المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابع: في المعنى الرابع للفظ "مثل - الأمثال القرآنية القياسية المضروبة للإيمان بالله - جـ ١

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: مقدمات في الأمثال…وتعريف الإيمان

- ‌الفصل الأول: مقدمات في الأمثال

- ‌المبحث الأول: المعاني الرئيسة للفظ "مثَل

- ‌المطلب الأول: في المعنى الأول للمثل

- ‌المطلب الثاني: في المعنى الثاني للفظ "مثل

- ‌المطلب الثالث: في المعنى الثالث للفظ (مثل)

- ‌المطلب الرابع: في المعنى الرابع للفظ "مثل

- ‌المطلب الخامس: أي أنواع المثل هو المقصود بهذه الدراسة:

- ‌المطلب السادس: المراد بضرب الأمثال:

- ‌المبحث الثاني: مقومات المثل القياسي

- ‌المطلب الأول: اشتمال المثل على القياس

- ‌المطلب الثاني: الحكمة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الأمثال القرآنية وأغراضها

- ‌المطلب الأول: في بيان أهمية أمثال القرآن

- ‌المطلب الثاني: أغراض الأمثال القرآنية:

- ‌الفصل الثاني: مقدمات في تعريف الإيمان

- ‌المبحث الأول: تعريف الإِيمان في اللغة

-

- ‌المبحث الثاني: المعاني الشرعية للفظ "الإِيمان

- ‌المطلب الأول: أدلة تنوع المراد بلفظ الإِيمان شرعاً

- ‌المطلب الثاني: بيان أصل الإِيمان

- ‌المطلب الثالث: في تعريف الإِيمان القلبي

- ‌المطلب الرابع: في تعريف الإِيمان الكامل

الفصل: ‌المطلب الرابع: في المعنى الرابع للفظ "مثل

‌المطلب الرابع: في المعنى الرابع للفظ "مثل

":

يطلق لفظ "مَثَل" بمعنى المثال.

وعبر عنه بعضهم بقوله: "إطلاق كلمة المثل بمعنى النموذج من ذي أفراد متعددة"1.

وهو مأخوذ من المثول والانتصاب، ورد في لسان العرب:"ومَثُل الشيء يمثل مثولاً: قام منتصباً، ومَثُل بين يديه مثولاً أي انتصب قائماً، ومنه قيل لمنارة المسرجة ماثلة"2.

وقال أَيْضاً:

"والمِثْل ما جعل مثالاً أي مقداراً يحذى عليه، والجمع: المُثُل، وثلاثة أمثلة"3.

أما حدُّه فقد بينه الراغب الأصفهاني بقوله:

"والمثال: بمعنى مقابلة الشيء بشيء هو نظيره، أو وضع شيء ما ليحتذى به فيما يفعل"4.

قوله: "مقابلة الشيء بشيء هو نظيره": يقصد المعنى السابق الذي

1 أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع للدكتور عبد الرحمن حبنكه، ص (24) .

2 لسان العرب (47/614) .

3 نفس المصدر ص (612) .

4 المفردات في غريب القرآن، ص (463) .

ص: 71

تم ذكره في المطلب السابق، وهي الأمثال التشبيهية.

وقوله: "أو وضع شيء ما ليُحتذى به فيما يُفْعَل": يقصد الأمثال أي النماذج أو الشواهد أو الحجج التي تنصب أمام عقل السامع ليقيس عليها ويعتبر بها.

قوله: "ليُحتذَى به فيما يُفعل": ذكر فرداً من نتائج الاعتبار وهو الاقتداء والمحاكاة لمن جُعل مثالاً وأنموذجاً يُقْتدى به. وقد تكون نتيجة الاعتبار هي القبول للحجة أو الشاهد أو النفور من الأنموذج السيئ ونحو ذلك.

ولهذا النوع من الأمثال استخدامات واسعة في اللغة، من أهمها:

أولاً: الأنموذج الجامع لحقائق الشيء وصفاته، ومن ذلك: أن تجعل سيرة أو قصة شخص ما أو جماعة ترتضي طريقتهم مثلاً يُقتدى به، أو ضدهم ليحذر من طريقتهم وسلوكهم. مثال ذلك لو قيل:"مثلك في الحزم عمر".

أو قيل: "أيوب عليه السلام مَثَل في الصبر على الابتلاء".

ومن ذلك إذا جعل شيء مثلا لشيء باعتبار أنه استجمع صفاته وحقائقه. كأن يقال: "الإسلام هو المثل في العدل".

باعتبار أن الإسلام يحقق العدل في مجالات الحياة. فكل تعاليمه وأحكامه عادلة. فأصبح مثلا للعدل جامعا لكل خصاله وصفاته وحقائقه.

ص: 72

وكقولنا: "فرعون مثل للطغيان والاستكبار".

وذلك باعتبار أن فرعون قد جمع كل صفات وأحوال الطغاة، وجرى منه أشمل ما يجري من الطغيان. فأصبح بذلك مثلا للطغيان والطغاة جامعا لصفاتهم وأحوالهم. وبالمقارنة بها يستدل عليهم.

ولذلك جعله الله وقومه مثلا - في الطغيان والاستكبار - لمن بعدهم من الناس، وجعل ما حل بهم عبرة، قَال تعالى:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} 1.

ومن ذلك إذا قيل: "النار مثل السوء"، باعتبار أنها جمعت صفات وحقائق السوء. فكل أنواع السوء وأعظمه هو ما يكون فيها. فأصبحت لذلك مثلا له.

وهذا الاعتبار يبين - والله أعلم - مراد ابن عباس رضي الله عنهما حيث فسر "مثل السوء" في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} 2: بالنار.

وقد استشكل بعض المفسرين هذا التفسير، وبعضهم شكك في

1 سورة الزخرف آية (56) .

2 سورة النحل آية (60) .

ص: 73

نسبته إليه.1

والحق أن هذا التفسير له وجه في اللغة كما تقدم من أنه أراد أنها جامعة لحقائق السوء، وأعظمه وأشمله. وإن كان في تفسير الآية به نظر.2

فيطلق لفظ "مثل" على ما كان جامعا لحقائق وصفات وأحوال معينة متجانسة، باعتباره أصبح أنموذجا دالا عليها. فيقال: كذا مثل لكذا بهذا الاعتبار. ومن هذا النوع ذكر القصص التي يراد منها إيصال حكمة أو تجربة أو حيلة لينتفع منها السامع أو القارئ في أمر أو موقف أو حال يكون فيها.

وقد كثر هذا النوع من الأمثال القصصية في كتاب: "كليلة ودمنه"3 ونحوه - حيث تكثر الأمثال التعليمية المضروبة

1 انظر: الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، لابن القيم (2/685) وروح المعاني للألوسي، (13/170) .

2 سيأتي - إن شاء الله - بيان ذلك في موضعه من الباب الثالث، الفصل الثاني.

3 "كتاب كليلة ودمنة مما وضعته علماء الهند على لسان الطير والوحش وغير ذلك في الحكم والأمثال"، "ويقال: إن ابن المقفع هو الذي وضع كتاب كليلة ودمنة، وقيل: إِنه لم يضعه وإنما كان فارسياً فنقله إلى العربية، وإن كان الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه".

قال أبو الريحان البيروني: "وبودي أن كنت أتمكن من ترجمة كتاب (بنج تنترا) وهو المعروف عندنا بكتاب كليلة ودمنة، فإِنه تردد بين الفارسية والهندية ثم العربية والفارسية على ألسنة قوم لا يؤمن تغييرهم إياه، كعبد اللَّه بن المقفع في زيادته باب برزوية فيه، قاصداً تشكيك ضعيفي العقائد في الدين، وكسرهم للدعوة إلى مذهب المنانية [فرقة من فرق المجوس] ، وإذا كان متهماً فيما زاد لم يخل عن مثله فيما نقل".

انظر لكل ما تقدم: كتاب كليلة ودمنة، ص (17، 26) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى، 1393هـ.

ص: 74

بواسطة القصص.

ورود هذا النوع من الأمثال في القرآن:

لقد كثر ورود هذا النوع من الأمثال في القرآن الكريم1، وذلك أن اللَّه سبحانه يضرب للمؤمنين المطيعين أمثالهم من الأمم السالفة ليقتدوا بهم في استقامتهم على نهج ربهم، وصبرهم وثباتهم عليه، كما يضرب للكافرين والمنافقين وغيرهم من الضلال أمثالهم ليعظهم وينذرهم ويحذر من طريقتهم.

قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ} 2.

وقال سبحانه بعد أن ذكر ما كان من فرعون في إضلاله لقومه وصرفهم عن اتباع رسوله موسى عليه السلام وما نزل بفرعون وقومه من الانتقام حيث أغرقهم أجمعين، فقال سبحانه بعد ذلك: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا

1 انظر أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، للشيخ احمد بن محمد طاحون.

2 سورة محمد، الآية رقم (3) .

ص: 75

وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} 1.

وقال عز من قائل مبيناً أن ما قصه في كتابه من أخبار المؤمنين وأخبار الكافرين إنما هي أمثال ضربت للآخرين ليعتبروا بها.

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ} 2.

وبين سبحانه أن من حجته البالغة على من ظلم بتكذيب الرسل والإفساد في الأرض ومات على ذلك، ضرب الأمثال بما جرى على الأمم الظالمة التي تقدمته فقال سبحانه:{وَأَنذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ رَبّنَآ أَخّرْنَآ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ نّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتّبِعِ الرّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوَاْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ} 3.

فالقصص في القرآن الكريم كلها أمثال ضربت للناس ليتأملوها ويستخلصوا منها العبر.

1 سورة الزخرف، الآية رقم (56) .

2 سورة النور، الآية رقم (34) .

3 سورة إبراهيم، الآية رقم (44- 45) .

ص: 76

قال ابن تيمية رحمه الله:

"ونظير ذلك ذكر القصص فإنها كلها أمثال هي أصول قياس واعتبار"1.

ومن شواهد هذا النوع في القرآن الكريم ما ورد في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ} 2.

{وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنّةِ وَنَجّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} 3.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} 4.

ولا يلزم في كون القصة مثلاً أن تصدر بالأمر بضربها مثلاً، وإنما

1 دقائق التفسير، الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (1/205) .

2 سورة التحريم، الآية رقم (10) .

3 سورة التحريم، الآية رقم (11) .

4 سورة الكهف، الآية رقم (32) .

ص: 77

كل القصص الواردة في القرآن الكريم هي أمثال كما تقدم تقرير ذلك.

ورود هذا الاستخدام لهذا النوع في السنة المطهرة:

لم يرد استخدام هذا النوع من معاني المثل كثيراً في السنة المطهرة، ومن الأحاديث القليلة التي ورد فيها المثل بمعناه الأنموذجي قوله صلى الله عليه وسلم:

"إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ1 فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ"2.

ففي هذا المثال لا يوجد تشبيه من حيث الأسلوب، وإنما أبرز طعام ابن آدم مثالاً ليقاس عليه حال الدنيا ومتعها وما تنتهي إليه.

1 قوله: "قزحه وملحه"، القزح (بالكسر) : بزر البصل والتابل. انظر: ترتيب القاموس، للطاهر الزاوي، (3/ 613) - ويقال للطبيخ اللذيذ:"قزيح مليح".

والمراد: أن طعام ابن آدم وإن اعتنى بطبخه فوضع فيه التوابل والملح، فإِنه يصير في النهاية إلى الخراءة.

2 رواه عبد اللَّه بن الإمام أحمد في زوائده في المسند من حديث أبي بن كعب، "واللفظ له"، (5/136) . وابن حبان، انظر: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/476) . وصححه المحقق شعيب الأرناؤوط.

وقال الهيثمي: "رواه عبد اللَّه والطبراني (في الكبير531) ورجالهما رجال الصحيح غير عُتي وهو ثقة" مجمع الزوائد، (10 /288)

وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/116) .

ص: 78

ثانياً: يستخدم لفظ "مثل" بمعنى "المثال" في ضرب المثل لإيضاح القاعدة أو القضية أو الفكرة والاستشهاد لها.

ومن ذلك الشواهد اللغوية1 كقولنا: الكلام هو اللفظ المفيد، مِثْل: محمد رسول اللَّه. أو: مَثَل ذلك: محمد رسول اللَّه. أَو: مِثال ذلك: محمد رسول اللَّه. ومن ذلك الشواهد أو الحجج التي تقام وتضرب لتكون أدلة على صدق الدعوى أو بطلان قول المخالف. كأن يقال: أدلة إثبات ربوبية اللَّه عز وجل كثيرة، مِثْل: اختلاف الليل والنهار، وخلق السموات والأرض.

أو أن يقال: حيرة الماديين الملحدين وتناقضهم ظاهر في أقوالهم المنكرة مثل: إنكارهم شهود الحكمة في الخلق والقول بالصدفة.

وقد يبرز الدليل والحجة باستخدام لفظ "مثل" بطريقة أخرى كأن يقال: ضُرِب ما يشاهد من الملاءمة الوظيفية في أعضاء المخلوقات والتكامل بينها مَثَلاً على حكمة الخالق عز وجل.

والمراد أنه نُصب للعقول وجُعل مثلاً: أي شاهداً وحجة على ثبوت الحكمة في الخلق مما يدل على وجود الصانع الحكيم.

1 قال في لسان العرب: "والمَثَل ما جعل مثالاً أي مقداراً لغيره يحذى عليه.. ومنه: أمثلة الأفعال والأسماء في باب التصريف"(47/612) .

ص: 79

ورود هذا الاستخدام في القرآن العظيم:

قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 1.

المثل هنا المراد به: الشاهد والحجة التي تورد وتنصب للعقول لتدل على صحة الدعوى، وهي باعتبار مُورِدها شاهد وحجة، أما في واقع الحال وحقيقة الأمر فقد تكون حجة صحيحة وقد تكون شبهة.

قال ابن كثير2 رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} قال: "أي بحجة وشبهة {إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم"3.

والمراد أنهم كلما جاؤوا بقول يجعلونه شاهداً وحجة على صحة ما يقولون، فإِن اللَّه ينزل على رسوله شواهد الحق الواضحة البينة التي تدفع ما جاؤوا به.

1 سورة الفرقان، الآية رقم (33) .

2 الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الشافعي، ألف تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية، وطبقات الشافعية، وغيرها، توفي سنة (774هـ) .

انظر: شذرات الذهب (6/237)، والبدر الطالع:(1/153)

3 تفسير القرآن العظيم (3/318) .

ص: 80

وقال تعالى: {وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ وَقَالُوَاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 1.

الذي ضرب المثل - واللَّه أعلم - هم كفار قريش، بدليل قوله تعالى:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً} أي ذكروه ونصبوه في معرض المجادلة ليكون شاهداً وحجة على صحة ما هم عليه من الباطل من عبادة الأوثان، وليبطلوا به ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم من بطلان عبادتها وأنها مع مَن عبدها في نار جهنم.

كما ورد لفظ "مثل" بمعنى الحجة والشاهد على الحق في الآية التي بعدها في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ} ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِي إِسْرَائِيلَ} : "أي دلالة وحجة وبرهاناً على قدرتنا على ما نشاء"2.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً} 3 وقال: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ

1 سورة الزخرف الآيتان رقم (57، 58) .

2 تفسير القرآن العظيم، (4/133) .

3 سورة الإسراء، الآية رقم (89) .

ص: 81

الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1. المراد بالمثل في الآيتين: الحجة والشاهد والدليل على الحق.

يدل على ذلك أن الآية الأولى وردت بعد أدلة التوحيد والنبوة والتحدي بالقرآن2.

وعلق ابن تيمية رحمه الله على الآية الثانية بقوله: "ينبه على أنها براهين وحجج تفيد تصوراً أو تصديقاً"3.

أي أن قول اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ} يدل على أن اللَّه تعالى ذكر في كتابه أنواع الحجج والبراهين الشاهدة على الحق المبينة له.

وهذا المعنى هو المراد - واللَّه أعلم - بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} 4.

أي ذُكِر دليل وحجة وشاهد ونصب وأشخص ليكون ماثلاً أمام عقولكم أيها الناس، فاستعموا له استماع تدبر وتعقل، ليتبين لكم عجز هذه الآلهة التي تُعبد من دون اللَّه وعدم أهليتها للألوهية وما يُصرف إليها

1 سورة الكهف، الآية رقم (54) .

2 دقائق التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، (1/210) .

3 نفس المصدر.

4 سورة الحج، الآية رقم (73) .

ص: 82

من العبادة.

وخلاصة معنى الآية: يا أيها الناس أقيمت حجة وأشخص شاهد فاستمعوا له وتدبروه، ثم ذكر تلك الحجة بقوله تعالى:{إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ..} الآية.

وهذا المعنى للمثل جدير بالعناية والاهتمام لخفائه على كثير من المفسرين والباحثين في الأمثال، والذين يفسرون المثل في كل موضع بالشبه، فيجدون صعوبة في فهم الأمثال الأنموذجية، أو المنصوبة لتكون حجة وشاهداً على أمر معين.

هذا ما تبين لي فيما يتعلق بهذا المعنى، والفرق بينه وبين المعاني الأخرى.

وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك، فالأمر لا يخلو من إشكال.

قال ابن تيمية رحمه الله:

"وهذه التي أشكل تسميتها أمثالاً، كما أشكل تسميتها قياساً، حتى اعترض بعضهم قوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} 1، فقال: أين المثل المضروب؟

وكذلك إذا سمعوا قوله: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ

1 سورة الحج، الآية رقم (73) .

ص: 83

مَثَلٍ} 1، يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال"2.

أما عن ورود هذا المعنى في السنة المطهرة:

فلم يتبين لي فيما اطلعت عليه من أمثال النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخدم لفظ "مثل" بمعنى الشاهد والحجة. واللَّه أعلم.

اشتمال هذا النوع من الأمثال على القياس:

إن هذا النوع من الأمثال - الأمثال الأنموذجية أو الشواهد والحجج المنصوبة - لا تتضمن تشبيهاً من حيث الأسلوب لكنها قائمة على القياس وتستلزم التدبر والاعتبار.

وذلك أن هذا النوع من الأمثال ينصب فيه المثل - سواء كان شخصاً، أو قصة، أو شاهداً كلامياً، أو حجة أو غيره - أمام عقل السامع ليقيس عليه ما يناسبه ويعتبر به.

والقياس هنا يستند إلى مبدإ شمول الأحكام للمتماثلات الذي تقضي به أصول الحقائق، أو تقضي به حكمة الخالق في خلقه، وفي تصاريف عدله، وفي ثبات سنته، فينتج أحكاماً عامة تشمل سائر الأفراد المماثلة لما جاء في المثل.3

1 سورة الروم، الآية رقم (58) .

2 دقائق التفاسير، (1/205) .

3 انظر: أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع ص (24) .

ص: 84

وهذا النوع يسمى قياس الشمول1 وهو يختلف عن قياس التمثيل الذي يمثل فيه الشيء المعين بشيء معين، وهو القياس الذي تقوم عليه الأمثال التشبيهية التي سبق بيانها في المطلب السابق.

وخلاصة هذا المطلب:

تبين مما تقدم أن من معاني "المثل" معنى الأنموذج والشاهد والحجة. وأن هذه المعاني تستخدم كثيراً، وخاصة في مجال التربية والتعليم والمجادلة والمحاجة، وهذا النوع من الأمثال مع الأمثال التشبيهية هي المقصودة - واللَّه أعلم- بقوله تعالى:

{وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 2.

وهذا النوع من الأمثال مع أهميته وانتشاره في تصاريف الكلام لم يلْق ما يناسبه من العناية في المؤلفات اللغوية القديمة والحديثة. ولم أقف على من أفرد لما ورد من هذا النوع من الأمثال في اللغة بمؤلف مستقل.

أما ما ورد من هذا النوع من الأمثال في القرآن الكريم، فإنه يرد ضمن الكتب التي تبحث في أمثال القرآن عامة، وهناك بعض الكتب

1 سيأتي - إن شاء اللَّه- الكلام على القياس وتعريف هذه الأنواع في الموضع المخصص له من المبحث القادم: مقومات الأمثال.

2 سورة الكهف، الآية رقم (54) .

ص: 85

التي تبحث في الأمثال التي تُعنى بالتربية والقدوة1، أما جانب الأمثال التي تبرز الشواهد والحجج فلم أقف على من أفردها بمؤلف مستقل -واللَّه أعلم-.

1 مثل: كتاب أمثال ونماذج بشرية من القرآن العظيم، للشيخ / أحمد بن محمد طاحون، الناشر: هجر للطباعة والنشر، مصر، الطبعة الأولى، 1411هـ.

وكتاب: ظاهرة الأمثال من الكتاب والسنة وكلام العرب وآثارها في تربية الجيل المسلم، لمصطفى عيد الصياصنة، دار المعراج الدولية للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ.

ص: 86