الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: بيان أصل الإِيمان
.
أصل الإِيمان في القلبِ، وبصلاح ما في القلب أو فساده يكون صلاح الأَعمال أو فسادها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ"1.
وقد وردت أحاديث تبيّن الأمور التي ينعقد بها أصل الإِيمان، ويحصل بها أوَّلُه ومبتداه، ويدخل به العبد في الإِسلام، ويوجب له الجنة، وعصمة دمه وماله، وتجري عليه أحكام المسلمين.
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلَاّ دَخَلَ الْجَنَّةَ"2.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي
1 متفق عليه، البخاري: كتاب الإِيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ح (52)(1/126) مع الفتح، ومسلم: كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال، ح (1599) ، (3/1220) .
2 متفق عليه، البخاري: كتاب اللباس، باب الثياب البيض، ح (5827)، (1/283) . ومسلم: كتاب الإِيمان، باب من مات لا يشرك باللَّه شيئاً، ح (94)(1/95) .
وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَاّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"1.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ. وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ. وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ"2.
وقد استند أهل العلم إلى هذه النصوص ونحوها، في بيان الأمور التي ينعقد بها أصل الإِيمان.
قال القاضي عياض3 رحمه الله:
"ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين، لا تنفع إِحداهما ولا تنجي من النار دون الأُخرى، إلا لمن لم يقدر على الشهادتين
1 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس، ح (34) ، (1/52) .
2 متفق عليه، واللفظ للبخاري: كتاب الإِيمان، باب زيادة الإِيمان ونقصانه، ح (44) ، الصحيح مع الفتح، (1/103)، ومسلم: كتاب الإِيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، ح (325) ، (1/182) .
3 القاضي، أبو الفضل، عياض بن موسى بن عياض، السبتي، اليحصبي، ولد سنة (476هـ) بمدينة سبتة، له مؤلفات كثيرة منها: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، وكمال المعلم بفوائد مسلم، وترتيب المدارك، وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، وغيرها، توفي سنة (544هـ) .
انظر: وفيات الأعيان (3/483) . وسير أعلام النبلاء (20/212) .
لآفة بلسانه، أو لم تمهله المدة ليقولها، بل اخترمته المنية"1.
وقال النووي رحمه الله – في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ" 2، قال:
"وفيه أن الإِيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما، واعتقاد جميع ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم"3.
وقال شيخ الإِسلام ابن تيميه رحمه الله:
"فأصل الإِيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إِقرار بالتصديق والحب والانقياد"4.
وقال أيضاً: "فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إِله إِلَاّ اللَّه، وأن محمداً عبده ورسوله. وهذه الكلمة بها يدخل الإِنسان في الإِسلام
…
فيكون معه من الإِيمان هذا الإِقرار، وهذا الإِقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الريب.. لكن لا بد من الإِقرار بأنه رسول اللَّه، وأنه صادق في كل ما أخبر به عن اللَّه"5.
1 شرح النووي على صحيح مسلم، (1/219) .
2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس..، ح (34) ، (1/52) .
3 شرح النووي على صحيح مسلم، (1/212) .
4 مجموع الفتاوى، (14/119) .
5 كتاب الإِيمان، ص (231) ، (232) .
وقال الإِمام ابن رجب1 رحمه الله:
"ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإِسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلماً.
فإِن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما، ويصير بذلك مسلماً، فإِذا دخل في الإِسلام، فإِن أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وقام بشرائع الإِسلام، فله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، وإِن أخل بشيء من هذه الأركان، فإِن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا
…
"2.
إلى أن قال: "وقوله: "وحسابهم على اللَّه" يعني: أن الشهادتين مع إِقام الصلاة، وإِيتاء الزكاة، تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا، إلا أن يأتي ما يبيح دمه. أما في الآخرة، فحسابهم على اللَّه عز وجل، فإِن كان صادقاً، أدخله اللَّه بذلك الجنة، وإِن كان كاذباً، فإِنه من جملة المنافقين،
1 الإمام الحافظ العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، صنف شرحاً لصحيح البخاري ولم يتمه، والقواعد الفقهية، وجامع العلوم والكلم، وغيرها، توفي سنة (795هـ) .
انظر: شذرات الذهب، (6/339) والجوهر المنضد:(46) .
2 جامع العلوم والحكم، شرح خمسين حديثاً من جوامع الحكم، ت: سليم الهلالي، الطبعة الأولى، ص (131) .
في الدرك الأسفل من النار"1.
ومما تقدم نستخلص أهم الأمور التي ينعقد بها أصل الدين، وهي:
1-
النطق بالشهادتين.
2-
العلم بهما.
3-
التصديق والاعتقاد لما دلتا عليه من توحيد اللَّه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر به عن اللَّه والعزم على الانقياد لموجب ذلك.
4-
حب اللَّه، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الدين.
فإِذا جاء العبد بهذه الأمور فقد جاء بأصل الإِيمان صحيحاً، ويثمر له ذلك:
1-
أنه يدخل به في الإِسلام.
2-
تبدأ حياة قلبه ويقذف فيه النور.
3-
يقبل منه العمل الصالح إذا عمله.
4-
يكون من أهل الجنة - إِن مات على ذلك- وإِن أصابه قبل ذلك ما أصابه.
ثم هو مطالب، بتكميل إِيمانه وتحقيقه، بالإِتيان بشعب الإِيمان علماً وعملاً، بفعل ما أمر اللَّه به، واجتناب ما نهى عنه، والمسارعة في الخيرات.
1 جامع العلوم والحكم، ص (136) .
اشتمال أصل الإِيمان على التوحيد:
إِن أصل الإِيمان يرتكز على الإِتيان بالشهادتين نطقاً واعتقاداً، ولذلك فإِن معرفة ما يتضمنه أصل الإِيمان من التوحيد يتوقف على معرفة الشهادتين.
والتوحيد يرتكز على أمرين متلازمين هما: الكفر بالطاغوت، والإِيمان باللَّه بمعرفته، وإِخلاص العبادة له.
ولتجلية هذا الأمر لا بد من معرفة معنى الشهادتين وما تدلان عليه من الإِقرار بتوحيد اللَّه، والكفر بالطاغوت، والتصديق بالرسالة، والعزم على اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم وعبادة اللَّه بشريعته.
معنى الشهادتين:
ويكون الكلام على ذلك في فرعين:
الفرع الأول: في معنى شهادة أن لا إِله إلا اللَّه.
الفرع الثاني: معنى شهادة أن محمداً رسول اللَّه.
الفرع الأول: في معنى شهادة أن لا إِله إلا اللَّه.
إِن معنى شهادة أن لا إِله إلا اللَّه، يتم بمعرفة ألفاظها، ودلالة أسلوبها- أسلوب الحصر- المبني على النفي والإثبات.
أولاً: معنى ألفاظ شهادة أن لا إِله إلا اللَّه.
"أشهد": فعل مشتق من الشهادة.
قال الراغب رحمه الله:
"والشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر"1.
"وشهدت يقال على ضربين: أحدهما: جار مجرى العلم، وبلفظه تقام الشهادة"2.
فالشهادة لا بد فيها من علم الشاهد بما يشهد به، وقد ورد في النصوص ما يدل على استلزام لفظ الشهادة العلم.
منها قوله تعالى عن إِخوة يوسف عليه السلام: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَاّ بِمَا عَلِمْنَا} 3.
1 المفردات في غريب القرآن، ص (268) .
2 نفس المصدر والصفحة.
3 سورة يوسف الآية رقم (81) .
وقوله - سبحانه -: {إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1.
فالمتشهد بشهادة أن لا إِله إلا اللَّه يلزمه أن يكون عالماً بها إذ أن العلم يستلزمه قوله: أشهد. وقد ورد في النصوص ما يدل على وجوب معرفة معناها لكي ينتفع بها العبد.
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه} 2.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه دَخَلَ الْجَنَّةَ"3.
وسوف يأتي قريباً - إِن شاء اللَّه - بيان الأمور التي يجب على المتشهد بها معرفتها.
معنى إله: الإِله هو المعبود.
قال الراغب رحمه الله:
"وإِله جعلوه اسماً لكل معبود لهم
…
فالإِله على هذا هو المعبود"4.
1 سورة الزخرف الآية رقم (86) .
2 سورة محمد الآية رقم (19) .
3 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، ح (43) ، (1/55) .
4 المفردات في غريب القرآن، ص (21) .
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في ذكر وصية نبي اللَّه يعقوب عليه السلام لبنيه: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1. قال:
"ويعني بقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} أي شيء تعبدون {مِنْ بَعْدِي} ؟ أي من بعد وفاتي؟ قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} ، يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إِبراهيم وإِسماعيل، وإِسحاق، {إِلَهًا وَاحِدًا} أي: نخلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئاً، ولا نتخذ دونه رباً".2
لفظ الجلالة (اللَّه) : عَلَم على الإِله الحق المستحق وحده للعبادة، خالق كل شيء ومالكه وربه ومدبّره، الذي له المثَل الأعلى، والأسماء الحسنى، المتصف بجميع أوصاف الكمال، وهو اسم خاص به - سبحانه - لا يسمى به غيره.3
1 سورة البقرة الآية رقم (133) .
2 جامع البيان، (1/613) .
3 المفردات، للراغب الأصفهاني، ص (21) .
وهو مشتق من إله، وأصله الإله.1
قال ابن القيم رحمه الله:
"ولكن الذين قالوا بالاشتقاق
…
أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإِلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع والبصير
…
لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة عنها تولد الفرع عن اسمه. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإِنما باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة، ولا محذور في اشتقاق أسماء اللَّه بهذا المعنى"2.
أما معنى اسمه تعالى (اللَّه) فهو كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما ورجحه ابن جرير وغيره: ذو الألوهية والمعْبُوديه على خلقه أجمعين.3
1 انظر جامع البيان لابن جرير، ح (1/82، 83) والمفردات في غريب القرآن (21) . وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت: د. الوليد آل فريان، (1/71، 72) .
2 بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزية، ت: بشير محمد عيون، (1/25) ، مكتبة المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، (1415هـ) .
3 جامع البيان، (1/82) ، وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد (1/72) .
ثانياً: دلالة أسلوبها:
تقدم أن أسلوب شهادة أن لا إله إلا اللَّه أسلوب حصر قائم على النفي والإِثبات.
ومن المناسب قبل الكلام على دلالة ذلك أن أشير إلى إِعرابها.
قال صاحب كتاب:"الإعراب المفصل لكتاب اللَّه المنزل" عند إعرابه لقوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} من قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1.
"لا: نافية للجنس، تعمل عمل "إِن".
إِله: اسمها مبني على الفتح، في محل نصب.
إِلَاّ: أداة حصر واستثناء.
هو: المستثنى في موضع رفع بدلاً من موضع "لا إله" لأن وضع لا وما عملت فيه الرفع بالابتداء.
وخبر لا النافية للجنس: محذوف تقديره موجود"2.
قوله في خبر لا النافية للجنس: "تقديره موجود" ليس بصحيح في المعنى، وإِن كان مستقيماً في الإِعراب، وذلك أن تقدير موجود يؤدي إلى
1 سورة البقرة الآية رقم (163) .
2 بهجت عبد الواحد صالح، (1/206) ، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمَّان، الطبعة الأولى، 1414هـ.
أن يكون معنى الشهادة غير مطابق للواقع من وجود آلهة كثيرة عبدت وما زالت تُعبد من دون اللَّه.
وقد بين هذا المعنى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز رحمه الله بقوله:
".. ما قاله النحاة
…
من تقدير الخبر بكلمة "في الوجود" ليس بصحيح، لأن الآلهة المعبودة من دون اللَّه كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ "في الوجود" لا يحصل به المقصود من بيان لحقيقة ألوهية اللَّه سبحانه وبطلان ما سواها، لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون "لا إِله في الوجود إلا اللَّه"؟ وقد أخبر اللَّه سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله - سبحانه -:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه مِنْ شَيْءٍ} 1، وقوله - سبحانه -:{فَلَوْلَا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّه قُرْبَانًا آلِهَةً} 2 الآية.
فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض وبيان عظمة هذه الكلمة وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون اللَّه، إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة "حق" لأنها هي التي توضح
1 سورة هود الآية رقم (101) .
2 سورة الأحقاف الآية رقم (28) .
بطلان جميع الآلهة وتبين أن الإله الحق والمعبود بالحق هو اللَّه وحده كما نبه على ذلك جمع من أهل العلم منهم أبو العباس ابن تيميه وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم الله.
ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 1 فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق وأن ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون اللَّه من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات، واتضح بذلك أنه المعبود بالحق وحده، ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الإقرار بها لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحق عن غير اللَّه سبحانه ولهذا قالوا جواباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا اللَّه {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2، وقالوا أيضاً:{أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 3 وما في معنى ذلك من الآيات.
وبهذا التقدير يزول جميع الإشكال ويتضح الحق المطلوب واللَّه
1 سورة الحج الآية رقم (62) .
2 سورة ص الآية رقم (5) .
3 سورة الصافات الآية رقم (36) .
الموفق"1.
وبعد هذا أعود للمقصود من بيان دلالة أسلوب شهادة أن لا إِله إلا اللَّه.
فهذا الأسلوب مكون من النفي بـ (لا) النافية للجنس، والاستثناء بـ (إِلا) ، وكل منهما له دلالة هامة، ويشير أهل العلم إلى الأول بأنه النفي، والثاني بأنه الإِثبات.
وحول ما تدل عليه لا النافية للجنس قال صاحب النحو الوافي:
"فهي تنفي الحكم عن كل فرد من أفراد جنس الشيء الذي دخلت عليه نفياً صريحاً وعاماً، وهذا مراد النحاة بقولهم في معناها: "إِنها تدل على نفي الحكم عن جنس اسمها نصاً" أو: "إِنها لاستغراق حكم النفي لجنس اسمها كله نصاً"، أي: التي قصد بها التنصيص على استغراق النفي لأفراد الجنس كله من غير ترك لأحد"2.
وقال:
"ويسميها بعضهم: (لا التي للتبرئة) لأنها تدل على تبرئة جنس اسمها كله من معنى الخبر، وبهذا الاسم ترد في بعض الكتب القديمة، وتختص به، لقوة دلالتها على النفي المؤكد أكثر من أدوات النفي الأخرى.
1 انظر المستدرك الملحق بشرح العقيدة الطحاوية، طبعة دار الفكر، ص (538) .
2 النحو الوافي، لعباس حسن، (1/686) .
والنفي بها قد يكون مطلق الزمن، أي: لا يقع على زمن معين، وإِنما يراد منه مجرد نفي النسبه بين معموليها وسلب المعنى بغير تقيد بزمن خاص، نحو: لا حيوان حجرٌ، ولا وفاء لغادر.
وقد يراد بها نفي المعنى في زمن معين حين تقوم قرينة كلامية أو غير كلامية تدل على نوع الزمن
…
كقوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّه إِلَاّ مَنْ رَحِمَ} 1"2.
وبناءً على ما تقدم يتضح في شهادة أن لا إِله إلَاّ الله، أن:
الجنس المنفي عنه الحكم: هو المستفاد من اسمها (إله) : ويشمل جميع الآلهة والمعبودات سوى ما استثني بأداة الاستثناء (إلا) ، وهو اللَّه تعالى.
والحكم المنفي: هو المستفاد من الخبر المقدر (حق) ، وهو الحكم بأنه حق.
ولا يوجد قرينة تدل على تقييد الحكم بزمن معين، فهو مطلق، والمتشهد بها ينفي الحكم عن جنس اسمها في أي وقت وأي مكان.
فدلالة النفي في لا إِله إلا اللَّه، هي:
نفي المتشهد نفيا قاطعاً وحاسماً أن يكون لأحد ممن صرفت له عبادة، أو اتخذ إلهاً، سوى اللَّه عز وجل، حق في الألوهية، أو العبادة،
1 سورة هود الآية رقم (43) .
2 النحو الوافي، المصدر السابق، هامش ص (686، 687) .
وحكمه على تلك الآلهة والمعبودات من دون اللَّه بأنها باطلة وعلى كل عبادة صُرفت لغير اللَّه بأنها باطلة، وذلك في أي مكان أو زمان كان، وهذا هو أصل الكفر بالطاغوت، وهو براءة من الشرك وأهله.
ودلالة الإِثبات:
هي استثناء اللَّه عز وجل من الحكم الذي دل عليه النفي، وإثبات أنه سبحانه هو الإِله الحق، المستحق وحده للعبادة، وأن كل عبادة صرفت له هي العبادة الحق.
وهذا هو أصل الإِيمان باللَّه، المتضمن لأصل التوحيد، بالإقرار بتفرد اللَّه بالألوهية، واستحقاق العبادة، الذي يُسمَّى بتوحيد الألوهية.
فيكون معنى "أشهد أن لا إِله إلا الله" هو:
أقر إِقراراً جازماً، وأحكم حكماً قاطعاً على كل من زُعم أنه إله، أو صُرفت له عبادة سوى اللَّه عز وجل بأنه باطل، وعبادته باطلة، وأن اللَّه وحده هو الإِله الحق، المستحق وحده للعبادة. وهذا المعنى هو الذي يقصده أهل العلم عندما يفسرونها بقولهم:"لا معبود بحق إلا الله".
والمتشهد يعلم بهذا الإِقرار أن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير اللَّه تعالى ظلم عظيم وشرك به سبحانه، كما يلزم لتحقيقها أن يعرف معنى العبادة، وأنواعها، لكي لا يصرف شيئاً منها لغير اللَّه وهو لا يشعر أن ذلك عبادة له.
ومما تقدم يتبين أن الإِقرار بشهادة أن لا إله إلا اللَّه يتضمن أمرين
هامين هما:
1-
الكفر بالطاغوت.
2-
الإِيمان بأن اللَّه وحده هو الإِله الحق، المستحق للعبادة.
قال صاحب كتاب: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد"1:
"فهذا هو معنى لا إِله إلَاّ اللَّه، وهو عبادة اللَّه، وترك عبادة ما سواه، وهو الكفر بالطاغوت، وإِيمان باللَّه.
فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى اللَّه ليس بإِله، وأن إلهيةَ ما سواه أبطلُ الباطل، وإِثباتَها أظلمُ الظلمِ، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإِلهية لغيره، فتضمنت نفي الإِلهية عما سواه، وإِثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إِلهاً وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إِلهاً، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي
1 العلامة الشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب، الحافظ المحدث الفقيه المجتهد، كان آية في العلم والحلم والحفظ والذكاء، وبرع في علوم كثيرة كالتوحيد والحديث والفقه والتفسير والنحو، صنف: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، وأوثق عرى الإِيمان، وغيرها، ولد عام 1200هـ وقتل رحمه الله عام 1233هـ.
انظر ترجمته في مقدمة تيسير العزيز الحميد للشيخ إِبراهيم بن محمد بن إِبراهيم آل الشيخ، والأعلام للزركلي (3/191) ، ومشاهير علماء نجد (44) .
والإِثبات"1.
وقد جاءت نصوص كثيرة تجمع بين هذين الأصلين - اللَّذيْن دلت عليهما شهادة أن لا إِله إلَاّ اللَّه - وتُبيِّن أنه بهما يكون الإِيمان الشرعي الصحيح، وأن دعوة الرسل جميعاً مرتكزة عليهما، فمن ذلك:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.
وقوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّه} 3.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّه هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 5.... ونحوها.
1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص (73) ، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، (1397هـ) .
2 سورة النحل الآية رقم (36) .
3 سورة الزمر الآية رقم (17) .
4 سورة البقرة الآية رقم (256) .
5 سورة الحج الآية رقم (62) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ" وفي رواية: "مَنْ وَحَّدَ اللَّه" ثم ذكر بمثله.1
المراد بالكفر بالطاغوت2:
الطاغوت في اللغة مشتق من طغا يطغو: إذا عدا وتجاوز قدره3 ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 4.
وفسر الطاغوت بالشيطان والساحر والكاهن والأصنام5.
وهذا تفسير له ببعض أفراده، وإلا فالطاغوت يطلق على كل من طغا وتجاوز حده وادَّعى حقاً من حقوق اللَّه التي تفرد بها.
1 رواهما مسلم في كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس..، ح (23) ، (1/53) .
2 ما يأتي بعده مما يتعلق بالكفر بالطاغوت، منقول مع بعض التصرف من رسالتي لشهادة الماجستير، بعنوان:"أثر الإِيمان في تحصين الأمة الإِسلامية ضد الأفكار الهدامة" المقدمة لقسم العقيدة، بكلية الدعوة بالجامعة الإِسلامية، إِشراف د. أحمد ابن عطية الغامدي. من ص (11-15) .
3 انظر: جامع البيان لابن جرير، (3/19) ، والمفردات للراغب الأصفهاني، ص (304) .
4 سورة الحاقة الآية رقم (11) .
5 انظر جامع البيان لابن جرير (3/18، 19) ، والتفسير الكبير لمحمد بن عمر الرازي (7/16) ، دار الكتب العلمية طهران، الطبعة الثانية، ت: بدون.
قال ابن جرير رحمه الله:
"والصواب من القول عندي في الطاغوت: أنه كل ذي طغيان على اللَّه فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً كائناً ما كان من شيء"1.
فالضابط إذاً لمعنى الطاغوت:
أنه كل مخلوق تجاوز حده وادَّعى لنفسه أو لغيره شيئاً مما تفرد اللَّه به، أو نُسب إليه ورضِيَ، أو كان في حكم الراضي.
ويخرج من هذه الأنبياء والملائكة وصالحو الإنس والجن الذين عُبدوا في حياتهم أو بعد موتهم أو أسند إليهم دون رضاهم شيء مما اختص اللَّه به. وذلك أنهم لم يدَّعوا ذلك ولم يقروا مَن ادعاه، وسيتبرّؤون منه إن علموا به في حياتهم أو يوم القيامة كما قال تعالى مبيناً ذلك:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2.
فهم لا يعبدونهم في حقيقة الأمر، إنما يعبدون الشياطين الذين زيَّنوا
1 جامع البيان لابن جرير (3/19) .
2 سورة سبأ الآيتان رقم (40-41) .
لهم ذلك، والذين يتلاعبون بهم بما يُظهرون لهم من خوارق العادات ونحوها.
ويدخل في مسمى الطاغوت الجمادات التي عُبدت من دون اللَّه، كالقبور والأحجار والأشجار والعتبات والمشاهد.
وذلك أنه نسب إِليها وفعل عندها ما لا يجوز إلا للَّه وحده فهي في حكم الطواغيت، وسوف تُلقى في النار مع مَن عَبدها زيادة في تبكيت المشركين كما قال تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1.
وقد استثنى اللَّه عباده الصالحين الذين عُبدوا من دونه من الدخول في جهنم وذلك أنه نُسب إليهم ذلك زوراً وبهتاناً، فلم يَدْعُوا لذلك، ولن يرضوا به، وسيتبرّؤون منهم يوم القيامة فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} 2.
والإِيمان بالطاغوت: يكون بتصديقه فيما ادّعاه من حق اللَّه، أو
1 سورة الأنبياء الآية رقم (98) .
2 سورة الأنبياء الآيتان رقم (101-102) .
تصديق ما نُسب إِليه من ذلك حتى لو لم يعمل به.
وعبادة الطاغوت: تكون بالعمل بموجب ذلك التصديق، بصرف شيء من العبادة له كالصلاة أو الدعاء أو الرجاء.. ونحو ذلك.
والكفر بالطاغوت: يكون باعتقاد بطلان عبادة غير اللَّه، وتكذيب ما يَدَّعون أو ينسب إليهم من حق اللَّه، ويدخل في ذلك بغض الطواغيت وأتباعهم ومللهم وكراهتهم والبراءة منهم ومما يعبدون وعداوتهم.1
وقد بين اللَّه تعالى أهمية الكفر بالطاغوت وكيفيته وممن يكون في سياق واحد في سورة "الممتحنة" فقال:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّه وَحْدَهُ إِلَاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّه مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
1 انظر: مجموعة التوحيد: مجموعة رسائل لنخبة من علماء المسلمين، الرسالة الأولى ص (11) ، الطبعة السلفية، وانظر: تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب ص (34) .
لِمَنْ كَانَ يَرْجُواْ اللَّه وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 1.
فقوله تعالى في أول السياق: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وفي آخر السياق {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بيان لأهمية الأمر وتأكيد له وأنه من الأسس التي تقوم عليها الحنيفية ملة إِبراهيم عليه السلام، وأن هذا الأمر لازم لمن أراد أن يلقى اللَّه وهو راض عنه فيفوز في اليوم الآخر.
وفي قوله: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} بيان أن البراءة تكون من الشرك وأهله، من الطواغيت وأتباعهم وأعمالهم وكل خصائصهم وأحوالهم الضالة.
وفي قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} بيان لكيفية الكفر بالطاغوت.
وفي قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّه وَحْدَهُ} بيان لغاية الكفر بالطاغوت وأنها مستمرة ما دام الكافر على كفره، لا حد لها إلا رجوعه عن باطِلِهِ وإِيمانه باللَّه الإِيمان الشرعي القائم على التوحيد.
فالكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله أساس هام للإِيمان باللَّه، وخطوة مقدمة لتطهير القلب وتهيئته لاستقبال
1 سورة الممتحنة الآيات (4-6) .
الإِيمان وعقائده المباركة.
وبعد هذه الإِطلالة على أهم معالم الكفر بالطاغوت، أحب التأكيد على أن الذي يكفي لانعقاد أصل الإِيمان، هو أصل الكفر بالطاغوت الذي اشتملت عليه شهادة أن لا إِله إلا اللَّه، والذي تقدم في بيان معناها.
اشتمال شهادة أن لا إِله إلا اللَّه على أصل التوحيد بأنواعه:
تقدم عند الكلام على معنى "أشهد" أنها تستلزم العلم، أي علم المتشهد بما يشهد به. والمتشهد بشهادة أن لا إِله إلا اللَّه يلزمه أن يكون عالماً بأمرين هامين لا تصح منه الشهادة بدونهما:
الأمر الأول: علمه بالمشهود له وهو اللَّه تعالى.
الأمر الثاني: علمه بمعنى الكلمة، وهي قوله:"لا إِله إلا اللَّه".
وقد تقدم الكلام على الأمر الثاني، وتبين أن معنى لا إِله إلا اللَّه يشتمل على الكفر بالطاغوت، والإِقرار بتوحيد الألوهية، ووجوب إِفراد اللَّه بالعبادة.
أما الأمر الأول وهو معرفة المشهود له سبحانه وتعالى فهي تنقسم إلى قسمين:
معرفة مجملة، ومعرفة مفصلة.
والمعرفة المجملة الصحيحة باللَّه سبحانه وتعالى هي أقل ما يلزم لصحة النطق بالشهادتين، وانعقاد أصل الإِيمان، لذلك فمن المهم ذكر أهم معالمها.. ويكون ذلك في النقاط الآتية:
- أهمية المعرفة المجملة باللَّه سبحانه وتعالى:
تقدم أنها لازمة لصحة النطق بالشهادتين، وانعقاد أصل الإِيمان، إلا أنها لا توجب لصاحبها الرسوخ في الإِيمان، والتحصن من الشبهات المضلة، والشهوات المحرمة.
قال الشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله:
"ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضاً بشهادة أن محمداً رسول اللَّه، ولم يعرف معنى الإِله ولا معنى الرسول وصلى وصام وحج، ولا يدري ما ذلك، إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم، ولم يفعل شيئاً من الشرك، فإِنه لا يشك أحد في عدم إِسلامه"1.
2-
حد المعرفة المجملة باللَّه سبحانه وتعالى:
هو أن يعرف العبد ربه معرفة صحيحة ولو كانت مجملة (ضعيفة) ، تمكنه من التمييز بين ربه الإِله الحق وغيره من الآلهة الباطلة وسائر الموجودات.
وذلك أنه لا يكون مسلماً مَن نطق بالشهادتين، وأظهر الإِسلام لكنه لا يعرف ربه معرفة صحيحة، كحال من يقول بوحدة الوجود2،
1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص (80) .
2 وحدة الوجود: هو مذهب الذين يوحدون اللَّه والعالم - تعالى اللَّه عن ذلك- ويزعمون أن كل شيء هو اللَّه تعالى، وأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإِلهية، وأنه صادر عن اللَّه تعالى بالتجلي، ويزعمون أن وجود العالم هو عين وجود الله. سبحانك هذا إفك عظيم. انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، (2/569) . ومصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للبقاعي، ت: عبد الرحمن الوكيل، ص (62) .
أو حلول اللَّه1 - تعالى - وتجليه في بعض خلقه، أو أن الأولياء ونحوهم لهم تصرف في الكون، فكل هؤلاء ينقصهم أقل ما يلزم من المعرفة الصحيحة باللَّه لصحة العقد.
فلا بد لصحة النطق بالشهادة من معرفة باللَّه صحيحة - ولو كانت يسيرة - يتمكن بها من التمييز بين اللَّه سبحانه وتعالى وغيره من الآلهة الباطلة، وسائر المخلوقات.
3-
كيفية حصول هذه المعرفة:
تحصل المعرفة الصحيحة باللَّه إذا فهم العبد بعض النصوص الشاملة للتعريف بالله، مثل قوله تعالى:
1 الحلول: فكرة شيطانية مفادها أنه يجوز أن يظهر اللَّه في صورة بعض خلقه، وعلى ذلك أطلقوا الإِلهية على البشر، ومن الحلولية النصارى حيث قالوا: حَلَّ اللَّه في عيسى، والسبئية، وغلاة الشيعة، وغلاة المتصوفة. انظر: كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، ت: لطفي عبد البديع، (2/108) .
2 سورة الشورى الآية رقم (11) .
ووقوفه على المعاني التي دلت عليها سورة الإِخلاص:
وآية الكرسي:
وهذا هو أصل توحيد الأسماء والصفات.
كما يعرف أنه سبحانه هو رب العالمين المتفرد بالملك والخلق والتدبير، بأفعاله العظيمة الحكيمة، من دلالة بعض الآيات المبينة لذلك مثل قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 4
1 سورة الإخلاص.
2 سورة البقرة الآية رقم (255) .
3 سورة الفاتحة الآية رقم (1) .
4 سورة الملك الآية رقم (1) .
وقوله: {اللَّه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 وقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ..} 2
…
ونحوها.
وهذا أصل توحيد الربوبية.
وبهذا يتبين أن معرفة المشهود له - اللَّه تبارك وتعالى في شهادة أن لا إِله إلا اللَّه تتضمن: أصل توحيد الربوبية، وأصل توحيد الأسماء والصفات.
ومعنى الكلمة "لا إِله إلَاّ اللَّه": يدل على أصل توحيد الألوهية.
وعليه فشهادة أن لا إِله إلا اللَّه تتضمن الإِقرار بأنواع التوحيد الثلاثة.
إلا أن هذا الإِقرار لا يكفي، بل عليه أن يعقد العزم على أن يعبد اللَّه وحده ولا يشرك به شيئاً، وبهذا يصبح موحِّداً.
أما المعرفة المفصّلة باللَّه - تعالى - فتحصل بالدراسة المفصّلة لأنواع التوحيد، ومعرفة معاني ما ورد في الكتاب والسنة من النصوص المبينة لأسماء اللَّه، وصفاته، وأفعاله، وسننه الجارية على عباده، وأنه الإِله الحق، المستحق وحده للعبادة، وأدلة ذلك وبراهينه، وشواهده..
وكل ما كان الإِنسان بذلك أعرف كان حظه من التوحيد ومعرفة اللَّه أوفر.
1 سورة الزمر الآية رقم (62) .
2 سورة الأعراف الآية رقم (54) .
الفرع الثاني: معنى شهادة أن محمداً رسول اللَّه.
تقدم في الكلام على معنى أشهد أن لا إِله إلا اللَّه أن لفظ "أشهد" يتستلزم علم المتشهد بما يشهد به من معرفة المشهود له ومعنى الشهادة.
وكذلك الحال في شهادة أن محمداً رسول اللَّه، يلزم المتشهد بها العلم بالمشهود له وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبمدلول الكلمة "محمد رسول اللَّه".
والعلم بهذين الأمرين يكون مجملاً ومفصلاً، وأقل ما يلزم لصحة النطق بالشهادة هي المعرفة المجملة الصحيحة بهما، ويتضح ذلك فيما يلي:
المعرفة المجملة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
معرفة النبي صلى الله عليه وسلم المجملة تتم بأمرين:
1-
معرفة اسمه: وأقل ما يلزم لصحة النطق بالشهادة أن يعرف اسمه المنصوص عليه بلفظ الشهادة.1
2-
معرفة صفاته، وأقل ما يلزم من ذلك لصحة النطق بالشهادة أن يعرف أنه صلى الله عليه وسلم بشر مثل سائر البشر، وإِنما اختصه اللَّه بالوحي والرسالة وما يلزم لها من العصمة والمعجزات ونحوها.
1 قد يوجد فيمن ينتسب إلى الإِسلام وينطق بالشهادتين، مَنْ لا يعرف اسم النبي صلى الله عليه وسلم كحال شخص قابلناه في مدينة أولمجي في تركستان الشرقية الخاضعة للصين الشعبية، اسمه عثمان، ويرغب في الدراسة بالجامعة الإِسلامية، وعندما سألناه عن اسم النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفه، وقال بعد تفكير "عيسى"!!
وهذا أمر ورد تأكيده في القرآن الكريم:
قال اللَّه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1.
وبين - سبحانه - أنه صلى الله عليه وسلم بشر كغيره من الرسل الذين خلوا من قبله واختصهم اللَّه بالوحي والرسالة، في قوله تعالى:
ومثلها قوله - تعالى - في حق عيسى عليه السلام:
قال ابن جرير رحمه الله:
"ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق
1 سورة الكهف الآية رقم (110) .
2 سورة آل عمران الآية رقم (144) .
3 سورة المائدة الآيتان (75-76) .
البشر؛ وإِنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا، أجرى على يده ما شاء أن يجري عليها من الآيات والعبر، حجة له على صدقه وعلى أنه للَّه رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي مَن قبله مِن الرسل من الآيات والعبر، حجة لهم على حقيقة صدقهم أنهم لله رسل"1.
وقال أيضاً:
"وقوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} : خبر من اللَّه تعالى ذكره عن المسيح وأمه: أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب، كسائر البشر من بني آدم، فإِن من كان كذلك، فغير كائنٍ إِلهاً، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليل واضح على عجزه، والعاجز لا يكون إلا مربوباً لا ربّاً"2.
وقال في قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا..} :
"يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم مَنْ زعم من النصارى أنه إِله، والذي زعم من زعم منهم أنه للَّه ابن، لا يملك لهم ضراً يدفعه عنهم
1 جامع البيان، (4/654) .
2 المصدر السابق، ص (4/654) .
إِن أحله اللَّه بهم، ولا نفعاً يجلبه إِليهم إِن لم يقضه اللَّه لهم، يقول تعالى ذكره: فكيف يكون رباً وإِلهاً من كانت هذه صفته؟ بل الرب المعبود: الذي بيده كل شيء، القادر على كل شيء، فإِياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة، الذين لا ينفعونكم ولا يضرون"1.
وقال تعالى مبيناً هذه المعاني في حق الرسول صلى الله عليه وسلم:
وقيل له صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} 3.
وهذه المعرفة لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم هامة، إذ لو اعتقد خلافها، ونسب شيئاً من الألوهية أو الربوبية للنبي محمد أو لغيره من الأنبياء - عليهم
1 جامع البيان، (4/655) .
2 سورة الجن الآيات: (18-23) .
3 سورة آل عمران الآية رقم (128) .
صلوات اللَّه وسلامه - فإِنه يكون جاهلاً بالمشهود له في كِلْتا الشهادتين ولا تصحان منه.
المعرفة المجملة بمعنى الكلمة: "محمد رسول اللَّه":
بعد أن يعرف العبدُ المشهودَ له الذي دل عليه المبتدأُ في قولنا: "محمد رسول اللَّه" أو اسم (أنّ) في شهادة أن محمداً رسول اللَّه، وهو رسول اللَّه محمد صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن يعرف ما يدل عليه الخبر "رسول اللَّه".
وأقل ما يلزمه من ذلك لصحة النطق بالشهادة ما يلي:
1-
معرفته بدلالة قوله: "رسول اللَّه" من أن اللَّه أوحى إليه، وأنه يبلغ عن اللَّه، فهو صادق في كل ما أخبر به عنه - سبحانه - كما يدل على ذلك قوله تعالى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 1.
ويعرف أنه مرسل للناس كافة، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين2.
1 سورة النجم الآيتان (3-4) .
2 اعتقاد عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء والرسل، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع السابقة، لازم لسلامة شهادة أن محمداً رسول اللَّه، إذ لو شهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لكن زعم أنه للعرب خاصة لم يقبل منه، كطائفة العيساوية من اليهود. وكذلك لو جَوَّز بعثة رسول بعده كما يعتقده القاديانيون، أو اعتقد أنه يسعه الخروج عن شريعته كما يزعمه الباطنيون وغلاة الصوفية. لكن إِن نطق بالشهادتين، ودخل في دين اللَّه، دون أن يدور في خلده عموم الرسالة أو كونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ولم يأت بما يناقض ذلك، فعقده صحيح، إلا أنه على نقص خطير، وجهله بتلك الأمور قد يسبب له الوقوع في شيء من تلك الأفكار المنحرفة أو يعتقد صحتها، مما يقدح في عقده أو يبطله.
قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 1.
وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2.
2-
ما يستلزمه قوله: "رسول اللَّه": من أن اللَّه أرسله برسالة هي دين الإِسلام، وأنه الدين الحق، الخاتم، الناسخ لجميع شرائع الأنبياء قبله: كما دل على ذلك قوله:
1 سورة سبأ الآية رقم (28) .
2 سورة الأحزاب الآية رقم (40) .
3 سورة آل عمران الآية رقم (19) .
4 سورة آل عمران الآية رقم (85) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه اللَّه -:
"والإِسلام بالمعنى الخاص بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يختص بما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم لأن ما بعث به صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الأديان السابقة فصار من اتبعه مسلماً، ومن خالفه ليس بمسلم، لأنه لم يستسلم لله بل استسلم لهواه. فاليهود مسلمون في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، والنصارى مسلمون في زمن عيسى فكفروا به فليسوا بمسلمين؛ ولهذا لا يجوز لأحد أن يعتقد أن دين اليهود والنصارى الذي يدينون به اليوم دين صحيح مقبول عند اللَّه مساوٍ لدين الإِسلام، بل من اعتقد ذلك فهو كافر خارج عن دين الإِسلام، لأن اللَّه عز وجل يقول:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّه الإِسْلَامُ} ويقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، وهذا الإِسلام الذي أشار اللَّه إليه هو الإِسلام الذي امتن اللَّه به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته قال اللَّه - تعالى -:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} 1، وهذا نص صريح في أن مَن سوى هذه الأمة بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا على الإِسلام، وعلى هذا فما يدينون للَّه به لا يُقبل منهم ولا ينفعهم يوم القيامة، ولا يحل لنا أن نعتبره ديناً قائماً قويماً، ولهذا يخطئ خطأً كبيراً من يصف اليهود والنصارى بقوله إِخوة لنا، أو أن أديانهم اليوم قائمة لما
1 سورة المائدة الآية رقم (3) .
أسلفناه آنفاً"1.
3-
عزمه على اتّباعه، والانقياد لموجب الرسالة، وأن لا يعبد اللَّه إلا بشريعته.
4 -
محبته صلى الله عليه وسلم لمحبة اللَّه له، ولاختياره ليكون واسطة تبليغ دين اللَّه الذي به حياة القلوب، والفوز في الدنيا والآخرة، ومحبة هديه وما جاء به من الدين.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه اللَّه - مبيناً أهم الأمور التي تدل عليها شهادة أن محمداً رسول اللَّه:
"أما معنى شهادة "أن محمداً رسول اللَّه" فهو الإِقرار باللسان والإِيمان بالقلب بأن محمد بن عبد اللَّه القرشي الهاشمي رسول اللَّه عز وجل إلى جميع الخلق من الجن والإِنس كما قال اللَّه تعالى: {قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2 وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
1 مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح عثيمين، (1/47، 48) جمع وترتيب فهد بن ناصر السليمان، دار الوطن للنشر، الرياض، الطبعة الثانية، لعام 1413هـ.
2 سورة الأعراف الآية رقم (158) .
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 1، ومقتضى هذه الشهادة أن تصدِّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وأن تتمثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد اللَّه إلا بما شرع؛ ومقتضى هذه الشهادة أيضاً أن لا تعتقد أن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حقاً في الربوبية وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يُعبد، ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضر إلا ما شاء اللَّه"2.
أما المعرفة المفصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم فتكون:
بالدراسة المفصلة لمعرفة نسبه، وسيرته، وجهاده، وصفاته وشمائله، ودلائل نبوته، وأدلة عموم رسالته، وأنه خاتم النبيين
…
ونحو ذلك.
والمعرفة المفصلة بشهادة أن محمداً رسول اللَّه تكون:
بتعلم ما جاء به من الدين والدراسة المفصلة لهديه وسننه، وصدق المتابعة له صلى الله عليه وسلم والبعد عن البدع والغلو والعصيان.
وكلما كان العلم والعمل بمقتضى ذلك أكثر كان تحقيقه للشهادة أكمل.
وخلاصة ما تقدم:
أن الأمور التي ينعقد بها أصل الإِيمان، هي:
1 سورة الفرقان الآية رقم (1) .
2 فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين، (1/81) .
أولاً: النطق بالشهادتين.
ثانياً: معرفة المشهود لهما، ويتضمن:
1 -
الإِقرار بأصل توحيد الأسماء والصفات، من أن اللَّه واحد، فرد صمد لم يلد ولم يولد متصف بالكمال، ليس له كُفُؤٌ، وليس كمثله شيء.
2-
الإِقرار بأصل توحيد الربوبية، من أن اللَّه هو الرب الحق، المتفرد بالملك والخلق والتدبير للسموات والأرض ومن فيهن، لا شريك له في ذلك.
3-
الإِقرار بأن محمد بن عبد الله رسول اللَّه، وأنه بشر ليس له شيء من الألوهية أو الربوبية، وأنه صادق في كل ما أخبر به، وأنه خاتم النبيين.
ثالثاً: محبة المشهود لهما، ومحبة الدين.
رابعاً: اعتقاد ما دلت عليه الشهادتان، ويتضمن:
1 - أصل توحيد الألوهية، باعتقاد تفرد اللَّه بالألوهية، واستحقاق العبادة.
2 -
أصل الكفر بالطاغوت، بالحكم بالبطلان على كل من عُبد من دون الله، وعلى كل عبادة صرفت لغير الله.
3-
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وما يستلزمه ذلك من أن ما أُرسل به هو الدين الحق، الخاتم، الناسخ لما قبله من شرائع الأنبياء، وأنه
وحده الموصل إلى اللَّه المقبول عنده.
خامساً: قبول ما دلتا عليه، ويكون بما يلي:
1 -
العزم على عبادة اللَّه وحده، والبراءة من الشرك وأهله.
2-
العزم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وعبادة اللَّه بشريعته.
فإِذا جاء بهذه الأمور دخل في الإسلام ظاهراً وباطناً1 ثم هو
1 الناطقون بالشهادتين ينقسمون في الجملة باعتبار حالهم مع أصل الإِيمان إلى ثلاثة أقسام:
قسم نطقوا بهما مع العلم والاعتقاد والقبول لما دلتا عليه، فهؤلاء مسلمون ظاهراً وباطناً.
وقسم نطقوا بهما، وأظهروا الإسلام لكن بدون اعتقاد أو قبول، فهؤلاء هم المنافقون؛ يعاملون في الدنيا معاملة المسلمين. وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار.
وقسم نطقوا بهما، وصدقوا بما علموا من معناهما، لكنهم قصروا فيما ينبغي لانعقاد أصل الإِيمان، فهؤلاء يعاملون في الدنيا بما يظهرون، وحكمهم في الآخرة إلى اللَّه العليم بحالهم وأعذارهم.
وأحوالهم مختلفة غير منضبطة، إلا أن ما معهم من إيمان سينفعهم يوم القيامة، ولا يساوي اللَّه بين من قال لا إله إلا اللَّه مصدقاً، وبين من لم يقلها، أو قالها مكذباً.
قال صلى الله عليه وسلم:
"من قال لا إله إلا اللَّه، أنجته يوماً من دهره، أصابه قبل ذلك ما أصابه" رواه أبو نعيم في الحلية، (5/46) ، والبيهقي في شعب الإِيمان (1/56) .
وقال الألباني: "وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير عمرو بن خالد المصري، وهو ثقة من شيوخ البخاري".
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، (4/566) ح (1932) .
مطالب بالإِيمان القلبي بالإِقرار بالأركان الخمسة الأخرى، ثم تكميل إِيمانه بالالتزام ببقية شعب الإِيمان.
وقد جاء المجال للكلام على المعنيين الآخرين للإِيمان، واللَّه المستعان.