المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الملحق الأول - الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌الملحق الأول

‌الملحق الأول

ص: 427

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد، فإن فضيلة أخي العلَّامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة كَتَب وهو على فراش المرض ــ عافاه الله ــ مطالعات وملاحظات على كتاب ألَّفه الأستاذ محمود أبو رَيَّة وسمَّاه:"أضواء على السُّنَّة المحمدية". فأرسل إليَّ حضرة المُحسن الكريم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف تلك الملاحظات، وتقدَّم إليَّ بأن أكتبَ كلمة تكون بمثابة مقدمة، فاحتجت مع الاطلاع على الملاحظات أن أطالعَ كتاب أبي رَيَّة؛ فَتَبيَّن لي أن استيفاء الكلام له وعليه يستدعي تأليفًا مستقلًّا، عسى أن يتيسّر لي فيما بعد. وأكتفي الآن بملاحظات يسيرة.

ساءني من أبي ريَّة أنه بينا هو يطعن في بعض الصحابة والأئمة، ويرى أنه لا ينبغي أن يَثْقُل ذلك على أهل العلم؛ إذا به يثقل عليه غاية الثقل أن يخالفه مخالفٌ أو يتعقّبه متعقِّب، فيحاول كَفَّهم عن ذلك بكلام ....

كقوله ص 14: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفَّنت أفكارهم وتحجّرت عقولهم).

وقال ص 354: (وإن تَضِق به صدورُ الحشويّة وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار الذين يخشون على علمهم المزوّر من سطوة الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل أن يكشفهم نورُ العلم الصحيح ويهتك سترهم ضوءُ الحجّة البالغة= فهذا لا يهمّنا؛ إذ ليس لمثل هؤلاء خَطَر عندنا ولا وزن في حسابنا).

ص: 429

أما الذي يدُلُّ عليه صنيعك يا أبا ريَّة، فهو أنه لولا شدَّة خوفك من نقضهم كلامَك ما حاولت أن تتّقيهم بهذا السلاح.

[ص 1] وبينا هو يطعن على الصحابة والأئمة، ويخالف علماء المسلمين كلهم؛ إذا به ينكر على بعض كبار العلماء مخالفته لعالمٍ أو عالمين من المتأخرين. انظر تعليقه على ص 38 ــ 39، وراجع مصادره التي أحال عليها ليتبيَّن لك صنيعه.

وبينا هو يذكر كثرة الأحاديث الموضوعة والواهية في الكتب العلمية؛ إذا به يحتجّ بكلّ ما يوافق هواه في أيِّ كتاب كان، بدون نظر إلى سندٍ ولا مستندٍ، كما فعل في ترجمة أبي هريرة.

وبينا هو يقلّل من شأن أئمة الأُمَّة بما يعلم منه أنه لو احتجَّ عليه بكلامهم لم يقبله، بل قد رأى كثيرًا من كلامهم فأعرض عنه وخالفهم فيه؛ إذا به يحتجّ بكلام أبي حيّان التوحيدي، وابن أبي الحديد، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وطه حسين، ولهذا نظائر كثيرة في كتابه.

لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث؟

للعلماء قولان في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، منهم مَن يقول: إنه لم يَنْه، ومنهم مَن يقول: إنه نهى ثم رخَّص. فذكر أبو ريَّة هذه المسألة وجَمَد على النهي وساق ما ورد فيه، وزعم أنه أصح مما ورد في الترخيص، فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين:

أحدهما: حديث أبي سعيد، نَسَبه أبو ريَّة إلى "صحيح مسلم"

(1)

وغيره

(1)

(3004).

ص: 430

وساقه بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عنّي شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه".

ولفظ مسلم مخالف لهذا وفيه زيادة.

[ص 2] الثاني: ما رواه كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، وأمر إنسانًا أن يكتبه، فقال زيد:"إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه"

(1)

.

فأما حديث مسلم عن أبي سعيد، فقد أعلَّه البخاريُّ وغيرُه كما في "فتح الباري"

(2)

، وقالوا: الصواب مِن قول أبي سعيد، وفي "كتاب العلم"

(3)

لابن عبد البرّ من طرق عن أبي نضرة قال: قيل لأبي سعيد: لو أكْتَبْتَنا الحديث؟ فقال: لا نُكْتِبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم. زاد في رواية:"أردتم أن تجعلوه قرآنًا"! ، وفي رواية:"مصاحف". وهذا يشهد لقول البخاري؛ إذ الظاهر أنه لو كان عند أبي سعيد نصّ من النبي صلى الله عليه وسلم لذَكَرَه ولم يكتفِ بما قال هنا.

وأما الحديث الثاني، فكثيرٌ ضعيف، والمطَّلب لم يُدرك زيد بن ثابت.

وأما أحاديث الجواز:

فمنها: حديث الصحيفة التي كانت عند علي، وهو في "الصحيحين"

(4)

، وهو ثابت من عِدة طُرق.

(1)

تقدم (ص 45).

(2)

(1/ 208).

(3)

(1/ 272 ــ 273).

(4)

البخاري (111)، ومسلم (1370).

ص: 431

ومنها حديث: "اكتبوا لأبي شاه" وهو في "الصحيحين"

(1)

وغيرهما.

ومنها حديث أبي هريرة: أن عبد الله بن عمرو [بن] العاص كان يكتب. أخرجه البخاري

(2)

وغيره، ورواه الإمام أحمد وغيره، وفيه: أن عبد الله بن عمرو "استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب عنه فأذن". وقد ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو. راجع: المستدرك 1/ 104 فما بعدها، ومسند أحمد بتحقيق العلَّامة أحمد محمد شاكر ج 10 الحديث (6510)

(3)

. وهناك أحاديث أخرى.

وقد قال أبو ريَّة نفسه في حاشية ص 23: (أملى النبي صلى الله عليه وسلم كتبًا في الشرائع والأحكام جهر بها رُسله وعماله في الأمصار المفتوحة؛ بعضها في الصدقات والفرائض، ولا يتعدى ما كُتب عن الرسول في عصره عشر صفحات

).

أقول: أما صحيفة عبد الله بن عمرو فالظاهر أنها كبيرة، وكان يسمّيها "الصادقة".

[ص 3] زعم أبو رية أن أحاديث النهي أصح، وقد علمتَ سقوطَ هذا. وحكى عن رشيد رضا أن حديث أبي شاه غير معارض لأحاديث النهي. قال: "على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مراد به أن لا تُتَّخذ دينًا عامًّا كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، موضوعها تحريم مكة ولُقَطة الحرم. وهذا من بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن

".

(1)

البخاري (2434)، ومسلم (1355).

(2)

(113).

(3)

انظر ما تقدم (ص 46 ــ 47).

ص: 432

أقول: الذي يتحصّل من هذا أنه يرى أن القرآن وما يبيِّنه من السُّنَّة هو من الدين العام فهو مأمور بكتابته، وأما ما عداه فليس من الدين العام، فلذلك نهى عن كتابته، وتلك الخطبة من البيان فهي من الدين العام، فلذلك أمر بكتابتها.

وأقول: لا ريب أن أفعاله وأقواله وتقريراته صلى الله عليه وسلم التي تبيّن القرآن كانت كثيرة جدًّا، وليست قاصرة على تلك الخطبة. ثم المفهوم من كلام أبي ريَّة وما ينقله عن رشيد رضا هو أن الدين العام محصور في السُّنَّة العملية المتواترة؛ ككون الصلوات خمسًا ونحو ذلك. وأن أحكام القرآن ليست من الدين العام إلا ما تكون دلالته قطعية على فرض تسليمه بقوله. وقد نقل أبو ريَّة في أواخر الكتاب وقرّر: أن النصوص اللفظية من القرآن وغيره دلالتها كلها لفظية.

فنقول: لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة السنن العملية المتواترة، وهي من الدين العام عندك، وأمر بكتابة القرآن كله، وكثيرٌ منه أو كله ليس دلالته من الدين العام عندك. فثبت بهذا سقوط العلة التي زعمت.

[ص 4] إذن فالعلة الصحيحة للأمر بكتابة القرآن هي ما فهمه أهل العلم هنا، وهو أن ألفاظه مع كونها مقصودة لمعانيها مقصودة لذاتها؛ لأنها كلام الله تبارك وتعالى، تعبد عباده بتلاوتها، ولها النصيب الوافر من الإعجاز، وأما غير القرآن فليس مثله في ذلك.

فأما النهي عن كتابة الحديث فقد علمت أنه لم يتحقق صحته وعلمتَ ما يعارضه.

وذكر أبو ريَّة أثرًا عن عائشة: أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث ثم أتلفها

ص: 433

خشية أن يكون منها ما أخطأ فيه الذي حدَّثه به، وخشية أن يردَّ الناسُ غيرها من الحديث بحجة أنه لو كان صحيحًا لكتبه أبو بكر.

وذكر أثرًا عن عمر أنه جمع الصحابة واستشارهم في كتابة السنن، فأشاروا بذلك، ففكَّر عمر مدَّة ثم عزم أن لا يكتبها قائلًا: إني ذكرتُ قومًا كانوا قبلكم كتبوا كُتُبًا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ....

وهذان الأثران ــ إنْ صحَّا ــ فدلالتهما واضحة على أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة كانوا يرون أن كتابة الحديث لم ينه عنها النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يجتهدون برأيهم.

ودين الإسلام دين واحد إنما تختلف الأحكام باختلاف أحوال الناس، فكلّ من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا فهو قطعي في حقّه يحكم عليه بحسب ذلك، ومَن لم يكن حاضرًا وأخبره الذي كان حاضرًا فحكمه بحسبه، وهلم جرًّا.

وبعض الأحكام التي هي بين المسلمين معلومة بالضرورة قد يجهلها بعض مَن يُسلم، ثم يبقى بعيدًا عن المسلمين أو يتصل به معرفتها بما لا يفيده إلا الظن، فيكون حكمه بحسب حاله، [ص 5] وبعض الأخبار التي هي عند الجاهل بالحديث ظنيَّة لأنه إنما أخذ بقول أهل الحديث أنها ثابتة كما يأخذ أحدنا بقول الطبيب، هي عند بعض أهل الحديث العارفين له يقينية، والحكم على كلٍّ بحسبه.

فأما المنكِرُ والمرتاب فإن حكمه يختلف لأمرين؛ الأول: بذل الوسع وعدمه، الثاني: منشأ الإنكار والارتياب، فإنه قد يكون أمرًا لا تَبِعةَ فيه، وقد يكون بخلاف ذلك؛ كأن يكون منشؤه عدم الإيمان بالدين أو بأمر يقوم عليه

ص: 434

الدين؛ مثل أن محمدًا رسول الله يُطلعه الله على ما شاء من غيبه، ويخرق له ما شاء من عادته، ويحفظه من الخطأ في تبليغ دينه. وقد يكون منشؤه الخروج عن السراط المستقيم سراط محمد وأصحابه، واتّباع غير سبيل المؤمنين، وأخذ الدين من غير الشرع، وأخذ العقائد من غير المأخَذَين السلفيين.

أحدهما: العقل الصحيح الذي كان حاصلاً للصحابة وغيرهم من العرب حين بُعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فكان قرينةً صحيحة تكون ركنًا من أركان الكلام، فإذا كان بدونها مُفهمًا لخلاف الواقع، كانت مانعة من فهم ذلك، مخرجةً للكلام عن أن يكون كذبًا.

وثانيهما: الشرع، إلى غير ذلك مما ليس هذا موضع تفصيله.

وكذلك ما للإمام إلزام الناس به، وما عليه من حياطة المسلمين، والضرب على يد من يُحاول تشكيكهم والعبث بدينهم، وما على المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هو حدُّ ذلك، كل هذا ليس هذا موضع الكلام فيه

(1)

.

[ص 6] حديث "من كذَبَ علَيَّ"

صح من طريق جماعة من الصحابة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه بألفاظ مختلفة، اشتهر منها على ألسن الناس:"مَنْ كذب عليَّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار"

(2)

، وجاء في عدد من الروايات

(3)

هكذا أو بهذا المعنى،

(1)

بعده في الأصل في منتصف السطر "أصل" وترك بعده بياضًا بمقدار ستة أسطر.

(2)

أخرجه البخاري (108)، ومسلم (2) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(3)

الأصل: "الرواية" سهو.

ص: 435

وفي عدد منها بدون كلمة "متعمدًا" أو بما يؤدِّي معناه.

والعارف إذا تدبَّر هذه القضية علم أن هناك عدة احتمالات:

الأول: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كرَّر النهي في مناسبات متعددة؛ لأن شأن هذا الأمر عظيم.

الثاني: أن يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا، ولكنّ الرواة تصرَّفوا فيه بحسب الرواية بالمعنى.

الثالث: أن يكون بعض الرواة زاد أو نقص خطأ.

الرابع: أن يكون بعضهم زاد أو نقص عمدًا.

فأما العارف بالسُّنَّة ورواتها، فإنه إذا أخرج من حسابه الروايات التي يكون في سندها كذَّاب أو متهم أو مغفَّل أو مجهول= سقط الاحتمال الرابع.

ثم أخرج من حسابه الروايات التي يكون في سندها من يُخطئ، وقد جاء بلفظ ليس له متابعة صحيحة ولا شاهد صحيح= سقط الاحتمال الثالث.

ثم إذا وجد أن الروايات الصحيحة التي فيها ذكر "متعمدًا" أو ما في معناه متعددة، والروايات الصحيحة التي ليس فيها هذه الكلمة أو ما في معناها متعددة= لم يسعه إلا أن يقول: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر كلمة "متعمدًا" أو ما في معناها تارةً، ويسكت عنها أخرى. ولهذا نظائر في كتاب الله عز وجل، [ص 7] فقد وعد الله عز وجل الجنة جزاءً لبعض الأمور ولم يقيّدها كلها بالموت على الإيمان، وقَيَّد بذلك في بعضها، وأوعد الله عز وجل بالنار على الكفر وغيره ولم يقيّد بعدم التوبة، وقَيَّد بذلك في بعض المواضع.

ص: 436

ولنفرض أن كلمة "متعمدًا" لم تصح ولا ما في معناها، فقد دل عليها الأصول القطعية؛ يقول الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]، وعلَّم اللهُ عبادَه أن يقولوا:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وما علّمهم ذلك إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت مقتضى ذلك في الصحيح، وهو أن الصحابة لمَّا قالوا ذلك، قال الله تعالى:"قد فعلتُ".

والإنسان معرَّض لأن يقع منه الخطأ مع أنه لم يقصِّر، وقد ذكر أبو ريَّة ص 20 حكم كلام الرسول في الأمور الدنيوية بما تحسن مراجعته.

نعم، إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغ الدين، لكن أصحابه غير معصومين، فهُم معرَّضون لأن يقع منهم الخطأ ولو نادرًا.

قال أبو رية ص 41: (إن العقل السليم والخلق الكريم ينفران من قبول رواية "متعمدًا"؛ لأن الكذب هو أبو الرذائل كلها، سواء كان عن عمدٍ أو غير عمد).

كذا يقول! علمتَ أنه إما أن يكون يفهم من كلمة "متعمدًا" خلاف ما نفهمه نحن، وإما أن يكون مُكابرًا يكلِّف الناس أن يكونوا معصومين! مع أنه قد اعترف

(1)

بأنهم ليسوا ــ ولا في إمكانهم أن يكونوا ــ معصومين، وأن المعصوم هو النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً في التبليغ عن ربِّه، فإن كان مكابرًا فلا معنى للكلام معه.

(1)

ضرب المؤلف عليها سهوًا.

ص: 437

وإن كان يفهم منها معنًى غير الذي نفهمه فنحن نبيّن له المعنى الذي نفهمه: أن التعمّد يشمل من يعلم أن خبره مخالف للواقع أو يظن ذلك أو يجوِّزه تجويزًا لا يبلغ من الضعف أن لا يحضر في نفس المخبر، وعلى هذا فلا يخرج إلا من يعتقد أن خبره مطابق للواقع اعتقادًا لا تخالطه أدنى ريبة.

[ص 8] وأنا نفسي جَرَت لي قضية علمت بها يقينًا أن الإنسان الضابط قد يشاهد واقعةً مشاهدةً لا لبس فيها، ثم يعرض له ما يجعله بعد يومين أو أكثر يقطع قطعًا باتًّا بخلاف الواقع فيها، ثم يعرض ما ينبهه على خطائه فيزول القطع السابق.

وقد أخبر عمر بن الخطاب وابنه عبد الله خبرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر الناسُ عائشةَ بذلك فأنكرته، وقالت: "إنكم لتحدثونني عن غير كاذبين ولا مكذَّبِين، ولكن السمع يخطئ

" إلخ. وقد ذكره بنحوه أبو ريَّة ص 50.

وبهذه المناسبة ننظر في حقيقة الكذب: ذهب الجمهور ــ كما يقولون ــ إلى أنه الخبر المخالف للواقع. وذهب جماعة من أشهرهم الجاحظ إلى أنه لابدّ مع المخالفة للواقع أن يكون مخالفًا لِما في نفس المخبر، ومعنى هذا أن قيد التعمّد [ص 9] في مفهوم الكذب، فما لم يكن متعمَّدًا فليس بكذب. وأبو ريَّة يقدِّس الجاحظ، ولكنه هنا لم يعرِّج على قوله لمخالفته هواه.

والحكاية التي ذكرها عن عائشة قد تشهد لقول الجاحظ.

والتحقيق عندي أنه إذا [قيل: ]

(1)

"هذا القول كذب" ونحو ذلك، كما

(1)

زيادة يستقيم بها السياق، وبقي مما لم يضرب عليه المؤلف قوله:"من حيث" ولا مكان لها.

ص: 438

يقال بصرف النظر عن المُخبِر فهو بمعنى "مخالف للواقع" فأما "كذب" بلفظ الماضي أو "يكذب" أو "كاذب" ونحو ذلك من الكلمات التي يلاحَظ معها المخبِر، فالعُرف العامّ يخصّها بالعمد، ألا ترى أن في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية ما قيل فيه: إنه خطأ، وكلّ عاقل ينفر عن أن يقال: "كَذَب

" أو "هو كاذب".

والسرّ في هذا ــ والله أعلم ــ أن الغالب في أفعال الإنسان العمدُ، فإذا قيل:"كذب فلان" كان الظاهر بمقتضى الغلبة أنه تعمَّد.

كما أنك إذا قلتَ: "رأيت فلانًا يشرب الخمر" كان هذا ذمًّا بيِّنًا لأن المفهوم من ذلك أنه عامد عالم.

فعلى هذا إذا كنت تعلم أنه إنما شربها وهو يجهل أنها خمر لم يكن لك إطلاق الكلمة المذكورة، بل يلزمك بيان الحقيقة كما هي. فكذلك قولك:"كذب فلان" الظاهر أنه تعمد، فمن ثَمَّ جرى العرفُ بأن لا يقال ذلك إلا عند التعمُّد.

وعلى هذا عمل الناس قديمًا وحديثًا، إلا أنه إن ظهر أن المُخبِر اعتمد على ظنٍّ لم يكن له أن يعتمد عليه، وبعبارة أخرى: أنه مقصِّر، فإنه يقال:"كذب" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل"

(1)

وغيرها من الأمثلة.

وقد نبَّه على معنى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على الأخنائي" ص 12 فما بعدها.

(1)

أخرجه أحمد (4273) وغيره، وأصله في الصحيحين.

ص: 439

وقول أبي ريَّة في حاشية ص 39: (فلعنة الله على الكاذبين متعمّدين وغير متعمّدين، ومن يروّج لهم من الشيوخ الحشويين) كلمة لها خَطَرها إذا كان مستحضرًا لِمَا ذكرَه في غير هذا الموضع، وأراد بقوله "الكاذبين" مَن يقع منه خبرٌ مخالف للواقع ولو كان مخطئًا غير مقصِّر.

ص: 440