الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرواية بالمعنى
قال أبو ريَّة ص 8: (ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالحديث عن أصل لفظه استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى).
أقول: أنزل الله تبارك وتعالى هذه الشريعة في أمة أُمية، فاقتضت حكمتُه ورحمته أن يكلّفهم
(1)
الشريعة، ويُكلِّفهم حفظها وتبليغها في حدود ما يتيسّر لهم. وتكفَّل سبحانه أن يرعاها بقدرته ليتمّ ما أراده لها من الحفظ إلى قيام الساعة. وقد تقدم شيء من بيان التيسير (ص 20 و 21 و 22)
(2)
. ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك بانَ له أن الله تعالى أنزل القرآن على حرفٍ هو الأصل، ثم تكرّر تعليم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم لتمام سبعة أحرف، وهذه الأحرف الستة الزائدة عبارة عن أنواعٍ من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى
(3)
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقّن أصحابه فيكون بين ما يلقّنه ذا وما لقّنه ذاك شيء من ذاك الاختلاف في اللفظ، فحفظ أصحابه كلٌّ بما لُقِّن، وضبطوا ذلك في صدورهم ولقَّنوه الناس، ورُفِع الحرج مع ذلك عن المسلمين،
(1)
(ط): «يكفّلهم» تحريف.
(2)
انظر (ص 41 ــ 45).
(3)
هنا تعليق يحتمل أن يكون للشيخ أو للناشر الأول، ونصه:«المراد بالاختلاف في المعنى هو الاختلاف المذكور في قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فأما أن يدلّ أحد الحرفين على معنى والآخر على معنى آخر وكلا المعنيين معًا حق، فليس باختلاف بهذا المعنى» .
فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أو يشقّ عليه النطقُ بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ماكان يوافق حرفًا آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل. وفي «فتح الباري»
(1)
: «ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعًا له» . فهذا ضَرْبٌ محدود من القراءة بالمعنى رُخِّص فيه لأولئك.
وكتب القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في قطع من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخط يومئذ يحتمل ــ والله أعلم ــ غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمال رسم المصاحف العثمانية.
وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم [ص 53] ولعله غالبها إن لم يكن جميعها، مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعًا للقِطَع التي كُتِب فيها القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، كأن توجد الآية في قطعتين كُتِبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر، فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة.
(1)
(9/ 27). والمثال الذي ذكره الحافظ هو قراءة ابن مسعود «عتى حين» وليست من المرادف بل لهجة في الكلمة.
ونخرج مما تقدم بنتيجتين:
الأولى: أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوِّره أبو ريَّة بل قد اعتمد عليه في القرآن، وبقي الاعتماد عليه وحده بعد حفظ الله عز وجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم[وأبي بكر] وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التي كُتِب فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مفرَّقة عند بعض أصحابه لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم. ثم لمّا جُمعت في عهد أبي بكر لم تُنشر هي ولا الصحف التي كُتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه في عامة المواضع التي يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حين استقرَّ تدوينُ القراءات الصحيحة.
النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها؛ لأنه كلام ربِّ العالمين بلفظه ومعناه، مُعْجِز بلفظه ومعناه، مُتعبَّد بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟
وإذا علمنا ما تقدَّم أول هذا الفصل من التيسير مع ما تقدم (ص 20 ، 21 و 32)
(1)
وعلمنا ما دلَّت عليه القواطع أن النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّن لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأن كلّ ما كان منه مما فيه بيان للدين فهو خالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته (راجع ص 12 و 36 و 45 و 49)
(2)
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم
(1)
انظر (ص 41 ــ 43، 63).
(2)
انظر (ص 24، 70، 87، 94).
بكتابة الأحاديث، وأقرَّهم على عدم كتابتها، بل قيل إنه نهاهم عن كتابتها كما مرَّ بما فيه
(1)
، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعَلِمنا أنّ عادة الناس قاطبةً فيمن يُلْقى إليه كلام المقصود منه معناه، ويؤمر بتبليغه= أنه إذا لم يحفظ لفظَه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلِّغه بمعناه ولا يعدّ كاذبًا ولا شِبه كاذب، علمنا يقينًا أن الصحابة إنما أُمِرُوا بالتبليغ على ما جرت به العادة: مَنْ بقي منهم حافظًا لِلَّفظ على وجهه فليؤدِّه كذلك، ومن بقي ضابطًا للمعنى ولم يبق ضابطًا للفظ فليؤدِّه بالمعنى. هذا أمر يقينيّ لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
فقول أبي ريَّة: (لما رأى بعض الصحابة .. استباحوا لأنفسهم) إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يُبَحْ لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع [ص 54] والعقل كما يُعْلَم مما مر. وتشديده صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يَبْعَثون رسلهم ونُوَّابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم، فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلَّغوا المعنى فقد صدقوا. ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك. فذهب وقال له: والدي ــ أو الوالد ــ يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعًا صادقًا، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنَكْرَ العقلاء عليك ذلك.
وقد قصَّ الله عز وجل في القرآن كثيرًا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحدَّ المعْجِز، ومنه ما يكون عن لسان
(1)
انظر (ص 41 فما بعدها).
أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر. فبالنظر إلى أداء المعنى كرَّر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال:«نَضَّرَ الله امرءًا سمع مِنّا شيئًا فأدَّاه كما سمعه، فربّ مبلَّغٍ أوعى مِن سامع»
(1)
، جاء بهذا اللفظ أو معناه مطوّلًا ومختصرًا من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وجُبير بن مُطْعِم، وعائشة، وسعد، وابن عمر، وأبي هريرة، وعُمير بن قتادة، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وزيد بن خالد، وعُبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى معونتهم على الحفظ والفهم كما مرَّ (ص 43)
(2)
.
واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة. ومنها ما أصله قوليّ، ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذِنَ في كذا .. وأشباه هذا. وهذا كثير أيضًا.
وهذان الضربان ليسا محلّ نزاع، والكلام في ما يقول الصحابي فيه:
(1)
هذا الحديث رُوي عن جماعة كثيرة من الصحابة نحو الثلاثين، من أقواها حديث زيد بن ثابت. أخرجه أحمد (21590)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230)، وابن حبان (67، 680) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان.
وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد (4157)، والترمذي (2657)، وابن ماجه (232)، وابن حبان (66، 69). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان.
وانظر: «موافقة الخبر الخبر» : (1/ 363 ــ 393)، و «المعتبر» (ص 130 ــ 131).
(2)
(ص 83 ــ 84).
قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك. ومَن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حَكَوا قولَه صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم مَن يحاول أن يؤدّيها، فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك. ومع هذا فقد عُرِف جماعة من الصحابة كانوا يتحرّون ضبط الألفاظ، وتقدم (ص 42)
(1)
قول أبي رية: «إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى» . وكان ابن عمر ممن شدَّد في ذلك، وقد آتاهم الله مِنْ جودة الحفظ ما آتاهم. وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة. ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه. فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفُّظ فهو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك، لأنهم كلهم كانوا يتحرّون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرُّف مَنْ بعدهم.
(1)
(ص 84).
[ص 55] الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة
قال أبو ريَّة: (ثم سار على سبيلهم كلُّ مَن جاء من الرواة بعدهم. فيتلقى المتأخر عن المتقدِّم ما يرويه عن الرسول بالمعنى، ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه).
أقول: هذه حكاية من يأخذ الكلمات من هنا وهناك، ويقيس بذهنه بدون خبرة بالواقع. فإن كثيرًا من الأحاديث الصحيحة إن لم نقل غالبها يأتي الحديث منها عن صحابيين فأكثر، وكثيرًا ما يتعدد الرواة عن الصحابي، ثم عن التابعي، وهَلُمَّ جرًّا.
فأما الصحابة فقد تقدم حالهم. وأما التابعون، فقد يتحفَّظون الحديث كما يتحفَّظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه «كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه»
(1)
. هذا مع قوّة حفظه؛ ذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة ــ وكان أعمى ــ فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفًا ثم قال:«لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة»
(2)
. وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفَّظون ما كتبوه، ثم منهم من يُبقي كتبه ــ راجع (ص 28)
(3)
ــ ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب. وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رُزِقُوا جَودة الحفظ
(1)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» : (2/ 335)، والخطيب في «الجامع» (463). والعويل: رفع الصوت بالبكاء، والزويل: الحركة.
(2)
ذكره البخاري في «التاريخ الكبير» : (7/ 186)، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية»:(2/ 334).
(3)
(ص 55 ــ 56).
وقوة الذاكرة، كالشعبي والزُّهري وقتادة. وقد عُرِف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه، كالقاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حَيْوَة.
أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راوٍ مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعاهدها ويتحفَّظ حديثَه منها. ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدِّث مِنْ كتابه. ومنهم من جرّب عليه الأئمةُ أنه يُحدِّث من حفظه فيخطئ، فاشترطوا لصحة روايته أن يكون السماع منه مِنْ كتابه. ومنهم مَن عَرَف الأئمةُ أنه حافظ، غير أنه قد يقدِّم كلمة أو يؤخِّرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغيِّر المعنى، فيُوثّقونه ويبيّنون أن السماع منه من كتابه أثبت.
فأما مَنْ بعدهم، فكان المتثبِّتون لا يكادون يسمعون مِن الرجل إلا مِن أصل كتابه. كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظًا، ومع ذلك لم يسمع منه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين إلا مِن أصل كتابه.
هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديثَ كلِّ راو فينظرون كيف حدَّث به في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يحدِّث مرَّة كذا ومرَّة كذا بخلافٍ لا يُحْتَمل ضعَّفوه. وربما سمعوا الحديث مِن الرجل ثم يَدَعونه مدةً طويلة ثم يسألونه عنه. ثم [يعتبرون]
(1)
مرويّاته برواية مَن روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات حكموا عليه بِحَسَبها.
وليسوا يوثّقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مرّ، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، [ص 56] وبمخالفته الثقات، وبتفرُّده، وهَلُمَّ جرًّا.
(1)
(ط): «يعتبر حرف» ولا معنى لها، ولعلها محرفة عما أثبت.
ونظرهم عند تصحيح الحديث أدقّ مِن هذا. نعم، إن هناك مِن المحدِّثين من يسهِّل ويخفّف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثَّقوا رجلًا مطلقًا، فمعنى ذلك أنه يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أو على الأقل إذا روى بالمعنى لم يغيّر المعنى. وإذا رأيتهم قد صحَّحوا حديثًا، فمعنى ذلك أنه صحيح بلفظه أو على الأقل بنحو لفظه، مع تمام معناه. فإنْ بان لهم خلاف ذلك نبَّهوا عليه كما تقدم (ص 18)
(1)
.
وذكر أبو ريَّة ص 54 فما بعدها كلامًا طويلًا في هذه القضية. وذكر اعتقاد شيوخ الدين أن الأحاديث كآيات القرآن (من وجوب التسليم لها وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتدّ أو يفسق من خالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها).
أقول: أما ما لم يثبت منها ثبوتًا تقوم به الحجة فلا قائل بوجوب قبوله والعمل به. وأما الثابت فقد قامت الحُجَج القطعية على وجوب قبوله والعمل به، وأجمع علماء الأمة عليه كما تقدم مرارًا. فمُنْكِر وجوب العمل بالأحاديث مطلقًا تُقام عليه الحجة، فإن أصرَّ بانَ كفرُه. ومنكر وجوب العمل ببعض الأحاديث إن كان له عذر من الأعذار المعروفة بين أهل العلم وما في معناها فمعذور، وإلا فهو عاصٍ لله ورسوله، والعاصي آثم فاسق. وقد يتفق ما يجعله في معنى منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقًا، وقد مرَّ.
وذكر ص 55 فما بعدها الخلافَ في جواز الرواية بالمعنى.
أقول: الذين قالوا: «لا تجوز» إنما غرضهم ما ينبغي أن يُعْمَل به في عهدهم وبعدهم، فأما ما قد مضى فلا كلام فيه، لا يطعن في متقدِّم بأنه كان
(1)
(ص 36 - 37).
[يروي][*] بالمعنى، ولا في روايته. لكنْ إن وقع تعارض بين مرويِّه ومرويِّ مَنْ كان يبالغ في تحرِّي الرواية باللفظ فذلك مما يرجّح الثاني. وهذا لا نزاع فيه.
ومدار البحث هو أن الرواية بالمعنى قد تُوقِع في الخطأ، وهذا معقول، لكنْ لا وجه للتهويل، فقد ذكر أبو ريَّة ص 59:(قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة). وكان ابن سيرين مِن المتشدِّدين في أن لا يروي إلا باللفظ، ومع هذا شهد للذين سمع منهم أنهم مع كثرة اختلافهم في اللفظ لم يخطئ أحد منهم المعنى. ولهذا لما ذُكر له أن الحسن والشعبي والنَّخَعي يروون بالمعنى اقتصر على قوله:«إنهم لو حدَّثوا كما سَمِعُوا كان أفضل» انظر «الكفاية» للخطيب (ص 206).
ومن تدبَّر ما تقدّم من حال الصحابة وأنهم كانوا كلهم يراعون الرواية باللفظ، ومنهم من كان يبالغ في تحرِّي [ص 57] ذلك. وكذا في التابعين وأتباعهم، وأنَّ الحديث الواحد قد يرويه صحابيان فأكثر، ويرويه عن الصحابي تابعيان فأكثر وهَلُمَّ جرًّا، وأن التابعين كتبوا، وأن أتباعهم كتبوا ودوَّنوا، وأن الأئمة اعتبروا حال كلِّ راوٍ في روايته لأحاديثه في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يروي الحديث مرَّة بما يحيل معناه في روايته له مرة أخرى جرحوه، ثم اعتبروا رواية كلِّ راوٍ برواية الثقات، فإذا وجدوه يخالفهم بما يحيل المعنى جرحوه، ثم بالغ محققوهم في العناية بالحديث عند التصحيح، فلا يصحِّحون ما عرفوا له علة. نعم قد يذكرون في المتابعات والشواهد ما وقعت فيه مخالفة ما وينبهون عليه. من تدبَّر هذا ولم يُعْمِه الهوى اطمأنّ قلبُه بوفاء الله تعالى بما تكفَّل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد. ويؤكِّد ذلك أن أبا ريَّة حاول أن يقدِّم شواهد
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع، وهو ثابت في الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا.
على اختلاف ضارّ وقع بسبب الرواية، فكان أقصى جهده ما يأتي:
قال ص 6: (صيغ التشهدات)، وذكر اختلافها.
أقول: يتوهَّم أبو ريَّة ــ أو يوهم ــ أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما علّمهم تشهّدًا واحدًا، ولكنهم أو بعضهم لم يحفظوه، فأتوا بألفاظ مِن عندهم مع نسبتها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا باطل قطعًا؛ فإن التشهد يُكرَّر كلَّ يوم بضع عشرة مرّة على الأقل في الفريضة والنافلة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحفِّظ أحدهم حتى يحفظ. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقريء الرجلين السورة الواحدة هذا بحرف وهذا بآخر، فكذلك علّمهم مقدمة التشهُّد بألفاظ متعددة، هذا بلفظ وهذا بآخر. ولهذا أجمع أهل العلم على صحة التشهد بكلِّ ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ذِكْر عمر التشهد على المنبر
(1)
، وسكوت الحاضرين، فإنما وجهه المعقول: تسليمهم أن التشهد الذي ذكره صحيح مجزئ. وقد كان عمر يقرأ في الصلاة وغيرها القرآن ولا يَردُّ عليه أحد، مع أن كثيرًا منهم تلقّوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرف غير الحرف الذي تلقّى به عمر، ومثل هذا كثير. ومن الجائز أن يكونوا ــ أو بعضهم ــ لم يعرفوا اللفظ الذي ذكره عمر، ولكنهم قد عرفوا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه بألفاظ مختلفة، وعمر عندهم ثقة.
وأما قول بعضهم
(2)
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: «السلام على النبي» بدل «السلام عليك أيها النبي» فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم خيَّره بين اللفظين، وقد يكون
(1)
أخرجه مالك في «الموطأ» (240)، وابن أبي شيبة (3009)، والبيهقي:(2/ 144) وغيرهم.
(2)
هو ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه عنه أحمد (3935)، والبخاري (6265)، ومسلم (402) وغيرهم.
فَعَل ذلك باجتهاده خشية أن يتوهَّم جاهلٌ أنَّ الخطاب على حقيقته. أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فالتحقيق أنها موجودة في التشهدات كلها بلفظ «ورحمة الله» والقائل بوجوبها عقب التشهد بلفظ الصلاة لم يجعلها من التشهد بل هي عنده أمر مستقل. والكلام في ذلك معروف، لا علاقة له بالرواية بالمعنى.
[ص 58] قال أبو ريَّة ص 64: (وكلمة التوحيد)، وذَكَر ما لا علاقة له بالرواية بالمعنى.
ثم قال ص 66: (حديث الإسلام والإيمان) فذكر عن «صحيح مسلم»
(1)
حديث طلحة: «جاء رجل من أهل نجد» ، وحديث جبريل برواية أبي هريرة
(2)
، وحديث أبي أيوب:«جاء رجل إلى النبي فقال: دلَّني على عمل الخ»
(3)
، وحديث أبي هريرة:«أن أعرابيًّا جاء الخ»
(4)
. ثم ذكر عن النووي: «اعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج، ولاجاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير [هذا من] هذه الأحاديث لم يُذكر في بعضها الصوم، ولم يُذكر في بعضها الزكاة، وذُكِر في بعضها صِلَة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس. ولم يقع في بعضها ذِكْر الإيمان
…
وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخَّصه أبو عمرو ابن الصلاح وهذَّبه فقال: «
…
هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصَّر
(1)
رقم (11)، وهو في البخاري (46).
(2)
أخرجه مسلم (9، 10).
(3)
أخرجه مسلم (13).
(4)
أخرجه البخاري (1397)، ومسلم (14).
فاقتصر على ما حفظه
…
»
(1)
.
أقول: أما هذه الأحاديث فلا يتعيَّن فيها ذاك الجواب بل لا يتَّجِه، فإن واقعة حديث جبريل لا علاقة لها ببقية الأحاديث، وذكر الإيمان فيه؛ لأن جبريل أراد بيان جمهرة الدين، وبقية الأحاديث ليس بواجب أن يُذْكَر فيها الإيمان اكتفاء بعلم السائل به، مع أن في
(2)
ما ذكر له ما يستلزمه. وحديث طلحة وحديث أبي هريرة في الأعرابي، يظهر أنها واقعة واحدة يحتمل أنها وقعت قبل أن ينزل فرض الحج، فلذلك لم يذكر، وحديث أبي أيوب يحتمل أن يكون واقعة أخرى وقعت قبل فرض الحج والصوم، فلذلك لم يُذكرا فيه. وأما صلة الرحم وأداء الخُمُس فليسا من الأركان العظمى فلا يجب ذكرهما في كلِّ حديث.
هذا، وحديث جبريل قد ورد من رواية عمر بن الخطاب، وثبت في بعض طرقه ذكر الحج، وصحَّح ابنُ حَجَر ذلك في «الفتح»
(3)
بأنه قد جاء في رواية أنَّ الواقعة كانت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا فسقوطه في رواية أبي هريرة مِنْ عَمَل بعض الرواة، كأنه كان عنده أيضًا حديث أبي هريرة في الأعرابي وليس فيها ذكر الحج فحمل هذه عليها، والله أعلم.
ومثل هذا ليس من الرواية بالمعنى، إنما هو من ترك الراوي لشيءٍ من الحديث نسيه أو شكَّ فيه، ولا يقتضي تركه إحالة لمعنى الحديث. وكثيرًا ما
(1)
«شرح مسلم» : (1/ 167 ــ 168) وما بين المعكوفين منه.
(2)
كذا في (ط) والعبارة مستقيمة بدونها.
(3)
(1/ 119).
يقع في الكتاب والسنة ترك بيان بعض الأمور في موضع لائق به اعتمادًا على بيانه في موضع آخر، وليس هذا بأكثر من مجيء عموم أو إطلاق في القرآن، ومجيء تخصيصه أو تقييده في السنة.
[ص 59] قال ص 68: (حديث زوجتكها بما معك) ذَكَر أنه رُوي على ثمانية أوجه: (1 - قد زوجتكها بما معك من القرآن، 2 - زوجتكها على ما معك الخ، 3 - أنكحتكها بما الخ، 4 - قد ملكتكها بما الخ، 5 - قد أملكتكها بما الخ، 6 - قد أمكناكها الخ، 7 - أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، 8 - خذها بما معك الخ).
أقول: الثامنة لم تُذْكر في «فتح الباري» ، والسابعة سندها واهٍ، والسادسة صوابها على ما استظهره في «الفتح»
(1)
: أمْلَكْناكها، والست الأولى معناها واحد، وكذا حكمها عند جمهور أهل العلم. وقال قوم: لا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح كما في الثلاث الأولى، فأما الثلاث التي تليها فلا يصح التزويج بها. وأجابوا عن هذه الروايات بأن أرجحها وأثبتها عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي بلفظ التزويج. فتحصَّل من هذا أن الرواية بالمعنى وقعت، ولكن لم يترتب عليها مفسدة، ولله الحمد. على أن المعنى الأهم في الحديث وهو التزويج بتعليم القرآن لم تختلف فيه الروايات.
قال ص 68: (حديث الصلاة في بني قريظة) ذكر أنه وقع عند البخاري: «لا يصلينّ أحدُكم العصرَ إلا
…
»
(2)
وعند غيره: «لا يصلينّ أحدُكم الظهرَ إلا
…
»
(3)
مع اتحاد المخرج.
(1)
(9/ 214).
(2)
البخاري (946، 4119).
(3)
أخرجه مسلم (1770)، وابن حبان (1462)، والبيهقي:(10/ 119).
أقول: في «الفتح»
(1)
: إن الذي عند أهل المغازي «العصر» وكذلك جاء من حديث عائشة ومن حديث كعب بن مالك. ورواه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر، فقال أبو حفص السلمي عن جويرية:«العصر» ، وقال أبو غسان عن جويرية:«الظهر» . ورواه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية، فقال البخاري عنه:«العصر» ، وقال مسلم وغيره عنه:«الظهر» فذكر ابن حجر احتمالين:
حاصل الأول: بزيادة أن جويرية قال مرَّةً «العصر» كما رواه عنه أبو حفص السلمي، ومرَّةً «الظهر» كما رواه عنه أبو غسان، وكتبه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية على الوجهين، فسمعه البخاريُّ مِن عبد الله على أحدهما، ومسلم وغيره على الآخر. وكأنَّ البخاريّ راجع عبدَ الله في ذلك ففتَّش عبدُ الله أصولَه فوجد الوجه الذي فيه «العصر» فأخذ به البخاري لعلمه أنه الصواب.
الاحتمال الثاني: أن يكون البخاري إنما سمعه من عبد الله بلفظ «الظهر» ولم يكتبه البخاري إلا بعد مدَّة من حفظه فقال: «العصر» أخطأ لفظ شيخه وأصاب الواقع.
أما ما ذكر أنّ البخاريّ كان يحفظ ثم يكتب مِن حفظه، فإن صحَّ ذلك فهذا صحيحه فيه آلاف الأحاديث، وقلَّ حديثٌ منها إلا وقد رواه جماعة غيره عن شيخه وعن شيخ شيخه، وقد تتبَّع ذلك المستخرجون عليه وشُرَّاحه، فإذا لم يقع له خطأ إلا هذا الموضع ــ على فَرْض أنه أخطأ ــ كان هذا من أدفع الحجج لتشكيك أبي ريَّة.
(1)
(7/ 408 ــ 409).
قال أبو ريَّة ص 69: (وبلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم، ثم يعزونه إلى كتب السنة
…
).
أقول: حاصله أن البيهقي يروي عن كتبه الأحاديث بأسانيده إلى شيخ البخاري أو شيخ شيخه ومَنْ فوقه، ويقع [ص 60] في لفظه مخالفة للفظ البخاري مع اتفاق المعنى، ومع ذلك يقول:«أخرجه البخاري عن فلان» ولا يبين اختلاف اللفظ، وكذا يصنع البغوي.
وأقول: العذر في هذا واضح، وهو اتفاق المعنى مع جَرَيان العادة بوقوع الاختلاف في بعض الألفاظ، وكتاب البخاري متواتر فأقلّ طالب حديث يشعر بالمقصود.
وذكر قول النووي
(1)
في حديث: «الأئمة من قريش» : «أخرجه الشيخان» مع أن لفظهما: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»
(2)
.
أقول: المعنى قريب، وقد يكون النووي رحمه الله وهِم، ومثل هذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر، لأن «الصحيحين» متواتران.
قال أبو ريَّة ص 70: (ضرر رواية الحديث بالمعنى) وساق عبارة طويلة لابن السِّيْد البَطَلْيَوْسِيّ في «أسباب الاختلاف» . وفيها (ص 72 - 73) ما يخشى منها، وقد قدمنا (ص 21 - 22 - و 55)
(3)
ما فيه الكفاية.
وذكر ص 74 حديث: «إن يكن الشؤم ففي ثلاث» . وسيأتي النظر فيه بعد النظر
(1)
في «المجموع شرح المهذّب» : (1/ 7).
(2)
البخاري (3501)، ومسلم (1820) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
(ص 42 ــ 44، 108).
في عدالة الصحابة الذي ذكره أبو ريَّة في كتابه ص 310 - 327.
وقال ص 75: (ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية
…
).
أقول: قد قدمتُ ما يعلم منه أنّ مِن الأحاديث ما يمكن أن يَحْكم العارف بأنه بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه بلفظ الصحابي، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه على لفظ التابعي. فهذه يمكن الاستفادة منها في العربية، وما عدا ذلك ففي القرآن وغيره ما يكفي.
وذكر ص 71 - 78 فصولًا مِن فروع الرواية بالمعنى يُعلم جوابها مما تقدّم.
وقال ص 78: (تساهلهم فيما يُروى في الفضائل، وضرر ذلك).
أقول: معنى التساهل في عبارات الأئمة هو التساهل بالرواية، كان مِنَ الأئمة مَنْ إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من الصحيح أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده، فإذا كان دون ذلك لم يروه البتة. ومنهم مَن إذا وجد الحديث غير شديد الضعف وليس فيه حكم ولا سنَّة، إنما هو في فضيلةِ عَمَلٍ متفق عليه، كالمحافظة على الصلوات في جماعة ونحو ذلك، لم يمتنع من روايته. فهذا هوالمراد بالتساهل في عباراتهم. غير أنَّ بعضَ مَن جاء بعدهم فهِم منها التساهل فيما يرد في فضيلةٍ لأمر خاصّ قد ثبت شرعه في الجملة، كقيام ليلة معينة، فإنها داخلة في جملة ما ثبت مِنْ شَرْع قيام الليل. فبنى على هذا جواز أو استحباب العمل بالضعيف، وقد بَيَّن الشاطبيّ في «الاعتصام»
(1)
خطأ هذا الفهم. ولي في
(1)
(2/ 17 - 22 ــ ط مشهور).
ذلك رسالة لا تزال مسوَّدة
(1)
.
[ص 61] على أنَّ جماعة من المحدّثين جاوزوا في مجاميعهم ذاك الحدّ، فأثبتوا فيها كلَّ حديث سمعوه ولم يتبين لهم عند كتابته أنه باطل. وأفرط آخرون فجمعوا كلَّ ما سمعوا، معتذرين بأنهم لم يلتزموا إلا أن يكتبوا ما سمعوه ويذكروا سنده، وعلى الناس أن لا يثقوا بشيء من ذلك حتى يعرضوه على أهل المعرفة بالحديث ورجاله. ثم جاء المتأخرون فزادوا الطين بلَّة بحذف الأسانيد.
والخلاصُ مِن هذا أسهل، وهو أن تُبيَّن للناس الحقيقة، ويُرجَع إلى أهل العلم والتقوى والمعرفة. لكن المصيبة حقّ المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يُلمُّون بشيء من ظواهره، ومع ذلك فالناس لا يرجعون إليهم، بل في الناس مَنْ يمقتهم ويبغضهم ويعاديهم ويتفنَّن في سبّهم عند كلِّ مناسبة ويدَّعي لنفسه ما يدَّعي، ولا ميزان عنده إلا هواه لا غير، وما يخالف هواه لا يبالي به ولو كان في «الصحيحين» عن جماعة من الصحابة، ويحتج بما يحلو له من الروايات في أيِّ كتاب وُجد، وفيما يحتج به الواهي والساقط والموضوع، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من كتابي هذا، والله المستعان.
* * * *
(1)
يعني رسالة حكم العمل بالحديث الضعيف، وهي منشورة ضمن هذا المشروع المبارك إن شاء الله.