المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث - الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌هل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث

‌هل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث

؟

قال أبو ريَّة ص 23: (وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه صلى الله عليه وسلم).

أقول: أما الأحاديث فإنما هي حديث مختلف في صحته، وآخر متفق على ضعفه.

فالأول: حديث مسلم

(1)

وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غيرَ القرآن فليمحُه، وحدِّثوا عني ولا حرج، ومَن كَذَب علَيَّ ــ قال همام: أحسبه قال «متعمدًا» ــ فليتبوّأ مقعده من النار». هذا لفظ مسلم. وذكره أبو ريَّة مختصرًا، وذكر لفظين آخرين، وهو حديث واحد.

والثاني: ذكره بقوله: «ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه، فقال له زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه. فمحاه»

(2)

.

وقد كان ينبغي لأبي ريَّة أن يجريَ على الطريقة التي يُطْريها وهي النقد التحليلي فيقول: معقول أن لا يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة أحاديثه لقلَّة الكَتَبَة وقلَّة ما يُكْتَب فيه والمشقة، فأما أن ينهى عن كتابتها ويأمر بمحوها فغير معقول، كيف وقد أذن لهم في التحديث فقال:«وحدثوا عني ولا حرج» ؟

أقول: أما حديث أبي سعيد ففي «فتح الباري» (1: 185)

(3)

: «منهم

(1)

(3004).

(2)

أخرجه أحمد (21579)، وأبو داود (3647) وسيتكلم المصنف عنه بعد قليل.

(3)

(1/ 208 ــ السلفية).

ص: 45

(يعني الأئمة) من أعلّ حديث أبي سعيد وقال: [ص 23] الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره». أي الصواب أنه من قول أبي سعيد نفسه، وغلط بعض الرواة فجعله عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب «العلم»

(1)

(1: 64) قريبًا من معناه موقوفًا على أبي سعيد من طرقٍ لم يذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث زيد بن ثابت فهو من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت الخ. وكثير غير قوي، والمطلب لم يدرك زيدًا.

أما البخاري فقال في «صحيحه»

(2)

: «باب كتابة العلم» ثم ذكر قصة الصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه، ثم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح وسؤال رجل أن يكتب له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اكتبوا لأبي فلان» وفي غير هذه الرواية «لأبي شاه»

(3)

، ثم قول أبي هريرة:«ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عَمرو، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب» ، ثم حديث ابن عباس في قصة مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله:«ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده» . وفي بعض روايات حديث أبي هريرة في شأن عبد الله بن عَمرو: «استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بيده ما

(1)

«جامع بيان العلم وفضله» : (1/ 272 ــ 273 ــ ابن الجوزي). وذكر الخطيب في «تقييد العلم» (ص 32) أن همام بن يحيى تفرد برواية الحديث عن زيد بن أسلم مرفوعًا.

(2)

كتاب العلم، باب رقم (40) الأحاديث (111 ــ 114).

(3)

عند البخاري (2434).

ص: 46

سمع منه فأذن له» رواه الإمام أحمد والبيهقي

(1)

. قال في «فتح الباري» (1: 185)

(2)

: «إسناده حسن، وله طريق أخرى

». وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو نفسه جاء من طرق، راجع «فتح الباري» و «المستدرك» (1: 104) و «مسند أحمد» بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله الحديث: (6510) وتعليقه.

وقد اشتهرت صحيفة عبد الله بن عمرو التي كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يغتبط بها ويسميها «الصادقة» ، وبقيت عند ولده يروون منها، راجع ترجمة عَمرو بن شُعيب في «تهذيب التهذيب»

(3)

. أما ما زَعَمه أبو ريَّة أن صحيفة عبد الله بن عَمْرو إنما كانت فيها أذكار وأدعية فباطل قطعًا.

أما زيادة ما انتشر عن أبي هريرة من الحديث عما انتشر عن عبد الله بن عمرو؛ فلأنَّ عبد الله لم يتجرَّد للرواية تجرُّد أبي هريرة، وكان أبو هريرة بالمدينة وكانت دارَ الحديث لعناية أهلها بالرواية، ولرحلة الناس إليها لذلك، وكان عبد الله تارةً بمصر، وتارة بالشام، وتارة بالطائف، مع أنه كان يكثر من الإخبار عما وجده من كتب قديمة باليرموك، وكان الناس لذلك كأنهم قليلو الرغبة في السماع منه، ولذلك كان معاوية وابنه قد نهياه عن التحديث.

فهذه الأحاديث ــ وغيرها مما يأتي ــ إن لم تدل على صحَّة قول البخاري وغيره: إن حديث أبي سعيد غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها تقضي

(1)

«المسند» (9231)، و «المدخل إلى السنن» (751).

(2)

(1/ 208 ــ السلفية).

(3)

(8/ 48 ــ 55).

ص: 47

بتأويله، وقد ذَكرَ في «فتح الباري»

(1)

أوجهًا للجمع، والأقرب ما يأتي: قد ثبت في حديث [ص 24] زيد بن ثابت في جمعه القرآن: «فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف» ، وفي بعض رواياته ذكر القصب وقطع الأديم. وقد مرَّ قريبًا (ص 20)

(2)

، وهذه كلها قطع صغيرة، وقد كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الآية والآيتان، فكان بعض الصحابة يكتبون في تلك القطع، فتتجمع عند الواحد منهم عدة قطع في كلٍّ منها آية أو آيتان أو نحوها، وكان هذا هو المتيسِّر لهم. فالغالب أنه لو كتب أحدُهم حديثًا لكتبه في قطعة من تلك القطع، فعسى أن يختلط عند بعضهم القطع المكتوب فيها الأحاديث بالقطع المكتوب فيها الآيات، فنُهوا عن كتابة الحديث سدًّا للذريعة.

أما قول أبي ريَّة ص 27: (هذا سبب لا يقتنع به عاقل عالم

اللهم [إلا] إذا جعلنا الأحاديث من جنس القرآن في البلاغة، وأن أسلوبها في الإعجاز من أسلوبه).

فجوابه: أن القرآن إنما تحدَّى أن يُؤْتَى بسورة مِنْ مِثْله، والآية والآيتان دون ذلك. ولا يشكل على هذا الوجه صحيفة عليّ؛ لأنه جمع فيها عدة أحكام، وكان عليٌّ لا يُخْشَى عليه الالتباس. ولا قصة أبي شاه، لأن أبا شاه لم يكن ممن يكتب القرآن، وإنما سأل أن تُكْتب له تلك الخطبة. ولا قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته:«ائتوني بكتاب الخ» . لأنه لو كُتب لكان معروفًا عند الحاضرين وهم جمع كثير. ولا قضية عبد الله بن عمرو، فإنه فيما يظهر حصل على صحيفة فيها عدة أوراق، فاستأذن أن يكتب فيها الأحاديث فقط. وكذلك الكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لعُمَّاله وفيها أحكام الصدقات وغيرها،

(1)

(1/ 208 ــ السلفية).

(2)

من الخطية وهكذا في كل إحالات المؤلف. وهي في (ص 41) من هذه الطبعة.

ص: 48

وكان كلها أو أكثرها مصدَّرًا بقوله: «من محمد رسول الله الخ» . هذا كلّه على فرض صحة حديث أبي سعيد. أما على ما قاله البخاري وغيره من عدم صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر أوضح، وسيأتي ما يشهد لذلك.

قال أبو ريَّة ص 23: (وروى الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب

فلما أصبح قال: أي بُنيَّة هَلُمِّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك. زاد الأحوص بن المفضل في روايته: أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر).

أقول: لو صحَّ هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما كتب أبو بكر. فأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين كما رأيت. لكن الخبر ليس بصحيح، أحال به أبو ريَّة على «تذكرة الحُفّاظ»

(1)

للذهبي و «جمع الجوامع» للسيوطي، ولم يذكر طعنهما فيه، ففي «التذكرة» عقبه:«فهذا لا يصح» .

[ص 25] وفي «كنز العمال» (5: 237)

(2)

ــ وهو ترتيب جمع الجوامع ومنه أخذ أبو رية ــ: «قال ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدًّا. وعلي بن صالح (أحد رجال سنده) لا يعرف» .

أقول: وفي السند غيره ممن فيه نظر. ثم وجَّهه ابنُ كثير على فرض صِحَّته.

(1)

(1/ 5).

(2)

(10/ 285 ــ ط الرسالة). وكلام ابن كثير في «مسند الصديق» .

ص: 49

قال أبو ريَّة ص 24: (وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في «المدخل» عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك ــ ورواية البيهقي: فاستشار ــ فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا. ورواية البيهقي: لا ألبس كتابَ الله بشيء أبدًا).

أقول: وهذا وإن صح حجة لما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما هَمَّ بها عمر وأشار بها عليه الصحابة، فأما عُدُولُه عنها فلسبب آخر كما رأيت.

لكن الخبر منقطع؛ لأن عروة لم يدرك عمر. فإن صحَّ فإنَّما كانت تلك الخشية في عهد عمر ثم زالت. وقد قال عروة نفسُه كما في ترجمته من «تهذيب التهذيب»

(1)

: «وكنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوتُ كتبي. فوالله لودِدْتُ أن كتبي عندي، وإن كتاب الله قد استمرَّت مريرته» . يعني قد استقرَّ أمره وعُلِمَتْ مزيته وتقرَّر في أذهان الناس أنه الأصل، والسنَّة بيان له. فزال ما كان يُخشى من أن يؤدّي وجود كتاب للحديث إلى أن يكبَّ الناس عليه، ويَدَعُوا القرآن.

قال أبو ريَّة: (وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب إلى الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه).

أقول: وهذا منقطع أيضًا، يحيى بن جعدة لم يدرك عمر، وعروة أقدم منه وأعلم جدًّا، وزيادة يحيى منكرة، لو كتب عمر إلى الأمصار لاشتهر

(1)

(7/ 183).

ص: 50

ذلك، وعنده عليّ وصحيفته، وعند عبد الله بن عمرو صحيفة كبيرة مشهورة.

قال أبو ريَّة: (وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي عَلَيَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال: فمنعني القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثًا).

أقول: وهذا منقطع أيضًا إنما ولد القاسم بعد وفاة عمر ببضع عشرة سنة.

ثم ذكر خبر زيد بن ثابت ــ وقد مرَّ ــ ثم قال: (وعن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليًّا يخطب يقول: أَعْزِمُ على كلّ مَنْ عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم).

[ص 26] أقول: ذكره ابنُ عبد البر

(1)

من طريق شعبة عن جابر، ولم أجد لجابر بن عبد الله بن يسار ذكرًا، وقد استوعب صاحبُ «التهذيب»

(2)

مشايخَ شعبة في ترجمته، ولم يذكر فيهم من اسمه جابر إلا جابر بن يزيد الجُعْفي، فلعل الصواب «جابر عن عبد الله بن يسار» وجابر الجُعفي ممقوت كان يؤمن برجعة عليٍّ إلى الدنيا، وقد كذَّبه جماعة في الحديث منهم أبو حنيفة، وصدَّقه بعضهم في الحديث خاصة بشرط أن يُصرِّح بالسماع. ولم يُصرِّحْ هنا. وعبد الله بن يسار لا يُعْرَف

(3)

.

(1)

في «جامع بيان العلم» : (1/ 272).

(2)

(4/ 338). والأمر كما ذكر المصنف «جابر عن عبد الله بن يسار» كما في الطبعة المحققة المحال إليها من كتاب ابن عبد البر.

(3)

ذكره البخاري في «التاريخ» : (5/ 234)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل»:(5/ 202) ولم يذكراه بجرح أو تعديل.

ص: 51

وقد كان عند عليّ نفسه صحيفة فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما مرَّ. فإنْ صحَّتْ هذه الحكاية فإنما قال: «أحاديث علمائهم» ولم يقل: «أحاديث أنبيائهم» . وكلمة «حديث» بمعنى «كلام» ، واشتهارها فيما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم اصطلاح متأخر.

وقد كان بعضُ الناس يثبتون كلام عليٍّ في حياته، وفي مقدمة «صحيح مسلم»

(1)

عن ابن عباس ما يُعلَم منه أنه كان عنده كتاب فيه قضايا عليّ، منها ما عرفه ابن عباس ومنها ما أنكره، ولفظه: «فدعا بقضاء عليّ فجعل يكتب منه أشياء، ويمرّ به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليّ إلا أن يكون ضلَّ. ثم ذَكَر عن طاووس قال: «أُتيَ ابنُ عباس بكتاب فيه قضاء عليّ

».

فإن صحّت هذه الحكاية

(2)

فكأنّ بعض الناس كتب شيئًا من كلام عليّ أو غيره من العلماء، فتناقله الناس، فبلغ عليًّا ذلك فقال ما قال.

قال أبو ريَّة: (وعن الأسود بن هلال قال: أُتِيَ عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت ثم قال: أُذَكِّر اللهَ رَجُلًا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بديرِ هِنْد لبلغتُها. بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون).

أقول: روى الدارميّ

(3)

هذه القصة من وجه آخر «عن الأشعت [بن أبي الشعثاء سليم بن أسود] عن أبيه ــ وكان من أصحاب عبد الله ــ قال: رأيت مع رجل صحيفة فيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فقلت

(1)

(1/ 13 ــ 14).

(2)

أي التي ذكرها أبو ريَّة وأخرجها ابن عبد البر.

(3)

(496). وأخرجه ابن أبي شيبة (26977).

ص: 52

له: أنسخنيها. فكأنه بَخِل بها، ثم وعدني أن يعطينيها، فأتيت عبد الله فإذا هي بين يديه، فقال: إن ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة

أَقْسَم لو أنها ذُكِرت له بدار الهند (كذا)

(1)

ــ أراه يعني مكانًا بالكوفة بعيدًا ــ إلا أتيته ولو مشيًا». لا ريب أنه لم يكن في الصحيفة تلك الكلمات فقط وإلا لَمَا طلب استنساخَها؛ لأنه قد حفظها فيمكنه أن يكتبها إن شاء من حفظه.

وعند الدارميّ

(2)

قصة أخرى تُفَسِّر لنا هذه، ذكرها في باب كراهية أخذ الرأي، وفيها: إن قومًا تحلَّقوا في المسجد «في كلِّ حَلْقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كَبّروا مائة، فيكبرون. فيقول: هللوا مائة فيهللون

» وذَكَر إنكار ابن مسعود عليهم. فكأنه [ص 27] كان في تلك الصحيفة وصف طريقة للذكر بتلك الكلمات ونحوها بعددٍ مخصوص وهيأةٍ مخصوصة، كما يبيّنه قول ابن مسعود:«إن ما في الكتاب بدعة وفتنة وضلالة» .

وقد ذكر الدارميّ

(3)

رواية أخرى في صحيفة جيء بها من الشام فمحاها ابن مسعود. وفيها: «فقال مُرّة [ابن شراحيل الهَمْداني أحد كبار أصحاب ابن مسعود]: أما إنه لوكان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب» .

ثم قال أبو ريَّة ص 25: (وهناك غير ذلك أخبار كثيرة

).

(1)

كذا كَتب المؤلف استشكالًا للكلمة. والذي في طبعة دار المغني ــ تحقيق حسين أسد: «بدَيْرٍ لهندٍ» وهو الصواب، و «دير هند» يطلق على عدة أماكن. انظر «معجم البلدان»:(2/ 541).

(2)

(210).

(3)

(494).

ص: 53

أقول: ذكر ابن عبد البر

(1)

عن مالك: «أن عمر أراد أن يكتب الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله» . وهذا معضل، وقد مرَّت رواية عروة عن عمر وبيان وجهها.

وذكر عن أبي بُردة بن أبي موسى أنه كتب من حديث أبيه، فعَلِمَه أبوه فدعا بالكتاب فمحاه. وقد أخرج الدارميّ نحوه ثم أخرج عن أبي بُردة عن أبيه:«أن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فتَبِعوه وتركوا التوراة» وهذا كما مرَّ عن عمر.

وذَكَر عن أبي نضرة قال: «قيل لأبي سعيد [الخدري]: لو أَكْتَبتنا الحديثَ فقال: لا نُكْتِبكُم، خذوا عنّا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم ذكره من وَجْهٍ آخر في سنده مَنْ لم أعرفه وفيه: «أتريدون أن تجعلوها مصاحف» . ثم من وَجْهٍ ثالث بنحوه. وهذا من أبي سعيد بمعنى ما مرَّ عن عمر وأبي موسى.

وذَكَر عن سعيد بن جبير قال: «كنا نختلف في أشياء، فكتبتها في كتاب، ثم أتيتُ بها ابن عمر أسأله عنها خفيًّا، فلو عَلِم بها كانت الفيصل بيني وبينه» . وفي رواية: «كتب إليَّ أهل الكوفة مسائل ألقى بها ابن عمر، فلقيته فسألته عن الكتاب، ولو علم أن معي كتابًا لكانت الفيصل بيني وبينه» . وهذا ليس مما نحن فيه إنما هو باب كراهية الصحابة أن تُكْتب فتاواهم وما يقولونه برأيهم.

وذَكَر عن ابن عباس أنه قال: «إنا لا نَكْتُبُ العلم ولا نُكْتِبه» . وقد ذَكَر

(2)

(1)

انظر هذه الآثار وغيرها في «جامع بيان العلم» : (1/ 272 ــ 283).

(2)

أي ابن عبد البر في «الجامع» : (1/ 316).

ص: 54

عن هارون بن عنترة عن أبيه: أن ابن عباس أرْخَصَ له أن يكتب.

هذا وقد أخرج الدارميّ

(1)

بسند رجاله ثقات عن أنس أنه كان يقول لبنيه: «يا بَنِيَّ قيّدوا هذا العلم» ، وذكره ابن عبد البر

(2)

ولفظه: «قيّدوا العلم بالكتاب» ورُوي هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قول عمر، ومن قول ابن عمر، وإنما يصح من قول أنس رضي الله عنه.

وروى الدارميّ وابن عبد البر

(3)

وغيرهما بسند حسن: أن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه سئل عن كتاب العلم فقال: لا بأس به.

وأخرج الدارميّ

(4)

وغيره بسند رجاله ثقات عن بشير بن نَهِيك ــ وهو ثقة ــ قال: «كنت أكتب ما أسمع من [ص 28] أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم» .

فالحاصل أن ما رُوي عن عمر وأبي موسى من الكراهة إنما كان ــ كما صرَّحا به ــ خشية أن يكبَّ الناسُ على الكتب ويَدَعُوا القرآن، وأما من عاش بعدهما من الصحابة فمنهم أبو سعيد بقي على الامتناع، ومنهم ابن عباس امتنع ورخَّص. ومنهم من رأى أنه قد زال المانع كما قال عروة الراوي امتناع عمر:«إن كتاب الله قد استمرَّت مريرتُه» وقد مرَّ ذلك، ورأوا أن الحاجة إلى الكتابة قد قويت؛ لأن الصحابة قد قَلُّوا، وبقاءُ الأحاديث تتناقل بالسماع والحفظ فقط لا يُؤْمَنُ معه الخلل، فرأوا للناس الكتابة. كما مرَّ عن

(1)

(508).

(2)

«الجامع» : (1/ 316).

(3)

«المسند» (510)، و «الجامع»:(1/ 317).

(4)

(511) وهو عند ابن عبد البر: (1/ 313) وغيره.

ص: 55

أبي هريرة وأبي أمامة وأنس رضي الله عنهم.

وأما التابعون فغلبت فيهم الكتابة إلا أن مَنْ كان ذا حافظة نادرة كالشعبيّ والزهريّ وقَتادة كانوا لا يرون إبقاء الكتب، لكن يكتب ما يسمع ثم يتحفّظه، فإذا أتقنه محاه. وأكثرهم كانت كتبه باقية عنده كسعيد بن جُبير والحسن البصري وعَبيدة السلماني ومُرَّة الهَمْداني وأبي قِلابة الجرمي وأبي المليح وبشير بن نهيك وأيوب السختياني ومعاوية بن قُرّة ورجاء بن حَيْوَة وغيرهم

(1)

.

ثم قال أبو ريَّة ص 25: (ولئن كانت هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة الأحاديث فإن أحاديث النهي أصح، بَلْهَ ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين).

أقول: قد علمتَ أنه ليس في النهي غير حديثين أحدهما متفق على ضعفه، وهو المروي عن زيد بن ثابت، والثاني مختَلَف في صحته وهو حديث أبي سعيد، فأما أحاديث الإذن فلو لم يكن منها إلا حديث أبي هريرة في الإذن لعبد الله بن عَمرو لكان أصحَّ مما جاء في النهي. أما الصحابة والتابعون فقد تقدم ويأتي ما فيه كفاية.

ثم نقل أبو ريَّة ص 25 ــ 27 عن «مجلة المنار» كلامًا بدأ فيه بمحاولة الجمع بين حديث النهي وقصة «اكتبوا لأبي شاه» بأنّ ما أمر بكتابته لأبي شاه مِنَ الدِّين العام، وأنَّ النهيَ كان عن كتابة سائر الأحاديث التي هي من الدين الخاص.

(1)

مقتبس من كتاب العلم لابن عبد البر، وسنن الدارمي، وغيرهما. [المؤلف].

ص: 56

أقول: نظرية «دين عام ودين خاص» مردودة عليه، وقد تقدمت الإشارة إليها (ص 15)

(1)

. وحديث الإذن لعبد الله بن عَمرو قاطعٌ لشَغَبه البتة.

قال صاحب «المنار» : «ولنا أن نستدلّ على كون النهي هو المتأخر بأمرين، أحدهما: استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم» .

أقول: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم، فالمرويّ عن زيد بن ثابت متفق على ضعفه، [ص 29] وعن أبي سعيد روايتان: إحداهما فيها الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيها امتناع أبي سعيد. ونحن لم نقل في هذا: إنه منسوخ، إنما قلنا: إنه إما خطأ والصواب عن أبي سعيد من قوله، كما قال البخاري وغيره، وإما محمول على أمر خاص تقدَّم بيانه. وثانيتهما: رواية أبي نضرة عن أبي سعيد امتناعه هو، وليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى.

وقد بقيت صحيفةُ عليّ عندَه إلى زمن خلافته، وكذلك بقيت صحيفة عبد الله بن عَمرو عنده ثُمَّ عند أولاده كما مرَّ

(2)

، فلو كان هناك نَسْخ لكان بقاء الصحيفتين دليلًا واضحًا جدًّا على أنّ الإذن هو المتأخِّر، وتقدّم أن عمر عزم على الكتابة وأشار عليه الصحابة بها، ثم تركها لمعنى آخر، ولم يذكروا نهيًا كان من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك صريح فيما قلنا. وقد أجاز الكتابة من الصحابة: عبد الله بن عَمرو وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس رضي الله عنهم، وروى هارون بن عنترة عن أبيه، أن ابن عباس رخَّص فيها

(3)

، ثم أجمعت عليها الأمة.

(1)

(ص 31 ــ 33) من هذه الطبعة.

(2)

(ص 47).

(3)

سبق ذكر هذه الأخبار وتخريجها (ص 47 ــ فما بعدها).

ص: 57

قال ص 26: (وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره).

أقول: أما النشر فقد نشروه بحمد الله تعالى، وبذلك بَلَغنا. وأما التدوين فيعني به الجمع في كتاب كما جمعوا القرآن، فاعلم أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ القرآن وبيانِه وهو السُّنة كما مرَّ

(1)

، وما تكفَّل الله بحفظه فلابدّ أن يُحفظ. وقد علمنا من دين الله أنّ على عباده مع إيمانهم بحفظ ما تكفَّل بحفظه أن يعملوا ما من شأنه في العادة حفظ ذاك الشيء، وأنه لا تنافي بين الأمرين. وفي «جامع الترمذي» و «المستدرك»

(2)

وغيرها عن أبي خُزامة عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقًى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتُقَاة نتَّقيها هل تَردُّ من قَدَر الله شيئًا؟ قال:«هو من قَدَر الله» .

فأما القرآن فأمروا بحفظه بطريقين: الأولى: حفظ الصدور، وعليها كان اعتمادهم في الغالب. الثانية: بالكتابة فكان يُكْتَب في العهد النبوي في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها، فلما غزا المسلمون اليمامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل استحرَّ القتل بالقُرَّاء قبل أن يأخذ عنهم التابعون، فكان ذلك مظنَّة نقص في الطريق الأولى، فرأى عمر المبادرة إلى تعويض ذلك بتكميل الطريق الثانية، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن في صحف، فنفر منها أبو بكر وقال:«كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؟ فقال عمر: «هو والله خير»

(3)

.

(1)

(ص 42 ــ 43).

(2)

الترمذي (2148)، والحاكم:(1/ 32). وأخرجه أحمد (15472)، وابن ماجه (3437). وفيه ضعف راجع حاشية المسند:(24/ 217).

(3)

أخرجه البخاري (7191).

ص: 58

يريد أنه عملٌ يتمّ به مقصود الشرع من حفظ القرآن، وعدمُ فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم له إنما كان لعدم تحقق المقتضي وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خيرٌ محض.

فجُمِع القرآن في صحف بقيت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة [ص 30] أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان في خلافته وكتب المصاحف.

ومعنى هذا أنه طول تلك المدة التي

(1)

لم تَبْدُ حاجة إلى تلك الصحف بل بقي القُرَّاء يُبلِّغون القرآن من صدورهم، ومنهم مَن كتب مِن صدره مصحفًا لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره، وكتب عثمانُ بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار لا لتبليغ القرآن بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها. هذا شأن القرآن.

فأما السُّنة فمخالفةٌ لذلك في أمور:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعْنَ بكتابتها بل اكتفى بحفظهم في صدورهم وتبليغهم منها، أي بنحو الطريق الأولى في القرآن.

الثاني: أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين.

الثالث: أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن؛ إذ استحرَّ القتل بحُفَّاظه من الصحابة قبل أن يتلقَّاه التابعون، فإن الصحابة كانوا كثيرًا ولم يتفق أن استحرَّ القتل بحُفَّاظ السُّنة منهم قبل تلقي التابعين.

(1)

كذا في (ط)، فإن كانت هكذا عند المؤلف فلعل العبارة «التي لم تبدُ [فيها] حاجة .. » .

ص: 59

الرابع: أنهم كانوا إذا هموا بجمعها رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في جمع القرآن: «هو والله خير» أي خير محض لا يترتَّب عليه محذور. كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سببًا لردِّ مَنْ بعدهم ما فاتهم منها وقد مرَّ (ص 24)

(1)

عن أبي بكر في سبب تحريقه ما كان جَمَعه منها «أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر» . وخشوا أيضًا مِنْ جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن أن يُقْبِلَ الناس على تلك الكتب ويَدَعوا القرآن لِمَا مرَّ (ص 25)

(2)

عن عُمَر و (ص 27)

(3)

عن أبي موسى، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها بطريق الرواية ويَكِلُوها إلى حفظ الله تعالى الذي يؤمنون به.

ثم ذكر ص 26 أشياء قد تقدم الجواب عنها، ثم قال:(وكون التابعين لم يدوّنوا الحديث إلا بأمر الأمراء).

أقول: وجمع القرآن إنما كان بأمر الأمراء: أبي بكر وعمر وعثمان. فإن قيل: هم أمراء المؤمنين وأئمة في العلم وأئمة في التقوى، قلنا: فعمر بن عبد العزيز كذلك في هذا كله، وهو الآمر بالتدوين، وتبعه الخلفاء بعده.

قال: (يؤيد ما ورد مِنْ أنهم كانوا [قبل ذلك] يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه).

أقول: هذه حال بعضهم، وقد تقدم (ص 27 ــ 28)

(4)

أن جماعةً كانوا

(1)

(ص 48).

(2)

(ص 49 ــ 50).

(3)

(ص 52 ــ 53).

(4)

(ص 52 ــ 55).

ص: 60

يكتبون ويُبْقُون كتبهم.

قال: (وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه).

أقول: سيأتي رد هذا مفصّلًا. والتحقيق أنَّ بعض كبار الصحابة يرون أن تبليغ الأحاديث إنما يتعين [ص 31] عند وقت الحاجة، ويرون أنهم إذا بلَّغوا بدون حضور حاجة فقد يكون منهم خطأ ما قد يؤاخذون به، بخلاف ما إذا بلَّغوا عند حضور الحاجة فإنَّ ذلك متعيّن عليهم، فإما أن يحفظهم الله تعالى من الخطأ، وإما أن لا يؤاخذهم. ولهذا رُويت الأحايث عنهم كلهم، ولم يُنْقَل عن أحدٍ منهم أنه كان عنده حديث فتحققت الحاجة إلى العمل به فلم يحدّث به.

وكان جماعة آخرون من الصحابة يُحدّثون وإن لم تتحقق حاجة، يرون أن التبليغ قبل وقت الحاجة مُرغَّب فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«حدِّثوا عَنّي ولا حَرَج»

(1)

وغير ذلك من الأدلة الداعية إلى نشر العلم وتبليغ السُّنة. ولكلٍّ وجهة، وكلّهم على خير. على أنه لما قَلَّ الصحابة رجحت كِفّة الفريق الثاني.

قال: (بل في نهيهم عنه).

أقول: لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدَّث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين: الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور

(1)

أخرجه مسلم (3004) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 61

الحاجة. الثاني: ما صرَّح به من إيثار أن لا يشغل الناس ــ يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة ــ عن القرآن.

وجاء عنه كما يأتي: «أقلُّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به» . و «العمل» في كلامه مطلق، يعمُّ العبادات والمعاملات والآداب، لا كما يهوى أبو رية.

قال: (قويَ عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن).

أقول: هذه نظريته القائلة: «دين عام ودين خاص» والذي يظهر من كلماته أن الدين العام الدائم هو الدين الحقيقي اللازم، وأنه كما عبَّر عنه فيما مضى (ص 15)

(1)

«المتفق عليه» . وعلى هذا فمقصوده أن ما ذكر هنا يقوى عند مخاطبه أنَّ الصحابة كانوا لا يوجبون العمل بالأحاديث الثابتة عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قدرًا يسيرًا هو الذي اتفقوا ووافقهم بقية الأمة بعدهم على العمل به، وأن ما زاد على ذلك فالأمر فيه على الاختيار: مَنْ شاء أخذ، ومَنْ شاء تَرَك. بل إنهم كانوا يرون من الخير إماتة تلك الأحاديث!

فإن كان هذا مراده فبطلانه معلوم من الدين قطعًا. وحسبك أنه لم يجد أحدًا من علماء الأمة يَنْسب إليه هذا القول بحق أو باطل سوى ما مرّ (ص 15)

(2)

مِنْ نِسْبته أو نحوه إلى الغزالي، وقدّمنا بيان بطلان تلك النسبة. هذا ونصوص الكتاب والسنة، والمتواتر عن الصحابة، وإجماع علماء الأمة، كلّ ذلك يُبْطل قولَه هذا قطعًا.

(1)

(ص 31) من هذه الطبعة.

(2)

(ص 31).

ص: 62

على أن نظريته هذه لا تقتصر على إهمال الأحاديث الصحيحة، بل تتضمن كما تقدم (ص 15) إهمال دلالات القرآن [ص 32] التي نقل ما يخالفها عن بعض من نُسِب إلى العلم ولو واحدًا فقط. فعلى زعمه دلالاتُ القرآن الظاهرة والأحاديث الصحيحة، ولو رواها عدد من الصحابة، لا يلزم المسلم أن يعمل بشيء منها قد نُقِل عن منسوبٍ إلى العلم ما يخالفه، وإن كان الجمهور على وَفْق ذلك الدليل. كأنَّ عنده أن العالم إن خالف الدليل فهو معصوم من أن يغلط أو يغفل أو يزلّ أو يضلّ، وإن وافق الدليل فليس بمعصوم. هذا حكمهم غير متفقين، فأما إذا اتفقوا فهم معصومون إلا في مخالفتهم لنظريته

(1)

هذه.

قال: (ولو كانوا فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لكتبوا أو لأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وَثِقُوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتَّبَعَة المعروفة للجمهور بجريان العلم بها).

أقول: قد بيَّنّا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكتب مصحفًا، وأن أبا بكر وعمر وعثمان ــ مدة من ولايته ــ لم يكتبوا إلا مصحفًا واحدًا بقي عندهم لا يكاد يصل إليه أحد، فما بالك بالإرسال إلى العمّال، وإن عثمان إنما كتب وبعث بضعة مصاحف إلى بعض الأقطار لمنع الناس من القراءة بخلاف ما فيها، وقد علمنا أنه لم يحفظ القرآنَ كلَّه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفر يسير، أربعة أو نحوهم، وذكر ابنُ سعد

(2)

وغيره أن أبا بكر وعمر ماتا قبل أن يحفظا القرآن كله. وقد بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر جماعةً من العمال لم يحفظ كلّ

(1)

(ط): «لنظرية» .

(2)

«الطبقات» : (3/ 193، 275) عن محمد بن سيرين. وفيه نظر. راجع «فتح الباري» : (9/ 51 ــ 52).

ص: 63

منهم القرآن كلَّه ولا كان عنده مصحف، فهل يقال لهذا: إن القرآن لم يكن حينئذ مِن الدِّين العام؟

نعم كان العامل يحفظ طائفةً من القرآن ويعلم جملةً من السُّنة، فكان يبلِّغ هذا وهذا. ومن عرف وضع الشريعة عرف الحقيقة: إن وضع الشريعة عدم الإعنات، وتوجيه معظم العناية إلى التقوى. كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هاجروا من مكة إلى الحبشة، ونزل بعدهم قرآن وأحكام، وجُعِلت كلّ من الظهر والعصر والعشاء أربعًا بعد أن كانت ركعتين، وحُوِّلت القبلة وغير ذلك، فلم يُنْقَل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عَقِب تجدُّد حكمٍ من هذه وغيرها يبعث رسلًا إلى مَنْ بالحبشة أو إلى غيرهم ممن بَعُدَ عنه يبلِّغهم ذلك، بل كان يَدَعهم على ما عرفوا حتى يبلغهم ما تجدّد اتفاقًا. وجاء أنه صلى الظهر إلى الكعبة أول ما صلى إليها، فخرج ممن كان معه لحاجته فمرَّ وقتَ العصر ببني حارثة ــ وهم في بعض أطراف المدينة ــ وهم يصلون العصر إلى بيت المقدس، فأخبرهم فاستداروا إلى الكعبة فأتموا صلاتهم. وهكذا تحريم الكلام في الصلاة وتحريم الخمر.

ومن المتفق عليه ــ فيما أعلم ــ أنه ليس واجبًا على الأعيان [ص 33] حفظ القرآن سوى الفاتحة، ولا تعلُّمُ القراءة والكتابة واتِّخاذ مصحف، ولايجب على الرجل أن يتعلَّم الفريضة إلا قُرْب العمل بها. وإنما الواجب أن يكون في الأمة علماء، ثم على العامي أن يسأل عالمًا ويعمل بفتواه، وكان في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه يُكْتَفَى في العامل أن يكون ــ مع حفظه لما شاء الله من القرآن ــ عارفًا بطائفة حَسَنة من السُّنة، ثم يقال له: إذا لم تجد الحكم في الكتاب والسنة فاسأل مَنْ ترجو أن يكون عنده علم، فإن لم تجد فاجتهد

ص: 64

رأيك.

وقد كان أبو بكر وعمر إذا لم يجدا الحكم في الكتاب ولا فيما يعلمانه من السنة سألا الصحابة، فإذا أُخْبِرا بحديث أخذا به، وربما أخبرهما مَنْ هو دونهما في العلم والفضل بكثير. وترى في «رسالة الشافعي»

(1)

عدة قضايا لعمر من هذا القبيل.

وإذ كان الواجب على الأمة أن يكون فيها علماء كلّ منهم عارفٌ بالقرآن، عارفٌ بجملة حسنة من السُّنة، ليعمل ويُفْتي ويَقْضي بما علم، ويسأل من تيسَّر له من العلماء عما لم يعلم فإن لم يجد اجتهد، فقد كان الصحابة يعلمون أن منهم عددًا كثيرًا هكذا، وأن من تابعيهم عددًا كثيرًا كذلك لا يزالون في ازدياد، وأن حال مَنْ بعدهم سيكون كذلك، وأن القرآن والسنة موجودان بتمامهما عند أولئك العلماء، ما فات أحدهم منهما فموجود عند غيره= رأوا أن هذا كافٍ في أداء الواجب عليهم، مع الإيمان التام بأن الله تعالى حافظ لشريعته، نَعَمْ فكَّروا في الاحتياط لجمع السُّنة فعَرَض لهم خشيةُ أن يؤدي ذلك إلى محذور كما مرَّ فكفُّوا عنه، مكتفين بما ظهر لهم من حرص المسلمين، وما آمنوا به من حفظ رب العالمين. وغاية ما يُخْشى بعد هذا أن يجهلَ العالمُ شيئًا من السُّنة ولا يتيسر له مَنْ يُخْبِره بها فيجتهد فيخطئ.

وهذا في نظر الشرع ليس بمحذور كما عُلِم مما مرَّ في حال مَن كان مِن المسلمين بعيدًا عن المدينة، إذ بقوا مدّة يصلُّون الرباعية ركعتين، ويتكلمون في الصلاة، ويصلون إلى بيت المقدس، ويستحلُّون الخمر بعد نزول الأحكام المخالفة لذلك حتى بَلَغَتْهُمْ. وكما أذن الله تعالى أن يبني المسلم

(1)

(ص 425 ــ 431).

ص: 65

على ظنه، وإن اتفق له أن ينكح أخته وهو لا يدري، وأن يقتل مسلمًا يحسبه كافرًا، وأن يأكل لحمًا يظنه حلالًا فبان لحم خنزير ميت وغير ذلك.

إنما المحذور أن تدع الدليلَ الشرعيَّ عمدًا اتباعًا منك لقول عالم قد يجهل ويذهل ويغفل ويغلط ويزل. وأشدُّ من ذلك وأضرّ وأدهى وأمرّ ما يقول صاحب تلك النظرية: إن الدليل الشرعي إذا وُجِد قولٌ لعالم يخالفه ينزل بذلك عن الدين العام اللازم إلى الدين الخاص الاختياري، من شاء أخذ ومن شاء ترك. [ص 34] ومن خالف كلَّ دليلٍ من هذا القبيل مع علمه بها وعَقْله لها، واقتصر على ما لم يخالفه أحد «كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقرّبًا عند الله تعالى» كما تقدم عنه (ص 16)

(1)

، فهذا هو المحذور عند من يعقل.

قال: (وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية).

أقول: قد عرفت الحقيقة ولله الحمد، وعرفت ما هو الساقط.

قال: (وإذا أضفتَ إلى ذلك حكم عمر بن الخطاب على أعيان

(2)

الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث).

أقول: كان عليه أن يبينها، فإن كان يريد مطاعن الرافضة في أمير المؤمنين عمر فجوابها في «منهاج السُنَّة» وغيره، ويكفينا هنا أن نسأله: هل عَلِمْتَ عُمَرَ ثبت عنده حديث فتركه لغير حُجَّة قائلًا: لا يلزمنا الأخذ بالأحاديث؟

(1)

(ص 33 ــ 34).

(2)

(ط) وكتاب أبي ريَّة: «أعين» والصواب ما أثبت.

ص: 66

قال: (ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قلَّ، وعدم تعنِّيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه).

أقول: لزم أبو حنيفة حمّادَ بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقِلَّة الأحاديث المروية عنه لا تدلُّ على قلَّة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدَّ للرواية. وقد قَدَّمْنا أن العالم لا يُكَلَّفُ جمع السُّنَّة كلها، بل إذا كان عارفًا بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب= كان له أن يُفْتِي، وإذا عَرَضَت قضية لم يجدها في الكتاب والسُّنَّة سأل مَنْ عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حَلْقته جماعة من المكثرين في الحديث، كمِسْعَر وحبّان ومِنْدَل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدَّع هو العصمةَ لنفسِه ولا ادَّعاها له أحد، وقد خالفه كبارُ أصحابه في كثير من أقواله، وكان جماعة من علماء عصره ومَنْ قَرُب منه يُنفِّرون عنه وعن بعض أقواله.

فإنْ فُرِضَ أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجَّة بيِّنة فليس معنى ذلك أنه زَعَم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أنَّ القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا لحديث ضعيف

(1)

، ومن ثَمَّ ذَكَر أصحابه أنّ مِن أصله تقديم الحديث الضعيف ــ بَلْهَ الصحيح ــ على القياس.

(1)

وذكر ابن القيم في «إعلام الموقعين» [2: 55 ــ 58] مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك لغيره. [المؤلف].

ص: 67

قال: (قوي عندك ذلك الترجيح).

أقول: أما عند مَنْ يعرف دينه فهيهات.

[ص 35] قال: (بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جَعْل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحُفَّاظ لها في الدواوين وبيان ما يُحْتَجُّ به وما لا يحتجّ به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة ــ ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية ــ فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يُعَدُّ أحد منهم مخالفًا لأصول الدين).

أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحُجَّة عليك وعليهم مضافةً إلى سائر الحجج. وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح، وعدم اتفاقهم على العمل به، فإنما حاصله أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه. ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤوَّل أو مرجوح. وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه.

فإن قيل: منهم من يتعمَّد ردَّ الصحيح بدعوى ضعفه أو نسخه أو تأويله أو رُجحان غيره عليه، وهو يعلم أنه لا شيء من ذلك.

قلنا: لنا الظاهر والله يتولى السرائر، على أنهم قد ترامَوا بهذا زمنًا طويلًا، وجَرَت فتنٌ وحروب، ثم ملُّوا فمالوا إلى التجامل وحسن الظن غالبًا. وعلى كل حال فلا متشَبَّث لك فيما ذكر، والفرق واضح بين من يستحلّ معلنًا قتل المؤمنين بغير حق، ومن يقول: قتل المؤمن حرام، ثم يتفق له أن يقتل مؤمنًا قائلًا: حَسِبْتُه كافرًا حربيًّا، وإن فرض دلالة القرائن على كذبه.

ص: 68

قال: (وقد أورد ابن القيم في «إعلام الموقعين» شواهد كثيرة جدًّا مِن ردّ الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملًا بالقياس ولغير ذلك).

أقول: القياس في الجملة دليل شرعيّ. وعلى كلِّ حال فلا متنفَّس لك في ذلك كما مرَّ.

قال: (ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا).

أقول: نصفٌ عليك، ونصف ليس لك.

ثم ذكر أبو ريَّة ص 27 ــ 28 كلامًا قد تقدّم جوابه مستوفى ولله الحمد.

* * * *

ص: 69

الصحابة ورواية الحديث

[ص 36] ذكر أبو ريَّة ص 29 تحت هذا العنوان أن الصحابة (كانوا يرغبون عن رواية الحديث، وينهون عنها، وأنهم كان يتشدَّدون في قبول الأخبار تشديدًا قويًّا).

أقول: دعوى عريضة، فما دليلها؟

قال: (روى الحافظ الذهبي في «تذكرة الحفاظ» قال: ومِن مراسيل ابن أبي مُليكة: أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تُحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافًا، فلا تُحدِّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه).

أقول: قدَّم الذهبي في «التذكرة»

(1)

قول أبي بكر للجدَّة: «ما أجِدُ لكِ في كتاب الله شيئًا، وما علمتُ أن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئًا، ثم سأل الناس

الخ». فقضى بما أخبره المغيرة ومحمد بن مَسْلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر الذهبي هذا الخبر، ولا ندري ما سنده إلى ابن أبي مُليكة، وبيَّنَ الذهبي أنه مرسل، أي منقطع؛ لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر ولا كاد، ومثل ذلك ليس بحجة؛ إذ لا يُدْرَى ممن سمعه. ومع ذلك قال الذهبي: «مراد الصِّدِّيق التثبُّت في الأخبار والتحرِّي، لا سدُّ بابِ الرواية

ولم يقل: «حسبنا كتاب الله» كما تقوله الخوارج».

أقول: المتواتر عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه كان يدين بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وأَخَذَ بحديث:«لا نورث» مع ما يتراءى من مخالفته لظاهر القرآن، وأحاديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم موجودة في دواوين الإسلام، وقد استدل

(1)

(1/ 2 ــ 3).

ص: 70

أبو ريَّة (كما مرَّ ص 24)

(1)

بما رُوي أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث، ثم أَتْلَفَ الصحيفة، وذكر مِمَّا يخشاه إن بقيت قوله:«أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر» . وقد ذكر أهل العلم أن أصول أحاديث الأحكام نحو خمسمائة حديث. انظر «إعلام الموقعين» (2: 342)

(2)

.

وفيه (1: 61)

(3)

«عن ابن سيرين قال

وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلًا ولا في السنة أثرًا، فاجتهدَ رأيه ثم قال: هذا رأيي فإن كان صوابًا فمن الله

».

وفيه (1: 70)

(4)

«عن

(5)

ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى

وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه

».

[ص 37] وفيه (3: 379)

(6)

«لا يُحْفَظ للصديق خلاف نصّ واحدٍ أبدًا» . وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي (1: 381)

(7)

في قصة طويلة عن أبي بكر: «وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأني سألته عن العَمَّة

(1)

(ص 49).

(2)

(3/ 571).

(3)

(2/ 101).

(4)

(1/ 115).

(5)

(ط): «عين» خطأ.

(6)

(5/ 547).

(7)

(3/ 118 ــ ط تدمري).

ص: 71

وبنت الأخ فإن في نفسي منها حاجة».

فإن كان لمرسل ابن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يُشْعِر بأنه يتعلّق بأمر الخلافة، كأن الناس عقب البيعة بَقُوا يختلفون يقول أحدهم: أبو بكر أهلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كَيت وكَيت. فيقول آخر: وفلان قد قال له النبي صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، فأحبَّ أبو بكر صَرْفهم عن الخوض في ذلك وتوجيهم إلى القرآن وفيه:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

قال أبو ريَّة: (وروى ابن عساكر عن [إبراهيم بن] عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر قال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: [لا]، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات).

أقول: أخذ أبو ريَّة هذا من «كنز العمال» (1: 239)

(1)

وأسقط منه ما أضفته بين حاجزين. وفي خطبة «كنز العمال» (1: 3)

(2)

: إن كل ما عُزي فيه إلى «تاريخ ابن عساكر» فهو ضعيف. وعبد الله بن حذيفة غير معروف، إنما في الصحابة عبد الله بن حُذافة، وهو مُقِلٌّ جدًّا لا يثبت عنه حديث واحد، فلا يصلح لهذه القصة. وفي سماع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من عمر خلاف، والظاهر أنه لا يثبت

(3)

. ثم إن هؤلاء النَّفَر لم يكونوا جميع

(1)

(10/ 292 ــ 293 ــ ط الرسالة).

(2)

(1/ 10).

(3)

انظر الخلاف فيه في كتاب: «التابعون الثقات المتكلّم في سماعهم من الصحابة» : (1/ 69 ــ 75) للهاجري.

ص: 72

الصحابة، بل كان كثير جدًّا من الصحابة في الأمصار والأقطار يُحدِّثون.

قال أبو ريَّة: (وفي رواية ابن حزم في «الأحكام» أنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث).

أقول: هذا في «أحكام ابن حزم» (2: 39)، وتعقّبه بقوله: «مرسل ومشكوك فيه

ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد .. » وسيأتي الكلام في الإكثار.

قال ص 30: (وروى ابن عساكر عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنَّك بأرض دوس. وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث [عن الأُوَل] أو لألحقنَّك بأرض القردة).

[ص 38] أقول: قد علمت حال «تاريخ ابن عساكر» ، وقد أعاد أبو ريَّة هذا الخبر ص 163 ويأتي الكلام عليه هناك وبيان سقوطه. وأسقط أبو ريَّة هنا كلمة «عن الأُوَل»

(1)

لغرضٍ خبيث، وصنع مثل ذلك ص 115 وص 126، وفعل ص 163 فعلة أخرى، ويأتي شرح ذلك في الكلام عليها إن شاء الله.

قال: (وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان).

أقول: لم يعزه، ولم أجده.

قال: (وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد

(2)

قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أُحدِّث عن رسول الله أن لا أكون أوعى أصحابه، إلا أني سمعته يقول: من قال عليَّ مالم أقل فقد تبوأ مقعده من النار).

(1)

أضافها أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة.

(2)

تحرف على أبي ريَّة بلفظ «محمود بن عبيد» ولم ينبه على تصحيحه. [المؤلف]. أقول: وقد صححه أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة.

ص: 73

أقول: هو عند ابن سعد

(1)

عقب السيرة النبوية في باب «ذِكْر من كان يُفْتي بالمدينة» رواه ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي وهو الواقدي أحد المشهورين بالكذب، وكأَنَّ ابن عساكر رواه من طريقه

(2)

، وحال «تاريخ ابن عساكر» قد مرَّ، وأحاديث عثمان ثابتة في أمهات الحديث كلها، ولم يزل يُحدِّث حتى قُتِل.

قال: (وفي «جامع بيان العلم»

عن الشعبي عن قُرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا: أتدرون لم مشيت معكم؟ قلنا: أردت أن تشيّعنا وتكرمنا، قال: إن مع ذلك لحاجة خرجتُ لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلها دويّ كدويّ النحل، فلا تصدُّوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم.

قال قرظة: فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله

وفي رواية أخرى: إنكم تأتون أهل قرية لها دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله.

وفي «الأم» للشافعي

فلما قدم قرظة قالوا: حدِّثنا. قال: نهانا عمر).

أقول: اخْتُلِف في وفاة قرظة والأكثرون أنها كانت في خلافة عليّ، ووقع في «صحيح مسلم»

(3)

في رواية ما يدلّ أنه تأخر بعد ذلك ولعلها خطأ. وسماع الشعبي منه غير متحقق، وقد جزم ابن حزم في «الأحكام» (2: 138) بأنه لم يلقه، وردَّ هذا الخبر وبالغ كعادته، ومما قاله: إن عمر نفسه رويت عنه خمسمائة حديث ونيِّف، فهو مكثر بالقياس إلى المُتَوَفَّيْنَ قريبًا من

(1)

«الطبقات» : (2/ 291).

(2)

وهو كذلك. «تاريخ ابن عساكر» : (39/ 180).

(3)

لعله قصد ما في مسلم (933) عن علي بن ربيعة: «أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب

».

ص: 74

وفاته. أقول: مع اشتغاله بالوزارة لأبي بكر ثم بالخلافة.

وكذلك رده ابن عبد البر في كتاب «العلم» (2: 121 ــ 123)

(1)

وأطال، قال:«والآثار الصحاح عنه (أي عمر) من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على بَيان عن الشعبي، وليس مثله حجة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنة والكتاب» . وذَكَر آيات وأحاديث وآثارًا عن عمر في الحضِّ على تعلُّم السنن.

والشعبي لم يُذْكَرْ في طبقات المدلسين، لكن ذكر أبو حاتم

(2)

في ترجمة سليمان بن قيس اليشكري أن أكثر ما يرويه الشعبي عن جابر إنما أخذه الشعبي من صحيفة سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، وهذا تدليس.

ثم أقول: كان قد تجمَّع في العراق كثير من العرب من أهل اليمن وغيرهم، وشرعوا في تعلّم القرآن، فكره عمر أن يُشْغَلوا عنه بذكر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها من أخباره التي لا حكم فيها. ولا مانع أن يجب [ص 39] فيما فيه حكم أن تُتَوخّى به الحاجة، وإن كان الخبر الآتي يخالف هذا.

قال: (وكان عمر يقول: أقلُّوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به).

أقول: عزاه إلى «البداية والنهاية»

(3)

، وهو فيها عن الزهري، ولم يدرك

(1)

(2/ 998 ــ 1000).

(2)

في «الجرح والتعديل» : (4/ 136).

(3)

(11/ 372). وهو في «تاريخ ابن عساكر» : (67/ 344) مسندًا، وهو مصدر ابن كثير في النقل.

ص: 75

عمر. وعلق عليه أبو ريَّة قوله: (أي السنة العملية) فإن أراد اصطلاح شيخه

(1)

«السنة العملية المتواترة» فلا يخفى بطلانه؛ لأن هذا اصطلاح مُحْدَث، وإنما المراد ما يترتَّب عليه عمل شرعي، فيدخل في ذلك جميع الأحكام والآداب وغيرها، ولا يخرج إلا القصص ونحوها، استحبّ الإقلال من القصص ونحوها، ولم يمنع من الإكثار فيما فيه عمل.

ثم قال: (ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك لأنه كان لا يعتمد إلّا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حُضِر النبي وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هَلُمَّ أكتبْ لكم كتابًا لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله).

أقول: تكلَّم بعضُ المتأخرين

(2)

في هذا الحديث، وذكر أنه لوكانت الواقعة بنحو هذه الصورة لما أغفلَ الصحابةُ ذكرَها والتنويه بشأنها، فما باله لم يذكرها إلا ابن عباس مع أنه كان صغيرًا يومئذ. ويميل هذا المتأخر إلى أنها كانت واقعة لا تستحق الذكر تجسَّمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل. والذي يهمنا هنا أن نتبيَّن أنه من المعلوم يقينًا أن عمر لا يدَّعي كفاية كتاب الله عن كلِّ ما سواه بما فيه بيان الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذن فإنما ادَّعى كفاية القرآن عن أمر خاص، ودلالة الحال تبين أنه ذاك الكتاب الذي عَرَض عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يكتبه لهم. والظاهر أنه قد كان جرى ذكر قضية خاصة بَدَا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم في شأنها، فرأى عمر أن حكمها في القرآن، وأن غاية ما سيكون في ذاك الكتاب تأكيد أو زيادة

(1)

يعني رشيد رضا صاحب «المنار» وقد سبق كلامه.

(2)

لم أتبين مَن هو.

ص: 76

توضيح أو نحو ذلك، فرأى أنه لا ضرورة إلى ذلك مع ما فيه من المشقة على النبي صلى الله عليه وسلم في شدة وجعه.

هذا وفي «رسالة الشافعي» (ص 422 ــ 445)، و «إعلام الموقعين» (1: 61 ــ 74، 98)

(1)

، و «أحكام ابن حزم» (2: 137 ــ 141)، وكتاب «العلم» لابن عبد البر (2: 121 ــ 124)

(2)

وغيرها آثار كثيرة تبين تمسّك عمر بالأحاديث والسنن، ورجوعه إليها، وعنايته بها، وحضّه على تعلّمها وتعليمها، وأمره باتباعها، فمن أحبَّ فليراجعها. ومعنى ذلك في الجملة متواتر.

[ص 40] قال أبو ريَّة ص 31: (وروى ابن سعد في «الطبقات» عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدثنا حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع).

أقول: أحاديث سعد موجودة في كتب الإسلام، وقد قدَّمنا أن جماعة من الصحابة كانوا لا يحبُّون أن يحدِّثوا في غير وقت الحاجة.

قال: (وسئل عن شيء فاستعجم وقال: إني أخاف أن أُحدِّثكم واحدًا فتزيدوا عليه المائة).

أقول: هذا في «الطبقات»

(3)

من طريق سعد، وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن خالته (كذا، ولعل الصواب: عن خاليه)

(4)

أنهم

(1)

(2/ 101 ــ 105، 158).

(2)

(2/ 998 ــ 1000).

(3)

(3/ 134).

(4)

في «نسخة إبراهيم بن سعد بن إبراهيم

» (9 ــ ت جرار): «عن خالته ابنة سعد بن مالك أنها قالت

» وكذلك جاء في رواية أخرى عن ابن أبي خثيمة في «تاريخه» (3591).

ص: 77

دخلوا على سعد بن أبي وقاص فسئل الخ. وأحاديث أبناء سعد عنه كثيرة، والظاهر أنه كان معهم هذه المرة من لا يأتمنه سعد، ولعلهم سألوه عن شيء يتعلَّق بما جرى بين الصحابة.

قال: (وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يُحدِّث عن رسول الله ولا يقول: قال رسول الله، إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدَّر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله، إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك. وفي روايةٍ عند ابن سعد عن علقمة بن قيس أنه كان يقوم قائمًا كل عشية خميس، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة فنظرت إليه وهو يعتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع).

أقول: رواية عَمرو بن ميمون انفرد بها ــ فيما أعلم ــ مُسلم البَطِين، واضطرب فيها على أوجه، راجع «مسند أحمد» الحديث (3670)، وفي بعض الطرق التقييد بيوم الخميس، وذلك أن ابن مسعود كان يقوم يوم الخميس يَعِظ الناس بكلمات. وأما رواية علقمة

(1)

.

هذا، ولهذين وغيرهما عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في دواوين الإسلام. وأما كرب ابن مسعود فالظاهر أنه عَرَض له تشككٌ في ضبطه لذاك الحديث، ولهذا قال:«إن شاء الله الخ» والأحاديث الصحيحة عنه بالجزم كثيرة، وراجع ما تقدم عنه (ص 13)

(2)

.

(1)

كذا في (ط)، فكأن المصنف لم يكمل الكلام على رواية علقمة. وقد أخرجها الطبراني في «الكبير» (8624) و «الأوسط» (2002)، وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين» (720)، وسندها حسن على أقل أحواله.

(2)

(ص 27 ــ 28).

ص: 78

قال: (وسأل مالكُ بن دينار ميمونَ الكُرْدي أن يُحدِّث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه، فقال: كان أبي لا يحدِّثنا عن النبي مخافة أن يزيد أو

(1)

ينقص).

أقول: لم يَعْزُه ولم أعثر عليه

(2)

، ووالد ميمون الكردي لا يكاد يُعْرَف. وقد ذُكِر في «أُسْد الغابة»

(3)

و «الإصابة»

(4)

باسم «جابان» ولم يذكروا له شيئًا، إلا أنه وقع بسند ضعيف عن ميمون عن أبيه، فذكر حديثًا لا يصح وفيه اضطراب.

قال: (وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن كعب قال: «قلت لأبي قتادة: حدِّثني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله).

أقول: قد قدمنا أنهم كانوا لا يحبُّون التحديث عند عدم الحاجة، وأحاديث أبي قتادة موجودة في دواوين الإسلام.

قال: (وروى ابن الجوزي في كتاب «دفع شُبَه التشبيه» قال: سمع الزبير رجلًا يحدِّث، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه، قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم. فقال: هذا وأشباهه مما يمنعني أن أتحدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قد لعمري سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ بهذا الحديث فحدَّثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئتَ أنت بعد انقضاء

(1)

في (ط): «أم» والتصحيح من المصادر.

(2)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6209)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة»:(5/ 62). قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن أبي خَلْدة إلا أبو سعيد مولى بني هاشم، ولا يُروى عن أبي ميمون الكردي إلا بهذا الإسناد» .

(3)

(1/ 301).

(4)

(1/ 429).

ص: 79

صدر الحديث، وذكر الرجلَ الذي هو من أهل الكتاب فظننتَ أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم).

أقول: أسنده البيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 258 ط الهند)

(1)

: «أخبرنا أبو جعفر الغرابي

(2)

، أخبرنا أبو العباس الصبغي، حدثنا الحسن بن علي بن زياد، حدثنا ابن أبي أويس، حدثني ابن أبي الزناد عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن [عبد الله بن]

(3)

عروة بن الزبير أن الزبير بن العوَّام سمع رجلًا

». أبو جعفر لم أعرفه، والصبغي هو محمد بن إسحاق بن أيوب مجروح، وابن أبي الزناد فيه كلام، وعبد الله بن عروة ولد بعد الزبير بمدة، فالخبر منقطع. وكأنه مصنوع.

قال ص 32: (وأخرج البخاري والدارقطني عن السائب بن يزيد قال: صحبت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود فلم أسمع الواحد منهم يُحدِّث عن رسول الله).

أقول: قد حدَّثوا، وسمع منهم غير السائب، وحدَّث من هو خير منهم: الخلفاء الأربعة، والكثير الطيِّب من الصحابة رضي الله عنهم. وانتظر.

قال: (وأخرج أحمد وأبو يعلى عن دجين الخ).

(1)

(764 ـ ت الحاشدي). والنص فيها صححه الشيخ رحمه الله. وأخرجه البيهقي أيضًا في «المدخل» ــ وليس في المطبوع ــ، ومسلم في «كتاب التفضيل» ــ كما في «فتح الباري»:(2/ 576 ــ 577) لابن رجب ــ.

(2)

في مخطوطة مكتبة الحرم المكي رقم 203 من كتب التوحيد القسم الأول «العزائمي» . [المؤلف]. وهو الصواب كما في الطبعة المحققة: (1/ 133).

(3)

قوله «عبد الله بن» أثبته من المخطوطة، وسقط من المطبوعة. [المؤلف].

ص: 80

أقول: دُجَين أعرابيّ ليس بشيء في الرواية، وترجمته في «لسان الميزان»

(1)

وفيها نحو هذا مع اختلاف.

قال: (وقال عمران بن حُصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدَّثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن بطأني من ذلك أن رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعتُ، وشهدوا كما شهدتُ، ويحدِّثون أحاديث ما هي كما يقول (؟ ) وأخاف أن يشبّه لي كما شُبِّه لهم» فأعلمك أنهم كانوا يغلطون (وفي نسخة: يخطئون) لأنهم كانوا يتعمدون).

أقول: هذا ذكره ابن قتيبة في «مختلف الحديث» (ص 49)

(2)

فقال: «روى مطرّف بن عبد الله أن عِمران بن حُصين قال

» ولم يذكر سندَه. وقوله: «فأعلمك الخ» من

(3)

كلام ابن قتيبة.

[ص 42] قال: (وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن أبي ليلى قال: قلت لزيد بن أرقم: حدِّثْنا عن رسول الله قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد).

أقول: أحاديث زيد موجودة في الكتب، وقد قدَّمنا أنهم كانوا لا يحبُّون أن يحدِّثوا بدون حضور حاجة، ويتأكد ذلك عند خشية الخطأ ــ وانتظر.

قال: (وقال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث»: وكان كثير من جلَّة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلّون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي عنه شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة).

(1)

(3/ 415 ــ 416).

(2)

(ص 55 ــ المكتب الإسلامي). والحديث أخرجه أحمد في «المسند» (19893)، والطبراني في «الكبير»:(18/ 195). وإسناده ضعيف. انظر حاشية المسند: (33/ 123).

(3)

(ط): «عن» .

ص: 81

قال أبو ريَّة: (ولو أنك تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثًا واحدًا لأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن [عبد الله بن] الجراح. وليس فيهما كذلك حديث لعتبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم).

ثم قال أبو ريَّة: (كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفُتْيَا منهم كما علمت يتَّقون كثرة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا يُرَغّبون عن روايته؛ إذ كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كتابة حديثه، وأنهم إذا حدَّثوا عنه قد لا يستطيعون أن يؤدُّوا كل ما سمعوه

على وجهه الصحيح؛ لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع، وماتحفظه مما تسمعه لا يمكن أن يبقى فيها على أصله

ما كانوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث بالمعنى؛ لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغيّر المعنى، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كغيره؛ إذ كل لفظة من كلامه صلى الله عليه وسلم يكمُن وراءها معنى يقصده).

أقول: كان الصحابة يُفتون، وكلُّ من طالت صحبتُه فبلغت سَنَةً فأكثر فهو مِن العلماء، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، وقد قال الشافعي في «الأم» (7: 244)

(1)

: «أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّهم ممن له أن يقول في العلم» . وتبليغ الأحاديث فرض كفاية كالفتوى.

فأما الصِّدِّيق فقلَّ حديثه وفتواه؛ لأنه اشتغل بالخلافة حتى مات بعد سنتين وأَشْهُر، وكان يكفيه غيره الفتوى والتحديث. وأما أبو عبيدة فشُغِل بفتح الشام حتى مات سنة 18، وكان معه في الجيش كثير من الصحابة كمعاذ بن جبل وغيره يَكْفُونه الفُتيا والتحديث. وقد جاءت عنه عدة أحاديث لم يتّفق أن يكون منها ما هو على شرط الشيخين مما احتاجا إليه. وأما الزبير والعباس فكانا مشتغلَيْنِ بمزارعهما غير منبسطَيْن لعامة الناس، فاكتفى الناس

(1)

(8/ 757 ــ دار الوفاء).

ص: 82

غالبًا ببقية الصحابة وهم كثير. وأما سعيد [ص 43] بن يزيد فكان منقبضًا مُقْبِلًا على العبادة. وأما عُتْبة بن غزوان فحاله كحال أبي عبيدة بقي في الجهاد والفتوح حتى مات سنة 17. وأما أبو كبشة فقديم الموت تُوُفي يوم مات أبو بكر أو بعده بيوم.

وكما قلَّتْ أحاديث هؤلاء قَلَّتْ فتاواهم، مع العلم بأن الفتوى فرض كفاية، وأنه إذا لم يوجد إلا مُفْتٍ واحدٌ والقضية واقعة تعيَّنَتْ عليه.

وكما كانوا يتقون الفتوى في القضايا التي ليست واقعة حينئذٍ، حتى رُوي عن عمر أنه لعن من يسأل عما لم يكن. وأنه قال وهو على المنبر: وأحرِّج بالله على مَنْ سأل عما لم يكن، فإن الله قد بَيَّن ما هو كائن. أخرجهما الدارميّ وغيره

(1)

.

ورُوي أنهم كانوا يتدافعون الفتوى، كل واحد يَوَدّ أن يكفيه غيره، فكذلك كان شأنهم في التحديث حين كان الصحابة متوافرين. وعامة مَنْ تقدم أنه قليل الحديث أو أنه سئل أن يُحدّث فامتنع، قد ثبتت عنهم أحاديث بين مُكْثِر ومُقِلّ، وذلك يُبيِّن قطعًا أن قلَّة حديثهم إنما كانت لما تقدم.

ويوضِّح ذلك أنه لم يأت عن أحدٍ منهم ما يؤخذ منه أنه امتنع من التحديث بحديث عنده مع حضور الحاجة إليه وعدم كفاية غيره له. إنك لا تجد بهذا المعنى حرفًا واحدًا. فاختيارهم أن لا يحدّثوا إلا عند حضور الحاجة إلى تحديثهم خاصة هو السببُ الوحيد لاتقاء الإكثار ولِمَا يصح في

(1)

«مسند الدارميّ» (123، 126) على التوالي. وأخرجهما ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» : (2/ 1067، 1061) على التوالي.

ص: 83

الجملة من الرغبة عن الرواية.

أما النهي عن الكتابة فقد فرغنا منه البتة فيما تقدم (ص 22)

(1)

: وأما خشية الخطأ فهذا من البواعث على تحرِّي أن لا يُحدِّثوا إلا عند الحاجة. راجع (ص 31)

(2)

.

قوله: (إن ما وَعَتْه الذاكرة لا يمكن أن يبقى فيها على أصله) إنْ أراد بذلك ألفاظ الأحاديث القولية فليس كما قال، بل يمكن أن يبقى بعض ذلك، بل قوله: إنَّ (الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة وأهل الفتيا

لم يكونوا ليَرْضَوْا بما رضي به بعضهم

من رواية الحديث بالمعنى) اعتراف منه بأن ما ثبت عن هؤلاء روايته من الأحاديث القولية قد روَوْه بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه الصحيح. وإن أراد الأحاديث الفعلية ومعاني القولية فباطل، بل يبقى فيها الكثير من ذلك كما لا يخفى على أحد.

قوله: (إن تغيير اللفظ قد يغير المعنى).

قلنا: قد، ولكن الغالب فيمن ضبط المعنى ضبطًا يثق به أنه لا يغيِّر.

قوله: (كل لفظة من كلامه صلى الله عليه وسلم يكمن وراءها معنى يقصده).

أقول: نعوذ بالله من غلوّ يُتَذَرَّعُ به إلى جحود، كان صلى الله عليه وسلم يكلِّم الناس ليفهموا عنه، فكان يتحرى إفهامهم «إن كان ليحدِّث الحديثَ لو شاء العادُّ أن يحصيه أحصاه» كما في «سنن أبي داود»

(3)

عن عائشة، وأصله في

(1)

(ص 45).

(2)

(ص 61).

(3)

(3654).

ص: 84

«الصحيحين»

(1)

. وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفْهَم. كما في «صحيح البخاري»

(2)

عن أنس.

ويقال لأبي رية: أمفهومةٌ كانت [ص 44] تلك المقاصد الكامنة وراء كلّ لفظة للصحابة، أم لا؟ إن كانت مفهومة لهم أمكنهم أن يؤدُّوها بغير تلك الألفاظ. وإلَّا فكيف يُخَاطَبون بما لا يفهمونه؟ فأما حديث «فُربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع»

(3)

فإنما يتفق في قليل كما تفيد كلمة «ربَّ» ، وذلك كأن يكون الصحابي ممن قَرُبَ عهده بالإسلام ولم يكن عنده علم فيؤدّيه إلى عالم يفهمه على وجهه، والغالب أن الصحابة أفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ممَّن بَعْدَهم.

* * * *

تشديد الصحابة في قبول الأخبار

قال أبو ريَّة ص 33: (كانوا يتشددون في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثًا إلا بشهادة غيره على أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

أقول: هذه دعوى لا تُقبل إلا بدليل، كأن يكون أبو بكر صرَّح بذلك، أو تكرَّر منه ردّ خبر الآحاد الذين لم يكن مع كلٍّ منهم آخر، وليس بِيَد أبي ريَّة شيء من هذا، إنما ذكر الواقعة الآتية وسيأتي النظر فيها.

قال: (روى ابن شهاب عن قَبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تُورَّث فقال:

(1)

البخاري (3567)، ومسلم (2493).

(2)

(95).

(3)

أخرجه البخاري (67، 1741)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 85

ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئًا ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مَسْلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر).

أقول: هذه واقعة حال واحدة ليس فيها ما يدلُّ على أنه لو لم يكن مع المغيرة غيره لم يقبله أبو بكر. والعالِمُ يحبّ تَظَاهُر الحجج كما بيّنه الشافعي في «الرسالة» (ص 432). ومما حسَّن ذلك هنا أن قول المغيرة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس»

(1)

يعطي أن ذلك تكرَّر من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يستبعد أبو بكر تكرُّر ذلك ولم يعلمه هو، مع أنه كان ألزَمَ للنبي صلى الله عليه وسلم من المغيرة. وأيضًا: الدعوى قائمة، وخبر المغيرة يشبه الشهادة للمدَّعِيَة.

ومع ذلك فهذا خبر تفرَّد به الزهري، عن عثمان بن إسحاق بن خَرَشة، عن قَبيصة، واحد عن واحد عن واحد. فلو كان في القصّة ما يدلُ على أن الواحد لا يكفي لعاد ذلك بالنقض على الخبر نفسه، فكيف وهو منقطع، لأن قبيصة لم يدرك أبا بكر، وعثمان بن إسحاق وإن وُثِّق لا يُعْرَف في الرواية إلا برواية الزهري وحده عنه، هذا الخبر وحده!

قال أبو ريَّة: (وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية، وهو شرط الإسناد الصحيح).

[ص 45] أقول: تلك أمانيّهم، وقد بيَّن الكتاب والسنة وجوب أن يقبل خبر العدل، وقَرَن الله تعالى تصديقه بالإيمان به سبحانه، قال تعالى في ذكر المنافقين:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] كلما

(1)

كما نقله أبو رية. [المؤلف].

ص: 86

أخبره أحدٌ من أصحابه عنَّا بِشَرٍّ صدَّقه، قال تعالى:{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]. أي يصدّقهم. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فبيَّن سبحانه أن خبر الفاسق مناف لخبر العدل، فمِنْ حقّ خَبَر العَدْل أن يصدُق كما صرَّحت به الآية الأولى، ومن حقِّ خبر الفاسق أن يُبْحَث عنه حتى يتبيّن أمره.

وأما السنة فبيانها لوجوب أن يُقْبَل خبر الواحد العدل أوضح، وقد أطال أهل العلم في ذلك وألَّفوا فيه، وانظر «رسالة الشافعي» (ص 401 ــ 458) و «أحكام ابن حزم»:(1: 108).

ومن أَبْيَن ما احتجّوا به: ما تواتر من بَعْث النبي صلى الله عليه وسلم آحاد الناس إلى القبائل والأقطار يبلّغ كلُّ واحد منهم من أرسل إليه ويعلمهم ويقيم لهم دينهم.

قال ابن حزم

(1)

: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى الجَنَد وجهاتٍ من اليمن، وأبا موسى إلى جهة أخرى

وأبا عبيدة إلى نجران، وعليًّا قاضيًا إلى اليمن، وكلّ من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلمًا لهم شرائع الإسلام. كذلك بعث أميرًا إلى كلِّ جهة أسلمت

معلمًا لهم دينهم، ومعلمًا لهم القرآن، ومفتيًا لهم في أحكام دينهم، وقاضيًا فيما وقع بينهم، وناقلًا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله، وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. وبعثة هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشكُّ فيها أحد

ولا في أن بعثتهم إنما كانت لما ذكرنا. [و]

(2)

من

(1)

«الإحكام» : (1/ 109 ــ 110).

(2)

هذه الإضافة من المصنف تصحيحًا لنص ابن حزم.

ص: 87

المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من لا تقوم عليهم الحجَّةُ بتبليغه، ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين، وما أفتوهم به في الشريعة

إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولًا، ولكان عليه السلام قائلًا للمسلمين: بعثتُ إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلَّغَكم عنّي، ومن حكمكم أن لا تلتفتوا إلى ما نُقِل إليكم عني

ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام».

والحجج في هذا الباب كثيرة، وإجماع السلف على ذلك محقق.

قال أبو ريَّة ص 34: (أما عمر فقد كان أشدّ من ذلك احتياطًا وتثبتًا

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنتُ على عمر ثلاثًا فلم يؤذَن لي، فرجعت، قال عمر: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذَن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم[ص 46]:«إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع» . فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة. (زاد مسلم: وإلا أوجعتك. وفي رواية ثالثة: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا) أَمِنْكُم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبيُّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك).

قال أبو ريَّة: (فانظر كيف تشدَّد عمر في أمرٍ ليس فيه حلال ولا حرام، وتدبَّر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في غير ذلك من أصول الدين أو فروعه. وقد استند إلى هذه القصة من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد. واستدل به من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضمَّ إليه غيره

).

أقول: قد ثبت عن عمر الأخذ بخبر الواحد في أمور عديدة، من ذلك: أنه كان لايورّث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحَّاك بن سفيان الكلابي أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

ص: 88

فرجع إليه عمر

(1)

. وعمل بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده في النهي عن دخول بلد فيها الطاعون

(2)

. وعمل بخبره وحده في أخذ الجزية من المجوس

(3)

. وهذا كله ثابت. راجع «رسالة الشافعي» (426). وفي «صحيح البخاري»

(4)

وغيره عن عمر أنه قال لابنه عبد الله: «إذا حدَّثك سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فلا تسأل عنه غيره. وكان سعد حدَّث عبد الله حديثًا في مسح الخفين.

فأما قصّة أبي موسى فإنما شدّد عمر لأن الاستئذان مما يكثر وقوُعه، وعمر أطول صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ملازمة وأشدّ اختصاصًا، ولم يحفظ هو ذاك الحكم فاستغربه. ولهذا لما أخبره أبو سعيد عاد عمر باللائمة على نفسه فقال:«خَفِيَ عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق بالأسواق» . وهذا ثابت في «الصحيحين»

(5)

. وأنكر أبيُّ بن كعب على عمر تشديده على أبي موسى وقال: «فلا تكن يا ابن الخطاب عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» . فقال عمر: «إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبَّت» وهذا في «صحيح مسلم»

(6)

. وقد كان عمر يُسمِّى أُبَيًّا: سيد المسلمين

(7)

.

(1)

أخرجه أبو داود (2927)، والترمذي (1415)، وابن ماجه (2642)، وأحمد (15746). قال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219).

(3)

أخرجه البخاري (3157).

(4)

(202). وأخرجه أحمد (88).

(5)

البخاري (2062)، ومسلم (2153).

(6)

(2154/ 37).

(7)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (476).

ص: 89

وفي «الموطأ»

(1)

: أن عمر قال لأبي موسى: «أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرَّأ الناسُ على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» . قال ابن عبد البر

(2)

: «يحتمل أن يكون حضر عنده مَنْ قَرُبَ عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرغبة والرهبة طلبًا للمخرج مما يدخل فيه. فأراد أن يعلّمهم أنَّ مَن فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج» . وقد نقل أبو ريَّة شيئًا من «فتح الباري»

(3)

وترك ما يتصل به من الجواب الواضح عنه، فإن شئتَ فراجعه.

[ص 47] وقال أبو ريَّة ص 8: (وكان عليّ يستحلف الصحابي على ما يرويه له).

أقول: هذا شيء تفرَّد به أسماء بن الحكم الفَزَاري؛ وهو رجل مجهول. وقد ردَّه البخاري وغيره كما في ترجمة أسماء من «تهذيب التهذيب»

(4)

. وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان أو أوسع

(5)

، فلا يقاوم إنكار البخاري وغيره على أسماء. على أنه لو فرض ثبوته فإنما هو مزيد احتياط، لا دليل على اشتراطه.

هذا، ومن المتواتر عن الخلفاء الأربعة: أن كُلًّا منهم كان يَقضي ويُفتي بما عنده من السنَّة بدون حاجة إلى أن تكون عند غيره. وأنهم كانوا ينصبون

(1)

(2768).

(2)

في «التمهيد» : (3/ 200) وهذا النص الذي نقله المؤلف بواسطة «فتح الباري» لابن حجر. وهو تلخيص لكلام ابن عبد البر.

(3)

(11/ 30).

(4)

(1/ 268).

(5)

انظر «التنكيل» : (1/ 724 - 725) للمؤلف.

ص: 90

العمال من الصحابة وغيرهم ويأمرونهم أن يَقضي ويُفتي كلُّ منهم بما عنده من السنَّة بدون حاجة إلى وجودها عند غيره. هذا مع أن المنقول عن أبي بكر وعمر وجمهور العلماء أن القاضي لا يقضي بعلمه. قال أبو بكر: «لو وجدت رجلًا على حدّ ما أقمتُه عليه حتى يكون معي غيري» . وقال عكرمة: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: «لو رأيتُ رجلًا على حدّ زنا أو سرقة وأنا أمير؟» فقال: «شهادتك شهادة رجل من المسلمين» ، قال:«صدقت» . (راجع «فتح الباري» 13: 139 و 141)

(1)

. ولوكان عندهم أن خبر الواحد العدل ليس بحجة تامة لما كان للقاضي أن يقضي بخبرٍ عنده حتى يكون معه غيره، ولا كان للمفتي أن يفتي بحسب خبر عنده، ويلزم المستفتي العمل به حتى يكون معه غيره. فتدبَّرْ هذا فإنه إجماع، وقد مضى به العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الغِنى.

وذكر شيئًا عن أبي هريرة، وسيأتي في ترجمته رضي الله عنه.

* * * *

الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال أبو ريَّة ص 6: (لما قرأت حديث: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار» غمرني الدهش لهذا القَيْد الذي لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر به، ونهى عن الكذب وحذَّر منه، إذ ليس بخافٍ أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أكان عمدًا أم غير عمد).

ثم ذكر ص 9 أنَّ كلمة «متعمدًا» (لم تأت في روايات كبار الصحابة، قال: ويبدو أن هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث على سبيل الإدراج لكي يتكئ عليها الرواة فيما

(1)

(13/ 159 ــ 162 ــ ط السلفية).

ص: 91

يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم أو الغلط

ذلك بأن المخطئ غير مأثوم. أو أن هذه الكلمة وُضِعت ليسوِّغ الذين يضعون الأحاديث عن غير عمدٍ عملَهم).

ثم أطال الكلام ص 36 فزعم أن (الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة، ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين [ص 48] تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الكلمة (متعمدًا)، قال: وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل والخُلُق اللَّذَيْنِ كان الرسول متصفًا بالكمال فيهما).

أقول: أما الرواية فقد جاءت عن كبار الصحابة وغيرهم بلفظ: «مَنْ كَذَب عليّ فليتبوّأ .. » الخ، وبما يؤدي معناه مثل:«مَنْ قال علَيَّ ما لم أقل .. » الخ، وجاءت بلفظ:«مَنْ كَذَب عليّ متعمدًا فليتبوّأ» الخ، وبما يؤدّي معناه مثل:«مَنْ تعمّد عليَّ كذبًا» الخ. راجع البخاري مع «فتح الباري»

(1)

و «صحيح مسلم»

(2)

و «مسند أحمد»

(3)

و «تاريخ بغداد»

(4)

و «كنز العمال» (5: 22) و «مشكل الآثار» للطحاوي (1: 164 ــ 176)

(5)

.

وقد يمكن الترجيح بالنظر إلى الرواية عن صحابي معين، فأما على الإطلاق فلا. وكما أن الله عز وجل كرَّر في القرآن بيان شدّة الإثم في افتراء الكذب عليه فمعقول أن يكرر رسوله. وها هنا بحثان:

(1)

البخاري رقم (108)، و «الفتح»:(1/ 201 ــ السلفية) عن أنس.

(2)

رقم (2) عن أنس.

(3)

رقم (469، 507) عن عثمان، و (584، 789، 1075) عن علي، و (1413) عن الزبير، و (3815، 3847) عن ابن مسعود رضي الله عنهم.

(4)

(1/ 265، 3/ 50) عن ابن مسعود، و (2/ 84) عن أبي موسى، و (2/ 221) عن عثمان، و (3/ 25) عن طلحة، و (5/ 115) عن عليّ رضي الله عنهم.

(5)

(1/ 352 ــ 372 ــ ط الرسالة).

ص: 92