المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الملحق الثاني - الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌الملحق الثاني

‌الملحق الثاني

ص: 441

[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

كتب فضيلة الأخ العلَّامة محمد عبد الرزاق حمزة ــ وهو على فراش المرض عافاه الله ــ "مطالعات وملاحظات على كتاب (أضواء على السنة المحمدية) " الذي ألَّفه الأستاذ محمود أبو ريَّة.

وتقدم إليَّ حضرة المحسن الكبير نصير السُّنَّة فضيلة الشيخ محمد نصيف أن أكتب كلمة، فدعت الحاجة إلى مطالعة كتاب أبي ريَّة فوجدته (مع ما يليق به من الاحترام) تهويشًا، غرضه الوحيد ــ فيما يبدو ــ الدعوة إلى إخضاع الأحاديث المرويَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها للنقد على الطريقة التي يتبعها المعاصرون في نقد التاريخ. ولكنه رأى أن هذه الدعوة لا يُرجى لها استجابة ما لم يستقرَّ الشكُّ في الأحاديث جملة، ولا يتم ذلك إلا بزعم أن المجهود الذي قام به علماء الأمة لحفظ الحديث وتمييز الصحيح من السقيم= كان مجهودًا فاشلًا البتة، رغمًا عن اعتراف بعض أساتذة أبي ريَّة بعظمته:"ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا"

(1)

.

فأخذ يفتّش ويهوّش ويلفِّق ويحطب من هنا وهناك كلَّ ما من شأنه أن يوحي إلى قارئه بذلك الغرض، ولو كان من أقوال الكذَّابين والمتهمين والجاهلين بالدين وطبيعته! ويضحّي في سبيل ذلك بأصول النقد التاريخي

(1)

قاله المستشرق مرجليوث. وعزاه المصنف إلى "المقالات العلمية" ص 234 و 253 في "تقدمة الجرح والتعديل"(ص/ب). وكان المؤلف قد كتب قبل هذه الجملة: "حتى قال" ثم ضرب عليها وترك فراغًا بمقدار كلمتين.

ص: 443

الذي يدعو له ....

(1)

؛ ولهذا يعتذر إلى شركائه في ص 14 بقوله: "وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم العلم الصحيح في هذا العصر عليها".

إننا لا ننكر أصول النقد والتحليل، بل نعرف أن سلف العلماء قد عملوا بها في حدودها، وأنها قد بقيت جملة كبيرة بحاجة إلى النقد، وأن الأمة قصَّرت منذ قرون في إنجاب النقَّاد؛ لكننا نريد نُقَّادًا متبحِّرين في السُّنَّة وفي طرق النقد العلمي الذي انتهجه الأئمة، وهو يشتمل على ما يلائم هذا الموضوع مما يسميه العصريون:"أصول النقد التحليلي" فيربطون جهودهم بجهود أسلافهم.

نريد نُقَّادًا يؤمنون بأن القرآن كلام الله لا يأتيه الباطل [ص 2] من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. حتى إذا جاءهم من السُّنَّة ما يعرفون نظيره في القرآن لم يستنكروه.

وأبو ريَّة وأصحابه يأبون هذا، وقد تضمَّن كتابه هذا تشكيكًا في أحاديث من جهاتٍ في القرآن ما هو مثلها أو أبعد عن عقل أبي ريَّة منها. فلا أدري أيجري على أصله فينتقد القرآن أيضًا فيأخذ منه ويرُدّ؟ إذا ردّ شيئًا منه فقد ردَّه كلَّه، وإن اضطرّ في كتابه هذا إلى ترك التصريح بذلك. أم يكتفي بما مَهَده له أسلافه من أهل البدع، كما صرّح به في أواخر كتابه:(أن النصوص اللفظية لا تفيد اليقين)، ثم يسلك مسلك التأويل، وإن كان كما قال ص 247:(بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن). أم ينحو منحى شيخه ابن سينا الذي صرَّح به في "الرسالة الأضحوية".

(1)

كلمة غير محررة لم أتبينها.

ص: 444

نريد نُقَّادًا يؤمنون بأن من الحكمة في إنشاء الله الخلق هذه النشأة أن يبلوهم أيهم أحسن عملًا، ويبلو ما في نفوسهم ويمحّص ما في قلوبهم؛ فاقتضى ذلك أن يكون في كتاب الله مع الآيات المحكمات آيات متشابهات، ونحو ذلك مما يُبرِز مرض المريض؛ كإخباره بما يستبعده عُبَّاد العادة، وبما تنكره العقول المصطنعة، وكضَرْبه المثل ببعوضة فما فوقها، وإقسامه بما أقسم به، وإخباره عن النار بأن عليها تسعة عشر، وغير ذلك مما المقصود منه أن تُبرَز خفايا النفوس؛ فمَن كان من أهل العلم والإيمان لم يزحزحه ذلك، بل إن فَهِم وإلا قال:{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وإن كان مِن مرضى القلوب وجد متنفّسًا ينفث عنده مقتضى مرضه؛ ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.

فإذا وجدوا في السنة من هذا القبيل لم يستنكروه.

نريد نُقَّادًا مؤمنين حقًّا يعرفون أثر الدين والإيمان والهدى والعلم على النفوس، فيَعلم أحدُهم أنه لو بُذِل له ملك الدنيا على أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كذب [ص 3]، فإذا عرفوا رجلًا بأنه مثلهم في ذلك أو خير منهم لم يردّوا خبرَه لمجرّد احتمال أنه يوافق غرضًا له.

هذه أمثلة من الفوارق يريد أصحاب النقد التاريخي إهمالها؛ فيتطرّقوا في نقد الحديث إلى أن يشكّوا في كلّ خبر فيه ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم أو فضيلة له أو تبرئة من تهمة أو تأييد للإسلام، بعِلّة أن رواته مسلمون يُتَّهمون في تأييد دينهم ومدح نبيّهم. ثم يأخذوا في نقد القرآن فلا يُبقوا ولا يذروا.

هذا هو الهدف الذي يدعو إليه كتاب أبي ريَّة، شَعَر بذلك أم لم يشعر.

ص: 445

إن الذي يتأهل لنقد الحديث لابدّ أن يكون عارفًا بطبيعة الدين، عارفًا بالقرآن، عارفًا بحال الذين خُوطبوا به أولًا وبطريق فهمهم، عارفًا بأحوال الرواة معرفةً صحيحة، عارفًا بعاداتهم في الرواية وما يَعْرِض لهم فيها، محيطًا بأكثر ما رُوي من الحديث مرفوعًا وموقوفًا ومقطوعًا ومتصلًا وغير ذلك، جيّد الفهم بريئًا من الهوى.

فإن لم يكن كذلك فلا مناص له من الاعتماد على أئمة الحديث، وعليه مع ذلك أن يعرف حالهم وعادةَ كلٍّ منهم في الجرح والتعديل، واصطلاحهم الخاص في ألفاظهم.

ودعوى أن أصول النقد لا تتطلَّب هذا كله مقبولة إذا كان المقصود من النقد هو التهويش وتشكيك الجهال، وترويج الأهواء! فأما إذا كان المقصود منه تحرّي الحقيقة فلا.

فأما أبو ريَّة فنصيحتي له أن يتدبّر القرآن متخلّيًا عن كلام المفسرين متقدّمين أو متأخرين، مع استحضار حال الذين خُوطبوا أوّلًا وطريق فهمهم، فإذا وجد كثيرًا من القرآن تنفر عنه نفسه ويضيق به تسليمه فليكن شجاعًا .......

(1)

للوقت ليجرّد قلمه في نقد القرآن.

وإن وجد نفسه مؤمنًا مطمئنًّا بكل ما في القرآن بغير تحريف ولا تأويل مستَكْرَه، فحينئذٍ يلتفت إلى الحديث. أمّا أن يدَّعي الآن أنه قد تدبّر القرآن وآمن به كل الإيمان؛ فهذه دعوى يعلم هو نفسه أنها كاذبة، وكتابه هذا أصدق شاهدٍ عليه.

(1)

كلمة غير واضحة تحتمل "مستفيدًا" أو "متصيدًا".

ص: 446

الباحث المتّزن الواثق بحجته هو الذي يترك الإعلان عن نفسه وعن كتابه إلى الأدلة نفسها، ويدع للناس الحريّة التامة في موافقته أو مخالفته، أما أبو ريَّة فهو يحاول أن يفرض رأيه على الناس فرضًا، ويبالغ في مدح من يأمُل موافقته، وسبِّ من يخشى مخالفته، فتراه يقول في لوح كتابه: "دراسة محررة

قامت على قواعد التحقيق العلمي

".

ويقول ص 14: "وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته مِمَّن تعفّنت أفكارهم وتحجّرت عقولهم".

ويقول ص 354: "فإن يقع عملنا هذا لدى المستنيرين ورجال الفكر المثقفين في مكان الرضا والقبول فهذا ما نرجوه وهو حسبنا، وإن تضق به صدور الحشوية وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار الذين يخشون على علمهم المزوّر من سقوط الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل أن يكشفهم نور العلم الصحيح، ويهتك سترهم نور الحجة البالغة؛ فهذا لا يهمنّا؛ إذ ليس لمثل هؤلاء خَطَرٌ عندنا ولا وزن في حسابنا".

كذا يقول! ولو لم يكن لهم خَطَر عنده لما حاول أن يتّقيهم بهذا السلاح. [ص 4] وماذا عليهم إذا لم يكن لهم خَطَر عند أبي ريَّة؟ !

* * * *

هل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه

جاء عنه صلى الله عليه وسلم حديثان:

أحدهما: ما رواه مسلم

(1)

وغيرُه من طريق همّام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عنّي،

(1)

(3004).

ص: 447

ومَن كتب عنّي غيرَ القرآن فليَمْحُه

" الحديث.

والثاني: ما رواه ابن عبد البر في "كتاب العلم"

(1)

من طريق كثير بن زيد بن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: "دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه. فقال له زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه".

فأما الحديث الأول، فقال ابن حجر في "فتح الباري"

(2)

: "ومنهم مَن أعلَّ حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقْفُه على أبي سعيد؛ قاله البخاري وغيرُه". يعنون أن أصل الخبر بقريب من هذا اللفظ من قول أبي سعيد، فوهِم بعضُ الرواة فَرَفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والبخاريُّ وغيره إنما يقولون مثل هذا حيث يكون عندهم دلائل على ذلك؛ كأنْ يُروى من وجه آخر أثبت من هذا موقوفًا على أبي سعيد. وكثير من كتب الأثر لاسيَّما التي تُعنى بالموقوفات ليست عندي. نعم، في "كتاب العلم"

(3)

لابن عبد البر عن أبي نضرة: "قيل لأبي سعيد: لو أكْتَبْتَنا الحديث؟ فقال: لا نُكْتِبُكم، خذوا عنَّا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم "، وفي رواية:"قلتُ لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع منك؟ قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ ! إن نبيَّكم صلى الله عليه وسلم كان يُحدِّثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنّا نحفظ". وفي رواية: "

أردتم أن تجعلوه قرآنًا! لا، لا، ولكن خذوا عنَّا كما أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(1)

(1/ 271) وتقدم (ص 45).

(2)

(1/ 208).

(3)

(1/ 272 ــ 273).

ص: 448

والظاهر أنه لو كان عند أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى لَذَكَرَ ذلك لهؤلاء.

وذكر أبو ريَّة عن عائشة أن أبا بكر كتب في صحيفة خمسمائة حديث، ثم أحرقها معتذرًا بأن فيها ما سمعه من رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخشى أن يكون [ص 5] ذاك الرجل وهِم، وأنه يخشى أن يردّ مَن بعده ما وجدوه من الحديث زائدًا على تلك الصحيفة، بعلّة أنه لو كان صحيحًا لعَلِمَه أبو بكر؛ هذا معنى القصة. وهي ــ لو صحّت ــ واضحة الدلالة على أن أبا بكر لم يكن عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة.

وذَكَر عن عمر أنه استشار الصحابة في كتابة الحديث، فأشاروا

(1)

بذلك، فمكث مدّة يتردّد في ذلك، ثمّ عزم أن لا يكتب، وقال:"إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله". وهذا ــ إن صحَّ ــ يدل أن عمر والصحابة حالهم كحال أبي بكر، أي لم يكن عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة.

فمَن تدبَّر هذا عَلِم أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيٌ عن كتابة حديثه. وإنما عَدَل عنها أبو بكر لِما تقدّم، وعَدَل عنها عمر خشية أن يدع الناسُ القرآنَ، ويستغنوا بما كتب من الحديث.

وفوق هذا: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذنُ بالكتابة، وقد أورد البخاريُّ في ذلك ثلاثة أحاديث

(2)

: حديث صحيفة علي، وحديث "اكتبوا لأبي شاه"، وحديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب.

(1)

الأصل: "فأشارا" سهو.

(2)

أرقامها (111، 112، 113) وحديثًا رابعًا ذكره المؤلف (ص 46).

ص: 449

وقد روى الحديثَ غير البخاري وصرّح فيه بإذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو، وجاء في ذلك حديث عن عبد الله بن عمرو. راجع "فتح الباري"

(1)

كتاب العلم، باب كتابة الحديث، و"المستدرك"(1/ 104) فما بعدها، ومسند أحمد بتحقيق العلَّامة أحمد محمد شاكر، تعليقه على الحديث (6510).

وقد قال أبو ريّة نفسه في حاشيته ص 23: (أملى النبي صلى الله عليه وسلم كُتبًا في الشرائع والأحكام

ولا يتعدّى ما كُتب عن الرسول في عصره عشر صفحات

).

كذا قال! والمشهور في صحيفة عبد الله بن عمرو أنها كبيرة، وكان يعتزّ بها، ويسمّيها "الصادقة" تمييزًا لها عن أخرى كانت عنده عن أهل الكتاب.

* * * *

[ص 6] لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث

نقل أبو ريَّة عن بعضهم أن ذلك تنبيه على أنها ليست من الدين العام، وفي كلامه ما يدلُّ أن الدين العام عنده هو السنن العَمَلية المتواترة؛ ككون الصلوات خمسًا، والصبحِ ركعتين، والمغربِ ثلاثًا، وغير ذلك. ويضيف إليها ما كانت دلالته قطعيةً من القرآن، على فرض وجوده؛ لأنه عاد فنقل عن بعضهم أن النصوص اللفظية مطلقًا لا تفيد إلا الظن.

فيقال له: لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة السنن المتواترة مع أنها من الدين العام عندك، وأمر بكتابة القرآن كله مع أن بعضه أو كلَّه ليس بحسب دلالته

(1)

(1/ 204 وما بعدها).

ص: 450

من الدين العام. فتبيَّن سقوط علّتك، وإنما العلّة الصحيحة: أن ألفاظ القرآن مقصودة لذاتها قصدًا مؤكدًا؛ لأنه كلام الله عز وجل، متعبد بتلاوته كما أُنزل، ولألفاظه السهم الأوفر من إعجازه، وهو من العظمة بأعلى الدرجات.

والأحاديث ليست مثله فيما ذُكِر، بل هناك ما يقتضي أن لا يؤمر بكتابتها، وذلك أمران:

الأول: المشقّة لقلّة الكُتَّاب وقلة ما يُكْتَب فيه.

الثاني ــ وهو الأعظم ــ: ما يقتضيه أصل الابتلاء الذي مرّت الإشارة إليه، وهو الأصل الذي بُنيت عليه هذه النشأة الدنيا. ومن أحبّ التبصّر فيه فليراجع الآيات القرآنية التي فيها ذكر البلاء أو الابتلاء، وهي كثيرة. ولأجل هذا الأصل جعل الله عز وجل أكثر حُجج الحقّ بيِّنةً واضحةً لمن يحبّ الحقَّ ويحرص عليه ويؤثره على الهوى بجميع أنواعه؛ غيرَ ظاهرةٍ لمن يحبّ الباطل ويحرص عليه ويؤثره.

وبيانُ ذلك: أنه معروف مشاهَد أن من يحبّ شيئًا ويحرص عليه ويؤثره على كلِّ ما سواه يكفيه في اختياره لأمر من الأمور أن يغلب على ظنّه أنه محصِّل لمحبوبه. [ص 7] هذا أمر معلوم يقينًا، حتى لو أن إنسانًا ادَّعى أنه يحبّ أمرًا حبًّا شديدًا يؤثره على كل شيء ثم عُرض عليه عملٌ يغلب على ظنّه أنه محصِّل لذلك الأمر الذي ادّعى حبَّه فلم يلتفت إليه= عَلِمْنا كذب دعواه. وقد نصّ القرآن على هلاك أقوام مع وصفه لهم بأنهم مرتابون.

أمَّا لو كانت حُجج الحقّ قاهرة لا يمكن أحدًا أن يرتاب فيها= لكان إيمانه بها إيمان مُلْجَأٍ. فلو حصل لأكفر الناس علمٌ قاهر كعلمه بأن الأربعة

ص: 451

ضعف الاثنين، لو حصل له علمٌ كهذا بأنه إن لم يُسلم خُلِّد في نار جهنَّم لأسلم رغمًا عن هواه. وليس المقصود من الدين إرغام الناس على الحق، إنما مقصوده ابتلاء ما في نفوسهم من الحبّ للحق أو الحبّ للباطل.

وأنت ترى دلالات القرآن كثير منها ليست بقاهرة، ومِنَ الحكمة في ذلك: الابتلاء، فالمحبّ للحق تكفيه الدلالة الظاهرة، والمحبّ للباطل يتأوَّل ويتعلّل.

وحكمة أخرى، وهي: أن يجاهد المسلم في سبيل فَهْم المعنى الصحيح، ويجاهد نفسَه في حملها على الدلالة الظاهرة.

وكلّما كان الجهاد أشقّ كان الفوز في الامتحان أبْيَن وكانت العبادة وثوابها أعظم.

وليس المقصود هنا أنه لا يُشْتَرط في الإيمان الإيقان، وإنما المقصود أنه يكفي في قيام الحجّة الظهور البيِّن، فمَن قَبِل فقد فاز في الابتلاء، ثم إن حافظ على ذلك فهو في طريقه إلى الإيمان؛ قال الله تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، ومَن أبَى فقد سقط في الامتحان، ثم إن استمرَّ على عناده استحقّ الوبال؛ قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ

(1)

كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].

فهكذا عدم الأمر بكتابة الحديث قُصِد منه ابتلاءُ الناس بحفظه، وابتلاؤهم في أدائه على وجهه، وابتلاؤهم في تمييز صحيحه من سقيمه، وابتلاؤهم في اتباعه عند ظهور دلالته وإن لم تكن قاهرة، إلى غير ذلك.

(1)

في الأصل: "كذلك نقلب أفئدتهم وأهوائهم". سبق قلم.

ص: 452

على أن [الله] تبارك وتعالى قال لرسوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}

(1)

[القيامة: 16 ــ 19]، وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9].

والذِكر إن لم يشمل السُّنَّة بلفظه شملها بمعناه، بل يشمل اللغة التي يفهم بها؛ لأن مقصود الحفظ هو بقاءُ الحجّة قائمة والتمكّن من الوصول إلى الحقّ دائمًا إلى قيام الساعة؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فتكفَّل الله تعالى بحفظ شريعته، بحيث مَن طلب الحقَّ فيها بإخلاصٍ وصدق وجَدَه. [ص 8] فلا يخفى قبل أجل فناء الدنيا، وإلا اقتضت الحكمة إرسال غيره.

وهذا التكفُّل بالحفظ لا يعني إعفاء الأمة من وجوب عمل كلِّ ما مِن شأنه الحفظ، ألا ترى أن الكفالة الصريحة بحفظ القرآن لم تمنع الصحابة لمَّا استحرّ القتل في اليمامة بالقرَّاء، لم يمنع الصحابة علمهم بالكفالة عن أن يُبادروا بجمع القرآن.

(1)

كتب المؤلف إلى {لِتَعْجَلَ بِهِ} وترك بعده بياضًا بمقدار سطر لبقية الآيات.

ص: 453

الرواية بالمعنى

قد اتضح مما تقدَّم أن الفرق بين القرآن إذا أُمِر بكتابته وبين غيره هو أن ألفاظ القرآن مقصودة لذاتها دون الأحاديث، فهي مقصودة القصد الأعظم لمعانيها. ودلائل ذلك أكثر من هذا؛ فإن الإسلام دين الفطرة، والفطرة تقضي على مَن سمع كلامًا مرّة واحدَة أن لا يُكلَّف عند تبليغه بالمحافظة على لفظه. ألا ترى أن أكثر ما يرسل الإنسان رسولًا أو مندوبًا، ويقول له: قل كيتَ وكيتَ، ويذكر له كلامًا، فالغالب أنه إنما يريد منه أداء معناه. وإذا أدَّى معناه فهو صادق حتمًا.

وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كثيرًا من الكلام ينسبه إلى الناس، ومنه ما يطول فيبلغ ثلاث آيات أو أكثر. ولا ريب أن تلك الألفاظ وتلك العبارات من القرآن لها فخامته وإعجازه، فثبتَ بذلك أنها كلام الله تعالى، وأن نسبتها إلى مَن نُسِبَت إليه مِن المخلوقين إنما حاصله أنهم قالوا ما يؤدِّي ذاك المعنى.

فأما ما في القرآن مما هو في معنى الترجمة عن غير العربية إليها فكثير جدًّا. نعم، إن الرواية بالمعنى مظنّة الخطأ في الجملة، ولكن هذا أيضًا من مقتضى أصل الابتلاء؛ ليتبين مَن يبالغ في الحرص على الوفاء بالمعنى مِمَّن يقصّر، ويكون للعلماء مجال للبحث والنظر واستخراج الخطأ، وبقَدْرِ ما يجِدّون في ذلك مخلصين واقفين على السراط المستقيم يكون فوزهم وثوابهم.

أما تمنِّي بعض الناس أن تكون الأحاديث كُتِبَت أو أنَّها رُويت بألفاظها،

ص: 454

فهذا [ص 9] من جنس تمنِّي أن يكون الله تعالى جعل القرآن مشتملًا على جميع مقاصد الدين بالدلالات القاطعة، وتمنِّي أن لا يكون في القرآن متشابه، وأن لا يكون فيه الآيات التي يتشبّث بها الزائغون، إلى غير ذلك.

وهذه غفلة عن حِكْمة أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى. إن حكمته سبحانه وتعالى شاملة لكلِّ شيء، حتّى وَضْع الوضَّاعين وكذِب الكاذبين، لله عز وجل حكمة بالغة في تمكينهم منه، ففي ذلك بروز ما في نفوسهم من حبّ الباطل، وبذلك تتم عليهم الحجّة، وفي ذلك ابتلاء للناس وفتح مجال لاجتهاد أهل العلم وجهادهم، وقد قال الله عز وجل في بيان مصداقه:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} إلى قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} إلى أن قال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} [آل عمران: 139 ــ 154].

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].

وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

ص: 455

فليعلم أبو ريَّة أن مِن شيوخ الحشويَّة ــ كما يسمّيهم ــ مَن إن ثَقُل عليهم كتابه هذا لحُبهم للإسلام، فإنهم لا يرونه أكثر من دعوة يدعوهم الله عز وجل [ص 10] بها إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمته، ويعلمون أنهم إن شمَّروا عن سواعد الجدّ وبذلوا ما يسعهم مِن الجهد، فقد فازوا في هذا الابتلاء برضوان الله تبارك وتعالى، سواءٌ أحصل ما يرغبون فيه من استجابة كثير من الناس للحقّ أم لم يحصل.

إن المعلوم بالتجربة أن العارف باللغة إذا سمع وفَهِم المعنى وضبط، ثم روى بالمعنى لا يخطئ إلا نادرًا، بحيث إذا لم يتبيَّن في شيءٍ أنه أخطأ فيه= يحصل الوثوق بخبره. وهذا الوثوق هو مدار التكليف، كما أنه مدار أعمال العقلاء، ألا ترى ركوب السيارة والباخرة والطائرة موثوق بالسلامة فيه الثقة التي يطمئنّ إليها العقلاء ويعملون بها، وإن كان قد يتفق الاصطدام والغرق والسقوط، على أن الاصطدام والغرق والسقوط مُهلك ولا بُدّ، فأما الغلط في الرواية فلابدّ أن يُهيّئ الله تعالى ما يبيّنه فلا يستمر ضرره، ومَن كان له معرفة راسخة بالحديث يعرف هذا ويتحققه.

وأئمة الحديث لا يوثّقون الراوي حتى يعتبروا رواياته بروايات الثقات المعروفين، فإذا وجدوه يُغيِّر المعنى جرحوه، وإن وجدوه قد يقع له التغيير ولا يَكثُر غمزوه وقالوا: لا يُحتج به، يعنون: أن حديثه يحتاج إلى متابعات وشواهد، وهكذا.

وقد حكى أبو ريَّة أن البخاريَّ يروي بالمعنى، وهذا صحيحه موجود، وقلَّ حديث فيه إلا وهو يوجد من رواية غيره عن شيخه أو شيخ شيخه، فهل وجد أهلُ العلم تفاوتًا مُخلًّا بالمعنى يؤدي إلى فساده؟ كلَّا ولله الحمد.

ص: 456

حديث "مَن كذب علَيَّ"

الكذب ممقوت عقلًا وفطرة، والقرآن يعتبر الكذب على الله عز وجل ظلمًا لا يفوقه ظلمٌ آخر، قال الله عز وجل:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}

(1)

[الأنعام: 144]، وكرَّر هذا المعنى في آيات عديدة

(2)

، والنبي صلى الله عليه وسلم مبلِّغ عن الله تعالى، صادق في كلّ ما بلَّغه، فالكذب عليه كذب على الله عز وجل.

وطبيعي أن يُحذر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمينَ من الكذب عليه، وطبيعيّ أن يكرّر ذلك في عدّة مناسبات كما كرَّر الله عز وجل بيان غلظ الكذب عليه في عدّة آيات.

وحديث: "مَن كَذَب عليَّ"

(3)

إلخ، إن لم يكن متواترًا لفظه فهو بلا ريب مقطوع بصحة معناه عند مَن يعرف الحديث ويعرف رواة الحديث.

الحديث رُوي من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ متقاربة إلا أنه يمكن جعلها ضربين:

الضرب الأول: "مَن كَذَب عليَّ فليتبوّأ مقعدَه مِن النار"، وما يؤدِّي هذا المعنى بدون نصٍّ على التقييد بالتعمّد.

الثاني: "مَن كَذَب عليَّ متعمِّدًا فليتبوّأ مقعدَه مِن النار" وما يؤدي هذا

(1)

كتب المؤلف إلى {افْتَرَى} وترك مقدار أربع كلمات.

(2)

بلغت عشر آيات.

(3)

وهو متفق عليه وقد مضى تخريجه.

ص: 457

المعنى بالنصّ على التقييد بالتعمّد. وأبو ريَّة ينكر هذا القيد ويبالغ، ويتلمَّس التُّهَم لمن هم ــ عند من يعرفهم حقّ المعرفة ــ أبعد الناس من أن يتعمَّدوا.

[ص 11] اختلف الناسُ في تحرير معنى الكذب، والذي صار إليه الأكثر: أنه الإخبار بما يخالف الواقع. وذهب جماعة منهم الجاحظ إلى أنه لا يكون كذبًا حتى يخالف الواقع ويخالف ما في نفس المُخْبِر. وأبو ريَّة يقدِّس الجاحظ ولكنه رأى أنّ قوله هنا لا يتمشّى مع هواه! هذا مع أنه ذكر ص 50 أنها

(1)

خطَّأت عمرَ وابنَه في حديث، وقالت للذين أخبروها عنهما:"إنكم لتحدّثون عن غير كاذبين ولكن السمع يخطئ".

وأنها خطّأت ابنَ عمر في حديث، وقالت:"إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ". وذكر خطأ جماعة من الصحابة.

عَقَد ص 20 فما بعدها بابًا لبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان معصومًا في أمور الدين، فأما أمور الدنيا

(2)

فقد يخطئ كما يخطئ غيرُه، ويريد أبو ريَّة وبعضُ شيوخه أن يجعل هذا أصلًا يُسقط به كلَّ ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمور الكونية والطبيعية، كما صرَّح بذلك في قضية الذباب بحاشية ص 201، ولازم هذا حتمًا أنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكذب، وأن عمر وابن عمر وغيرهما من الصحابة كانوا يكذبون، وكانوا يرمي بعضهم بعضًا بالكذب. وأدهى من هذا وأمرّ قوله بحاشية ص 39:(ولعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين، ومن يروّج لهم من الشيوخ الحشويين).

(1)

أي عائشة رضي الله عنها.

(2)

الأصل: "الدين" سبق قلم.

ص: 458

ويقول ص 27 في ردّ كلمة "متعمدًا": (وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل والخُلُق اللذَينِ كان الرسول متصفًا بالكمال منهما، ذلك بأن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواءٌ أكان عمدًا أم خطأ).

أقول: أما إذا بنينا على أن المخطئ ليس بكاذب كما تقدم، فلم تَزِدْ كلمة "متعمدًا" عن أن تكون حالًا كاشفة، فإن كان العقل يأباها [ص 12] فقد كان العقل يُوجب أن يُقال:"من كَذَب عليّ أو أخطأ". ولا أدري لماذا يأباها العقل مع جزمه بأنَّ الإنسان معرَّض للخطأ شاء أم أبى، ومع اعترافه بأن الأنبياء قد يخطئون فيما يتعلق بأمور الدنيا، وإنما عُصموا في أمور الدين بإعجاز خارق ليس لغيرهم، ومع جزمه بصحّة ما نصّ عليه القرآن:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وعلَّم الله تعالى عبادَه أن يقولوا:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وما علَّمهم إلَّا ليستجيب لهم. وفي "الصحيح"

(1)

أن الصحابة لمَّا قالوها قال الله تعالى: "قد فعلتُ".

وقال الله تعالى في كتابه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5].

فلو قطعنا بأنَّ مَن أخطأ فأخبر بخلاف الواقع غيرَ مقصِّر قد كذب، وبأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل "متعمدًا" ولا ما في معناها= لأوجبت الأدلة العقلية والنقلية أن قوله:"مَن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار" وإن تناول بلفظه المخطئ غير المقصّر فليس متناولًا له بحكمه. هذا من جهة العقل. فأما من

(1)

"صحيح مسلم"(126).

ص: 459

جهة الخُلق الكريم فقد قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فهل يليق بصاحب الخُلُق أن يكلِّف أصحابه ما يعلم أنهم لا يستطيعونه، مع أن ربَّه عز وجل لم يكلِّف به عباده؟

وليقف العاقل هنا وقفةً يتدبّر فيها حال أبي ريَّة، وهل يرضى أن يضيع العاقل وقته بمطالعة كتابه إلا أن يتصدَّى عارفٌ لكشف حاله لئلّا يغترَّ به الجَهَلة؟ وهل ينبغي له إن كان عاقلًا أن يتعاطى الكلام في مثل هذا الأمر؟

إن أئمة السُّنَّة يفرّقون بين الرواة ويُنْزِلون كلَّا منزلته. فالثقة الثبت عندهم هو الذي يُعرف من اعتبار روايته برواية غيره، أنه لا يحدّث إلا بما يسمعه حقًّا. فأما الذي يحدّث بما لم يتحقَّق أنه سمعه؛ فهذا كذّاب أو متّهم. وكذا من يكون مغفَّلًا يتوهَّم أنه سمع وضبط، ويرى أنه جازم بذلك وهو مخطئ؛ فهذا عندهم هو المغفَّل المتروك الذي يحدّث على التوهُّم، ومِن ثَمَّ يعاملون مَن يُخطئ على حسب مقدار خطائه كميَّة وكيفيةً. فَهُم وإن أثنوا على بعض مَن يكثر خطاؤه وغلطه بأنه كان صالحًا عابدًا فإنهم يجرحونه في الحديث جرحًا صارمًا كقولهم:"منكر الحديث، متروك، ليس بشيء"، حتى قال شعبة: لأن أزني أحبّ إليَّ مِن [أن] أروي عن أبان بن أبي عيَّاش، وقال نحو ذلك في يزيد الرقاشي.

فليطمئنّ المسلمون على الحديث النبويّ، فإن الله تبارك وتعالى لم يهمله

(1)

إلى أن يُبْعَث لتنقيحه أبو ريَّة وأضرابه بعد قرابة أربعة عشر قرنًا،

(1)

يحتمل: "يَكِلْه".

ص: 460

وأن أئمة المسلمين المؤمنين بالله ورسوله حقًّا لم يكن جهادهم طول أعمارهم سُدًى.

* * * *

[ص 13] حديث الزُّبير

ممن روى هذا الحديث الزبير بن العوَّام. روى حديثَه شعبة بن الحجّاج، عن جامع بن شدّاد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عبد الله عن الزبير.

فذكر ابن حجر في "الفتح"

(1)

أن أصحاب شعبة اختلفوا؛ منهم من ذكر "متعمّدًا" ومنهم مَن لم يذكرها. ومالَ إلى ترجيح عدمها مستدلًّا بأمرين:

الأول: أخرجه الزبير بن بكار في "كتاب النسب" من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير وليس فيه: "متعمدًا". وقد أخرجه الدارميّ من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: "من حدّث عني كذبًا" ولم يذكر العمد.

وقال المنذري في "مختصره لسنن أبي داود"

(2)

المطبوع مع "معالم السنن للخطابي" و"تهذيب السنن" لابن القيم (5/ 248): "والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه (متعمدًا)، وقد رُوي عن الزبير أنه قال: والله ما قال: (متعمدًا) وأنتم تقولون (متعمدًا) ".

(1)

(1/ 200).

(2)

(5/ 248).

ص: 461

وذكر محقِّق العصر العلَّامة أحمد محمد شاكر هذا البحث في تعليقه على الحديث (1413) من "مسند أحمد"

(1)

واعترض ــ بأدبٍ ــ كلامَ المنذريّ، فاعترضه أبو ريَّة ص 39 وحاشيتها بأسلوبه الخاصّ، وختمه باللغة السابقة التي لزمه فيها ما لزمه.

وتلخيص ما في النسخ وتعليق شاكر في رواية شعبة: أن بعض أصحابه ــ وهم الأكثرون ــ لم يذكروا فيه تلك الكلمة، وأن معاذ بن معاذ ذكرها، وكذا محمد بن جعفر غندر في أثبت الروايات عنه، وهي رواية أحمد في "مسنده"

(2)

، وأبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشّار عند ابن ماجه

(3)

. وفي "الفتح"

(4)

أن الإسماعيليّ أخرجه من طريق غُندر بدونها.

[ص 14] وقد قال ابن المبارك: "إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُندر حَكَمٌ بينهم". وقد كان شعبة يسمع الحديث من الشيخ مرارًا، فيظهر أنه سمعه من جامع مرّة بإثبات الكلمة، ومرَّة بدونها، فكان شعبة يرويه مرة كذا ومرة كذا.

أما مِن غير طريق شعبة، فذكر شاكر رواية أبي داود من طريق وبرة بن عبد الرحمن عن عامر بن عبد الله بن الزبير مسندةً وفيه الكلمة، وسنده صحيح.

(1)

(3/ 8).

(2)

(1413).

(3)

(36).

(4)

(1/ 200).

ص: 462

وتقدم عن "الفتح" رواية "كتاب النسب" والدارمي بدون الكلمة، فرواية "كتاب النسب" لا أدري ما سندها، ورواية الدارمي فيها شيخه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام لكن الدارمي من المتثبّتين، وإذا كان الراوي عن كاتب الليث من المتثبّتين كالبخاريّ وأبي حاتم فهو قوي.

والترجيح مشكل، فقد يقال: إن سياق القصة يؤيد الحذف كما فسَّره في "الفتح" ونقله أبو ريَّة، لكن قد أخرج البخاريّ عن أنسٍ بنحو القصة، مع أن المتن:"من تعمّد علَيَّ كذبًا فليتبوّأ مقعده من النار". وفسَّره في "الفتح" بما يناسبه. فأنا واقف.

بقي قول المنذري: "وقد رُوي عن الزُّبير أنه قال:

" إلخ، فذكر شاكر أن ابن سعد روى الخبر في طبقاته (3/ 1/74) عن عفّان ووهب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة

فذكره بدون الكلمة. ثم قال: "قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال: متعمّدًا، وأنتم تقولون: متعمّدًا". قال شاكر ما حاصله: إن هذا من قول وهب بن جرير ينكر على الذين رووه عن شعبة وفيه الكلمة، فمعناه:"والله ما قال شعبة: متعمدًا" إلخ.

أقول: أما ظاهر قوله: "في حديثه عن الزبير" فإنه يعطي أنّ وهبًا ذكر هذه الزيادة في كلام الزبير، لكن يُعكِّر على ذلك أنها ليست في رواية من الروايات المختلفة عن شعبة، منها رواية غندر الذي كَتَب سماعًا عن شعبة، ثم عَرَض كتابه على شعبة وصحَّحه، ولا في الروايات الأخرى التي من غير طريق شعبة. وهذا دافعٌ قويّ يدفع أن يكون من أصل كلام الزبير. فالأشبه ــ والله أعلم ــ أنّ وهبًا قالها [ص 15] من عنده كما قال شاكر، لكنه وصلها بالحديث فتوهَّهم السامع أنها منه، فهي إذًا من المُدرَج، على أنها لو فُرض

ص: 463

أنها من كلام الزبير، فهو صادق بحسب ما سمع كما نقله أبو ريَّة عن ابن قتيبة بلفظ:"ووالله ما سمعته قال: متعمدًا". ولا يلزم من ذلك أن لا يكون غيره سمع الخبر وفيه هذه الكلمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كرَّر التحذير مرارًا كما تقدَّم. فأيُّ مانعٍ من أن يذكره تارةً بدون الكلمة وتارةً بها. وقد تقدم إيضاح أن المعنى لا يختلف.

* * * *

عدالة الصحابة

هذا بحث لا يحسُن إثارته في هذه العُجالة؛ لأنه يفتقر إلى بسط يبين الحجج ويوضِّح الأسباب والموانع والقرائن والدلائل، فانتظره في النقد الكامل

(1)

إن شاء الله تعالى.

(1)

يعني "الأنوار الكاشفة" فانظر منه (ص 365 وما بعدها).

ص: 464

أبو هريرة

أجلب أبو ريَّة بخيله ورَجْلِه محاولًا الإطاحة بأبي هريرة، وأسرف في جلب الأقوال والروايات الموضوعة والمكذوبة والساقطة والمَرميّ بها عن بُعد، والتي تكذيبها معها ولكنه لم ينقله، ولم يستحي من الأخذ بأباطيل عبد الحسين الرافضي وزاد فخصَّه بقوله:"العالِم" كما في آخر ص 361.

وسأفصل ذلك في النقد إن شاء الله تعالى. وأقتصر على حديث: "خلق الله التُّربةَ

" إلخ.

فقد أوهم أو توهَّم أبو ريَّة أنه ظفر فيه بالبرهان القاطع حتى تحدَّى المسلمين في ص 175 قال: (وإني لأتحدّى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء [ص 16] من علم الحديث، وجميع مَن هُم على شاكلتهم في غير بلادنا أن يحلّوا لنا هذا المشكل، وأن يُخرجوا بعلمهم الواسع شيخَهم من الهُوّة التي سقط فيها).

افرض أن جماعةً شهدوا أن زيدًا أخبرهم عن بكر عن سعد عن خالد عن جميل أن محمودًا أبا ريَّة قال: أخذ السيد محمد رشيد رضا بيدي فقال: "أُشهدك أني كافر بالقرآن وبِمَن جاء به". فقال بعضُ العارفين: "إنما هو: أبو ريَّة أنَّ سلامة موسى قال: أشهدك

". والسيد رشيد رضا بريء كلَّ البراءة مِن هذا القول ومما هو دونه بكثير.

وقال قائل: "أنا أتحدّى المثقَّفين جميعًا أن يُخلِّصوا صاحبهم أبا ريَّة من هذه الهُوَّة".

أليس من حقِّ أجهلهم أن ينبري له فيقول: أثبِتْ أوَّلًا أن أبا رية قال حقًّا: "أخذ السيد محمد رشيد رضا

" إلخ، فإنّ بينك وبينه خمسة، قد يكون

ص: 465

أحدهم افترى أو أخطأ، أَوَليس هذا سؤالًا مُلزمًا؟

فخبر التربة رواه مسلم والنسائي

(1)

من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن أبيه عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة. وإذا نظرنا في حال هؤلاء وجدنا فيهم ابن جريج، وقد أفهم أبو ريَّة بأنه كان وكان. وقال ص 148:(ومِمَّن كان يَبُثُّ في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه ابنُ جريج الرومي الذي مات سنة 150، وكان البخاري لا يوثِّقه، وهو على حقّ في ذلك).

إذا كان هذه حال ابن جُريج عند أبي ريَّة فكيف يحتجّ بخبر انفرد به، وهو عنده مما يتّهم فيه ثم يتحدَّى؟ !

ابن جُريج ثقة مأمون عند البخاري وغيره، إنما يُخشى تدليسه، وقد صرَّح هنا بالسماع. بقي النظر في غيره؛ نجد أنّ أيوب بن خالد وعبيد الله بن [ص 17] رافع لم يخرّج البخاري لواحد منهما شيئًا، وأن أيوب لم يوثِّقه أحد، وليس له في "صحيح مسلم" إلا هذا الخبر، وذِكْرُ ابنِ حبان له في "الثقات"

(2)

ليس بتوثيق معتبر عند أهل العلم؛ لأن ابن حبان يذكر فيها المجاهيل، ويذكر مَن وقف له على رواية غير منكرة عنده، وإن لم يَخبُر سائر مروياته. وقال الأزدي:"ليس حديثه بذاك؛ تكلم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد ونظراؤه لا يكتبون حديثه".

والبخاريّ ذَكَر الخبر في ترجمة أيوب هذا من "تاريخه"(1/ 1/ 413)؛ قال: "وروى إسماعيل بن أميَّة عن أيوب بن خالد الأنصاري

(1)

مسلم (2789)، النسائي في "الكبرى"(10943).

(2)

(6/ 54).

ص: 466

عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله التربةَ يوم السبت". وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح".

وعادةُ مؤرِّخي الرجال أن يذكروا في ترجمة الرجل ما يُنتقد عليه من الأحاديث. فثبت أن البخاريَّ يحمل الخطأ في هذا الحديث على أيوب بن خالد. وكأنه وقع له عن أبي هريرة خبران؛ في أحدهما: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، وقال:(فذكر حديثًا غير هذا). والآخر: عن أبي هريرة عن كعب: خلق الله التربة

إلخ، فاشتبه الأمر على أيوب، فركَّب الثاني على صَدر الأول، ومع ذلك خلط فيه فيما يظهر، فإن كعبًا يقول غير هذا. ويوشك أن يكون الأول هو حديث:"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهْبِط، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة" إلخ.

وهو في "صحيح مسلم"

(1)

مختصرًا، وفي "سنن النسائي"

(2)

مطوّلًا، وفيه قصة جرت لأبي هريرة مع كعب، وذلك مما يوقع في الاشتباه، وفيه أيضًا ذِكْر الساعة التي في الجمعة ومن قال: إنها بعد العصر، وفي خبر التربة:"خُلق آدم بعد العصر يوم الجمعة". وهذا أيضًا مما يوقع في الاشتباه. وعلى كل حال فالتخليط من أيوب.

قد يقول أبو ريَّة: ولكن مُسلمًا قد صحَّح الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[ص 18] فيقال له: فقد صححه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قال: لكن قام الدليل على امتناع صحّته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

(854).

(2)

(1766).

ص: 467

قيل له: فقد ذكرنا الدليل على عدم صحته عن أبي هريرة، وإنما خلط فيه أيوب.

وكم من أحاديث رُويت عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي بأسانيد متصلة وحَكَم أهلُ العلم ببطلانها، وحملوا بحقّ تبعتها بعضَ رواتها، فلذلك هنا إن كان الخبر باطلًا فتَبِعته على أيوب لِمَا عرفتَ من حاله.

وستعرف إن شاء الله في النقض المستوفى

(1)

مكانة أبي هريرة الحقيقية في الإسلام، وتدمغُ حُججُ الحقِّ ما حيكَ حولَه من الشبهات، والله المستعان.

[ص 19] ومن تلك الدلالات القطعية ما هو مناقض للعقل عند المتكلّمين أنفسهم، وأنه لا مفرَّ لهم من الاعتراف بأن في نصوص القرآن وفيما تكلّم به النبي صلى الله عليه وسلم يقينًا ما هو قطعي الدلالة يُعلم منه قطعًا أن المتكلم أراد به المعنى الظاهر منه، ومع ذلك يكون المعنى في نفسه باطلًا.

ثم حاول تلطيف ذلك بأنّ مِثْل ذلك إنما وقع لضرورة إصلاح العوام الذي هو المقصود من الشرائع. والعوام لا يُمكن إصلاحهم إلا بإخبار مثل تلك الأخبار التي تُناسب عقولهم وتبعث في نفوسهم الرهبة الشديدة والرغبة الأكيدة له فينقادوا.

وحاصل هذا أن في القرآن وما تكلّم به النبي صلى الله عليه وسلم يقينًا ما هو كذب، إلا أنه كذب للمصلحة. نعم، إن ابن سينا ومَن وافقه لم يصرحوا بكلمة "كذب"، ولا غروَ أن يكون أبو ريَّة مع ابن سينا أو أن يزيد عليه.

(1)

"الأنوار الكاشفة"(ص 194 ــ 315).

ص: 468