الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة
قال أبو ريَّة آخر ص 164: (تدليسه).
أقول: قال الخطيب في «الكفاية» (ص 357): «تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلّسه عنه بروايته إياه على وجهٍ يوهم أنه سمعه منه» . ومثال هذا: أن قتادة كان قد سمع من أنس، ثم سمع من غيره عن أنس مالم يسمعه هو من أنس، فربما روى بعض ذلك بقوله: «قال أنس
…
» ونحو ذلك، ثم ذكر الخطيب (ص 358) ما يؤخَذ على المدلِّس، وهاك تلخيصه بتصرف:
أولًا: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه.
ثانيًا: إنما لم يبيِّن لعلمه أن الواسطة غير مرضيّ.
ثالثًا: الأنَفَة مِن الرواية عمن حدثه.
رابعًا: إيهام علوِّ الإسناد.
خامسًا: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال.
أقول: هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم مِن قول أحدهم فيما سمعه من [ص 115] صحابي آخر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم» .
أما الأول: فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عُنِي الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة «صحيح مسلم»
(1)
: «عن ابن سيرين قال: لم
(1)
(1/ 15).
يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالَكم
…
». فمِنْ حينئذ التزم أهل العلم الإسناد، فأصبح هو الغالب، حتى استقرّ في النفوس، وصار المتبادر مِنْ قول مَنْ قد ثبت لقاؤه لحذيفة: «قال حذيفة: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول
…
» أو نحو ذلك= أنه أسند، ومعنى الإسناد: أنه ذَكَر مَن سمع منه، فيفهم مِن ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك، مع أنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة، كان موهمًا خلاف الواقع.
وهذا العُرْفُ لم يكن مستقرًّا في حقِّ الصحابة لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عُرْفُهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
» كان محتملًا أن يكون سمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأن يكون سمعه من صحابيٍّ آخر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فلم يكن في ذلك إيهام.
وأما الثاني: فلم يكن ثَمَّ احتمال لأن يكون الواسطة غير مرضيّ؛ لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابيٍّ آخر ــ يثق به وثوقه بنفسه ــ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبيّ أو من مغفَّل أو قريب العهد بالإسلام أو من مَغْمُوصٍ بالنفاق أو من تابعي.
وأما الثالث: فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم.
وأما الرابع: فتبع الأول.
وأما الخامس: فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إنْ كان هناك واسطة فهو صحابيّ آخر.
قال أبو ريَّة: (ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس).
أقول: إنما جاء في ذلك كلمة شاذَّة يغلب على ظنّي أنها مصحَّفة، سيأتي الكلام عليها
(1)
.
وذكر ص 165 ما حُكي عن شعبة في ذمِّ التدليس، وقال:(ومن الحفاظ من جرح مُن عُرِف بهذا التدليس من الرواة، فردّ روايته مطلقًا وإن أتى بلفظ الاتصال).
أقول: بعد أن استحكم العرف الذي مرَّ بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان:
[ص 116] الضرب الأول: مَنْ بَيَّن عدم التزامه فصار معروفًا عند الصحابة والآخذين عنه أنه إذا قال: «قال فلان» ونحو ذلك وسمَّى بعضَ شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر مِنْ ذاك الشيخ وأن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلِّسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلَّس أحدُهم خبرًا مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلَّس فسئل بيَّن الواقع.
والضرب الثاني: مَنْ لم يُبَيِّنْ بل يتظاهر بالالتزام، ومع ذلك يدلس عمدًا.
وتدليس هذا الضرب الثاني حاصله إفهام السامع خلاف الواقع، فإن كان المدلِّس مع ذلك متظاهرًا بالثقة كان ذلك حملًا للسامع ومن يأخذ عنه على التديُّن بذاك الخبر عملًا وإفتاء وقضاء. فأما تدليس الضرب الأول فغايته أن يكون الخبر عند السامع محتملًا للاتصال وعدمه، وما يقال إن فيه إيهام الاتصال إنما هو بالنظر إلى العُرْف الغالب بين المحدّثين، فأما بالنظر
(1)
(ص 225 ــ 226).
إلى عُرْف المدلّس نفسه فما ثَمَّ إلا الاحتمال، فالضرب الثاني هو اللائق بكلمات شعبة ونحوها، وبالجرح وإن صرح بالسماع.
فأما الضرب الأول فقد عُدَّ منهم إبراهيم النَّخَعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي ثابت، والحسن البصري، والحكم بن عُتيبة، وحُميد الطويل، وخالد بن مَعْدان، وسعيد بن أبي عَروبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عُيينة، وسليمان التيمي، والأعمش، وابن جُريج، وعبد الملك ابن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وابن شهاب، والمغيرة بن مَقسم، وهُشَيم بن بشير، ويحيى بن أبي كثير، ويونس بن عُبيد، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات أمناء مأمونون عند شعبة وغيره، متفق على توثيقهم والاحتجاج بما صرَّحوا فيه بالسماع. قال ابن القطان
(1)
: «إذا صرَّح المدلّس الثقة بالسماع قُبِل بلا خلاف، وإن عنعن ففيه الخلاف»
(2)
. فأما الصحابة رضي الله عنهم فلا مَدْخَل لهم في التدليس كما تقدم.
قال: (ولو لم يُعرف أنه دلّس إلا مرة واحدة، نص على ذلك الشافعي رحمه الله.
أقول: عبارته تعطي أن الشافعي يرى جرح المدلّس مطلقًا ولو صرَّح بالسماع، وهذا كذب، وعبارة الشافعي في «الرسالة» (ص 379):«ومَن عرفناه دلَّس فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بالكذب فنردَّ بها حديثه، ولا النصيحة في الصِّدق فنقبلَ منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلّس حديثًا حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت» .
[ص 117] قال: (وروى مسلم بن الحجاج
(1)
عن بُسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفَّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدّثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله، وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفَّظوا في الحديث).
أقول: إنما يقع مثل هذا ممن يحضر المجلس من ضعفاء الضبط ومَن لا عناية له بالعلم، ومثل هؤلاء لا يوثِّقهم الأئمة ولا يحتجُّون بأخبارهم، ولابدّ أن يتنبَّهُوا لغلطهم. وعلى كلِّ حال فلا ذنب لأبي هريرة في هذا، ولم يزل أهلُ العلم يذكر أحدهم في مجلسه شيئًا من الحديث، ويذكر معه ــ مفصولًا عنه ــ ما هو من كلام بعض أهل العلم أو غيرهم وما هو من كلام نفسه، والحكاية نفسها تدلّ على أن أبا هريرة كان يبيّن، وإنما يقع الغلط لبعض الحاضرين.
قال: (وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلّس. أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من
(2)
هذا. ذكره ابن عساكر).
أقول: هذه عبارة ابن كثير في «البداية»
(3)
، ساق كلمة بُسْر المتقدّمة ووصلها بهذه الحكاية، وهي حكاية شاذة لا أدري كيف سندها إلى يزيد
(4)
،
(1)
في كتاب «التمييز» (ص 175).
(2)
(ط): «عن» ، والتصحيح من كتاب أبي ريَّة، ومما سيعيده المؤلف قريبًا.
(3)
(11/ 377)، ومصدره ابن عساكر:(67/ 359).
(4)
ساق سندها ابن عدي في «الكامل» : (1/ 151) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» : (67/ 359): أخبرنا الحسن بن عثمان التستري، نا سلمة بن حبيب، قال: سمعت يزيد بن هارون به.
والحسن بن عثمان التستري من شيوخ ابن عدي قال فيه: «كان عندي يضع ويسرق حديث الناس» . وقال عبدان الأهوازي: كذاب. انظر «الكامل» : (2/ 345). فالإسناد ساقط.
ويقع في ظني ــ إنْ كان السند صحيحًا ــ أنه وقع فيها تحريف، فقد يكون الأصل «أبو حرة» فتحرَّفت على بعضهم فقرأها «أبو هريرة» وأبو حرة معروف بالتدليس، كما تراه في «طبقات المدلسين» لابن حجر (ص 17)
(1)
.
وقوله: «أي يروي
…
» أراه من قول ابن عساكر
(2)
بناه على قصة بُسْر السابقة. فقوله: «لا يميز هذا من هذا» يعني لا يفصل بين قوله: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
»، وقوله: «زعم كعب
…
» مثلًا بفصل طويل حتى يُؤمَن أو يقلّ الالتباس على ضعفاء الضبط. وتسمية هذا تدليسًا غريب؛ فلذلك قال ابن كثير ــ وحكاه أبو ريَّة ــ: «وكأنّ شعبة يشير بهذا إلى حديث: «مَن أصبح جُنُبًا فلا صيام له»
(3)
. فإنه لما حُوقِقَ عليه قال: أخبرنيه مخبرٌ ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
(1)
(ص 161 ــ ت المباركي).
(2)
لم يعلّق ابن عساكر على الخبر في «تاريخه» . وأراه من تعليق أبي ريَّة. وتعمّد أبو ريَّة أن يجعل قوله: «ذكره ابن عساكر» بعد قوله؛ ليوهم القارئ أن العبارة بتمامها لابن عساكر. بدليل أن الأصل الذي ينقل منه وهو «البداية» لابن كثير فيه العزو لابن عساكر عقب قوله: «كان يدلس» .
وتنبيه آخر: عبارة ابن كثير هي: «رواه ابن عساكر
…
» وعبارة أبي ريَّة: «ذكره ابن عساكر» ؛ ليوهم أيضًا أن الخبر والتعليق كلاهما من كلامه!
(3)
أخرجه أحمد (25673) وغيره.
أقول: يعني أنه قال أوّلًا: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» مع أنه إنما سمعه مِن بعض الصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا هو إرسال الصحابي الذي تقدم
(1)
أنه ليس بتدليس، ولكنه على صورته، والله أعلم.
ثم قال أبو ريَّة ص 166: (قال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» ص 50: وكان أبو هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وإنما سمعه من الثقة عنه فحكاه).
أقول: تتمة كلام ابن قتيبة: «وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة، وليس في [ص 118] هذا كذب بحمد الله، ولا على قائله ــ إن لم يفهمه السامع ــ جُنَاح إن شاء الله» . والمراد بالثقة الثقة من الصحابة على ما قدمت، وقدّمت أنّ مثل ذلك من الصحابة كان عند السامعين محتملًا على السواء لأنْ يكون بلا واسطة، وأن يكون بواسطة صحابيّ آخر، والمخبر الذي أخبر أبو هريرة صحابي كما يأتي
(2)
.
ثم قال أبو ريَّة: (أول راوية اتهم في الإسلام. قال ابن قتيبة .... إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يأت بمثله مَن صَحِبه مِن جلة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعتَ هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارًا عليه لتطاول الأيام بها وبه).
أقول: تتمة كلام ابن قتيبة: «فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألْزَمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمته وشبع بطنه
…
فعرَف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا، أمسكوا عنه». وكلمة «اتهموه» كلمة نابية يتبرّأ منها الواقع، فإنه لم
(1)
(ص 222).
(2)
(ص 232، 381).
يثبت عن أحدٍ من الصحابة أنه اعترض على شيء من حديث أبي هريرة إلا عائشة وابن عمر، فأما عائشة فيأتي قريبًا
(1)
قولها: «إنك لتحدّث حديثًا ما سمعته» فأجابها ذاك الجواب الصريح فأقرَّت. وقد تتبَّع أبو ريَّة الأحاديث التي انتقدَتْها عائشةُ على أبي هريرة، ويأتي الجوابُ الواضحُ عنها، وأنّ أكثرها قد ثبت مِن رواية غير أبي هريرة من الصحابة. على أن انتقاد عائشة لها ليس على وجه الاتهام بكذبٍ ونحوه ــ معاذ الله ــ وإنما فيه الاتهام بالخطأ، وقد اتهمت عائشة بالخطأ عُمرَ وابنَ عمر كما مرَّ (ص 51)
(2)
ويأتي. وقد عدَّ الحاكمُ في «المستدرك»
(3)
عائشةَ في الصحابة الذين رووا عن أبي هريرة كما يأتي.
وأما ابن عمر فإنما استغربَ حديثًا واحدًا من حديث أبي هريرة، فاستشهدَ أبو هريرة عائشةَ فشهدت، فعاد ابن عمر بطيب الثناء على أبي هريرة وقال له:«يا أبا هريرة كنتَ ألْزَمَنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه» . وممَن روى هذا الحاكم في «المستدرك» (510: 3) وصححه وأقرَّه الذهبي
(4)
.
وفي «تهذيب التهذيب»
(5)
و «الإصابة»
(6)
: «وقال ابن عمر: أبو هريرة
(1)
(ص 231).
(2)
(ص 99).
(3)
(3/ 513).
(4)
وقد تقدم (ص 205).
(5)
(12/ 240).
(6)
(7/ 438).
خيرٌ منِّي وأعلم». زاد في «الإصابة» : «بما يحدِّث» ، وفي «الإصابة»
(1)
: «أخرج مسدَّد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلّم قال: إنا نعرف ما يقول، لكنا نجبُن ويجترئ» . وعاصم وأبوه ثقتان.
وفي «المستدرك» (510: 3) من طريق [ص 119] «
…
جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر: أُعيذكَ بالله أن تكون في شكٍّ مما يجيء به، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا». وهكذا ذكره الذهبي في «تلخيص المستدرك»: «جرير عن الأعمش
…
» وقد سمع أبو وائل من ابن عمر، فأخشى أن يكون ذِكْر حذيفة مزيدًا على سبيل الوهم. والله أعلم.
وفي «الإصابة»
(2)
: «رُوّينا في فوائد المزكّي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رَفَعَه: «إذا صلى أحدُكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» . فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أَكْثَرَ أبو هريرة. فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا. وقد روى ابن عمر عن أبي هريرة كما في «التهذيب»
(3)
وغيره.
قال أبو ريَّة: (وممن اتَّهَمَ أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي).
(1)
(7/ 440). ووقع في «الإصابة» : «بن يزيد» خطأ.
(2)
(7/ 440 ــ 441).
(3)
(12/ 237).
أقول: هذا أَخَذَه مِن كتاب ابن قُتيبة
(1)
، وإنما حكاه ابنُ قُتيبة عن النظَّام بعد أن قال ابن قتيبة: «وجَدْنَا النظَّام شاطرًا من الشطَّار، يغدو على سُكْر ويروح على سُكْر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات
…
ثم ذكر أشياء من آراء النظَّام المخالفة للعقل وللإجماع، وطعْنَه على أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود وحُذيفة. فمَنْ كان بهذه المثابة كيف يقبل نقله بلا سند؟
ومن الممتنع أن يكون وقع مِن عمر وعثمان وعليّ وعائشة أو واحد منهم رَمْيٌ لأبي هريرة بتعمّد الكذب أو اتهام به ثم لا يشتهر ذلك ولا يُنْقل إلا بدعاوى مَن ليس بثقة ممن يعادي السنَّةَ والصحابَة كالنظَّام وبعض الرافضة. وقد تقدم ويأتي
(2)
ثناءُ بعض أكابر الصحابة على أبي هريرة، وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه، وأطبق أئمة التابعين من أبناء أولئك الأربعة وأقاربهم وتلاميذهم على تعظيم أبي هريرة والرواية عنه والاحتجاج بأخباره.
وعند أهل البدع من المعتزلة والجهمية والرافضة والناصبة حكايات معضلة مثل هذه الحكاية، تتضمّن الطعنَ القبيح في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعائشة وغيرهم، وفي كثير منها ما هو طعن في النبي صلى الله عليه وسلم. والحكم في ذلك واحد، وهو تكذيب تلك الحكايات البتة.
[ص 120] قال أبو ريَّة: (ولما قالت له عائشة: إنك لتحدِّث حديثًا ما سمعتُه من النبي صلى الله عليه وسلم، أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها
…
شغلك عنه صلى الله عليه وسلم المرآة
(1)
(ص 204 ــ 206).
(2)
(ص 312 ــ 315).
والمكحلة. وفي رواية: ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك).
أقول: تتمة الرواية الأخيرة كما في «البداية»
(1)
: «فقالت: لعله» . والذي أنكره أبو ريَّة من جواب أبي هريرة عظيم الفائدة للباحث المحقق، وذلك أن أبا هريرة كان شديد التواضع، وقد تقدم أمثلة من ذلك
(2)
، وعائشةُ معروفة بالصرامة وقوة العارضة، فجوابه يدلّ على قوة إدلاله بصدقه ووثوقه بحفظه، ولو كان عنده أدنى تردّد في صدقه وحفظه لاجتهد في الملاطفة، فإن المريب جبان، وسكوت عائشة بل قولها:«لعله» أي: لعل الأمر كما ذكرتَ يا أبا هريرة. يدل دلالة واضحة أنه لم يكن عندها ما يقتضي اتهام أبي هريرة.
هذا، وحجة أبي هريرة واضحة، فإن عائشة لم تكن ملازمةً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل انفردت عن الرجال بصحبته صلى الله عليه وسلم في الخلوة، وقد انفردت بأحاديث كثيرة تتعلَّق بالخلوة وغيرها فلم ينكرها عليها أحد، ولم يقل أحدٌ ــ ولا ينبغي أن يقول ــ: إن سائر أمهات المؤمنين قد كان لهنّ من الخلوة بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل ما لها، فما بالُ الرواية عنهن قليلة جدًّا بالنسبة إلى رواية عائشة.
قال: (على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه
…
ذلك أنه لما روى حديث (مَنْ أصبح جنبًا فلا صوم عليه)
…
أنكرت عليه عائشةُ هذا الحديث فقالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جُنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، وبعثت إليه بأن لا يحدِّث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان والاستخذاء وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي، وإنما سمعته من الفضل بن العباس).
(1)
(11/ 374). وقد سبق.
(2)
(ص 208 ــ 209).
أقول: لم أجد حديث أبي هريرة هذا بلفظ: «فلا صوم عليه» وإنما وجدته بلفظ «فلا يصم» ونحوه، ولا ريب أنه إذا كان في رمضان يلزمه قضاء ذاك اليوم. هذا، وقوله:«هي أعلم» لا يناقض جوابه المتقدم، وإنما المعنى: هي أعلم بذاك الشأن الذي تتعلّق به المسألة، ووجه ذلك واضح.
وقد عرفتَ صرامةَ عائشة وشدّة إنكارها ما ترى أنه خطأ. وسيأتي طرفٌ من ذلك
(1)
ــ وشدّتها على أبي هريرة خاصة ــ فاقتصارها إذ بلغها حديثُه هذا على أن بعثت إليه أن لا يحدِّث بهذا الحديث [ص 121] وذِكْرها فِعْل النبيّ صلى الله عليه وسلم = يدلّ دلالة قوية أنها عرفت الحديث ولكنها رأت أنه منسوخ بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا أنّ ابنَ اختها وأخصّ الناس بها وأعلمهم بحديثها: عُروة بن الزبير استمرّ قولُه على مقتضى الحديث الذي ذكره أبو هريرة، وهذا ثابت عن عروة، وانظر «فتح الباري» (124: 4)
(2)
، وذكر مثله أو نحوه عن طاووس وعطاء وسالم بن عبد الله بن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي، وهؤلاء من كبار فقهاء التابعين بمكة والمدينة والبصرة والكوفة. والنظر يقتضي هذا، وشرح ذلك يطول. وكأنَّ عُروة حَمَل فعلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي ذكرتْه عائشة على الخصوصية أو غيرها مما لا يقتضي النسخ.
واستدلّ الجمهور على النَّسْخ بقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. قالوا: فهذه الآية نَسَخَتْ بالإجماع
(1)
(ص 380 ــ 381).
(2)
(4/ 147 ــ السلفية).
ما كان قبل ذلك من تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم، وهي تتضمن إحلاله في آخر جزء من الليل بحيث ينتهي بانتهاء الليل، ومن ضرورة ذلك أن يصبح جُنُبًا. فهذان شاهدا عَدْلٍ بصحة حديث أبي هريرة وصدقه؛ الأول: اقتصار عائشة على ما اقتصرت عليه. الثاني: مذهب تلميذها وابن اختها عروة.
وثَمَّ شاهد ثالث: وهو أن المتفق عليه بين أهل العلم وعليه دلَّ القرآن أنه كان الحكم أوَّلًا تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم، وأنَّ مَن فعل ذلك لم يصح صومه ذلك اليوم، والحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن يطول الفصل بين الجماع وبين طلوع الفجر، ولما كان من المحتمل أن يلجأ بعضُ الناس إلى السهر طول الليل ويجامع قبيل الفجر بحجّة أنه إنما جامع قبل النوم ناسب ذلك أن يحرّم كونه جُنبًا عند طلوع الفجر، ليضطرّ من يريد الجماع ممن يَسْهر إلى أن يقدّمه قبل الفجر بمدة تتسع له وللغسل بعده، فيحصل بذلك المقصود مِن طول الفصل. وهذا هو مقتضى حديث أبي هريرة.
وشاهد رابع: وهو أَنَّا مع عِلْمنا بصدق أبي هريرة وأمانته، لو فرضنا جدلًا خلاف ذلك، فأيّ غرض شخصيّ لأبي هريرة في أن يرتكب الكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحمل الناس على ما تضمّنه حديثه؟ لا غرض له البتة، وإذًا فلابد أن يكون كان عنده دليلٌ فَهِمَ منه ذلك، وقد عرفنا أنَّه قَلّما يلجأ إلى الاستنباط الدقيق، وإنما يتمسَّك بالنصوص، وقد نصَّ هو على أن دليله هو ذاك الحديث، فبان أن الحديث كان عنده.
فهذه أربعة شهود على صِدْق أبي هريرة في هذا الحديث، وفوق ذلك ما ثبت من دينه وأمانته، ودلّ عليه الكتاب والسنة كما يأتي في فصل عدالة
الصحابة
(1)
، وشهد به جَمْعٌ من الصحابة، وأجمع عليه أهل العلم، فهذا هو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟
قال أبو ريَّة: (فاستشهد ميتًا، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث»).
أقول: قد تقدّم أنّ الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ويقول أحدُهم فيما سمعه من أخيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
». وكان ذلك يُفْهَم على الاحتمال بدون إيهام لاشتهار عُرْفِهم به قبل عُرْفِ المحدّثين. وقد أخذ أبو هريرة عن غيره من الصحابة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعَقِبَ وفاته، ثم طال عمره حتى كانت قضية هذا الحديث في إمارة مروان على المدينة وذلك في خلافة معاوية، وكان معظم الصحابة قد ماتوا، فما الذي يستغرب من أن يكون مخبر أبي هريرة قد مات؟
وقد تقدَّم بيان الأدلة الواضحة على صدق أبي هريرة وصحَّة حديثه هذا. لكن انظر إلى عبارة أبي ريَّة في قوله (فاستشهد
…
كما قال ابن قتيبة
…
) ألا ترى أن هذا الخبر يُعْطِي بأن ابن قتيبة قال ذلك من عنده وأنَّه رأيه، لكنّ الواقع أن ابن قتيبة إنما حكى ذلك عن النظَّام بعد أن وصفه بما تقدّم ثم ردَّ عليه، فماذا تقول في أبي رية؟
(2)
.
ثم قال ص 168: (وكان عليّ رضي الله عنه سيِّئ الرأي فيه، وقال عنه: ألا إنه أكذب الناس، أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة).
(1)
(ص 365).
(2)
وقد تقدم نحو صنيعه هذا مع ابن عساكر، ونبهتُ عليه فيما سبق، انظر (ص 226) حاشية (2).
أقول: لم يذكر أبو ريَّة مصدره فنفضحه، وكأنه أخذ هذا من كتاب عبد الحسين الرافضي (ظلمات بعضها فوق بعض) انظر (ص 119)
(1)
.
ثم رأيت مصدره وهو «شرح النهج» لابن أبي الحديد (360: 1)
(2)
حكاية عن الإسكافي، ومع تهوُّر ابن أبي الحديد والإسكافي فالعبارة هناك «وقد رُوي عن عليّ عليه السلام أنه قال
…
» ولكن أبا ريَّة يجزم. راجع (ص 109)
(3)
.
قال: (ولما سمع أنه يقول: حدثني خليلي. قال له: متى كان النبي خليلك؟).
أقول: هذا من دعاوى النظَّام على عليّ، وقد كان أبو ذر يقول هذه الكلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم خليل كلّ مؤمن وإن لم يكن أحد من الخلق خليلًا له صلى الله عليه وسلم لقوله:«لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر»
(4)
. والخليل كالحبيب، فكما أنه لا يلزم من كون إنسان حبيبك أن تكون حبيبه فكذلك الخليل، والخُلّة أعظم مِن المحبة، فلا يلزم من نفي الخلّة نفي المحبة.
قال أبو ريَّة: (ولما روى حديث: متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء [ص 123] فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به عائشة
(1)
(ص 230).
(2)
(4/ 68). قال العلامة ابن الوزير اليماني معلقًا على هذا الخبر: «هذا مما يقطع العارف ببطلانه عن عليّ عليه السلام، وأرجو ألا تصحّ حِكايته وتقريره عن ابن أبي الحديد» ، وذكر قبل ذلك أن بعض أعداء ابن أبي الحديد زاد مثل هذه الأخبار في كتابه؛ لأنها لا تليق به. انظر «العواصم والقواصم»:(2/ 43 ــ 44).
(3)
(ص 210 ــ 211).
(4)
أخرجه البخاري (466)، ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقالت: كيف نصنع بالمهراس» وعلّق عليه: «المهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤونه ماء ويتطهَّرون).
أقول: قد أسلفتُ (ص 108)
(1)
أن عائشة لم تتكلّم في هذا الحديث بحرف، وإنما يُرْوَى عن رجل يقال له قين الأشجعي
(2)
أنه قال لأبي هريرة لمَّا ذكر الحديث: «فكيف نصنع إذا جئنا مهراسكم هذا؟» فقال أبو هريرة: «أعوذ بالله من شرِّك» . كره أبو هريرة أن يقول مثلًا: إن المهراس ليس بإناء، والعادة أن يكون ماء الإناء قليلًا، وماء المهراس كثيرًا. أو يقول: أرأيت لو كانت يدك ملطخة بالقذر؟ أو يقول: إن وجدت ماء غيره أو وجدت ما تغرف به فذاك وإلا رجوت أن تُعْذَر، أو نحو ذلك؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يتورَّع عن تشقيق المسائل، ويدع ذلك لمن هو أجْرَأُ وأشدُّ غوصًا على المعاني منه. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلتزم في الوضوء أن يغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثبت ذلك من حديث عثمان وعبد الله بن زيد
(3)
. ولا يخفى ما في ذلك مِنْ رعاية النظافة والصحة.
قال أبو ريَّة: (ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب).
(1)
(ص 208).
(2)
مسند أحمد (382: 2)[8965]. [المؤلف].
أقول: سنده حسن من أجل محمد بن عَمرو بن علقمة.
ووقع في «المسند» : «قيس الأشجعي» وصوابه: «قين» بالنون. انظر «مسند أبي يعلى» (5973)، و «معرفة الصحابة»:(4/ 2363)، و «الإصابة»:(5/ 567)، و «تكملة الإكمال»:(4/ 679). ووقع في (ط): «فكيف تصنع» .
(3)
حديث عثمان أخرجه البخاري (159)، ومسلم (227).
وحديث عبد الله بن زيد أخرجه البخاري (186)، ومسلم (235).
أقول: عزاه إلى «البداية» (8: 109)
(1)
وهو هناك عن ابن إسحاق عن عمر ــ أو عثمان ــ بن عروة بن الزبير عن عروة قال: «قال لي أبي ــ الزبيرـ: أَدْنِني من هذا اليماني ــ يعني أبا هريرة ــ فإنه يكثر الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدّث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب. صدق، كذب. قال: قلت: يا أبت ما قولك: صدق، كذب؟ قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشكّ فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه» .
أقول: في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمّهم بعقابه» . انظر «تفسير ابن كثير» (3: 257)
(2)
.
فالوضع على غير الموضع ليس بتغيير اللفظ، فإن الناس لم يغيّروا مِن لفظ الآية شيئًا، وإنما هو الحَمْل على [غير]
(3)
المحمل الحقيقي. ومثال ذلك في الحديث: أن [ص 124] يذكر أبو هريرة حديث النهي عن الادّخار مِن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وحديث النهي عن الانتباذ في الدّبّاء والنقير والمزفَّت، فيرى الزبير أن النهي عن الادخار إنما كان لأجل الدافَّة، وأنّ النهي عن الانتباذ في تلك الآنية إنما كان إذ كانوا حديثي عهد بشرب الخمر؛
(1)
(11/ 375 ــ 376). وأخرجه ابن عساكر في «تاريخه» : (67/ 356).
(2)
(3/ 1260 ــ 1261).
(3)
سقطت من (ط).
لأن النبيذ في تلك الآنية يُسْرع إليه التخمّر، فقد يتخمّر فلا يصبر عنه حديث العهد بالشرب. ونحو ذلك. وأن أبا هريرة إذ أخبر بذلك على إطلاقه يفهمه الناس على إطلاقه، وذلك وَضْعٌ له على غير موضعه.
ففي القصة شهادةُ الزبير لأبي هريرة بالصدق في النقل، فأما ما أخذه عليه فلا يضرُّه، فإن في الأحاديث الناسخَ والمنسوخ، والعامَّ والخاص، والمطلقَ والمقيّد، وقد يعلم الصحابي هذا دون ذاك، فعليه أن يبلّغ ما سمعه، والعلماء بعد ذلك يجمعون الأحاديث والأدلة، ويفهمون كلًّا منها بحسب ما يقتضيه مجموعها، وراجع (ص 32)
(1)
.
قال أبو رية ص 169: (وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدّث عن رسول الله: «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» فطارت شققًا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدَّث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار». ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]).
أقول: أخرج أحمد وأبو داود بسند جَيِّد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: «لا عَدْوى ولا طِيَرة ولا هام، إن تكن الطِّيَرةُ في شيء ففي الفَرَس والمرأة والدار» انظر «مسند أحمد» الحديث (502 و 554)
(2)
. وفي «فتح الباري» (6: 45)
(3)
: «الطِّيَرة والشؤم بمعنى واحد» . وفي «الصحيحين»
(4)
(1)
(ص 63 ــ 64).
(2)
(1554 و 1615).
(3)
(6/ 61).
(4)
البخاري (2858)، ومسلم (2225).
وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار» لفظ البخاري في كتاب الجهاد، باب ما يُذْكَر من شؤم الفرس، وفي «الصحيحين»
(1)
وغيرهما من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: «إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن» . زاد مسلم: «يعني الشؤم» . وجاء نحوه بسند جَيِّد عن أمِّ سلمة وزادت: «والسيف» راجع «فتح الباري» (6: 47)
(2)
. وفي «صحيح مسلم»
(3)
من حديث جابر مرفوعًا: «إن كان في شيء ففي الرَّبع والخادم والفرس» .
أما روايته عن أبي هريرة فعزاه أبو ريَّة إلى «تأويل مختلف الحديث»
(4)
لابن قتيبة، وقد رواه الإمام أحمد [ص 125] في «المسند» (6: 150 و 240 و 246)
(5)
من طريق قتادة عن أبي حسَّان. وليس بالصحيح عن عائشة؛ لأن قتادة مدلِّس، ولو صحّ عن عائشة لما صح المنسوب إلى أبي هريرة لجهالة الرجلين، وليس في شيء من روايات أحمد لفظ «كذب» ولو صحّت لكانت بمعنى «أخطأ» كما يدلّ عليه آخر الحديث. وقد تبين أنه لا خطأ، فقد رواه جماعة من الصحابة كما علمت. فأما معناه والجمع بينه وبين الآية فيُطْلَب من مظانّه.
قال أبو ريَّة: (وأنكر عليه ابن مسعود قوله: مَن غسَّل ميتًا
…
وقال فيه قولًا شديدًا، ثم قال: يا أيها الناس لا تنجسوا موتاكم).
(1)
البخاري (2859)، ومسلم (2226).
(2)
(6/ 63).
(3)
(2227).
(4)
(ص 172).
(5)
(25168 و 26034 و 26088).
أقول: عزاه إلى «جامع بيان العلم» لابن عبد البر (2: 85)
(1)
وهو هناك بغير إسناد، وفي «سنن البيهقي» (1: 307) عن ابن مسعود: «إنْ كان صاحبكم نجسًا فاغتسلوا وإن كان مؤمنًا فلم نغتسل
(2)
؟» وسنده واه. وقد جاء الغسل مِن غَسْل الميت من حديث عليّ وفِعْلِه، ومن حديث عائشة وحذيفة وأبي سعيد والمغيرة، راجع «سنن البيهقي» (1: 299 - 307)، و «تلخيص الحبير» (ص 50 و 157)
(3)
. فمن أهل العلم مَن يستحب، ومنهم مَن يوجب، ومنهم من يقول: منسوخ، ومنهم من ينكر. ويظهر لي أن مَنْ جعله من باب التطهُّر لحَدَث أو نجس قد أبعد، ومن أنكره لأن الميت ليس بنجس قد أبعد، وإنما هو لمعنى آخر. والعارفون بعلم النفس والصحة يرون له تعلُّقًا بذلك، والله أعلم.
قال: (ولمّا روى حديث: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة).
أقول: تصرَّفَ أبو ريَّة في هذا، والحديث في «سنن أبي داود»
(4)
(1)
(2/ 915 ــ ت الزهيري).
(2)
(ط): «تغتسل» ، وفي هامش السنن نسخة كذلك. وقال البيهقي عقِب الحديث: إسناده ليس بالقوي.
(3)
(1/ 144 ــ 146 و 2/ 72).
(4)
(1263). وأخرجه ابن خزيمة (1120)، وابن حبان (2468).
وقد تقدم (ص 119)
(1)
مع بعض ما يناسبه. وفي «الصحيحين»
(2)
وغيرهما عن عائشة رضي الله عنه قالت: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شِقّه الأيمن» .
قال أبو ريَّة: (ولا نستوفي ذكر انتقاد الصحابة له والشك في روايته
…
).
أقول: قد اتضح بحمد الله عز وجل الجواب عمَّا ذَكر، ومنه يُعْلَم حال مالم يَذكر.
قال: (وقد امتد الإنكار عليه واتهامه في رواياته إلى مَن بَعْد الصحابة).
أقول: قد تبين أنه لم يتهمه أحدٌ من الصحابة، بل أثنوا عليه وسمعوا منه ورووا عنه، وسيأتي تمام ذلك [ص 126] وتبيّن قيام حجته الواضحة في أكثر ما انتُقِد عليه، وعذره الواضح في ما بقي، وبذلك سقط ما يخالفه من كلام مَنْ دونهم، وسنرى.
قال: (روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلِّد مَن كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر ــ وفي رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر ــ: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب» فقيل له في ذلك، فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يُستفتى فيُفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كلَّ ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ).
أقول: عزا أبو ريَّة هذه الحكاية إلى «مختصر كتاب المؤمل»
(3)
(1)
(ص 229 ــ 230).
(2)
البخاري (626)، ومسلم (736).
(3)
(ص 62 ــ 63 ــ ت مقبول)، وليس في النشرة الجديدة للكتاب المطبوع بعنوان «خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول» تحقيق د. جمال عزّون. انظر (ص 133 ــ 134) فهل سقط منها أو لا يوجد في النسخ الخطية التي اعتمدها؟
لأبي شامة، وأبو شامة من علماء الشافعية في القرن السابع
(1)
بينه وبين محمد بن الحسن عدة قرون، ولا ندري من أين أخذ هذا. وقد احتاج العلَّامة الكوثري في رسالته «الترحيب» (ص 24)
(2)
إلى هذه الحكاية. ومع سَعَة اطلاعه على كتب أصحابه الحنفية وغيرهم لم يجد لها مصدرًا إلا مصدر أبي ريَّة هذا. وحكايةٌ مثل هذه عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة لا توجد في كتب الحنفية أيّ قيمةٍ لها؟
(3)
.
هذا، والحكاية لا تتعرَّض للأحاديث التي يرويها الصحابة، وإنما تتعلَّق بقول الصحابي الموقوف عليه هل يجوز لمن بعده مخالفته برأيه؟ فحاصلها أنَّ أبا حنيفة يقول: إنه لا يخالف قول أحدٍ من الصحابة برأيه سوى أولئك الثلاثة.
فأقول: أما أنس فراجع «طليعة التنكيل» الطبعة الثانية (ص 101 - 108)
(4)
. وأما أبو هريرة فقوله فيه: «يروي كلّ ما سمع» . يعني بها: كلّ ما سمعه من الأحاديث، وليس هذا بطعن في روايته ولا هو المقصود، وإنما هو مرتبط بما بعده وهو قوله: «من غير
…
» والمدار على هذا، يقول: إنه لأجل هذا لا يوثَق بما قاله برأيه؛ إذ قد يأخذه من حديث منسوخ ونحو ذلك،
(1)
توفي سنة (665 هـ).
(2)
(ص 317 ــ بذيل تأنيب الخطيب).
(3)
ذكر هذا القول صاحب «المحيط البرهاني» : (8/ 408 ــ 410 ــ دار إحياء التراث). ووفاته سنة (571 هـ) ولم يُسند الخبر؛ فالقول فيه كالقول في أبي شامة. وانظر «التنكيل» : (1/ 21 - 22) للمؤلف.
(4)
(ص 78 - 85 ــ طبعتنا).
وسيأتي ما فيه
(1)
.
وفي الحاشية
(2)
: (قال في «مرآة الوصول» وشرحها «مرقاة الأصول» من أصول الحنفية رحمهم الله في بحث الراوي: وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيهًا تقبل منه الرواية مطلقًا سواء وافق القياس أو خالفه. وإن لم يكن فقيهًا (كأبي هريرة وأنس) رضي الله عنهما فترد روايته).
أقول: في هذا أمران، الأول: أن الصواب: «في «مرقاة الوصول» وشرحها «مرآة الأصول» . الثاني: أن مؤدَّى العبارة ــ على ما نقله أبو ريَّة ــ ردُّ رواية أبي هريرة وأنس ونحوهما مطلقًا، لكن تمام العبارة في مصدره:«إن لم يوافق ــ الحديث الذي رواه ــ قياسًا أصلًا، حتى إن وافق قياسًا وخالف قياسًا تقبل» . على أن [ص 127] هذا القول قد ردَّه محقّقو الحنفية، قال ابن الهمام في «التحرير»:«وأبو هريرة فقيه» . قال شارحه ابن أمير الحاج (2: 251)
(3)
: «لم يعدم شيئًا من أسباب الاجتهاد، وقد أفتى في زمن الصحابة، ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من
(4)
بين صحابي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس، وهذا هو الصحيح».
ذكر أبو ريَّة في الحاشية
(5)
: أن في قوله: «يروي كلَّ ما سمع» إشارة
(1)
وقال أبو ريَّة في حاشية ص 334: «من أجل ذلك لم يأخذ أبو حنيفة بما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة
…
» كذا يقول أبو رية، فانظر واعتبر! [المؤلف].
(2)
هذه الحاشية حُذِفت من الطبعات اللاحقة. انظر (ص 178 ــ ط السادسة).
(3)
(4/ 134).
(4)
في أصله: «ما» .
(5)
هذه الحاشية أيضًا لا وجود لها في الطبعات اللاحقة. انظر (ص 178 ــ 179).
إلى حديث: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما يسمع»
(1)
.
أقول: هذا الحديث عام يشمل ما يسمع مما يُعلم أو يُظن أنه كذب، وأبو هريرة إنما كان يحدّث بالعلم، بما يعلم أو يعتقد أنه صدق، فأين هذا من ذاك؟
وقال ص 170: (وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال: ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان، قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالًا - وعدَّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك).
أقول: لم يذكر مصدره. وهذه عادته (الحميدة) في تدليس بلاياه. ثم وجدت مصدره وهو «شرح نهج البلاغه» لابن أبي الحديد (1: 360)
(2)
عن أبي جعفر الإسكافي فراجع ما تقدم (ص 109)
(3)
.
ولا ريب أنَّ هذا لا يصح عن أبي يوسف ولا أبي حنيفة، والمعروف عنهما وعن أصحابهما في كتب العقائد والأصول وغيرها ما عليه سائر أهل السنة: أن الصحابة كلّهم عدول، وإنما يقول بعضهم: إن فيهم من ليس بفقيه أو مجتهد، قال ابن الهمام في «التحرير»
(4)
: «
…
يقسم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة والعبادلة، فيقدَّم على القياس مطلقًا، وعَدْل ضابط كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدَّم، إلا إن خالف كلَّ الأقيسة على قول عيسى والقاضي أبي زيد
…
» ثم قال بعد ذلك: «أبو هريرة مجتهد» كما تقدّم.
(1)
أخرجه مسلم في مقدمة «صحيحه» (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
(4/ 68).
(3)
(ص 210 ــ 211).
(4)
(4/ 131 ــ 132 ــ مع شرحه التقرير).
وغير عيسى وأبي زيد ومَنْ تَبِعه يرون تقديم الخبر مطلقًا. راجع «فواتح الرحموت» (145: 2).
ثم حكى أبو ريَّة ما رُوي عن إبراهيم: (كان أصحابنا يَدَعون من حديث أبي هريرة، ما كانوا يأخذون بكلِّ حديث أبي هريرة. كانوا يرون في حديث أبي هريرة
(1)
شيئًا، ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار أو حثّ على عمل صالح أو نهي عن شرّ جاء بالقرآن
(2)
، دعني من حديث أبي هريرة
(3)
، إنهم كانوا يتركون كثيرًا من حديثه).
أقول: ذكر ابن كثير في «البداية» (109: 8)
(4)
بعضَ هذه الكلمات عن ابن عساكر، ولم يسق السند بتمامه. وباقيها أخذه أبو ريَّة من «شرح النهج» لابن أبي الحديد (360: 1)
(5)
حكاه ابن أبي الحديد عن الإسكافي، وراجع (ص 109)
(6)
، وقد تقدم (ص 121)
(7)
أخذ إبراهيم بحديث أبي هريرة الذي أخبرت عائشة بخلافه فترك أبو هريرة [ص 128] الإفتاء به وقال: «إنما حدثنيه الفضل بن عباس» ، وأَخْذُهُ به يدلّ على ثقةٍ بالغةٍ بأبي هريرة وحديثه.
(1)
في كتاب أبي ريَّة (ص 179 ــ ط: 6): «في أحاديث رسول الله» .
(2)
عند أبي ريَّة: «جاء في القرآن» .
(3)
عند أبي ريَّة: «دعني من أبي هريرة» .
(4)
(11/ 377 ــ 378). وقال ابن كثير عقبه: «وقد انتصر ابنُ عساكر لأبي هريرة، وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي. وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين والجمهور على خلافهم» اهـ. وانظر «تاريخ دمشق» : (67/ 360 ــ 362).
(5)
(4/ 68).
(6)
(ص 210 ــ 211).
(7)
(ص 232 ــ 233).
ثم إن صحَّتْ تلك الكلمات أو بعضها فقوله: «كان أصحابنا» يريد بهم أشياخه من الكوفيين، وإليهم يرجع الضمير في قوله:«كانوا» . وحقُّ هذه الكلمات ــ إن صحَّت عن إبراهيم ــ أن تُنتقد عليه لا على أبي هريرة. وقد تقدم بيان حال أبي هريرة عند الصحابة وثناؤهم عليه وسماعهم منه وروايتهم عنه، ويأتي لذلك مزيد، وبان سقوط كلّ ما خالف ذلك من مزاعم أهل البدع، وظهرت حجةُ أبي هريرة فيما انتقده بعضهم عليه.
ثمَّ إن التابعين من أهل الحجاز وعلمائه وهم أبناء علماء الصحابة وتلاميذهم والذين حضروا مناظرتهم لأبي هريرة وعَرفوا حقيقة رأيهم فيه= أطبقوا هم وعلماء البصرة والشام وسائر الأقطارـ سوى ما حُكِي عن بعض الكوفيين ــ على الوثوق التامّ بأبي هريرة وحديثه.
وقد كان بين الكوفيين والحجازيين تباعُد، والكوفيون نشأوا على الأحاديث التي عرفوها من رواية الصحابة الذين كانوا عندهم، ثم حاولوا تكميل فقههم بالرأي وجَرَوا على مقتضاه، ثم كانوا إذا جاءهم بعد ذلك حديث بخلاف ما قد جروا عليه وأَلِفُوه تلكَّأوا في قبوله وضربوا له الأمثال. وإذ كان أبو هريرة مكثرًا كانت الأحاديث التي جاءتهم عنه بخلاف رأيهم أكثر من غيره، فلهذا ثَقُل على بعضهم بعضُ حديثه، وساعد على ذلك ما بلغهم من أنَ بعضَ الصحابة قد انتقد بعض أحاديث أبي هريرة. وقد كان أهل الحجاز أيضًا ينفرون عن الأحاديث التي تأتيهم عن أهل العراق، حتى اشتهر قولهم: نزِّلوا أهلَ العراق منزلةَ أهلِ الكتاب، لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم
(1)
.
وعلى كلّ حال فقد انحصر مذهبُ أهل العراق في أصحاب أبي حنيفة،
(1)
قاله مالك. انظر «جامع بيان العلم وفضله» : (2/ 1108).