الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: أدلة تنوع المراد بلفظ الإِيمان شرعاً
.
لقد تضمن حديث جبريل عليه السلام الدلالة على معنيين وذلك في سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان حيث قال: "فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ"1.
فالمعنى الأول: هو الإِيمان المسئول عنه، المعبر عنه بقوله:"فأخبرني عن الإِيمان؟ " والذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالأمور الستة.
والمعنى الثاني: الإِيمان باللَّه، الوارد في الجواب، والمعبر عنه بقوله:"أن تؤمن باللَّه"، ولا يخفى أن هذا الإِيمان أصل للإِيمان المسئول عنه، حيث إن هذا الأخير يتضمنه، ويتضمن غيره، إلا أن الأمور الأخرى تابعة للإِيمان باللَّه، الركن الأول.
ومن أدلة إِطلاق "الإِيمان" على الإِيمان القلبي - الإِيمان بالغيب - قول اللَّه تعالى:
1 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان الإِيمان، (8) ، الصحيح (1/37) .
2 سورة البقرة الآيتان رقم (2، 3) .
والإِيمان بالغيب هو: الإِقرار القلبي بكل ما ورد الخبر به عن اللَّه من الأمور المغيبة.
ويشمل: ما أخبر به - سبحانه - أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن اللَّه سبحانه وتعالى أو عن الملائكة، وكتب اللَّه، ورسله، أو من أخبار الأمم السابقة، وما سيكون في مستقبل الزمان، وفي اليوم الآخر، وعن قدر اللَّه وسننه.
فكل هذه الأمور غيبية مدارها على الخبر الصحيح، ويكون الإِيمان بها بإِقرار القلب، لذلك سُمَّي: الإِيمان القلبي.
قال الربيع بن أنس1 رحمه الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} : "آمنوا باللَّه، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب"2.
ويدل على الإِيمان القلبي - أيضاً - كل لفظ للإِيمان قرن بالأعمال الصالحة، في نحو قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} 3.
1 الربيع بن أنس بن زياد البكري، عالم مرو في زمانه، توفي سنة (239هـ) .
انظر: سير أعلام النبلاء (6/169) ، تهذيب التهذيب (3/238) .
2 جامع البيان، لابن جرير، (1/134) .
3 سورة البينة الآية رقم (7) .
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وأما إذا قيد الإِيمان، فقرن بالإِسلام أو بالعمل الصالح، فإِنه قد يراد به ما في القلب من الإِيمان باتفاق الناس"1.
ومن أدلة المعنى الثاني - الإِيمان باللَّه أو أصل الإِيمان القلبي الوارد في الجواب المعبر عنه في حديث جبريل عليه السلام بقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تؤمن باللَّه" - كل آية ورد فيها اشتراط الإِيمان لصحة الأعمال وقبولها، نحو قوله تعالى:
وقوله:
قوله: "وهو مؤمن": جملة حالية، أي حال كونه متلبساً بالإِيمان، وهو شرط في قبول الأعمال، وانتفاعه بها عند اللَّه.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى
1 مجموع الفتاوى، (7/162) .
2 سورة الإِسراء الآية رقم (19) .
3 سورة الأنبياء الآية رقم (94) .
لَهَا
…
} الآية:
"
…
شرع في بيان إِحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده، ذكرانهم وإِناثهم بشرط الإِيمان"1.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} :
"وهذا شرط لجميع الأعمال، لا تكون صالحة، ولا تقبل، ولا يترتب عليها الثواب، ولا يندفع بها العقاب، إلا بالإِيمان
…
فالإِيمان هو الأصل، والأساس، والقاعدة التي يبنى عليها كل شيء؛ وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل مطلق، فإِنه مقيد به"2.
والقدر المشترط في صحة الأعمال أقله الإِيمان الذي يدخل به العبد في الإِسلام، وهو أصل الإِيمان القلبي، فلا يشترط لصحتها كمال الإِيمان القلبي، بأن يؤمن بكل ما ورد من تفاصيل الأركان الستة، وإِنما أقله أن يؤمن بالركن الأول إِيماناً صحيحاً ولو كان مجملاً، وهو يستلزم الإِيمان بالأركان الأخرى، وبغيرها من شعب الإِيمان الواجبة.
وسيأتي بيان طبيعة أصل الإِيمان في المطلب القادم - إِن شاء اللَّه -.
1 تفسير القرآن العظيم، (1/559) .
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (2/177) .
وأصل الإِيمان يطلقه كثير من العلماء على الإِيمان الباطني، وهو إِطلاق صحيح باعتبار أن الإِيمان الباطني أصل للإِيمان العملي ومستلزم له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"1.
قال شيخ الإِسلام ابن تيميه رحمه الله:
"فأصل الإِيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إِيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب ودليل وشاهد عليه، وهي شعبة من مجموع الإِيمان المطلق، وبعض له، ولكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح"2.
ويطلق أصل الإِيمان -أيضاً- على الركن الأول من أركان الإِيمان الستة، باعتباره أصل للإِيمان القلبي، وهو الأصل الذي يعتبر في الدخول في الإِسلام، وقبول الأعمال، وزواله أو بطلانه يُخرج من الإِسلام.
قال ابن حجر رحمه الله في معرض كلامه على حديث جبريل
1 رواه البخاري، كتاب الإِيمان، (52) ، الصحيح مع الفتح، (1/126) .
2 مجموع الفتاوى، (7/644) .
- عليه السلام:
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الإِيمان "أن تؤمن باللَّه وملائكته
…
" الحديث.
قال:
"تنبيه: ظاهر السياق يقتضي أن الإِيمان لا يطلق إلا على من صدق بجميع ما ذكر، وقد اكتفى الفقهاء بإِطلاق الإِيمان على من آمن باللَّه ورسوله، ولا اختلاف، لأَن الإِيمان برسول اللَّه المراد به الإِيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل ما ذكر تحت ذلك. واللَّه أعلم"1.
قوله رحمه الله: "وقد اكتفى الفقهاء.." هذا هو الصواب إذ أنه مقتضى الأدلة الشرعية.
وقوله: "فيدخل ما ذكر تحت ذلك": الذي يدخل في الإِيمان باللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم والذي ينعقد به أصل الإِيمان: هو الإِيمان المجمل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر به، والعزم على طاعة أمره واجتناب نهيه، وتدخل أركان الإِيمان القلبي دخولاً أولياً فيما يستلزمه ذلك الإِقرار، إلا أنه لا يشترط العلم بها وبتفاصيلها لانعقاده.
وسيأتي بيان هذا قريباً - إِن شاء اللَّه -.
وإذا ورد لفظ أصل الإِيمان في هذا البحث فإِن المراد به الإِيمان باللَّه،
1 فتح الباري شرح صحيح البخاري، (1/118) .
الركن الأول من أركان الإِيمان القلبي الستة، الذي يدخل به العبد في الإِسلام، ويشترط في قبول الأَعمال وصحتها.
أما المعنى الثالث الذي يُراد عند إِطلاق لفظ "الإِيمان" فهو الإِيمان الكامل الذي يشمل كل الطاعات القلبية والقولية والفعلية.
ويدل عليه كل لفظ للإِيمان مطلق، غير مقترن بلفظ الإِسلام، أو الأعمال الصالحة ونحوها. ومن ذلك:
قال محمد بن نصر المروزي2 رحمه الله:
"لما كانت المعاصي بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، فرق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق. وأخبر أنه كرهها كلها إلى المؤمنين؛ ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإِيمان، وليس فيها شيء خارج عنه، لم يفرق بينها فيقول: حبب إليكم الإِيمان والفرائض، وسائر
1 سورة الحجرات الآية رقم (7) .
2 الإِمام الحافظ، أبو عبد اللَّه، محمد بن نصر المروزي، ألف: كتاب الإِيمان، وتعظيم قدر الصلاة، وغيرها. توفي سنة:(294هـ) .انظر: سير أعلام النبلاء (14/35)، وتقريب التهذيب ص:(510) .
الطاعات، بل أجمل ذلك فقال:{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} ، فدخل في ذلك جميع الطاعات"1.
ومن الآيات التي تدل على هذا المعنى قوله تعالى:
ومن الأَحاديث التي ورد فيها لفظ الإِيمان مطلقاً دالاً على كماله، حديث شعب الإِيمان المشهور، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:
"الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"3.
وسيأتي قريباً - إِن شاء اللَّه - بيان طبيعة هذا الإِيمان وبعض أدلته، وإِنما المراد ذكر نماذج من النصوص التي تدل على اختلاف المعاني التي تراد بلفظ الإِيمان.
1 مجموع الفتاوى لابن تيمية، (7/42) .
2 سورة الشورى الآية رقم (52) .
3 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان عدد شعب الإِيمان، (57) ، صحيح مسلم، (1/63) .
ويتلخص من ذلك أن لفظ الإِيمان الشرعي يراد به ثلاثة معان هي:
الأول: أصل الإِيمان، الركن الأول من أركان الإِيمان القلبي، وهو أول الإِيمان وابتداؤه، الذي يدخل به العبد في الإِسلام، ويعصم به دمه وماله، وهو شرط لصحة الأعمال وقبولها.
وتقدم من أدلته حديث جبريل عليه السلام حيث فرق فيه بين الإِيمان المسئول عنه - والإِيمان باللَّه الوارد في الجواب، ودلت إِجابة النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإِيمان المسئول عنه هو كمال الإِيمان القلبي، والإِيمان باللَّه الوارد في الجواب هو أصله.
كما يدل عليه كل دليل جُعِل فيه الإِيمان شرطاً لصحة الأعمال. فإِن أقل ما يشترط لذلك هو انعقاد أصل الإِيمان.
الثاني: الإِيمان القلبي، أو الإِيمان بالغيب، المتضمن للإقرار بالأركان الستة، والمستلزم للإِيمان المطلق الكامل.
وتقدم من أدلته حديث جبريل عليه السلام حيث فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالأركان الستة: الإِيمان باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
ومن أدلته - أيضاً - كل دليل اقترن فيه لفظ الإِيمان بلفظ الإِسلام أو الأعمال الصالحة.
الثالث: الإيمان المطلق الكامل، الذي يشمل كل الدين.
وأدلة هذا المعنى كل دليل ورد فيه لفظ الإِيمان مطلقاً غير مقترن بلفظ الإِسلام، أو الأعمال الصالحة، أو أي قيد آخر، واللَّه أعلم.