الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: في تعريف الإِيمان القلبي
بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإِيمان القلبي في حديث جبريل عليه السلام في قوله صلى الله عليه وسلم في تعريف الإِيمان: "أَن تُؤْمِنَ بِاللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"1.
والإِيمان بهذه الأصول الستة جميعاً من الإِيمان بالغيب، إذ مدار العلم بها على الخبر من اللَّه تعالى في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الربيع بن أنس رحمه الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 2 "آمنوا باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره، ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت"3.
ويكون الإِيمان بها: بالإِقرار القلبي والتصديق بكل ما أخبر به اللَّه - سبحانه - أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن اللَّه تعالى، أو عن ملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر.
1 تقدم تخريجه ص (187) .
2 سورة البقرة الآية رقم (3) .
3 جامع البيان لابن جرير، (1/101) .
وسأتكلم - باختصار - على التعريف بهذه الأركان الستة بما يحصل به المقصود - إِن شاء اللَّه - من بيان أهم معالم الإِيمان القلبي، دون قصد الشرح والتفصيل.
الركن الأول: الإِيمان بالله.
تقدم أن الإِيمان باللَّه - الركن الأول من الأركان الستة - أصلٌ للإِيمان القلبي، وجرى بيان ما يلزم منه للدخول في الإِسلام في المطلب السابق.
إلا أن ما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن هذا الركن - كغيره من الأَركان الأخرى - يزيد وينقص، ويقوى ويضعف.
وخير ما يشبه به الإِيمان القلبي - الذي هو أصل الإِيمان المطلق الكامل - أصل الشجرة، الذي يبدأ ضعيفاً ثم يزداد قوة ومتانة، ويبقى اسم: أصل الشجرة، ملازم له في مبتداه ومنتهاه.
إذاً فالكلام على الإِيمان باللَّه - الركن الأول - هنا يشمل أصله وكماله، بخلاف ما تقدم في المعنى السابق، الذي يختص بأصله الذي هو أقله اللازم لانعقاد الإِيمان، وصحة النطق بالشهادتين.. ونحوه.
وزيادة هذا الركن - الإِيمان باللَّه - إِنما تكون بالمعرفة المفصلة لما يشتمل عليه من معرفة الله، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما دلت عليه الشهادتان،
وقوة التصديق بما ورد من تفاصيلها، وما تستلزمه من أعمال القلوب.1
وسأذكر بعض كلام أهل العلم في بيان أن التصديق والإِقرار القلبي يزيد وينقص، مما يجعل أصل الإِيمان قابلاً للزيادة والنقصان في قلوب العباد، وأنه يكون عند بعضهم أكمل من بعض، فمن ذلك:
قول الإمام النووي رحمه الله: "والأظهر - واللَّه اعلم - أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إِيمان الصديقين أقوى من إِيمان غيرهم، بحيث لا تعتريه الشبه، ولا يتزلزل إِيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإِن اختلفت عليهم الأحوال، أما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم، ونحوهم، فليسوا كذلك.
فهذا مما لا يمكن إِنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس"2.
وبيّن شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله الوجوه التي يزيد بها الإِيمان وذكر من ذلك: الإِجمال والتفصيل فيما أمروا به، وفيما وقع منهم من الإِيمان والاستجابة.3 ثم قال:
1 تقدمت الإشارة إلى ما يشتمل عليه أصل الإِيمان في المطلب السابق، انظر ص (200) وما بعدها.
2 شرح صحيح الإِمام مسلم، (1/148) .
3 انظر: مجموع الفتاوى، (7/232، 233) .
"فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه، كان ذلك زيادة في إِيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإِن كان معه التزام عام، وإِقرار عام.
وكذلك من عرف أسماء اللَّه ومعانيها، فآمن بها، كان إِيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إِيماناً مجملاً، أو عرف بعضها. وكلما ازداد الإِنسان معرفة بأسماء اللَّه وصفاته وآياته، كان إِيمانه به أكمل"1.
ثم قال: "إِن العلم والتصديق نفسه، يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد، مثل رؤية الناس للهلال، وإِن اشتركوا فيها، فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض،.. فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعدده. والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها"2.
وعليه فالإِيمان باللَّه - أصل الإِيمان - يزيد بزيادة العلم، والاعتقاد
1 مجموع الفتاوى، (7/233، 234) .
2 نفس المصدر، (7/234) .
بما اشتمل عليه من المباني العظام التي تقدم بيانها في المعنى السابق الذي خصصناه للكلام على أصل الإِيمان.
الركن الثاني: الإِيمان بالملائكة.
وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه تعالى خلق عالماً أسماه الملائكة، وهم أرواح قائمة في أجسام نورانية، قادرة على التمثل بأنواع مختلفة الشكل بإذنه تعالى مناسبة للحال التي يأتون بها"1.
كما يجب التصديق بصفاتهم وأفعالهم الواردة في نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، الدالة دلالة قطعية على وجودهم وأنهم يتصفون بصفات حميدة وأفعال رشيدة"2.
الركن الثالث: الإِيمان بكتب الله.
وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه تعالى أنزل على رسله كتبا مشتملة على هدى العباد مبينة لهم ما يصلح دينهم ودنياهم، موضحة ما عليهم من واجبات، ومالهم من حقوق بها الأنظمة الشرعية والتوجيهات الخلقية"3.
1 منهج القرآن في الدعوة إلى الإِيمان، د. على ناصر فقيهي، ص (21) ، الطبعة الأولى لعام 1405هـ.
2 انظر: نفس المصدر، ص (22، 27) .
3 نفس المصدر ص (29) .
ويكون الإِيمان إجمالاً بالكتب المنزلة على رسل اللَّه السابقين:
كالتوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم، وكل ما ورد الإشارة إليه في نصوص الوحي.
أما القرآن فيزيد على ذلك باعتقاد حفظ اللَّه له، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والإِيمان بعقائده، والتصديق بأخباره، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتنفيذ وصاياه، واعتقاد أنه كلام اللَّه حقاً سمعه منه جبريل عليه السلام وسمعه - محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل وسمعه الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - من النبي، وتناقلته الأمة بالنقل الصحيح المتواتر جيلاً بعد جيل وإلى أن يرفعه اللَّه إليه.
الركن الرابع: الإِيمان بالرسل.
وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه سبحانه وتعالى بعث في كل أمة رسولاً منهم يدلهم على الخير ويحذرهم من الشر رحمة بهم1، قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 2.
1 انظر: منهج القرآن في الدعوة إلى الإِيمان، ص (30) .
2 سورة فاطر الآية رقم (24) .
ويتضمن الإِيمان بالرسل أربعة أمور1:
1 -
الإيمان بأن رسالتهم حق من اللَّه تعالى فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع.
2 -
الإيمان بمن علمنا اسمه منهم مثل محمد وإبراهيم وموسى ونوح عليهم السلام وغيرهم مما ذكر اسمه في الكتاب أو السنة على وجه التعيين.
أما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالا حيث نعتقد أن اللَّه بعث في كل أمة نذيرا.
3 -
تصديق ما صح عنهم من أخبارهم.
4 -
العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
الركن الخامس: الإِيمان باليوم الآخر.
قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 2.
والإِيمان باليوم الآخر: هو الاعتقاد بالبعث بعد الموت، وأن هناك يوما يحاسب فيه الناس على أعمالهم، والتصديق بكل ما أخبر اللَّه به مما
1 انظر: رسائل في العقيدة، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين الرسالة الأولى ص (25-26) ، دار طيبة الرياض - الطبعة الثانية لعام 1406هـ.
2 سورة البقرة الآية رقم (4) .
يكون في ذلك اليوم.
ويشمل الإِيمان باليوم الآخر أموراً أهمها:
الإِيمان بالبعث بعد الموت بعد النفخ في الصور، والحساب والجزاء والموازين، ولقاء رب العالمين، والحوض والصراط، وما ورد الخبر به مما يجري على العباد في يوم القيامة. والجنة والنار وما ورد في صفاتهما وصفات أهلهما.
ويلحق بالإِيمان باليوم الآخر التصديق بما يكون بعد الموت من فتنة القبر والسؤال فيه وعذاب القبر ونعيمه.1
الركن السادس: الإِيمان بالقدر:
وهو الاعتقاد الجازم بأن اللَّه سبق في علمه مقادير الخلائق، ويشمل ذلك ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
كما كتب لهم وعليهم ما تقتضيه حكمته من المقادير والأحوال التي يستحقونها على أعمالهم التي علم أنهم سيعملونها، وأراد إرادة كونية أن يقع ما علمه وكتبه لأجله الذي قدر له، وهو الذي يخلقه إذا حان الأجل. فهو الخالق لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد من الكفر والإِيمان
1 انظر: رسائل في العقيدة، الرسالة الأولى، ص (29-30) .
والطاعة والعصيان وغيرها.1
ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وخلاصة هذا المطلب:
أن الإِيمان القلبي يشتمل على ستة أركان هي: الإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإِيمان بالقدر خيره وشره من اللَّه تعالى.
وأنه يزيد ويقوى بزيادة العلم بتفاصيل هذه الأمور، وقوة التصديق، وبمقدار حظه مما تستلزمه من أعمال القلوب.
1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (24) ، ورسائل في العقيدة للشيخ محمد ابن عثيمين الرسالة الأولى ص (37-40) .