الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أغراض الأمثال القرآنية:
إن المتكلم الفصيح الذي يلجأ إلى الأساليب غير المباشرة - ومنها الأمثال - في وصف وبيان ما يريد، إنما يفعل ذلك لحكمة وغرض معين.
والأمثال القرآنية ضربت لأغراض سامية، وكل تلك الأغراض تدور حول غرض أساس، هو البيان والإِيضاح لمراد اللَّه عز وجل، والبلاغ لحقيقة دينه، وحقيقة ما يضاده، وكل ما يحتاج إليه البشر للتعرف على حق اللَّه عز وجل وما يترتب على القيام به من كرامة اللَّه في الدنيا والآخرة، والتعرف على ضده وما يترتب على من سلكه من سخط اللَّه. قال اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ} 1.
وغاية ذلك البيان هو الترغيب في الحق والحث على اعتناقه، والترهيب من الباطل والتنفير منه، والأمثال من رحمة اللَّه عز وجل بعباده حيث يَسَّر بها وبغيرها من ضروب القول كلامه للتذكر والتدبر، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ} 2.
1 سورة الإسراء الآية رقم (89) .
2 سورة القمر الآية رقم (17) .
وقد جمع الأغراض التي تضرب لأجلها أمثال القرآن الكريم الإمام بدر الدين الزركشي بقوله:
"وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير وترتيب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس.. وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطال أمر، قال تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ} 1، فامتن علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد"2.
ويمكن حصر الأغراض التي تُضرب لها أمثال القرآن بما يلي:
1 -
ضرب المثل لإِيضاح المراد وتقريبه للمخاطب.
2 -
إقامة الحجة والبرهان.
3 -
الإقناع بالترغيب في الحق وتحسينه، والترهيب من الباطل وبيان قبحه، والمدح والذم.
4 -
الدلالة على كثير من الحكم والفوائد العلمية.
التربية بإبراز القدوة الحسنة والحث على الاقتداء بها والتنفير
1 سورة إبراهيم الآية رقم (45) .
2 البرهان في علوم القرآن، (1/486) .
1 -
من ضدها.
2 -
أن أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم تعبير الرؤيا.
فهذه هي الأغراض الأساسية التي ضربت من أجلها الأمثال القرآنية، وقد يضرب المثل لأكثر من غرض، وسأقدم فيما يلي شرحاً موجزاً لكل غرض من هذه الأغراض:
أولاً: ضرب المثل لإيضاح المراد وتقريبه للمخاطب.
الممثَّل له قد يكون معنىً أو ذاتاً يجهلها المخاطَب، ويتعذر إحضارها إليه لمشاهدتها، وقد يكون في التعريف بها مباشرة بذكر أوصافها إطالة قد تؤدي إلى تشتيت ذهن المخاطَب، أو التباس الأمر عليه، فيحسن عند ذلك ضرب المثل له لتقريب المعاني الوجدانية، أو الأفكار، أو الذوات المحسوسة الغائبة إلى ذهن المخاطَب بمثال محسوس له إحساساً مادياً أو إحساساً وجدانياً.
ومن أمثلة هذا النوع ضرب المثال لما يكون في الجنة من النعيم المادي المحسوس الذي ليس بمقدور المخاطَبين إدراكه بحواسهم فيقربه اللَّه بمثال محسوس لهم.
قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 1 ونحوها، ومن ذلك ضرب
1 سورة الواقعة الآيتان رقم (22، 23) .
المثل لتقريب تصور ما يكون في النار من العذاب كقوله تعالى: {إِنّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} 1 ونحوها.
فاللؤلؤ، والقصر والجمالة الصفر هي موجودات مادية يحسها المخاطبون بحواسهم المادية.
وقد يشبه لهم ما يراد تقريبه من الأمور الغيبية بأمر محسوس لهم إحساساً وجدانياً، حيث يستقر في أفهامهم وشعورهم قبح ذلك الشيء أو حسنه، ومن ذلك قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ} 2.
حيث استقر في حس المخاطبين الوجداني قبح الشياطين وخبثها وشناعة منظرها.
وقد يكون الممثَّل له سنة من سنن اللَّه الجارية، التي يعامل بها عباده، ليس بمقدور المخاطبين إدراكها بحواسهم، ولكن بمقدورهم إدراكها بعقولهم فيضرب المثل لتصوير تلك الأمور بأبلغ عبارة، وأوجز لفظ.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَ نّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ
…
} 3 الآية.
1 سورة المرسلات الآيتان رقم (32، 33) .
2 سورة الصافات الآية رقم (65) .
3 سورة الحج الآية رقم (31) .
ومن ذلك مجمل حال المؤمن الموحد، ومجمل حال المشرك، قد لا يمكن المخاطب تصورها بحواسه، والمثل أعون شيء على إدراكها وتصورها بأيسر طريق وأوجزه.
قال تعالى في حال المؤمن: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انفِصَامَ لَهَا} 1
وقال في حال المشرك وحال الموحد: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 2.
ومما تقدم يتضح أن من الأغراض التي ضُربت لها الأمثال القرآنية بيان الممثَّل له وتقريب صورته إلى ذهن المخاطب، وأكثر ما يضرب لذلك الأمثال التشبيهية.
ثانياً: إقامة الحجة والبرهان.
يحتاج دعاة الهدى إلى مجادلة المخالفين، لبيان الحق والإقناع به وبيان محاسنه، وكشف الباطل وبيان قبائحه.
1 سورة البقرة الآية رقم (256) .
2 سورة الزمر الآية رقم (29) .
فتارة يقدمون أدلة برهانية وحججاً تفيد اليقين لمن تأملها، وتفكر بها على القضية المطروحة.
وتارة يقدمون أدلة تبين محاسن الحق وفضائله، وقبح الباطل ومخازيه، وآثاره السيئة على معتنقيه، مما يقنع المخاطب ويقربه من الحق، أو ينفره من الباطل.
والأمثال لها دور بارز في هذين المضمارين.
ومن الأمثال التي تُضرب لإقامة الحجة والبرهان على إِمكان البعث بعد الموت، ما ورد في قوله تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1 الآية.
ومن الحجج الدالة على بطلان الشرك ما ورد في قوله تعالى:
1 سورة يس الآية رقم (78) وما بعدها.
2 سورة ق الآيات رقم (9-11) .
ومنها ما ورد في قوله: {إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 2.
ومن الحجج الدالة على بشرية عيسى بن مريم عليه السلام ما ورد في قوله تعالى: {إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} 3.
ويلاحظ أن أغلب - إن لم يكن كل - الأمثال التي وردت لإقامة الحجة هي في قضايا الاعتقاد، وسوف يأتي تفصيل نماذج منها - إن شاء اللَّه - في هذا البحث.
ويتلخص مما تقدم أن من الأغراض التي ضربت لها أمثال القرآن الكريم إقامة الدليل القاطع والبرهان على القضية المرادة.
1 سورة الحج الآية رقم (73) .
2 سورة الأعراف الآية رقم (194) .
3 سورة آل عمران الآية رقم (59) .
ثالثاً: ضرب الأمثال لغرض الإقناع بذكر محاسن الحق والترغيب فيه، وذكر قبائح الباطل والتنفير منه.
هذا الغرض قد استأثر بحظ وافر من أمثال القرآن الكريم، فكثير من الناس قد ينخدع بظاهر الأمر دون أن يسبر غوره، ويتعرف على خفاياه، فإذا كشفت له تلك المساوئ المستورة ومثلت له بمثال معقول مطابق، اقتنع به واستدل به على الحكم الصحيح الذي يجب أن يصير إليه من معرفة حقيقة ذلك الأمر، وعدم الانخداع بظواهره الخلابة.
ومن الأمثال التي تهدف إلى الإِقناع بالحق عن طريق ذكر محاسنه ومزاياه ما ورد لتصوير حال الموحد من اطمئنان نفسه ووضوح الرؤية لديه، وثباته على الصراط المستقيم، واستمساكه بالعروة الوثقى، كما في قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ
1 سورة البقرة الآية رقم (256) .
لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ} 1.
وقوله: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىَ وَجْهِهِ أَهْدَىَ أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} 3.
ومنها ما ورد لتصوير حال الكافر، والمشرك، والمنافق، من حيرته وقلق نفسه وتخبطه في الظلمات، وسرعة استجابته للفتن والمهلكات.
وقد ورد في هذا المعنى كثير من الأمثال القرآنية منها ما تقدم في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ} 4.
1 سورة إبراهيم الآية رقم (24، 25) .
2 سورة الزمر الآية رقم (29) .
3 سورة الملك الآية رقم (22) .
4 سورة الزمر الآية رقم (29) .
وقوله: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىَ وَجْهِهِ أَهْدَىَ أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} 1.
ومنها قوله: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} 2.
ومنها قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ
…
} 3 الآية.
1 سورة الملك الآية رقم (22) .
2 سورة إبراهيم الآية رقم (26) .
3 سورة البقرة الآيات رقم (17-20) .
ومنها ما ورد في بيان قبح حال من آمن بكتب اللَّه ثم أعرض عنها لا يتعلمها ولا يعمل بها مع قدرته على التعلم، وتوفر أسبابه، كما في قوله تعالى:{مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُواْ التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} 3.
ومثله ما ورد في بيان قبح حال من تعلم ولم يعمل بعلمه، كما في قوله تعالى:
1 سورة الأنعام الآية رقم (71) .
2 سورة الأنعام الآية رقم (122) .
3 سورة الجمعة الآية رقم (5) .
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلََكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} 1 الآية. ويدخل في هذا الغرض ما ورد من الأمثال بقصد المدح أو الذم لكن لا يراد به الإقناع وإنما يراد به الإشادة بالممدوح وعيب المذموم، ويصاحب هذا الغرض غرض آخر هو نصب القدوة الصالحة للاقتداء بالممدوح والتنفير من المذموم.
ومما ورد في الذم قوله تعالى:
1 سورة الأعراف الآيتان رقم (175، 176) .
2 سورة الفتح الآية رقم (29) .
{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ} 1 الآية.
ومما تقدم يتضح أن من أغراض الأمثال القرآنية، الإِقناع بحسن الأمر الممثَّل له، بإبراز محاسنه ومزاياه، أو الإقناع بقبحه وفساده، بإبراز مساويه، وخزاياه. كما تأتي الأمثال لغرض مدح الممثَّل له، والإشادة به، ونصبه قدوة أو ذم الممثَّل له وعيبه والتحذير منه ومن طريقه.
رابعاً: الدلالة على كثير من الفوائد العلمية والحكم.
تشتمل الأمثال على كثير من الفوائد العلمية، في جوانب كثيرة منها العقائد وهي أكثرها، والأحكام الشرعية، قال الزركشي:
"فإِن آيات القصص والأمثال وغيرها، يستنبط منها كثير من الأحكام
…
"2.
والحكم والعبر، وبعض الحقائق العلمية في الأمور الدنيوية، والظواهر الكونية وغير ذلك.
وسوف يأتي تفصيل الفوائد المتعلقة بكل مثل بعد دراسته إن شاء اللَّه.
1 سورة التحريم الآية رقم (10) .
2 البرهان في علوم القرآن، (2/4) .
خامساً: التربية بإبراز القدوة الحسنة، والحث على الاقتداء بها، والتنفير من ضدها:
"الأمثال من أفضل السبل للتربية، وتقويم المسالك، وإصلاح النفوس، وصقل الضمائر، وتهذيب الأخلاق، وتنمية الفضائل السامية"1.
ويكون ذلك بتقديم النماذج البشرية الصالحة والنماذج البشرية الطالحة، بقصد توجيه النفوس المخاطبة إلى الاقتداء بالصالحين وتنفيرها من الطالحين.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ} : "حيث بيّن لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ
1 أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، أحمد بن محمد طاحون، ص (5) .
2 سورة محمد الآية رقم (3) .
وَيَحْيَى مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ} 1"2.
وقال الشيخ أحمد بن محمد طاحون: "وفي ميدان الهداية إلى الخير، والتنفير من الشر يقدم القرآن الكريم نماذج لنفوس بشرية، وإِن في دراستها لعبرة، وفي تدبرها عظة، وكم في القرآن الكريم من نماذج لأولياء اللَّه الصالحين: من النبيين، والحكماء، والصديقين، والربانيين، إنها النماذج الصالحة في معتقداتها، ومسالكها، وأخلاقها. في قلوبهم نور وفي عملهم نور وفي أقوالهم نور؛ كما قدم الكتاب العزيز نماذج لنفوس انطوت على الشر والسوء ونفوس انسلخت مما يدعو إليه العلم النافع، والآيات البينات بعد أن علموها، فلم يشرفهم العلم لأنهم لوثوا أنفسهم بالعُجب والغرور، وطلب الدنيا وإيثارها على الآخرة؛ وقدّم نماذج تتلون كما تتلون الحرباء، ظاهرها يَسُرُّ، وباطنها شر وضر"3.
وأمثلة هذا النوع كثيرة في القرآن، منها القصص، فكل قصص القرآن أمثال منصوبة للاعتبار والاقتداء بالصالحين وتحري طريقهم والابتعاد عن طريق الضالين الهالكين، سواء ما نص منها على أنها مثل أم لم ينص.
1 سورة الأنفال الآية رقم (42) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (7/63، 64) .
3 أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، ص (8) .
ومثال ما نص على ضربها مثلاً ما ورد في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} 1.
وقوله: {وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} 2 الآيات.
قال ابن تيمية رحمه الله مبيناً أن القصص أمثال منصوبة للاعتبار: "ونظير ذلك ذكر القصص، فإنها كلها أمثال هي أصول قياس واعتبار، ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها، لأن كل إنسان له في حالة منها نصيب، فيقال فيها:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ} 3.
ويقال عقب حكايتها: {فَاعْتَبِرُواْ يَا أُوْلِي الأبْصَارِ} 4
…
"5.
ومن أمثلة هذا النوع ما ورد في قوله تعالى:
1 سورة يس الآية رقم (13) .
2 سورة الكهف الآية رقم (32) وما بعدها.
3 سورة يوسف الآية رقم (111) .
4 سورة الحشر الآية رقم (2) .
5 دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (1/205) .
{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ
…
} 1 الآية.
وقوله: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ..} 2 الآية.
ومما تقدم يتبين أن من أغراض ضرب الأمثال في القرآن الكريم غرضاً تربوياً يتجلى في إبراز النماذج الخيّرة الصالحة وبيان أعمالهم وأحوالهم وما آل إليه مصيرهم في الدنيا والآخرة لتكون قدوة صالحة يُرغَّب ويُحثُّ على الاقتداء بهم، وإبراز النماذج الشريرة الضالة وتجلية صفاتهم وأعمالهم وأحوالهم وكيف كانت عاقبتهم، ليحذر منهم ومن طريقهم؛ ولا شك أن هذا الأسلوب من أهم أساليب التربية وأكثرها تأثيراً.
سادساً: أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم تعبير الرؤيا:
قال ابن القيم رحمه الله: "وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلال بها، وكذلك من فهم القرآن فإِنه يعبر به الرؤيا أحسن تعبير، وأصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة
1 سورة التحريم الآية رقم (10) .
2 سورة التحريم الآية رقم (11) .
القرآن"1.
وقد بين رحمه الله هذا المعنى في كتابه "إعلام الموقعين"2 وضرب لذلك أمثلة كثيرة نختار منها ما له علاقة بالأمثال.
"فمن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين"3.
وهذا مأخوذ من المثل الوارد في قوله تعالى: {كَأَنّهُمْ خُشُبٌ مّسَنّدَةٌ..} 4 الآية.
ومن ذلك تعبير النساء بالبيض، وهو مأخوذ من قوله تعالى:{كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مّكْنُونٌ} 5.
وتعبير الرماد بالعمل الباطل، مأخوذ من قوله تعالى:{مّثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ..} 6 الآية.
وتعبير النخلة بالرجل المؤمن، مأخوذ من قوله تعالى:
1 إعلام الموقعين عن رب العالمين، (1/193) .
2 من ص (190-195) ج (1) .
3 نفس المصدر ص (191) .
4 سورة المنافقون الآية رقم (4) .
5 سورة الصافات الآية رقم (49) .
6 سورة إبراهيم الآية رقم (18) .
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ..} 1 الآية.
وقال رحمه الله: "فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكّله اللَّه بالرؤيا ليستدل الرأي بما ضرب له من المثل على نظيره، ويعبر منه إلى شبهه، ولهذا سمي تأويلها تعبيراً
…
ولولا أنّ حُكم الشيء حُكم مثله، وحكم النظير حكم نظيره، لبطل هذا التعبير والاعتبار، ولما وجد إليه سبيل؛ وقد أخبر اللَّه سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها، والتفكير فيها، والاعتبار، وهذا هو المقصود بها"2.
ومما تقدم يتبين أن أمثال القرآن تعين على تعبير الرؤيا وكل ما كان الإنسان بها أعرف كان على تعبير الرؤيا أقدر.
الأمثال معالم للهداية:
إن هذه الأغراض المتعددة والهامّة جعلت من الأمثال القرآنية سبباً عظيماً من أسباب الهداية إلى الحق، وخاصة في بيان حقيقة الإِيمان.
قال اللَّه تعالى: {إِنّ اللهَ لَا يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ
1 سورة إبراهيم الآية رقم (24) .
2 إعلام الموقعين، (1/195) .
فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللهُ بِهََذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ} 1.
والضمائر في قوله: {يُضِلّ بِهِ كَثِيراً} وقوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ، وقوله:{وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ} ، تعود على المثل في قوله:{إِنّ اللهَ لَا يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا..} ، قال ابن جرير رحمه الله:"يعني بقوله جل وعز: {يُضِلّ بِهِ كَثِيراً} ، يضل اللَّه به كثيراً من خلقه، والهاء في {بِهِ} من ذكر المثل، وهذا خبر من اللَّه جل ثناؤه مبتدأ، ومعنى الكلام: أن اللَّه يضل بالمثل الذي يضربه كثيراً من أهل النفاق والكفر"2.
والمراد بإِضلال اللَّه، وهدايته بالمثَل: أنه سبحانه يزيد الفاسقين من المنافقين والمشركين من أهل الكتاب وغيرهم- والذين بينت أوصافهم فيما يأتي من السياق - ضلالاً إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه اللَّه لما ضربه له، وأنه موافق لما ضرب له، فذلك إضلال اللَّه إياهم به. ويهدي به كثيراً من أهل الإِيمان والتصديق،
1 سورة البقرة (26) .
2 جامع البيان، (1/218) .
أي يزيدهم هدى وإِيماناً1 حيث "يفهمونها ويتفكرون فيها، فإِن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد علمهم وإِيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها، لِعِلْمهم أن اللَّه لم يضربها عبثاً، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة"2.
وهذه الصفة التي وُصفت بها الأمثال من أنه يُضَلُّ بها أناس ويُهْدَى بها آخرون، مشتركة بين جميع آيات القرآن الحكيم.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
"فهذه حال المؤمنين والكافرين، عند نزول الآيات القرآنية.
فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية.
ومع هذا تكون لقوم محنة، وحيرة، وضلالة، وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة، ورحمة، وزيادة خير إلى خيرهم.
1 انظر: جامع البيان، (1/218) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، (1/65) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/65) .
3 سورة التوبة الآيتان رقم (124، 125) .
فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإِضلال.
ثم ذكر حكمته وعدله في إضلال من يضل، فقال تعالى:{وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ} 1، أي الخارجين عن طاعة اللَّه، المعاندين لرسل اللَّه، الذين صار الفسق وصفهم، فلا يبتغون به بدلاً.
فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم، لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله، هداية من اتصف بالإِيمان، وتحلى بالأعمال الصالحة"2.
والذين هداهم اللَّه بالأمثال هم الذين تفكروا بها تفكراً صحيحاً على نهج وفهم السلف الصالح، ومقتضى مدلولات اللغة، والنظر السليم في صورة الممثَّل به، وسلمت فطرهم، وعقولهم من الانحراف، فهدتهم إلى الحق وبينت لهم مراد اللَّه، واهتدوا بها فزادهم اللَّه هداية وإِيماناً.
أما الفاسقون الذين يضلهم اللَّه لعدم انتفاعهم بالأمثال فهم صنفان:
صنف أعرض عنها فلا يتعلمها، ولا ينتفع بها، وفي المقابل استمسك بالظنون، وهوى النفوس، وضرب لنفسه أو ضُرب له أمثال من الباطل يسوغ بها ما هو عليه من الضلال والجهل.
وصنف آخر أقبل على أمثال القرآن، ومال بمعانيها وحرَّفها لتوافق
1 سورة البقرة الآية رقم (26) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (1/66) .
ما عنده من الأهواء والانحراف فضلّ في فهمها وأضلّ، وزاغ وأزاغ، فأزاغ اللَّه قلبه وأرداه.
وخلاصة هذا المطلب:
أن الأمثال القرآنية ضُربت لأغراض متعددة من أهمها:
1 -
بيان الممثَّل له وتقريب صورته إلى ذهن المخاطبين.
2 -
إقامة الدليل القاطع والبرهان الساطع على القضية المرادة.
3 -
الإقناع بحسن الأمر الممثَّل له، بإبراز محاسنه ومزاياه أو الإقناع بقبحه وفساده، بإبراز مساويه وخزاياه.
4 -
الدلالة على كثير من الحكم والفوائد العلمية.
5 -
التربية بإبراز النماذج الخيِّرة الصالحة، وبيان أعمالهم وأحوالهم وما آل إليه مصيرهم في الدنيا، وما سيصيرون إليه في الآخرة، لتكون قدوة يُرغَّب ويُحثُّ على الاقتداء بهم، وإبراز النماذج الشريرة الضالة، وتجلية صفاتهم وأعمالهم وكيف كانت عاقبتهم، ليُحذر منهم ومن طريقهم.
6 -
أن أمثال القرآن تعين على تعبير الرؤيا، وكل ما كان الإِنسان بها أعرف كان على تعبير الرؤيا أقدر.
كما تبين أن الأمثال القرآنية بهذه الأغراض المتعددة أصبحت من الأسباب الهامّة للهداية - واللَّه أعلم -.
الأمثال القرآنية القياسية للدكتور عبد الله الجربوع