الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ عبد الكريم سلمان:
المتوفى سنة "1336هـ-1918".
نشأته وحياته:
ولد رحمه الله في القاهرة يوم الخميس غرة شعبان سنة 1265هـ، من أبوين ألباني الأصل، فقد وفد إلى مصر من "ألبانيا" جده لأبيه المرحوم "سلمان أفندي أغا" في عهد "محمد علي باشا"، ووظف بجنده، وكان ابنه "حسين أفندي" قد اتصل بأسرة من جنسه بقرية "جنبواي" من أعمال مركز "إيتاي البارود" بمديرية "البحيرة"، فأصهر إليها ولبث بهذه القرية على هوى منه، وزهد في وظيفته بما اشتراه من عقار في هذه الجهة، وقد رزق عدة بنين كان المرحوم الشيخ "عبد الكريم" ثانيهم سنا، وقد أصيب الشيخ "عبد الكريم" بالجدرى، وهو طفل، فكاد يذهب ببصره لولا أن القدر هيأ له أخاه في الطفولة، فبينما كان يعلبان على سطح الدار إذا بأخيه يقذف به، فيهبط من حالق وتشج جبهته وحاجبه، ويتدفق منها دم غزير انكشفت به غشاوة عن إحدى عينيه، فأبصر بها.
وقد حال ضعف بصره دون إلحاقه بالمدارس، فالتحق بكتاب القرية، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وأتم القرآن به ثم أشرب حب الأزهر، وتملكه هواه فتسلل خفية إليه، وقد التقى في طريقه إلى الأزهر برجل من قريته، فسأله الرجل عن مقصده فعي جوابه، وإذ ذاك عاد ب الرجل إلى القرية وأسلمه لوالده، ولم يشأ والده أن يصرفه عن حبه الأزهر، فأوفده إليه في سنة 1288هـ، فانكب على العلم وطالعه برغبته وشوق، وكان معروفا بالذكاء والتفوق على الأقران، وجمعته صداقة الصبا بجمهرة من نابغي الأزهر كالطلاب "سعد زغلول"، و"محمد عبده"، و"إبراهيم الهلباوي"، وغيرهم.
وفي أواخر داسته بالأزهر، وفد إلى مصر "السيد جمال الدين الأفغاني"، فوصل بينهما "الشيخ محمد عبده"، وأكد ودهما فتلقى "الشيخ عبد الكريم" عن الأفغاني ما كان ينشده بمصر من العلوم، ودرب فيمن دربهم على الكتابة ومعالجة الشئون، ومنذ ذلك الحين شرع يكتب في الصحف، ويتناول النواحي الوطنية، والخلقية والاجتماعية، وذاع اسمه بين الكتاب النابهين، وكان قلمه يدر عليه اليسر والرغد، ونال شهادة العالمية من الدرجة الأولى في سنة 1315 هجرية.
أعماله:
اتجهت رغبة المرحوم "رياض باشا"، وكان ناظر النظار إلى إصلاح جريدة الوقائع المصرية، فقلب بصره باحثا عن نحارير الكتاب، وجهابذتهم فاختاره فيمن اختارهم لتحريرها "كسعد زغلول"، و"سيد وفا"، وغيرهما تحت رئاسة الشيخ "محمد عبده" سنة 1880م، وكان "رياض باشا" قد اهتدى إليه بمقال كتبه قبل ذلك تناول فيه بالنقد بعض أعمال الحكومة، فدعاه على أثر ذلك، وخيره بين الكف عن الكتابة والتزام قربته، فآثر الثانية، ثم دعاه منها لهذا العمل، فكان أحد الذين سموا بلغة الوقائع، ونهضوا بتحريرها، وخلصوها مما كانت ترسف في أغلاله من السجع المرذول، والصناعة المستكرهة.
ولما حوكم "الشيخ محمد عبده" عقب الثورة العرابية، وقضى بنفيه إلى "الشام" حل "الشيخ عبد الكريم" محله في رئاسة الوقائع، وظل بها إلى أواخر سنة 1897، وهي السنة التي ألغي فيها القسم الأدبي من الوقائع، فعادت إلى ما كانت عليه صحيفة أوامر وقوانين.
ثم عين في أول يناير سنة 1898م عضوا بالمحكمة الشرعية العليا، وقد حصل على شهادة العالمية في فقه الأحناف؛ لأنه نشأ شافعي المذهب، ولا يتقلد
قضاء مصر إلا الحنفية، وقد أبدى ذكاء غريبا في دراسة فقهه الجديد، فإنه تضلع فيه، واستمكن في وجيز من الزمن.
وفي أول أبريل سنة 1810م عين مفتشا عاما بالمحاكم الشرعية، وطاف بمحاكم البلاد جميعها، وكتب تقريرا مبدعا بين فيه ما شاهده من علل، ونقص وأشار بكثير من ضروب الإصلاح والعلاج الإداري والفقهي، ثم لقي عنتا آثر به الاستقالة في نوفمبر سنة 1912م.
صلته بالشيخ محمد عبده:
وقد نشأ ملازما للشيخ "محمد عبده" متآخيا معه لا يغادر أحدهما الآخر منذ صباه، ولقد ضرب الشيخ "محمد عبده" في أثناء دروسه مثلا يصور به تلازمهما، فقال:"كأن يسأل السائل هل رأيت الشيخ "محمد عبده"؟ فتقول: ولا الشيخ "عبد الكريم سلمان"، وكان بينهما تقارب في الرأي، وتناسب في الفكر وتشابه في الشعور، وكأنهما أراد أن تدوم صلتهما في الآخرة كما دامت في الأولى، فابتنيا قبرا واحد ضم رفاتيهما، فما أبلغ ذلك وفاء.
لازم الشيخ "عبد الكريم" صديقه الإمام أكثر من عشر سنين بذلا فيها جهودا موفقة في خدمة الأزهر، وإصلاح شئونه، وكثيرا ما عاون الشيخ "عبد الكريم" زميله الإمام في مشروعاته المثمرة، وعاضده في أنجاحها على رغم ما يدبر له من كيد أعدائه، وأعداء الإصلاح، حتى أنجز في ظلالهما ورعايتهما للأزهر إصلاح واسع الأفق، فصله "الشيخ عبد الكريم" في كتابه الذي سماه "أعمال مجلس إدارة الأزهر"، وقد طبعه المرحوم "السيد رشيد رضا" مجردا من اسم صاحبه لما حواه من حقائق تتصل بالخديو إذ ذاك، ولما قدم الإمام استقالته من مجلس إدارة الأزهر قدم هو الآخر استقالته في الأسبوع نفسه1، ومما قاله الإمام في تقديره: "وأكننته كنى فأدنيته منى، وجعلته
1 تاريخ الإمام ج3 ص165، وقد تبعهما بالاستقالة عضو آخر هو الشيخ.
سيد أحمد الحنبلي كما تلا هذه الاستقالات استقالة الشيخ علي الببلاوي شيخ الأزهر لعهده، وسبب ذلك معارضة الخديو لمحمد عبده في إصلاحات الأزهر؛ لأنه كان يريد أن يتخذ منه أداة لتقوية نفوذه السياسي، وكان محمد عبده يقف في سبيل ذلك -تاريخ الإمام ج1 ص562-566.
في مكان النحو من ابن جني".
وما زال كذلك حركة دائبة في الإصلاح، وآية فذة في العلم والأدب حتى قبض رحمه الله في يوم الجمعة السابع عشر من مايو سنة 1918 على أثر نوبة قلبية لم تملهه، وقد نقل جثمانه من الرحمانية إلى القاهرة في حفل رهيب سعى إليه سعد زغلول، وعلماء الأمة وعظماؤها، وأدباؤها وكبراؤها.
أخلاقه:
هذا وقد كان رحمه الله أبلغ الأمثال في الإباء، والاعتزاز بالكرامة رحيما يرثي للمنكوبين، ويغدق خفيه على المعوزين، ويسعى لقضاء مصالح الناس، فلا ترد له كلمة ولا تنتكس له شفاعة، ويؤثر غيره على نفسه، ولو كان به خصاصة ويقدم سواه فيما هو أهل له، رجا صديقه الإمام، وسعدا يوما ما في تعيين بعض الأصدقاء، وقد توسط به من منصب كبير، قال له الإمام: إنني "وسعدا" ندخر هذا المنصب لك، وأنت أجدر الناس به، فقال: لا، لن أقبله إنما هو لصاحبي فقد أعطيته كلمة.
وبلغ من الرثاء للمحتاجين البائسين أنه كان يجمع من كثير من الأغنياء صدقة يوزعها عليهم ترفيها عنهم.
كتابته:
اشتغل رحمه الله بالكتابة والتحرير في الصحف، وهو يطلب العلم في الأزهر، وبكر صيته بالكتابة الأدبية القيمة التي نشرها في "الوقائع المصرية" و"المقطم"، و"الجريدة" و"الآداب"، و"المؤيد"، وغيرها من الصحف.
ومما يذكر له بالفضل ما بذله من صادق الجهود في تلخيص الكتابة من ربقة السجع، والمحسنات، والزخرف، وكان أشد الناس بغضا للتهويل، والمبالغة ميالا إلى القصد والاعتدال في الكتابة، واضح الغرض، سهل العبارة، فصيح التعبير، مسلسل الفكرة، قوي الحجة، سليم المنطق.
وإننا لنجد في كتابته طرفا من السجع، ولكنه قليل ضئيل بالنسبة لما كتبه مما استرسل فيه، وأتى به طلقا مشرق الديباجة، أبلج الغرض مسايرًا لسجيته، وطبيعته التي لا تميل إلى السجع إلا أن وافاها عفوا دون طلب.
نماذج من كتابته:
كتب إلى كريمته "السيدة رابعة"، وقد انتقلت إلى منزل زوجها في بلد آخر، وكان يحبها حبا لم يطق معه توديعها.
عزيزتي رابعة، سلام عليك وعلى من تحبين.
وبعد:
فيعلم الله يا عزيزتي أنني ما سافرت لمنفعة أستجلبها، ولا لمضرة أتنكبها، ولكنني أشفقت أن أراك وأنت تبرحين بيتي إلى بيتك الجديد، وهذا لا يستغرب مع شيخوختي، وضعف عزيمتي، عن مقاومة التأثرات، ولقد أحسست اليوم عند خروجي بما عراك، ثم رأيته بعيني عندما قبلتك قبلة التوديع، ووجدت من نفسي هزيمة كبيرة أمام هذه الحالة، ولكنني عدت فآمنت بأن هذه سنة الدهر، وأدركت أن هذه الفرقة إنما هي فرقة الجسم، أما الصلة القلبية، والمودة الأبوية والشفقة والحنان، فكل هذا دائم لا يزول.
ولقد كنت أخفيت أمر سفري وجعلته لسبب، والحقيقة ما كاشفتك به، وهو خشية ذلك الموقف الخطير، والصدق يا عزيزتي هو أفضل الفضائل،
وأنت تعلمين محافظتي عليه، ولذلك لم أستطع بقائي مصرا على الكتمان فأعلمتك بأمري، وانهزام صبري، وعلى الله أجري، والسلام.
وكتب في صفحة أخرى من الخطاب إلى صهره.
إنني وضعت أمانتي بين يديك، ورضيتك لها حافظا أمينا، فعليك بتقوى الله في العناية والاهتمام بشأنها، وما أريدك إلا آخذًا بحقك قائما بواجبك، ولم أوصها بمثل هذه الوصية؛ لأنها منك بمنزلة الأمانة، وليس للوديعة في يد المودع إلا الحفظ، وما عليها وهي في يده إلا أن تكون حيث يضعها من أمكنة الحفظ والصيانة، وقد سهل علي أمر فراقكما أن هذه سنة الله في خلقه، واحترام كل منكما صاحبه كامل الاحترام، أدام الله لكما هذا التوفيق السار، المخفف لآلام البعد وصعوبة الافتراق.
وأهدي كتابا إلى صديق له، وكتب إليه:
"الإنسان الكامل والمولى الفاضل دام كماله وزاد إقباله.
"كتابي إلى الأستاذ والهدايا تزيد في التواد، وتوسع في قوة الارتباط، إن كانت لغير من حظرها عليه الشرع القويم، والشيخ مني بمنزلة الأخ من أخيه، وأنا منه بمثابة الولد من أبيه، ولا داعية إليه سوى الصلة به، ولا أريد منه غير الوداد، قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى، وقد اخترت لك من كتب الأدب العربي القديم كتابا حديث العهد بالوجود، بعثته إلى حضرتك معترفا بأنه نموذج فضلك، ومعنى أدبك، ويعترف لك مهديه بأنه لاحظ المناسبات، ونظر إلى الرغبات، وقبل أن تشتغل بالبحث فيه عن اسمه والأوصاف، أعلمك بأنه كتاب المنسوب والمضاف، فهنيئا له الشيخ يقدره حق قدره، وهنيئا للشيخ به يزيده في أمره، وأن قبول الأستاذ لهديتي مكفول بحسن أخلاقه وطهارة أعراقه، وبعلمه بأن النفع بها، وهي عنده أهم وأوفى، فله الحمد على ما قبل، والشكر على أولى".
عبد المجيد الشرنوبي:
المتوفى سنة 1348هـ-1930م.
ولد بشرنوب، وهي قرية من قرى البحيرة ينسب إليها العارف بالله سيدي أحمد عرب الشرنوبي صاحب تائية السلوك.
وكان مولده سنة ثلاثين وثمانمائة وألف من الميلاد، وتوفي والده وابنه في الثانية من عمره، وأتم حفظ القرآن، ولما يتجاوز العاشرة.
وكان شديد الرغبة في العلم مفتونا بالأخذ في أسبابه، فالتزم أن يكتب بخطه ما فرض بالأزهر على طلاب السنين الأولى، وحفظ متونها وتلقى نهج هذه الدراسات عن الشيخ عبد الفتاح وهيبة من علماء شرنوب، حتى إذا أتم الخامسة عشرة استأذن والديه في السفر إلى القاهرة؛ لينهل من علم الأزهر وثقافته، فقالت له: إنك يا بني يتيم وليس لك عائل يقول على شأنك في طلب العلم، فقال لها: إنني أعددت من الكتب والزاد ما يكفيني عاما، وفي هذا العام ما يكفيني لبلوغ حظ من العلم، وبعدئذ يفعل الله ما يشاء.
وإذ ذاك أذنت له، ونزل بالقرب من الجامع العظيم، وظل ينشد ضالته من الشيوخ الأعلام حتى هداه الله للعالم الفذ الشيخ حسن العدوي، فتلقى عنه فقه الإمام، واستمع له وهو يدرس شرح الزرقاني على متن العزية، ولما طلب الحاشية من أستاذه لينسخها بخطه -وكان ذا خط جميل رشيق- امتحنه الشيخ، فالقى خطه منظما وحروفه منمقة، ووجده متمكنا في الفقه والنحو على الرغم من صغر سنة، وأنه في بداية الطريق، وهنا يفصح الشيخ عن إعجابه بالتلميذ الناشيء، وعن حبه له وإقباله عليه، فيقول له: أنت قد ساقك الله إلينا ومحفظتنا هي محفظتك، فانقل منها ما تريد، وقد أذنتك أن تكون القارئ لنا في جميع دروسنا.. ويمضي الأستاذ العدوي في تشجيع تلميذه النجيب، فيقول له: لله علي نذر إن تمت الحاشية التي تكتبها على شرح الزرقاني
لتذهبن معي -هذا العام- لحج بيت الله الحرام، ولما أتمها الشرنوبي في رمضان من تلك السنة ذهب شيخه العدوي إلى "توفيق باشا" خديوي مضر في ذلك العهد، فأعطاه إذنا بالسفر إلى بيت الله يحج به هو، ومن يحب من حاشيته على نفقة الحكومة.
وطلب العدوي من تلميذه الشرنوبي أن يستأذن والده في الحج مع أستاذه، فبكى الشرنوبي؛ لأنه يتيم وكان أخفى ذلك عن شيخه، فحمله الشيخ هدية لوالدته لتمنحه ذلك الإذن.
وفي مكة المكرمة كان العدوي يدرس بها في جمع من محبي العلم وعشاقة، وكان الشرنوبي هو الذي يقرأ له، فرغب مفتي مكة إلى العدوي في أن يكون الشرنوبي ضيفا له، فلبى دعوته ولما ذهب إلى بيته عرض المفتي على الشرنوبي أن يكون زوجا لابنته، ولم يكن له ولد سواها، فأبى الشرنوبي لعلمه أن العدوي قد تبناه، وليس في وسعه التخلي عنه.
وحين رجعا من مكة رغب العدوي في بناء مسجده المشهور بشارع الشنواني بالدراسة، وفي بناء الحمام الملاصق له لينفق من دخله على المسجد.. وهنا يخشى الشرنوبي على أستاذه من جشع "المقاولين" هذه الفئة التي فطن الشرنوبي إلى وجوب الحذر منها، حتى لا ينفد المال قبل اكتمال البناء، فينفضح شيخه، ويحذره بهذين البيتين.
أتيت بالنصح والتحذير من فئة
…
وإنني عالم بالدار والجار
عساك تسمع نصحي غير متهم
…
فتملأ السمع من وعظى وإنذاري
ولكن شيخه العدوي يمضي -مع الثقة بتلميذه الناصح- فيما تهيأ له، ويقول: ألم يقل الله فإذا عزمت، فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.
وبهذا العزم تم بناء المسجد والحمام، وتم بناء خلوتين اختص العدوي تلميذه بهما، وكانتا بجوار مقام العدوي في نفس القبة التي هي على يسار باب
المسجد، وقد أقام فيهما الشرنوبي راضينا جوار شيخه حيا وميتا.
هذا وعلى الرغم من شهرته العلمية، وتفوقه على أقرانه لم ينل شهادة العالمية، وسر ذلك أن هذه الشهادة، إنما كانت تمنح للمبرزين في العلم بغير امتحان المعول عليه في ذلك شهادة الأساتذة، وتصدى المقتدر من الناشئين للتدريس واستهتارة بالإجادة.. وقد أدرك الشرنوبي هذه السنة غير أنه فوجئ بسن قانون الامتحان، فامتنع منه، وقال: كيف أجلس في الامتحان بين يدي من هم أقل مني علما، بل ربما منحوني أقل من الدرجة الأولى، وفي ذلك من جرح كرامتي ما فيه؟
وكان ولده الأكبر الأستاذ محمد عبد المجيد الشرنوبي قد أغرى والده باعتزال الحياة في خلوة المسجد، هذه الحياة التي يؤثرها على الإقامة في مسجده الذي كن يملكه في بولاق، وأعرض عنه اثنتى عشرة عاما، ومن ثم اشترى الأستاذ محمد لوالده منزلا بشارع الشنواني، ثم آخر بشارع الدوداري، وانتقل إليهما بقية أسرة الشرنوبي بعد أن ظل الشيخ ملازمًا خلويته بمسجد العدوي إلى سنة 1325هـ الموافقة لسنة 1907م.
وقد كان الشرنوبي معروفا بالذكاء والجد، والمثابرة على تحصيل العلم، وطارت شهرته بالأدب والشعر حتى سعى صاحب المؤيد ليكون الشرنوبي شريكه في تحرير ملكية هذه الصحيفة الضخمة، ولكنه أبى، ولعل لصلة الشرنوبي بالخديو إذ ذاك أثرًا في إعراضه عن هذا العمل الذي يدر أخلاف الرزق، وتطير به شهرة القائم عليه.
وليس من شك في أن الشيخ كان على صلة وثيقة بربه مؤثرا العبادة، وجانب الله على الناس، وقد حدثنا نجله الأكبر الأستاذ محمد الشرنوبي، وكان مطيعا والديه بارا بهما أنه لما اشتدت العلة بأبيه ذهب إلى قبره الذي أعدله، وطلا جدارنه وكساه رونقا، وبهجة فلما عاد والده في مرض موته، قال له: حسنا ما فعلت يا محمد: أهكذا احتفلت بقبري.. ولقد ظل سليم الحواس.
قوي البناء، موفور العافية حتى أربى على المائة، وكانت وفاته في السادس عشر من شهر مارس سنة 1930م.
وقد أنجب ثلاثة أولاد أصغرهم أحمد الواعظ بوزارة الأوقاف، وأوسطهم محمود الذي كان كبيرًا لكتاب المحكمة الشرعية العليا وأحيل إلى المعاش، وأكبرهم محمد الذي كان أستاذًا بكلية الشريعة، وأحيل إلى التقاعد، وقد عرف بغزارة العلم ودماثة الخلق، والحرص على الدعوة لدين الله.. وقد حصل على الشهادة الأهلية بعد خمس سنوات دراسية، وكانت درجته الأولى بامتياز، وكان ثالث الناجحين في امتحان الشهادة العالمية، وامتاز بعفة اللسان والورع.
هذا وقد قام مدير البحيرة سنة 1949م بتقديم لوحة شرف لأعلام هذه المديرية إلى المعرض الزراعي الصناعي العام لذكرى هؤلاء المبرزين، ومع الشرنوبي من هؤلاء في هذه اللوحة الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ سليم البشري، وعلي الجارم، وعبد القادر حمزة.
منزلته العلمية:
أشرنا في الترجمة له إلى شغفه المبكر بالعلم، والسعي الحثيث في طلبه، وما اكتشفه فيه أستاذه العدوي من قدرة قادرة، وقد كانت هذه المواهب بداية ناهضة ظهر بعدها تملؤه من العلم، وتمكنه من فنونه، حتى صح أن يلقبه السيد جمال الدين الأفغاني "بالسنجق"، وهي كلنة تركية يقصد بها أنه علم فيما يتلقاه عنه من العلم، فلم يكن عجبا أن يكون بهذه المثابة، وهو تلميذ السيد جمال الدين، والمنتفع بأعلام العصر وفحوله من أمثال الشيوخ إبراهيم السقا، ومحمد عليش، وعبد الهادي نجا الإبياري ومحمد الإنبابي، وعبد الرحمن الشربيني وأحمد ضياء الدين، وزين المرصفي، وأحمد شرف الدين المرصفي، وحسن المرصفي وموسى المرصفي، ومحمد البسيوني، وغيرهم من الفحول1
1 الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرة للأستاذ زكي محمد مجاهد.
وعلى ذكر تلقيه للعلم عن السيد جمال الدين الأفغاني، يقول: إنه عدل عن تلقي العلم عن هذا الإمام، واعتزل حلقة درسه التي جمعته مع فحول العصر أمثال محمد عبده، وعبد الكريم سلمان، ولم يكن هذا الاعتزال إلا صدعا بأمر أستاذه العدوي، وقد ظل الشرنوبي يحن إلى هذا المجلس الحافل بالعلم، وأسراره حتى قال حين نفي الإمام موجها شعره لمحمد عبده، وعبد الكريم سلمان:
يا عصبة كانوا على
…
أوج البها ما حالكم
كنتم بدورا في الورى
…
فاسود نور جمالكم
ولقد طارت شهرة الشرنوبي العلمية في جميع آفاق البلاد الإسلامية، ولا يزال إلى اليوم لمؤلفاته الكثيرة الضخمة صدى ودوي، فيجتذب الناس إليها ما اتسمت به من الدقة والاستيعاب، والعمق في إشراق أسلوب، ووضوح فكرة، ترى ذلك في سائر مؤلفاته في الشريعة والتصوف واللغة العربية، وغيرها من الفنون.
ولعل مما يستطرف أن نسوق تلك الحادثة الدالة على ذيوع صيته في الأقطار العربية: فقد طلب منه بعض علماء المغرب شرح ديوان ابن الفارض، وكتبوا عنوان الخطاب الذي بعثوا به "حضرة صاحب الفضل والفضيلة شيخ الإسلام والمسلمين بالأزهر"، فسلم الخطاب إلى شيخ الأزهر، فلما فضه وجده باسم الشيخ عبد المجيد الشرنوبي، فاستدعاه وقام وأجلسه مكانه1، وقال له: اجلس حيث أجلسك مشايخنا علماء المغرب.
ومن أشهر مؤلفاته:
1-
شرح مختصر البخاري.
2-
شرح الأربعين النووية.
1 كان شيخ الأزهر إذ ذاك المرحوم الشيخ أبو الفضل الجيزاوي.
3-
مختصر الشمائل المحمدية للترمذي.
4-
مناهج السعادات على دلائل الخيرات.
5-
ديوان خطب مربع السجعات.
6-
ديوان خطب آخر مثلث السجعات.
7-
تحفة العصر الجديد، ونخبة الأدب المفيد.
8-
إرشاد السالك على ألفية ابن مالك في النحو والصرف.
9-
المحاسن البهية على متن العشماوية.
10-
الكواكب الدرية على متن العزية.
11-
تقريب المعاني على رسالة أبي زيد القيرواني.
12-
مختصر الصحيح والحسن من الجامع الصغير.
13-
دلالة السالك على أقرب المسالك.
14-
مناهج التسهيل على متن سيدي خليل.
15-
مناهج التيسير على مجموع العلامة الأمير.
16-
شرح حكم ابن عطاء الله السكندري.
17-
شرح تائية السلوك لأحمد عرب الشرنوبي.
وتستطيع أن تستأنس لدراسة هذه المؤلفات والوقوف على أثرها، وما دلت عليه من تمكن صاحبها وفيض علمه، بطف مما جاء في تقريظ الجهابذة الفحول لبعض هذه الآثار العلمية.
يقول السيد عبد الهادي نجا الإبياي في تقريظ شرح تائية السلوك: "رأيته شرحا ينشرح به صدر كل ذي قلب سليم، جمع من لطائف العوارف وعوارف اللطائف، ما به تقتطف النفوس المطمئنة قطوف الأنس في روض القدس الوارف، ورفع منار الطريق المريدي حسن السلوك، ونظم من جواهر الطريقة والحقيقية ما يعز مثله من الفرائد عند الملوك".
ويقول الشيخ محمد البسيوني البيباني1:
1 هو أستاذ أمير الشعراء أحمد شوقي.
"وأنى يدرك بعض فضله الفاضل، وذاك لغزارة علمه، وجودة ذكائه وفهمه، كما يشاهد من أدبه، وكما يطالع في كتبه، فلو رأه ابن عيينة لقبله بين عينيه، ولو شامه قدامه لترك بأثر قدميته، فشرحها شرحا زاد محاسن الأوصاف، عادلا عن التعسف مائلا إلى الإنصاف".
منزلته الأدبية:
يعتبر عبد المجيد الشرنوبي إلى جانب علمه الجم، ومؤلفاته الضخمة، أحد دعائم النهضة الأدبية في العصر الحاضر، فقد أسهم في بناء المجد الصحفي الأول في النهضة الحديثة، "صحيفة الوقائع المصرية"، إذ كان ذلك أول أعماله التي قام بها مع الإمام محمد عبده، وقد أتاح له عمله في مكتبة الأزهر الاطلاع على الأسفار الأدبية، وأن يتأثر بأساليبها، وينهج نهج من حفلة المكتبة بتراثهم الأدبي الخالد، فنضجب بذلك موهبته، وأشرق أسلوبه، ونمت ملكته في الشعر، وأغرم بالمطارحات والمعارضات، حتى ترك لنا من ذلك ثروة تجعله من طلائع الأدباء الشعراء.
أما نثره، فيتجلى فيه إشراق الأسلوب، واستواء العبارة، ووضوح القصد، والتئام الفقر، وحسن السبك مع ميل شديده إلى السجع، وكلف واضح بالصفقة، والمحسنات شأنه في ذلك شأن هذه الطبقة التي اتسمت بهذا الطابع في عصره، ومن يقرأ كتاب "تحفة العصر الجديد ونخبة الأدب المفيد" يلمح هذه الخصائص في أسلوبه، كما يقول في باب الاحتراس من أشرار الناس: "أيها الراغب في معالم المعارف، الطالب لمطالب العوارف، قد أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، فشنف سمعك بما ألقه إليك، ولا تكن من الغافلين، وأول منا أبديه إليك، وألقي معانيه عليك، ألا تحسن الظن بإنسان، إلا بعد التجربة والامتحان، ولا تثق بسماع أخباره، قبل نقده واختباره، فإني رأيتك قد عولت على ظواهر الرجال، فلم تفقد ما هم عليه من تقلبات الأحوال.
فأكثر من تلقى يسرك قوله
…
ولكن قليل من يسرك فعله
وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي
…
فأدبني هذا الزمان وأهله
فأنت ترى التزامه السجع، وحرصه على التضمين، والاقتباس المحكم من القرآن، واتباعه ذلك بغرر من الشعر.
ويقول السيد عبد الهادي نجا الإبياري معبرا عن ارتياحه لأسلوبه: "عبارات هي أحلى من النسيم، وأحلى من البدر الشريق في الليل البهيم، وأرق في إيراد الرقائق من مر النسيم، وأشوق من سمر الغانيات لمن بها يهيم".
ويقول الأستاذ محمد البسيوني: "تعجز البلغاء بلاغته، وتفحم الفصحاء فصاحته، اختلب بما جلب القلوب بملاحته، واستلب العقول بفصاحته وصباحته، فالصحاح درر ثغره، والقاموس بعض فيض نهره، والبيان من سحر كلامه، والرياض من بشاشته وابتسامه".
أما شعره، فلنقرأ له قوله:
قد تعدى بنو الزمان وصاروا
…
في زوايا طغيانهم يعمهونا
واستحلوا ما يغضب الله جهرًا
…
وعلى ما يرضى الورى عاكفونا
وقوله:
ألا إنني جربت أهل مودتي
…
فألقيت أن البعد أولى أو سلم
وأيقنت أن الصحب ألف بواجد
…
فلم أبق غير اللب والله أعلم
وقوله:
إذا بليت بأقدام ذوي حسد
…
سود القلوب لهم ذم الورى قوت
فإن نأيت فدع أحشاءهم بلظى
…
وإن أتيتهموني الحي قل موتوا
وقوله:
تجمعت زمرة الأعادي
…
وجددوا ألسن النكايه
وحسدي بادروا بهجوي
…
بغير جرم ولا بدايه
أغواهم فضلنا فهاموا
…
بكل واد من السعايه
وليس حصني سوى مقالي
…
مولاي حسبي وذا كفايه
تجد شعره مقطوعات صغيره خفيفة، لا غموض فيها ولا تعقيد، يصور في معظمها أخلاق الناس، ويعرض تجاريبه في الحياة، وخبرته بالزمان وأهله، فهي حافلة بالحكم والتجاريب والنصح، ويتسم شعره بالسهولة، وإحكام النسج والقوافي، والحرص على التضمين والاقتباس من القرآن، كما يمتاز بالطابع العلمي الذي يتسم به شعر العلماء والفقهاء، كقوله:"فلم أبق غير اللب، والله أعلم".
ومن العجيب أنه مع قدرته الواضحة في صوغ الشعر، واستقامة أوزانه له، وظهور مكلته فيه، لا نجد له قصائد مطولة، مع ما يبدو لنا من قدرته عليها لو أراد، ولعل عذره في ذلك هو انصرافه إلى العلم وخدمته، واشتغاله بفنون شتى منه.
فكان كما ترى يدع كتابته العلمية بكثير من مقطوعاته هذه القصار التي تحمل في إيجازها واسع المعاني والتجارب.
وتراه كذلك في رسائله يودعها الشعر؛ ليجمع بين الفنين، ويلائم بين الصنعتين، كقوله لأحد أبنائه، وكان قد طلب للتدريس في جاوه، وكتب إلى والده يستشيره، فكتب له نظما ونثرًا: "فلا تجعل فراقك لفقد حياتي، وحياة والدتك سببا، فتكون عاقا لوالديك، وأنا أدعوك لأمر سهل، وأما أريد أن أشق عليك، فانتظرنا يا ولدنا لما، وبعد ذلك تأكل التراث أكلا لما، ومنفعتك في نفس بلادك تلوح عليه البشائر، إذا حسنت منك السرائر
وما مصر إلا جنة قد تزينت
…
وأنهارها تجري وسكانها تدري
وأما سواها فهو لا شك دونها
…
سوى طيبته والبيت والقدس والحجر
ولست إلى هند أميل صبابة
…
وإن ملأت بالتبر أو غيره حجري
طرف من نثره:
كتب في مقدمة شرخه تأتيه السلوك
"لما كان علم التصوف مما يصفى الفؤاد، ويوصل السالك بالجد إلى بلوغ المراد، وكان من أجمل ما ألف فيه هذه التائية الفريدة، التي هي في بابها بديعة وحيدة، نسيجة قطب الوجود وعمدتي في خطوبي، سيدي وسندي السيد أحمد عرب الشرنوبي، بادرت إلى ارتشاف حميا كاسها الشهي، وطفقت أنظم لؤلؤا في جيدها البهي، ليكون ذلك شرحا بديع المثال، مفصلا لتلك الدراري التي نسجت على أحسن منوال، ملتقطا تلك اللآلئ البهية، من بحار السادة الأعلام ذوي الكئوس الوفية، فاني خادم أعتابهم، وتراب أقدامهم".
وفي تحفة العصر الجديد قوله: "إثارة الفتن نار، والكذب على الإخوان عار، ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصدق، فالحق أقوى أمين والصدق أفضل قرين؛ لا تقولن كذبا يوافق هواك ويغضب أخاك، وإن خلته لهوا وقلته لغوا، فرب لهو يوحش منك حرا، ولغو يجلب لك شرا ما عز ذو كذب، ولو أخذ القمر بيديه، ولا ذل ذو صدق ولو اتفق العالم عليه، وإياك وقبيح الكلام، فإنه ينفر عنك الكرام، ويغري عليك اللئام، ويوجه إليك الملام".
ومن شعره قوله في شأن الحسد:
غني يا نديم جهرا فإني
…
للمعالي قد سرت حثيثا
لا تعدلي مذمة من حسود
…
إن فضلي يرى قديما حديثا
وإذا كنت موقنا أن عزمي
…
قاصم ظهر من تراه خبيثا
كيف أرتاع من مذمة قوم
…
لا يكادون يفقهون حديثا
ويقول:
إذا زل الكريم فكن حليما
…
فإن الحلم حينئذ مزية
وإن جاء اللئيم إليك عمدا
…
بما كسبت يداه من الأسية
ولم يخضع لعفوك باعتراف
…
فعجل بالمكافأة القوية
فإن الحر يكفيه ملام
…
وإن العبد تصلحه الأذية
فعامل كل إنسان بحكم
…
وفي هذا ترى فصل القضية
وفي البيت الأخير ظاهرة من شعر العلماء حيث تناول ألفاظ العلم ومصطلحاته، ففي المنطق "الحكم" و"فصل القضية"، ويقول:
أقول للحاسد الباغي علي إذا
…
أتى الحمى وغدا عندي من الأسرى
عزمي شديد وجاهي واسع لنا
…
مكارم بين أعيان الورى تترا
وجل قدري أن أجني عليك بما
…
جنت يداك، فلا تشغل لنا الفكرا
بل أنت حل وهذا الفضل عادتنا
…
لقد مننا عليك مرة أخرى
وفي النهي عن الكذب قوله:
لو يعلم الباغي بسوء مقاله
…
أن الجحيم نعيمه في المنتهى
لأبان بين الناس نير صدقه
…
وعن المعاصي والأكاذيب انتهى
وفي أخلاق الناس قوله:
رأيت الناس بالدينار هاموا
…
وباعوا الدين بالدنيا وساموا
فأورثهم نفاقا في قلوب
…
إلى يوم به اشتد الزحام
ترى عند اللقاء جميل بشر
…
وبعد البعد تأتيك السهام
وحسبي من خطوب الدهر طه
…
لكل المرسلين هو الختام
ويقول في ختام تحفة الأدب الجديد:
رب إني من فيض فضلك أرجو
…
محو ذنبي بجاه خير الأنام
وأنا المخطئ المقر بأني
…
ليس لي غير جاه بدر التمام
فأقل عثرتي إلهي وهبني
…
للشفيع المجاب يوم الزحام
وأجرني من الجحيم فإني
…
لذت بالمصطفى رفيع المقام
وإذا العبد كان عبد مجيد
…
فله في العلا بلوغ المرام
فبجاه الحبيب تنجح قصدي
…
ببلوغ المنى وحسن الختام