلها

1 المفصل في تاريخ الأدب العرب ج2 ص365.

ص: 102

العطار" "ومرعيا" يكتبان كتابة لا روح فيها، فيعكف على رسائلهما كل من عي بالكتابة وضاق بالتعبير.

وإذا كانت الكتابة الفنية تصورا للعواطف، وخوالج النفوس كما قلنا: فإن "محمد علي" كان منصرف العزم عن معالجة هذا النوع من الأدب فيما يعالجه من أسباب النهضة، إذ هو متوفر على ما يرى علاجه ضرورة، والنظر إليه من متبعات الحياة، ومن هنا كانت الكتابة الفنية في أوائل هذا العصر معدومة، أو على كثب من ذلك.

ثم جاء عهد "إسماعيل"، فبدأت الكتابة الفنية تنهض لما تيسر لها من عوامل الحياة، وقد كان بالشام كثير من الجاليات الأوروبية، والأمريكية الذين نشروا ثقافتهم بها، ووفد إلى مصر كثير من كتابهم وأدبائهم، وفريق من أدباء الشام الذين تأثروا بهم، فأنشئوا صحفا وأذاعوا أدبا، ونشروا فكرا واهتم كثير من باعثي النهضة في هذا العهد ببعث الكتب الأدبية، ونشر الآثار البيانية بالطبع والاستنساخ، ووجد المتأدبون وعشاق الأدب في قراءتها، وروايتها ما غذى العقول، وقوم الألسنة وقلبوا أبصارهم فيما خلفه أعلام البيان من شعر رائع، ونثر محكم وخطب قيمة، ومحاضرات وأمثال روائع، وحداهم ذلك إلى متابعة هذه الأساليب، والأخذ بأسباب هذه الفصاحات، وانقبضوا عن المحسنات وهجروا الصناعة وعمدوا إلى تصوير الفكرة، وكان من العوامل ذات الأثر المحسوس في هذه النهضة ما تيسر للمتعلمين من الاطلاع على ما ترجم من آداب الغرب، وثقافتهم وما جد من صيغ مساوقة للحياة الجديدة تؤدي بها المعاني المحدثة، وإنه وإن كان ما يخرجه العلم الحديث من مخترع لا يزال محتاجا إلى ألفاظ عربية تعبر

عنه، إلا أن المجمع اللغوي يبذل في سبيل ذلك أطيب الجهود ليخرج من ألفاظ العربية ما يؤدي المعنى الجديد.

ص: 104

وكان من أثر الاطلاع على العلوم والآداب الغربية المترجمة أن نحت الكتابة منحى السهولة، وتوخت الفكرة واتسعت أفق خيالها، وانبسطت أغراضها.

فنون الكتابة الفنية:

تجري الكتابة الفنية، أو النثر الفني في فنون ثلاثة.

1 نثر اجتماعي.

2 نثر صحفي.

3 نثر أدبي.

النثر الاجتماعي:

فأما النثر الاجتماعي، فهو ما تسيل به أقلام الكتاب معالجة فساد المجتمع محاولة إصلاح الحياة في مختلف نواحيها، ويمت إليه بأوثق الصلات الكتابة الدينية التي تنشر سعادة الناس من أقطار مختلفة عن طريق الدين، والنثر الاجتماعي إنما تعتمد على العبارة الفصيحة المتواضعة الواضحة التي لا مبالغة فيها، ولا تزيد والتي تقوم على الحجة القوية، والمنطق الصحيح ولا تتهافت على الزخرفة والصنعة.

والنثر الاجتماعي هادئ في نسقه مترقوق في جدوله لا يثور، ولا يفور إلا حيث يستشرق الفساد الاجتماعي، فتغضب الأقلام وتصخب، أما جعجعة الأقلام في غير ذلك فهي من وضع الشيء في غير موضعه لاستناد هذا النوع من النثر في أغلب الأمر إلى حقيقة واقعة، أو قصة مشاهدة.

النثر الصحفي:

أما النثر الصحفي فهو ما تجري به أقلام الكتاب في الشئون السياسية

ص: 105

التي تهدف إلى نهضة الوطن رفعة شأنه منتزعة هذه الشئون من النظر السياسي لكل كاتب، والنثر الصحفي السياسي ينبغي أن يكون واضح الغرض سهل العبارة معتمدا على الأدلة الخطابية بعيدًا عن التعقيد، والغموض

متجها إلى مخاطبة العواطف، وهز الميول وإثارة المشاعر.

النثر الأدبي:

وأما النثر الأدبي فهو ميدان التأنق في السبك والاتئاد في اختيار اللفظ، والتجويد في صحة العبارة، وتلاحم النسج حتى يجيء الكلام كالعقد المنظوم، ويكون بحسن رصفه، ورصانة تركيبه أقرب شبها بالشعر.

ولا ضير على الناثر الأدبي أن يشرق البديع في كتابته، ولكن غير مرتصد له ولا مستكره، بل يرده عفوا لا تكلف فيه، وهذه الصناعة الدقيقة المحكمة تتطلب من الكاتب أن يكون وافر المحصول من الأدب غزير الرواية من الشعر كثر التقليب في آثار الأدباء والفحول، ملما بثروة لغوية يصرف فيها القول، على جانب عظيم من البصر بمواقع النقد، فيطرب لجمال الموقع، ويهتز لبارع النغم ويعينه ذوقه وحسه على التفطن لما لذ من الأدب وطاب.

الأزهر والنثر:

ما من نوع من أنواع هذا النثر إلا للأزهر فحول في ميدانه، كانوا ممن أعز شأنه وخلع عليه حلة بهيجة، ومكن له من أسباب الحياة والرفعة، وسنرى فيما نتحدث به بالدراسة، والتفصيل أن كل فن من فنون النثر أخذ بيده علم من أعلام الأزهر، فعبد له طريقا وهيأ له مجدا، ورفع منارا وكان في تجويده، وتخبره وبراعته مثالا يحتذى وقدوة، وسنقصر الحديث على أشهر الثائرين الأزهريين الذين ثقفوا بالثقافة الأزهرية الخالصة، والذين بدأوا

ص: 106

حياتهم في الأزهر، ولم يتموها في غيره كما اتبعنا هذه الطريقة، وسنتبعها في الكلام عن نابغي الأزهر في كل الأطوار الأدبية، فلا تتكلم عن فريق بدأ تثقيفة في الأزهر، ثم أتمه في دار العلوم أو مدرسة القضاء الشرعي، أو الجامعة المصرية حتى لا يوجد مجال لمنكر فضل الأزهر على النهضة، فيزعم أن نبوغه الأدبي إنما تواشي له من هذه السبيل، وإن كانت جميع هذه الهيئات الثقافية قد استمدت من الأزهر أدبها، واستعانت في مستهل نشأتها بأساتذة الأزهر وطلابه، وطريقته وكتبه أي أنها أول نشأتها كانت قسما من الأزهر أقيم في مكان غير مكانه، بعنون غير عنوانه.

ارتقت الكتابة الديوانية، والنثر بأنواعه المختلفة بجهود الأزهريين، ونبوغهم وسنختار طائفة من أشهر الأدباء الأزهر الذين سمت بهم هذه الآداب، وكانوا فيها أفذاذا، سنترجم لأشهرهم ونبين طرفًا من حياتهم، وندرس أدبهم في شيء من البسط، ولا تسرف في الإسهاب، والإطالة حتى لا تمل ونسئم.

وقد عرجنا في حديثنا عن الصحف العربية من أوائل هذه النهضة على مجهود الأزهريين، وما بذلوه في سبيل حياتها، والنهوض برسالتها وترجمنا لأدباء الأزهر الكتاب الذين كانت أبرز مواهبهم في الأدب، وأظهر آثارهم فيه في ميدان الصحف.

أما من عدا الكتاب الأزهريين الصحفيين، فسنتناولهم واحدا فواحدا مراعيين في الكلام عنهم تاريخ وفاتهم -وها هم أولاء.

ص: 107