الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: في تعريف الإِيمان الكامل
.
إذا جاء العبد بأصل الإِيمان، ودخل في الإِسلام، فإِنه مطالب بالإِيمان القلبي بتعلم الأركان الستة واعتقادها، ثم عبادة اللَّه بفعل ما أمره اللَّه به، واجتناب ما نهى عنه، وبذلك يزداد إِيمانه ويترقى نحو الكمال.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإِسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إِيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإِيمان إلى قلوبهم إِنما يحصل شيئاً فشيئاً، إِن أعطاهم اللَّه ذلك"1.
وقال أيضاً: "وقد ختم اللَّه الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإِنسان في الإِسلام
…
ثم لا بد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة، كالمباني الخمس، ومن ترك من ذلك شيئاً نقص إِسلامه بقدر ما نقص من ذلك"2.
ولا يكمل الإِيمان بدون تحقيق العبودية لله تعالى، التي خلق اللَّه
1 كتاب الإِيمان، ص (232) ، طبعة دار الكتب العلمية.
2 نفس المصدر، (231) .
الناس للقيام بها، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 1.
ففي هذه الآية بيان للحكمة الشرعية التي خلق اللَّه من أجلها الناس، وهي أن يكلفهم بعبادته بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، فالعبادة جزء هام من أجزاء الإِيمان الكامل.
وقد حذر اللَّه تعالى وحذر رسوله صلى الله عليه وسلم من التفريط في الطاعة وعدم الالتزام بالتكليف في نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ أَبَى. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه: وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى"3.
وهذا التحذير يدل على أن الطاعات جزء من الإِيمان الجالب للأمن،
1 سورة الذاريات الآية رقم (56) .
2 سورة النور الآية رقم (63) .
3 رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء، بسنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (ح7280) ، (13/249) .
قال اللَّه تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.
فالذي يخل بالطاعات يتعرض للعقوبة، مما يدل على أنه أخل بذلك الإِيمان.
وليس الغرض الكلام على تفاصيل التكاليف، وإِنما بيان أن القيام بمقتضى التكليف، بفعل الطاعات واجتناب المحرمات، أساس مهم في الإِيمان الكامل، الذي كلف اللَّه به الناس، ويتولى من جاء به، ويتحصلون به على الثمرات المباركة التي يكرم بها أهله.
وسوف أبين أهم معالم الإِيمان الكامل في الفروع الآتية:
الفرع الأول: تعريف السلف للإِيمان الكامل.
الفرع الثاني: الأدلة على أن الإِيمان يكون بالقلب والقول والأعمال الظاهرة.
الفرع الثالث: أهم الأسس اللازمة لتحقيق هذا النوع من الإِيمان.
1 سورة الأنعام الآية رقم (82) .
الفرع الأول: تعريف السلف للإِيمان الكامل
للإِيمان الكامل مفهوم شرعي دلت عليه النصوص الكثيرة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم أجمله السلف في تعريفهم للإِيمان بأنه: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإِيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.."1.
وقال ابن حجر رحمه الله: "
…
وروى اللالكائي2 بسنده الصحيح عن البخاري3 قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء
1 مجموع الفتاوى، (7/505) .
2 الإمام الحافظ أبو القاسم هبة اللَّه بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي الشافعي، صنف شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وأسماء رجال الصحيحين، وكرامات الأولياء توفي سنة 418هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/419) . والبداية والنهاية (12/26) .
3 الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري صاحب الجامع الصحيح، والتاريخ الكبير، والأدب المفرد، وغيرها، توفي سنة 256.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/391) ومقدمة فتح الباري.
بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وأطنب ابن أبي حاتم1 واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.."2.
وقال ابن عبد البر3 رحمه الله: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإِيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإِيمان عندهم يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات عندهم كلها إيمان، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إِيماناً"4.
1 الإمام الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي الرازي، صنف الجرح والتعديل، والرد على الجهمية، وتفسير القرآن، توفي سنة (327هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (13/263) ، والبداية والنهاية (11/203) .
2 فتح الباري، (1/74) .
3 الحافظ، أبو عمر، يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر القرطبي، ولد سنة (368هـ)، وصنف كتباً نافعة منها: التمهيد، والاستذكار، وجامع بيان العلم وفضله، والاستيعاب، وغيرها. توفي عام (463هـ) .
انظر: سير أعلام النبلاء (18/153) ، وشذرات الذهب (3/314) .
4 كتاب التمهيد، تحقيق: سعيد عراب، (9/238) ، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، لعام 1981م.
وقد عرف الإمام ابن القيم رحمه الله الإِيمان تعريفاً وافياً فقال: "وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان. وكماله في الحب في اللَّه والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون اللَّه وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى اللَّه ورسوله وباللَّه التوفيق"1.
فالإِيمان إذاً بمفهومه الشامل الكامل، يتضمن جميع الطاعات القلبية، والقولية، والفعلية، كما تقدم في قول ابن عبد البر رحمه الله:"والطاعات كلها عندهم إِيمان".
وقد ورد ما يدل على هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإِيمان:
"الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"2.
1 الفوائد لابن القيم، ص (140) ، دار النفائس، بيروت، الطبعة السابعة لعام 1986م.
2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان عدد شعب الإِيمان، ح (35)(1/63) .
وضابط شعب الإِيمان أن يقال:
جميع الطاعات المأمور بها في كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فعلها إِيمان، وهو من شعب الإِيمان.
وجميع المعاصي المنهي عنها فتركها إِيمان وهو من شعب الإِيمان.
ففعل العبد الموافق للأمر أو النهي هو الذي يكون طاعة ويسمى إِيماناً.
شعب الإِيمان على وجه الإِجمال:
أركان الإِيمان الستة: الإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإِيمان بالقدر، وأركان الإِسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ثم سائر الفرائض والواجبات، ثم المستحبات.
وكذلك: الكفر بالطاغوت واجتناب الشرك، والابتعاد عن كبائر الذنوب، واجتناب سائر المحرمات، وترك المكروهات، كل ذلك من شعب الإِيمان.
فلا يكمل الإِيمان إلا باستكمال شعبه علماً وعملاً.
قال عمر بن عبد العزيز1 رحمه الله: "إِن للإِيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإِيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإِيمان
…
"2.
1 الإمام الراشد، والخليفة الزاهد، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، أحد خلفاء بني أمية، كان ثقة مأموناً، له فقه وعلم وورع، وكان إِماماً عادلاً، وقد عد من الخلفاء الراشدين، توفي سنة (101هـ) .
انظر: البداية والنهاية، (9/200) ، وسير أعلام النبلاء (5/114) .
2 رواه البخاري تعليقاً، الصحيح مع الفتح، (1/45) .
الفرع الثاني: الأدلة على أن الإِيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص:
أولاً: الأدلة على أن الإِيمان يكون بالقلب:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ
1 سورة المائدة الآية رقم (41) .
2 سورة النحل الآية رقم (106) .
3 سورة الحجرات الآية رقم (14) .
الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"1.
وصلاح القلب إنما يكون بعمرانه بالعقائد الحق، فإذا شرب القلب الحقائق الإِيمانية وانبعثت منها أعماله القلبية كان قلباً سليماً.
وفي حديث جبريل عليه السلام: "قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّه، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"2.
وهذه الأمور الستة يكون الإِيمان بها بالعلم والتصديق والقبول الذي يكون في القلب، فدلت هذه النصوص على أن الإِيمان يدخل القلب، ويطمئن به، وأن إِيمان القلب هو الأصل وأنه شرط في صحة الإِيمان، ولا عبرة بغيره بدونه، وأن أساس الإِيمان هي الاعتقادات التي تقوم بالقلب.
ثانياً: النصوص الدالة على أن الإِيمان يكون باللسان:
قال صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ
…
"3.
وقال عليه الصلاة والسلام: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه
1 رواه البخاري، كتاب الإِيمان، ح (52) ، الصحيح مع فتح الباري الطبعة السلفية (1/126) .
2 تقدم تخريجه ص (187) .
3 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه ح (20)(1/51) .
وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الخَيْرِ ذَرَّةً"1.
ففي هذين الحديثين دلالة واضحة على اشتراط النطق بالشهادتين لصحة الإِيمان، وأن الإِيمان الذي يُدخِل في الإِسلام والذي يُنجِي من الخلود مكون من قول اللسان مع عقد القلب.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإِيمان: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"2.
فيه دليل على أن التلفظ بلا إله إلا اللَّه أفضل شعب الإِيمان سواء قالها عقداً أو ذكراً.
وكل الطاعات التي تقال باللسان هي من الإِيمان، وشعبة من شعبه الواجبة أو المستحبة.
ثالثاً: النصوص الدالة على أن الإِيمان يكون بالأعمال الظاهرة:
كل النصوص المتقدمة في المجموعة الثانية داخلة في هذا النوع، وذلك أن النطق باللسان عمل ظاهر، ويضاف إلى ذلك: قوله تعالى: {وَمَا
1 تقدم تخريجه، ص (198) .
2 تقدم تخريجه ص (251) .
كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيَمَانَكُمْ} 1.
أي صلاتكم، فسمى الصلاة إِيماناً.
قال البخاري رحمه الله في الصحيح: قول اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم عند البيت" ثم أورد بسنده عَنِ البَرَاءِ2: "أَنَّهُ مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "3.
ومن أقوى الأدلة وأصرحها في القرآن على أن الأعمال من الإِيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 4.
1 سورة البقرة الآية رقم (143) .
2 البراء بن عازب الأنصاري أبو عمارة، صحابي جليل توفي سنة 72هـ وقيل 71هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (3/164) ، والإصابة (1/142) .
3 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الإِيمان باب الصلاة من الإِيمان، ح (40)(1/95) .
4 سورة الأنفال الآيات (2-4) .
حيث جعل سبحانه إقام الصلاة والإنفاق من صفات المؤمنين حقاً.
أما من الأحاديث فقد تقدم في حديث شعب الإِيمان أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإِيمان وهو عمل ظاهر.
ومن ذلك حديث وفد عبد القيس1، وفيه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّه؟ قَالُوا: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنَ المَغْنَمِ....."2.
فهذا الحديث من أقوى الأدلة وأصرحها على أن الأعمال من الإِيمان وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإِيمان بالنطق بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء خمس المغنم، وهذه أعمال ظاهرة.
رابعاً: النصوص الدالة على زيادة الإِيمان ونقصانه:
قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ
1 بنو عبد القيس: قبيلة تنتسب إلى عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كانت ديارهم في تهامة ثم خرجوا إلى البحرين، قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ومقدمهم يؤمئذ المنذر بن عائذ.
انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم (295) . وسبائك الذهب في معرفة قبائل العرب للسويدي: (223) .
2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بالإِيمان باللَّه تعالى، ح (17)(1/48) .
زَادَتْهُمْ إِيمَانَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 1.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وقد استدل البخاري وغيره بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإِيمان وتفاضله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد2"3.
وأشباه هذه الآية التي أشار إليها كثيرة منها:
وقول اللَّه تعالى:
1 سورة الأنفال الآية رقم (2) .
2 الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد اللَّه مصنف غريب الحديث وفضائل القرآن والأموال، توفي سنة (224) ، سير أعلام النبلاء (10/490) والبداية والنهاية (10/3910) .
3 تفسير القرآن العظيم - للحافظ ابن كثير - (2/285) .
4 سورة التوبة الآيتان (124-125) .
أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ"2.
فدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإِيمان وخصاله3 وأن بعضه أعلى من بعض.
وقال صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ"4.
فدل هذا الحديث على أن الإِيمان يتفاوت قوة وضعفاً في القلوب، كما دل الحديث الذي قبله على أن شعب الإِيمان بعضها أقوى وأعلى
1 سورة الفتح الآية رقم (4) .
2 رواه مسلم، كتاب الإِيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإِيمان، ح (49)(1/69) .
3 جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن شهاب الدين بن رجب الحنبلي، ص (306) مكتبة الرسالة الحديثة، عمان، طبعه، ت: بدون.
4 تقدم تخريجه ص (198) .
من بعض.
ومما تقدم من النصوص يتضح لنا تعريف الإِيمان في الكتاب والسنة وأنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن بعض خصاله أعلى من بعض وأن أهله يتفاوتون فيه قوة وضعفاً.
الفرع الثالث: الأسس اللازمة لتحقيق الإِيمان الكامل.
تقدم أن الإِيمان يزيد ويكمل باستكمال شعب الإِيمان علماً وعملاً، ومجاهدة النفس في تحقيق العبودية التي خلق اللَّه الناس من أجلها، بعد أن يأتي بأصل الإِيمان وأركانه القلبية الأخرى.
إلا أن ذلك لا يستقيم للعبد إلا إذا أقام أعماله على أسس هامة، هي:
أولاً: الإخلاص لله في العبادة.
والإخلاص لله في العبادة هو حق اللَّه الذي أمر به عباده، قال اللَّه تعالى:{وَمَا أُمِرُوآ إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} 1.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ2 رضي الله عنه:
1 سورة البينة الآية رقم (5) .
2 أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي الأنصاري، كان من السبعين الذين شهدوا العقبة، وشهد بدرا وغيرها من المشاهد. وكان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا ومعلما وداعيا وجابيا للزكاة. سكن الشام، ومات فيها بطاعون عمواس سنة (17هـ) وقيل غير ذلك.
انظر: سير أعلام النبلاء (1/443) وأسد الغابة (5/194) .
"يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي ما حَقَّ اللَّه عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّه؟ قُلْتُ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّه عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّه أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا"1.
والإخلاص هو أن يقصد العبد بكل عباداته وجه اللَّه تعالى، فلا يشرك معه في العبادة المعينة أحداً، ولا يصرف جنس العبادة لغيره.
قال تعالى مبينا نية عباده الذين رضي عنهم وأشاد بصنيعهم:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّه لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا} 2.
والإخلاص في العبادة أساس الحنيفية ملة إبراهيم وهو الأمر الذي تميز به الحنفاء أتباع الأنبياء عن غيرهم من الأدعياء الذين ينتسبون إلى الأنبياء، وهم منهم براء. فالفارق الأساسي هو التوحيد الخالص عند أتباع النبي صلى الله عليه وسلم والذي لا يوجد عند أهل الكتاب الذين حادوا عن منهج الأنبياء، بيَّن ذلك ربنا بقوله:
{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّه وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ
1 متفق عليه، البخاري: كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار، ح (2856) ، الصحيح مع الفتح (6/58)، ومسلم: كتاب الإِيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح (30)(1/58) .
2 سورة الإنسان الآية رقم (9) .
لَهُ مُخْلِصُونَ} 1.
فانظر إلى قوله في ختام الآية: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} ولم يقل "وأنتم له مخلصون" مما يدل على أن هذا الأمر تفرد به المسلمون.
والإخلاص هو تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا اللَّه في كل العبادات.
قال الشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "النوع الثالث: توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده، ويبنى على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئا لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلا عن غيرهما
…
وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قوله: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم، وجميع أنواع العبادة. ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق
1 سورة البقرة الآية رقم (139) .
الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار"1.
وضابط الإخلاص:
أن كل ما ثبت أنه عبادة فهو من الدين، وما كان من الدين فيجب أن يكون خالصاً يقصد به وجه اللَّه وحده - فلا يشرك معه فيه أحد ولا يصرف جنسه إلى غير اللَّه.
وذلك أن اللَّه تعالى قال: {ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 2.
وقال: {هُوَ الحَيُّ لآ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3.
فالدعاء مثلاً من الدين، فيجب أن يكون لله خالصاً، فلا يجوز أن يُدعى اللَّه ويُدعى غيره في آن واحد. ولا يجوز أن يُصرف جنس الدعاء لغير الله، كأن يدعو اللَّه وحده مرة وفي مرة أخرى يدعو غير الله.
وهكذا في كل العبادات كالصلاة والتوبة والطواف والاستعانة والسؤال والخوف والرجاء.. ونحوها.
فالإخلاص شرط في صحة العبادة، وأساس هام من أسس الإِيمان بدونه لا يدخل العبد في ولاية اللَّه، ولا يقبل منه عمل، ولا يتحصل على
1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص (36) .
2 سورة الزمر الآية رقم (3) .
3 سورة غافر الآية رقم (65) .
ثمرات الإِيمان وكراماته التي وعد اللَّه بها عباده المؤمنين.
ثانياً: صدق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم:
والمراد أن العبد إذا جاء بأصل الإِيمان، وآمن الإِيمان القلبي وقام بفعل ما أُمر به، وانتهى عما نُهيَ عنه، وتوجه لله وحده بالعبادات، فعليه مع ذلك أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أداء العبادات وأن يتلقى عنه وحده بيان العبادات وكيفياتها وكل ما يحتاج إليه في القيام بما كلف به.
وصدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم هو حقيقة معنى شهادة أن محمداً رسول اللَّه.
قال ابن رجب رحمه الله: "وتحقيقه بأن محمداً رسول الله، ألا يعبد اللَّه بغير ما شرعه اللَّه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم"1.
قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّه كَثِيرًا} 2.
قال ابن كثير رحمه الله: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله3".
1 كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، لابن رجب الحنبلي، ص (21) .
2 سورة الأحزاب الآية رقم (21) .
3 تفسير القرآن العظيم (3/474) .
وفي قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ} دليل على أهمية الاقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنه أساس من أسس العبودية التي ينبغي أن يكون عليها من كان يرجو رضوان اللَّه والحصول على ولايته والفوز يوم القيامة.
وهذا الأصل العظيم دلت عليه نصوص كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.
وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} 2.
وقد جمع اللَّه بين هذا الأصل - صدق المتابعة - والذي قبله الإخلاص في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 3.
"وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون صواباً خالصاً، فالصواب: أن يكون على السنة، وإليه الإشارة بقوله:{فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} .
1 سورة الحشر الآية رقم (7) .
2 سورة آل عمران الآية رقم (31) .
3 سورة الكهف الآية رقم (110) .
والخالص: أن يخلص من الشرك الجلي والخفي، وإليه الإشارة بقوله:{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} "1.
واتباعه صلى الله عليه وسلم يكون بتعلم ما جاء به من الوحي والعمل به والاقتداء به.
قال صلى الله عليه وسلم آمراً بالاقتداء به وبالخلفاء الراشدين السائرين على نهجه المقتفين لأثره، ومحذراً من البدع والمحدثات:
"أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بعدي فسيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، فتمسكوا بها وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"2.
وكما نهى عن البدعة والمحدثات نهى عن الغلو فقال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً3.
وقال أيضاً: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"4.
1 تيسير العزيز الحميد، ص (525) .
2 رواه الإمام أحمد: المسند (4/126) واللفظ له، مسند العرباض بن سارية، وابن ماجة: المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ح (35)(1/10) تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، ورواه الترمذي أبواب العلم باب (16) (4/149) وقال:((حديث حسن صحيح)) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/107) .
3 رواه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، ح (2670)(4/2055) .
4 متفق عليه البخاري كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ح (5063) - الصحيح مع الفتح (9/104) ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن..، ح (1401)(2/1020) .
بهذا يتبين أن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدق المتابعة له شرط في صحة العبادة، وأساس عظيم يقوم عليه الإِيمان باللَّه وأن ذلك لا يتحقق إلا بالابتعاد عن الغلو والبدع والمعاصي.
ثالثاً: العلم.
إن الإِيمان الصحيح الراسخ هو الذي يقوم على العلم المستقي مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي.
والعلم لازم لجميع المطالب الإِيمانية، فأصل الإِيمان - مثلاً - لا يمكن الإتيان به صحيحاً إلا بمعرفة معنى الشهادتين، وما تستلزمانه.
وهكذا بقية الأركان القلبية وغيرها من شعب الإِيمان لا يمكن القيام بها إلا بالعلم بما ورد من تفاصيلها في كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالعلم أساس هام في الإِيمان باللَّه، وركن بارز في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال اللَّه تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَآ أَنَا مِنْ المُشْرِكِينَ} 1.
قال ابن جرير رحمه الله:
1 سورة يوسف الآية رقم (108) .
"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} يا محمد {هَذِهِ} الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته {سَبِيلِي} وطريقتي ودعوتي {أَدْعُو إِلَى اللَّه} وحده لا شريك له {عَلَى بَصِيرَةٍ} بذلك ويقين علم مني به {أَنَا وَ} يدعو إليه على بصيرة أيضاً {مَنِ اتَّبَعَنِي} وصدقني، وآمن بي {وَسُبْحَانَ اللَّه} يقول تعالى ذكره: وقل تنزيهاً لله وتعظيماً له، من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه {وَمَآ أَنَا مِنْ المُشْرِكِينَ} يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني"1.
وقد بين سبحانه أن التعليم من أخص وظائف النبي صلى الله عليه وسلم وأنه به خرج المسلمون من الضلال المبين فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 2.
فالعلم مقدم على كل قول أو عمل كلف به الإِنسان أو رام القيام به
1 جامع البيان (13/79، 80) .
2 سورة الجمعة الآية رقم (2) .
- وشرط في صحته قال الإِمام البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح: "باب العلم قبل القول والعمل، لقول اللَّه تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلَاّ اللَّه} فبدأ بالعلم"1.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب2 رحمه الله: "اعلم رحمك اللَّه أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل:
(الأولى) : العلم، وهو معرفة اللَّه ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإِسلام بالأدلة.
(الثانية) : العمل به.
(الثالثة) : الدعوة إليه.
(الرابعة) : الصبر على الأذى فيه.
الدليل قوله تعالى:
1 صحيح البخاري مع الفتح (1/159) .
2 الإمام العلامة مجدد الدعوة السلفية في الجزيرة العربية محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي، ألف كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ومختصر السيرة النبوية، وغيرها، توفي رحمه الله في سنة (1206هـ) .
انظر: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، لحسين بن غنام، والأعلام (6/257) .
3 سورة العصر.
4 الأصول الثلاثة وأدلتها، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص (5) ، مكتبة الشباب، مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، (1387هـ) .
وبهذا يتبين أن العلم والبصيرة في الدين أساس هام لا يتحصل العبد على الإِيمان الكامل بدونه.
خلاصة هذا المطلب:
أن الإِيمان الكامل، الذي يتولى اللَّه أهله، ويوجب لهم الأمن من عقوباته في الدنيا والآخرة، يشمل جميع الطاعات القلبية، والقولية، والفعلية. وهذا المعنى هو المقصود بتعاريف علماء السلف للإِيمان بأنه: قول وعمل واعتقاد، يزيد وينقص، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
وهو يشمل جميع شعب الإِيمان ابتداءً من أركان الإِيمان القلبية الستة، وأركان الإِسلام الخمسة، وجميع الواجبات والمستحبات، كما يشمل الكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك وأهله، واجتناب الكبائر، وترك المحرمات والمكروهات.
وكلما زاد المسلم في الالتزام بشعب الإِيمان علماً وعملاً، زاد إِيمانه وتقواه، وترقى في كماله، وأن الإِيمان لا يتحقق إلا إذا التزم بأسس هامة تنحصر فيما يلي:
1 - الإِخلاص لله في كل عباداته.
2 -
المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وترك البدع، والغلو، والمعاصي.
3 -
العلم والبصيرة في الدين.