الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشهر الخطباء الدينيين من الأزهر:
الشيخ محمد مصطفى المراغي:
المتوفي سنة 1364هـ-1945م.
نشأته وحياته:
ولد في التاسع من شهر مارس سنة 1881م في "المراغة" إحدى قرى مديرية جرجا بصعيد مصر الأعلى، ونشأ كما ينشأ عليه لداته، فحفظ القرآن بمكتب القرية، وكان أبوه على حظ من علوم الأزهر، فعلمه ما اتسعت له مداركه، فلما شب ألحقه بالجامع الأزهر، وشرع يتلقى العلم على شيوخه النابهين، وكان ممن
انتفع بعلمهم، واغتذى بثقافتهم وأشرب روحهم في الحياة الكريمة، والإصلاح المغفور له الأستاذ "الشيخ محمد عبده"، فقد كان يغشى دروس التفسير التي يلقيها الإمام في الرواق العباسي، وكان "الشيخ المراغي" يتلقاها بشوق ورغبة لما تحمل معها من روح الاجتماع، والتوجيه فلم تكن دروس الإمام جافة تقف عند ما قاله العلماء، بل كانت تفيض بلاغة وسلاسة، وتنفذ إلى أغوار البحث، وتخرج للناس كنوزًا من الحقائق المجلوة الكريمة.
ولم يكن الشيخ "المراغي" من أولئك الذين يستظهرون الكتب دون غوص على أسرارها، بل كان نفاذًا إلى الأعماق، لا يزال يبحث ويقلب حتى يجلي الرأي فينتفع به ويقف على صوابه، ومع ذكائه وحدة ذهنه، جمع بين الجد والفهم وآخي بين المثابرة وحضور الذهن، وكان أحد القلائل الذين يستذكرون الدروس قبل تلقيها، ويجمعون إلى ما يدرسون من الكتب في الأزهر كتبا أخرى تفسح في الذهي وتبسط في آفاقه.
وما زال كذلك يعطي العلم نفسه، ويتفرغ له تفرغا حتى حصل في سنة 1322هـ-1904م على شهادة العالمية أي أنه كان في الرابعة والعشرين من عمره
ولما كان حنفي المذهب، وقد حصل على الدرجة الثانية كان مما تمتع به من المزايا أن يوكل إليه التدريس بالأزهر إلى أن ينفسح له مجال القضاء.
ففي أول أغسطس سنة 1904م جلس الشيخ في حلقة التدريس بالأزهر، والتف الأزهريون الطلاب من حوله، وغصت حلقة الدراسة بهم، لما عرف به من دقة البحث، وعمق الفكرة وفصاحة العبارة، ولكن هذه الفترة لم تطل، ففي أول نوفمبر من عام 1904م عين الشيخ قاضيا لمديرية "دنقلا" في السودان، وكان قاضي القضاة صديقه المرحوم الشيخ "محمد هارون عبد الرازق"، ولم يطل بقاؤه بدنقلا أيضا، فقد نقل بعد قليل قاضيا لمدينة "الخرطوم".
ثم قدم استقالته، وعاد إلى مصر أوائل هذا العام على أثر اختلافه مع "قاضي القضاة، والسكرتير القضائي" في اختيار المفتشين بالمحاكم الشرعية في السودان.
وفي التاسع من شهر سبتمبر سنة 1907 اختير مفتشا للدروس الدينية بديوان الأوقاف بمصر، وقد تولى التدريس بالأزهر في هذه الفترة، فاكتظ درسه بالتلامذة النابهين، وجمع بين العملين.
وفي سنة 1908م عين قاضيًا السودان، ولهذا التعيين قصة طريفة، فإن "سلاطين باشا" الذي كان وكيلا لحكومة السودان بمصر زار الشيخ، وتحدث معه في شغل هذا المنصب وافهمه أن حكومة السودان مقتنعة بأن الشيخ خير من يصلح لهذا المنصب، وطالب الشيخ أن يبين له ما يشترطه في هذا الصدد، فأصر الشيخ على أن يكون تعيينه بأمر الخديو فحسب، وكان أمرًا عسيرًا على "سلاطين باشا" أن يتخلف عن سعيه؛ لأنه مؤمن بصلاحية الشيخ لهذا المنصب كما كان عسيرا عليه أن يذلل هذه العقبة لدى حكومة السودان التي كانت وحدها المختصة بتعيين قاضي القضاة، ولكنه لم يدع هذا الأمر حتى عبد طريقه، وانتهى بتعيين الشيخ قاضيا للقضاة لا بأمر حكومة السودان بل بأمر الخديو.
وقد كانت له في السودان مواقف رائعة هي أبلغ الأمثال في بروز الشخصية وحفظ الكرامة، يشتجر معه السكرتير القضائي في حكومة السودان، ويحاول أن يغير لائحة المحاكم الشرعية، فينتصر عليه الشيخ بحجته وشخصيته وقوته، فلا تمس اللائحة بسوء، ويظل بها لقاضي القضاة ما يشاء من نفوذ وسلطان.
ويدعى كبار موظفي السودان ليكونوا بالمرفأ حين يمر جلالة ملك الإنجليز في طريقه إلى الهند، ويقضي النظام المعد رسميا بألا يصعد إلى الباخرة سوى الحاكم العام، وأما من عداه فسيمرون بمحاذاة الباخرة، فيغضب "المراغي"، ويخبر الحاكم العام بأنه لن يذهب إلى حفل الاستقبال إلا إذا سمح له بالصعود إلى الباخرة، فيبرق الحاكم العام إلى حكومته، فتخبره بأن النظام عدل، وأن "المراغي" سيكون ثاني اثنين يصعدان إلى الباخرة المقلة ملك الإنجليز.
كانت حياة "المراغي" عزة وكرامة كلها، وكان يتسم بسمة الجلال والوقار حتى ليرغم على إجلاله عظماء الدولة، وكبراءهم لا لمنصبه بل لهيبته، وشخصيته لقد أعز "المراغي" شرف العلم، وصان كرامة العلماء وسعى لاستماع درسه، وعظته الملك السابق فدان بإجلاله، وتوقيره الناس جميعًا فوق ما كانوا يدينون.
ثم أججت الثورة الوطنية في مصر سنة 1919م، وفارت الأمة المصرية فورتها، وهز "سعد" نفوس الشعب هزًّا وسرت الحماسة من جنوب الوداي إلى شماله، فقام السودانيون يشاركون إخوانهم المصريين جهادهم، واندفعوا بشعورهم إلى التظاهر والجهاد، وقاضي القضاة "المراغي" يأبى إلا أن يكون في طليعة الوطنيين، فيجمع العرائض لتأييد "سعد"، ويجاهر براية الوطني غير مبال، وينفد صبر الإنجليز، ولا يغضون على بقائه بالسودان، فيعود إلى مصر كريما حفيا أبيا.
وفي التاسع من أكتوبر سنة 1919م عين رئيسا للمفتشين بمحاكم مصر الشرعية، ثم رئيسا لمحكمة مصر الكلية في يوليو سنة 1920م، ثم عضوا
في المحكمة الشرعية في سنة 1921، ثم رئيسا للمحكمة العليا في 11 من ديسمبر سنة 1923.
وفي الثاني والعشرين من شهر مايو سنة 1928 عين "المراغي" شيخا للجامع الأزهر، فجد في إصلاح الأزهر ورعاية شئونه، والنهوض به إلى المستوى الذي كان أستاذه الإمام ينشده له، ويجهد في سبيله فلم يمض عام حتى هيأ قانون الأزهر الذي جعل من التعلم العالي كليات ثلاثا، وشرع نظام التخصص الجديد، فجعل منه تخصص المادة وتخصص المهنة، ولكن اختلافا في الرأي يقف هذا القانون، ويستقيل صاحبه في العاشر من أكتوبر سنة 1929، ويتولى حضرة صاحب الفضيلة المغفور له الشيخ "محمد الأحمدي الظواهري" مشيخة الأزهر، فتنشأ الكليات ويمضي الشيخ في طريقه بأسلوبه، ولكن أحداثا تثور وفتنا تصطلي، وينتقض الأمر عل الشيخ فيؤثر الاستقالة ليمهد للشيخ المراغي العودة إلى الأزهر ليتم من الإصلاح ما بدأه، وكانت عودته إلى المشيخة للمرة الثانية في السابع والعشرين من شهر أبريل سنة 1935، ويظل الشيخ ناهضًا بأمل الأزهر مجاهدا في سبيل إصلاحه حتى يستأثر الله به في الرابع عشر من شهر رمضان سنة 1364هـ، الموافق 22 من أغسطس سنة 1945 بلل الله ثراه.
الأزهر في عهده:
طفر الشيخ "المراغي" بالأزهر طفرة واثبة، ومضى به بعزم جبار إلى النهوض ومسايرة الحياة، وكان له من الملك السابق أكرم رعاية، وأسبغ عطف لقد اتسم عهد "المراغي" بالنشاط الثقافي، وتوغل شبابه في شئون الحياة المختلفة، وتهيأت لهم أسباب الاجتماع، وكانوا من قبل في عزلة وانقباض، وكان "الشيخ المراغي" أول من أغدق على مدرسي الأزهر، فأكرم حياتهم بالمرتبات بعد أن كانت سبب ضعفهم وانخذالهم.
كانت تلك البعثة في عهد الظواهري، وعن طريق وزارة المعارف.
وفي عهده تفضل الملك فؤاد بإيفاد جمهرة من نابغي الأزهر إلى أوروبا للدراسات الأدبية والفلسفية والعلمية، ففي سنة 1932م أرسل البعث العلمي إلى "ألمانيا"، وكان من أعدائه من الأزهر "الشيخ عبد الحليم النجار" أول المتسابقين في اللغة العربية من معاهدها في مصر.
بعث الشيخ محمد عبده:
وفي سنة 1935م أوفد إلى ألمانيا بعث من الأزهريين تخليدا لذكرى "الشيخ محمد عبده"، وكان من بين أعضائه "الدكتور محمد اللمعاضي"، "والدكتور محمود البهي قرقر" اللذان درسا الفلسفة والتاريخ الإسلامي.
بعث فؤاد الأول في سنة 1936:
أرسل الأستاذ عبد العزيز المراغي"، والأستاذ محمود حب الله لدراسة التاريخ والفلسفة في "فرنسا"، وأرسل إلى "ألمانيا" الدكتور "علي حسن" لدراسة مقارنة الأديان.
وأرسل إلى "فرنسا" الأساتذة "محمد عبد الله دراز" و"عبد الرحمن تاج" و"محمد محمدين الفحام"، و"عفيفي عبد الفتاح"، وانضم إليهم هناك الأستاذ "عبد الحليم محمود" الذي سافر على نفقته، فدرسوا مقارنة الأديان وفروع اللغة العربية، وأضيف إليهم أخيرا في هذا العام الأستاذ "محمد يوسف موسى" المدرس في كلية أصول الدين، وكان قد سافر على نفقته الخاصة لدراسة الفلسفة. وبعض هؤلاء المبعوثين لا يزال في أوروبا، وفريق منهم عاد إلى الأزهر بتوجيه جديد، وفكر حر، ورأي ناضج، مما جعل لهم أثرا ملحوظا في الدراسات والبحوث.
أدب الشيخ المراغي:
شب الشيخ المراغي مفطورًا على حب الأدب مكثرا للاطلاع، والتروي من آثاره، وكان له هوى بالشعر، غير أن شيئا منه لم يؤثر عنه، وكثيرًا ما استظهر من الشعر خاصة لزوميات أبي العلاء.
وكان خطيبًا بارع الحجة، حسن الأداء، متزنًا في إلقائه، فصيحًا في عبارته، إذا دعاه الموقف إلى ارتجال أحسنه، وإن أعد القول في المواقف الرسمية كان مجيدا مبدعا، وهو متخير اللفظ مشرق البيان في كل حال، وكانت له في خطبة سطوة وجزالة وهيمنة، وطالما نمت عن روح العزة المائلة في نفسه، والزعامة التي كان لها أهلًا، والحق أنه أعاد للخطابة الدينية مجدها الذي أسس الإمام "محمد عبده" بناءه، وشيد دعامته.
وهو أول من ألقى هذه الدروس الدينية بين يدي الملك الشاب، فجاءت آية في لفظها وأسلوبها وتصويرها، لم تكن علما جافا ولا موعظة خالصة، بل كانت نماذج الأدب الرفيع، وإنه ليروقك منها تسلسلها واطرادها، وجميعها بين أدب القرآن والأدب النبوي، وبين أدب العرب الذي يتمثل به والعلم الحديث الذي يمزج به علم الدين.
هذا إلى عذوبة صوته واتئاد خطاه، وروحه المشرف على السامعين المتخطي مجلسه إلى الشرق والمسلمين جميعًا.
أما كتابته فتكاد تبلغ أعلى طبقات الكتابة، حسن ديباجة وجمال عبارة، وإشراق معنى وحسن سبك، كان إذا كتب لا يتعاظل ولا يلتوي، ولا يحاول أن ينهج نهج الساجعين المتكلفين، وكثيرا ما يتمثل بالشعر العربي الرصين في مواطن من كتابته.
وإذا تناول بحثا علميا لم يخضعه أسلوب العلم لجفوته، ولم يبعد به عن روعة البيان، وصفاء العبارة.
آثاره ومؤلفاته:
للشيخ "المراغي" بحوث فقهية متعددة تتعلق بقانون الزواج والطلاق، وهي مطبوعة، وله "رسالة الأولياء والمحجورين" حصل بها على عضوية جماعة كبار العلماء وهي مخطوطة، وله رسالة تتضمن بحوثا لغوية وبيانية، وضعها حين كان يدرس بكلية الشريعة في سنة 1936، وهي مخطوطة.
وله بحث في جواز ترجمة القرآن مطبوع.
و"رسالة الزمالة العالمية" -أرسلها إلى مؤتمر الأديان المنعقد بلندن، وهي مطبوعة.
هذا عدا دروسه الدينية المطبوعة التي ألقاها في ثماني سنوات بين يدي صاحب الجلالة الملك، وفي جمعيات دينية فسر بها بطريقة بارعة سورة لقمان الحجرات والحديد والعصر، وطائفة من آيات متفرقة من القرآن الكريم.
وقد فسر في الفترة التي اعتكف فيها في المصحة آخر حياته نحو نصف جزء تبارك، وسيطبع قريبا.
وله مذاكرات قيمة في إصلاح المحاكم الشرعية، والأزهر طبع بعضهم، وبعضها الآخر في طريقة إلى الطبع.
وله غير ذلك طائفة ممتعة من المقالات والخطب والأحاديث التي نشرت في مختلف الصحف العربية والإفرنجية.
نموذج من خطبه:
خطب في حفل التكريم الذي أقامه الأزهريون بمناسبة توليته مشيخة الأزهر للمرة الثانية، فقال:
حضرات السادة الأعزاء:
أحمد الله جل شأنه على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم، وأشكر لحضرات الداعين المختلفين برهم وكرمهم، وعاطفة الحب الفياض البادية في قولهم وفعلهم، وفي شعرهم ونثرهم، ولحضرات المدعوين وتشريفهم، واحتمالهم مشقة الحضور الذي أعربوا به عن عطفهم وحبهم.
ويسهل على قبول هذه المهن كلها، واحتمالهم إذا أذنتم لي في صرف هذه الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف، واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف الذي تجلونه جميعا، وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الدينية الإسلامية في مصر وغيرها من البلاد.
ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم، لقد دل بالإشارة، والتبع على معان أسمى من غرض التكريم.
دل على أن الأزهر خرج عن عزلته التي طال أمدها، ونهض يشارك الأمة في الحياة العامة وملابساتها، وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد، وهذه ظاهرة من ظواهر تغير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق التعليم فيه، وعن شعوره بأن في الحياة معارف غير معارفه القديمة، يجب أن تدرس وتعرف، وطرائق للتعليم يجب أن تحتذى، ويهتدى بها.
ومن الحق أيها السادة علينا ألا ننسى في هذه المناسبة، والحديث عن الأزهر والأزهريين -ذلك الكوكب الذي انبثق منه النور الذي نهتدي به في حياة الأزهر العامة، ويهتدي به علماء الأقطار الإسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه، وذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية، والنشاط الفكري، ووضح المنهج الواضح لتفسير القرآن الكريم، وعبد الطريق لتذوق أسرار العربية وجمالها، وصاح بالناس يذكرهم بأن العظمة، والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى، ومكارم الأخلاق، ذلك الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته، ولم تقدره إلا بعد أن أمعن في التاريخ، ذلك هو الأستاذ الإمام
"محمد عبده" قدس الله روحه وطيب ثراه، وقد مر على وفاته ثلاثون حولا كاملة، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين، ونحن نتحدث عن الأزهر أن نجعل لذاكره المكان الأول في هذا الحفل، فهو مشرق النور، وباعث الإصلاح وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتدت الظمأ، والدوحة المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوي لفح الهجير.
الأزهر كما تعلمون أيها السادة هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي أوجد أمما من العدم، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة، وكان له هذا الأثر الضخم في الأرض، فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه، وأبنائه واجبات إنسانية، ويشعرهم بعروض صورية، ومعنوية يعدون مقصرين آثمين أمام الله، وأمام الناس إذا هم تهاونوا في أدائها، وإنهم لا يستطيعون أداء الواجب لربهم ودينهم، ولمعهدهم وأنفسهم إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه، وأجادوا معرفته لغته، وفهموا روح الاجتماع، واستعانوا بمعارف الماضين، ومعارف المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو متصل بالدين وأصوله وفروعه، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال بآراء العلماء، والاستزادة من العلم، وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي لا تعرف اللغة العربية، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه، وإلى التساند التام بين العلماء والطلبة، والقوامين على التعليم، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي مراحل السير في هدوء، ونظام وجد وصدق نية، وكمال توجه إلى الله، وحب العلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله.
من الخير والحق أن نتدارك هذا، وأن يعني العلماء بدراسة القرآن الكريم والسنة والمطهرة دراسة عبرة وتقديم، لما فيه من هداية ودعوة إلى الوحدة، دراسة من شأنها أن تقوي الرابطة بين العبد وربه، وتجعل المؤمن رحب الصدر، هاشا باشا للحق، مستعدا لقبوله، عاطفا على إخوانه في الإنسانية كارها للبغضاء، والشحناء بين المسلمين.
قد أتهم بأني تخيلت فخلت، ولا أبالي بهذه التهمة في سبيل رسم الحدود، ولفت النظر إليها، وفضل الله واسع وقدرته شاملة، وما ذلك على الله بعزيز.
الآن وقد وضحت بالتقريب آمال المسلمين في الأزهر، ترون أيها السادة أن العبء الملقى على عاتق الأزهر ليس هين الحمل، فإنه في حاجة إلى العون الصادق من كل من يقدر على العون، إما بالمال، أو بالعقل، أو بالمعارف والتجارب، وكل شيء يبذل في طريق تحقيق هذه الآمال هين إذا أتت الجهود بهذه الثمرات الطيبة المباركة.
نموذج مما ألقاه من الدروس الدينية:
مما ألقاه من هذه الدروس ما جاء في التعليق على تفسيره لسورة "لقمان" ليذكر الإنسان أن شربة الماء التي يروي بها ظلماه سخرت لها السموات والأرض، فحرارة الشمس سبب في تبخر الماء الملح الأجاج من البحر، وسبب في ارتفاعه إلى الطبقات العلوية، ومنها يتساقط على الأرض ماء عذب ينقع الغلة، ويحيي الأرض بعد موتها، وقرص الخبز يأكله الجائع سخرت له الشمس والأرض، وسخر له الحارث والحاصد والدارس، والتاجر والطاحن والعاجن، والخابز إلى غير ذلك من الوسطاء.
سخر الله ما في السموات والأرض لمنفعة الإنسان، وسعادته ثم أكمل عليه النعمة وأوسعها وأتمها، فمنحه قوى ظاهرة، ومنحه قوى باطنة ومنحه العقل الذي استطاع به تذليل كل شيء، والذي هو وسيلة المعرفة، وأكمل طرق الهداية، والذي كشف به أسرار الوجود، واهتدى به إلى واجب الوجود واستعد به، لأن يتلقى الوحي عن خالق الخلق ومرسل الرسل، ولأن يكون خليفة الله في الأرض يعمرها.
وخلاصة هذه الآية1 أنها استدلال بالآفاق والأنفس بعد الاستدلال بالخلق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
سخر الله هذا كله للإنسان، وأسبغ عليه نعمة ظاهرة وباطنة، ومع هذا كله فإن من الناس طائفة من الأغنياء الجهلاء الذين لم يستعملوا علهم فيما خلق له من النظر، والاستدلال والعظة والاعتبار، وتجادل في الله تعالى، وفي استحقاقه للتفرد بالعبادة، وتعبد الأصنام لا تضر ولا تنفع وتكذب بالبعث، وتكذب الأنبياء بعد قيام حجتهم، هؤلاء الأغنياء ليس لهم علم عن دليل، وأين يكون لهم علم عن دليل، والدليل قائم على خلاف مذاهبهم؟ قائم من الخلق ومن الآفاق، ومن الأنفس وليس لهم علم من هدى عن نبي معصوم تلقوا عنه ما هم عليه، وأين يكون الهدى والمعصوم بخير بغير آرائهم، ويسفه أحلامهم؟
وليس لهم علم من كتاب يستندون إليه، وأين يكون الكتاب الذي يستندون إليه؟ وجميع الكتب السماوية تقرر التوحيد وتقرر البعث، وهذه الأمور الثلاثة، وهي: العلم والهدى والكتاب المنير هي طرق العلم الصحيحة عند العلماء؟ فهم لا يستندون إلى شيء مما يليق بالعاقل أن يستند إليه إنما يستندون إلا جهالات، وضلالات تلقوها تقليدا عن آبائهم حتى إنهم إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.
مثل هذه الطائفة عميت منها البصائر، وضلت السبيل السوي وحادت عن منهج الحق، وعن مسالك العقلاء، فطريقهم طريق الشيطان يوسوس لهم
ويزين لهم فيتبعون دعوته، والشيطان يدعو إلى عذاب النار؛ لأنه يدعو إلى الشرك والضلال، وهما هاديان إلى النار".
نموذج من كتابته:
كتب إلى الأمير شكيب أرسلان هذا الخطاب:
صديق حضرة صاحب العطوفة الأمير شكيب أرسلان.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"وبعد":
فمل يكن غيثك في أول أمره قطرًا بل كان بحرا زاخرا، فقد وصلتني اليوم كتبك الكثيرة غزيرة المادة، وافرة الفائدة في حللها القشيبة، ولغتها الساحرة، وتبويبها البديع ورصانتها القوية، فلك الشكر على هذا الكرم، ولك الشكر على هذه الجهد الذي خدمت به لغتك وأمتك، فوق الجهد المستور الذي ترجو بقائه في طي الكتمان زمنا طويلا تستمتع فيه الأمة بحياتك التي تعد عبرة في حياة المسلمين، وتعد مفخرة لعلماء المسلمين.
وقد قرأت الصفحات التي طلبت مني قراءتها، وأدركت الغرض الذي من أجله طلبت هذا.
تحياتي الخالصة، ودعواتي لك بالصحة والسعادة.