الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوضع
وقال أبو ريَّة ص 80 ــ 89: (الوضع في الحديث وأسبابه
…
).
أقول: نقل عبارات في هذا المعنى، وهو واقع في الجملة، ولكن المستشرقين والمنحرفين عن السنَّة يطوِّلون في هذا ويهوِّلون ويهملون ما يقابله. ومَثَلُهم مَثَلُ من يحاول مَنْع الناس من طلب الحقيقي الخالص من الأقوات والسمن والعسل والعقاقير، والحرير والصوف، والذهب والفضة، واللؤلؤ والياقوت، والمسك والعنبر، وغير ذلك= بذكر ما وقع من التزوير والتلبيس، والتدليس والغشّ في هذه الأشياء، ويُطيل في ذلك. والعاقل يعلم أنّ الحقيقي الخالص من هذه الأشياء لم يُرْفَع من الأرض، وأنّ في أصحابها وتجّارها أهل صِدْق وأمانة، وأنّ في الناس أهل خبرة ومهارة يميزون الحقيقيّ الخالص من غيره، فلا يكاد يدخل الضرر إلا على مَنْ لا يرجع إلى أهل الخبرة من جاهل ومقصّر، ومن لا يُبالي ما أخذ. والمؤمن يعلم أن هذه ثمرة عناية الله عز وجل بعباده في دنياهم، فما الظن بعنايته بدينهم؟ لابدّ أن تكون أتمَّ وأبلغ. ومن تتبَّع الواقع وتدبَّره وأنعم النظر تبين له ذلك غاية البيان.
أما الصحابة، فقد زكَّاهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله، والأحاديث إنما ثبتت مِن رواية مَنْ زكَّاه الله ورسوله عينًا، أو لا ريب في دخوله فيمن زكَّاه الله ورسوله جملة. نعم جاءت أحاديث قليلة عن بعض من قد يمكن الشكّ فيه، لكن أركان الدين من سلف هذه الأمة تدبَّروا أحاديث هذا الضرب واعتبروها، فوجدوها قد ثبتت هي أو معناها برواية غيرهم، وبعد طول البحث والتحقيق تبيَّن لأئمة السنَّة [ص 62] أن الصحابةَ كلَّهم عدول في
الرواية. وسيأتي مزيد لهذا في فصل «عدالة الصحابة»
(1)
.
وأما التابعون، فعامة من وثَّقه الأئمة منهم ممَن كثرت أحاديثه هم ممن زكَّاه الصحابة، ثم زكَّاه أقرانه من خيار التابعين، ثم اعتبر الأئمة أحاديثه وكيف حدَّث بها في الأوقات المتفاوتة، واعتبروا أحاديثه بأحاديث غيره من الثقات، فاتضح لهم بذلك كلِّه صدقه وأمانته وضبطه. وهكذا مَنْ بعدهم.
وكان أهل العلم يشدّدون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم ــ أظنه الحسن بن صالح بن حَيّ ــ أنه قال: كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث مِن رجل سألنا عن حاله حتى يقال: أتريدون أن تزوِّجوه؟
(2)
.
وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه، فرأوه خارجًا وقد انفلتت بَغْلَتُه وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أنّ المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه. قالوا: هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث.
وذكروا أن شعبة كان يتمنّى لقاء رجل مشهور
(3)
ليسمع منه. فلما جاءه وجده يشتري شيئًا ويسترجح في الميزان، فامتنع شعبة من السماع منه. وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في «كفاية الخطيب» (ص 110 - 114).
وكان عامة علماء القرون الأولى ــ وهي قرون الحديث ــ مقاطعين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء، ولا يرضى بتولِّي القضاء، ومنهم مَنْ كان الخلفاء يطلبونهم ليكونوا بحضرتهم
(1)
(ص 365).
(2)
أخرجه الخطيب في «الكفاية» (ص 93) عن الحسن بن صالح كما ظنّه المؤلف.
(3)
هو أبو الزبير المكي.
ينشرون العلم، فلا يستجيبون، بل يفرُّون ويستترون. وكان أئمة النقد لا يكادون يوثِّقون محدِّثًا يداخل الأمراء أو يتولَّى لهم شيئًا. وقد جرحوا بذلك كثيرًا من الرواة، ولم يوثِّقوا ممن دَاخَلَ الأمراءَ إلا أفرادًا عَلِم الأئمةُ علمًا يقينًا سلامةَ دينهم وأنه لا مَغْمَز فيهم البتة.
وكان محمد بن بشر الزَّنْبري محدِّثًا يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزَّنْبري يُشيّعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزَّقوا ما كانوا كتبوا عنه
(1)
.
وكثيرًا ما كانوا يُكذِّبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتَّهمونه فيه. وتجد مِنْ هذا كثيرًا في «ميزان الذهبي» وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدّث بحديث ثم حدّث به بعد مدة على وجه ينافي الوجه الأول.
وفي «الكفاية» (ص 113) عن شعبة قال: «سمعت من طلحة بن مصرِّف حديثًا واحدًا وكنت كلما مررت به سألته عنه
…
أردت أن أنظر إلى حفظه، فإنْ غيَّر فيه شيئًا تركته».
وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد، كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر
(2)
، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور
(3)
. ومن تَتبَّع كتب التراجم [ص 63] وكتب العلل بَانَ له مِن جِدِّهم واجتهادهم ما يحيِّر العقول.
(1)
انظر «لسان الميزان» : (7/ 13 ــ 14) لابن حجر.
(2)
ذكر القصة ابنُ حبان في «المجروحين» : (1/ 28).
(3)
ذكر القصة الخطيبُ في «الكفاية» (ص 401). والحديث أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (471).
وكان كثير من الناس يُحضِرون أولادَهم مجالسَ السماع في صغرهم ليتعوَّدوا ذلك، ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمَّل السفر الطويل والمشاقَّ الشديدة، وقد لايكون معه إلا جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلّها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع. ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنُّه الثلاثين أو نحوها، فتكون أُمنيته من الحياة أن يقبله علماءُ الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عَرَف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثَه وضاع مجهوده طول عمره، وربح سوء السمعة واحتقار الناس.
وتجد جماعةً من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئًا، مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث.
ومن تتبع أخبارَهم وأحوالَهم لم يعجب مِنْ غَلَبة الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذَّابين منهم. ومن تتبَّع تشدُّد الأئمة في النقد لم يعجبْ مِن كثرة من جرَّحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدُّد.
وبالجملة، فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلًّا. وأرجو أن يكون فيما ذكرتُه ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعُهم ــ بإفاضتهم في ذكر الوضع ــ من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أنّ الله تعالى أخلَّ بما تكفَّل به مِنْ حفظ دينه، وأنَّ سلف الأمة لم يقوموا بما عليهم أو عَجَزوا عنه فاختلط الحقُّ بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه. كلَّا بل حجة الله تعالى لم تزل ولن
تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحًا لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد.
وفي «تهذيب التهذيب» (1: 152): «قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيدُ زنديقًا فأراد قتله، فقال: أينَ أنتَ مِن ألفِ حديثٍ وضعتُها؟ فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفَزَاري وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا»
(1)
. وفي «فتح المغيث» (ص 109)
(2)
وذكر ص 91 أحاديث قال: إنها موضوعة، ولم يذكر مَنْ حَكَمَ بوضعها من أهل العلم بالحديث. وذكر فيها حديث:«فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على [سائر] الطعام» وقد افترى مَنْ زَعَم هذا موضوعًا، بل هو في غاية الصحة، أخرجه الشيخان في «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري
(3)
، ومن حديث أنس
(4)
رضي الله عنهما.
(1)
والخبر في «تاريخ دمشق» : (2/ 257) لابن عساكر.
(2)
(1/ 303 ــ الجامعة السلفية)، والخبر في «تقدمة الجرح والتعديل» (ص 3) بسندٍ صحيح.
(3)
البخاري (3411)، ومسلم (2431).
(4)
البخاري (3770)، ومسلم (2446).
[ص 64] معاوية والشام
وقال ص 91: (معاوية والشام
…
).
ذكر عن أئمة السنَّة: إسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل والبخاري والنسائي، ثم ابن حجر، ما حاصله: أنه لم يصح في فضل معاوية حديث.
أقول: هذا لا ينفي الأحاديث الصحيحة التي تشمله وغيره، ولا يقتضي أن يكون كلّ ما رُوي في فضله خاصّة مجزومًا بوضعه. وبعد، ففي القضية برهانٌ دامغ لما يفتريه أعداء السنَّة على الصحابة وعلى معاوية وعلى الرواة الذين وثَّقهم أئمة الحديث، وعلى أئمة الحديث، وعلى قواعدهم في النقد.
أما الصحابة رضي الله عنهم، ففي هذه القضية برهان على أنه لا مجال لاتهام أحد منهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ معاوية كان عشرين سنة أميرًا على الشام، وعشرين سنة خليفة، وكان في حزبه وفيمن يحتاج إليه جمعٌ كثير من الصحابة، منهم كثير ممن أسلم يوم فتح مكة أو بعده، وفيهم جماعةٌ من الأعراب، وكانت الدواعي إلى التعصّب له والتزلّف إليه متوفِّرة، فلو كان ثَمَّ مَساغ لأنْ يكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدٌ لقيه وسمع منه مسلمًا لأقدَمَ بعضُهم على الكذب في فضل معاوية، وجَهَر بذلك أمام أعيان التابعين، فينقل ذلك جماعةٌ ممن يوثّقهم أئمة السنَّة فيصحّ عندهم ضرورة. فإذا لم يصح خبر واحد= ثبتَ صحةُ القول بأن الصحابة كلّهم عدولٌ في الرواية، وأنه لم يكن منهم أحد مهما خَفَّت منزلته وقويَ الباعثُ له محتملًا منه أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما معاوية فكذلك، فعلى فرض أنه كان يسمح بأن يقع كذب على
النبيّ صلى الله عليه وسلم ما دام في فضيلة له، وأنه لم يطمع في أن يقع ذلك من أحد غيره ممن له صحبة، أو طمع ولكن لم يُجْدِهِ ترغيبٌ ولا ترهيبٌ في حَمْل أحد منهم على ذلك، فقد كان في وُسْعه أن يحدِّث هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حدَّث عدد كثير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضائل لأنفسهم وقَبِلَها منهم الناس ورووها وصحَّحها أئمة السنة.
ففي تلك القضية برهان على أن معاوية كان من الدين والأمانة بدرجة تمنعه من أن يفكِّر في أن يكذب أو يحمل غيره على الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مهما اشتدّت حاجتُه إلى ذلك. ومن تدبَّر هذا علم أن عدم صحة حديث عند أهل الحديث في فضل معاوية أدلّ على فضله من أن تصح عندهم عدة أحاديث.
وأما الرواة الذين وثقهم أئمة الحديث، فقد كان من حزب معاوية والموالين له عدد منهم، كان في وُسْعهم أن يكذبوا على بعض الصحابة الذين لقوهم ورووا عنهم، فيرووا عنه حديثًا أو أكثر في فضل معاوية [ص 65] وينشروا ذلك فيمن يليهم من الثقات فيصححه أهل الحديث. فعدم وقوع شيء مِن ذلك يدلّ على أنّ الرواة الذين يوثّقهم أئمة الحديث ثقات في نفس الأمر.
وأما أئمة الحديث، فهم معروفون بحُسْن القول في الصحابة عامة وخصومهم ينقمون عليهم ذلك، كما تراه في فصل عدالة الصحابة من كتاب أبي رية
(1)
، ويرمونهم بالنَّصْب ومحبة أعداء أهل البيت والتعصب لهم. وتلك القضية براءة لهم؛ فلو كانوا من أهل الهوى المُتَّبع لأمكنهم أن
(1)
(ص 310 ــ ط الأولى، 312 ــ ط السادسة). وانظر (ص 365) من كتابنا هذا.
يصحِّحوا عدةَ أحاديث في فضل معاوية، أو يسكتوا على الأقل عن التصريح بأن كلّ ما روي في ذلك غير صحيح.
وأما قواعدهم في النقد، فلا ريب أن نجاحها في هذا الأمر ــ وهو مِن أشدّ معتركات الأهواء ــ مِن أقوى الأدلة على وفائها بما وُضِعَت له.
وأما الشام، فلا ريب أن الموضوعات في فضلها كثيرة، ولكن ليس من الحق في شيء أن تُعد دلالة الخبر على فضلها دليلًا على وضعه، فإن فضلها ثابت بالقرآن، وكذلك الحال في بيت المقدس قال الله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. وأخبر الله عز وجل عن الشام بقوله: {الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 71] اقرأ (7: 136) و (21: 71 و 81) وبقوله: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ: 18].
وكذلك من الباطل أن تُعدّ دلالة الخَبَر على أمر بأنه سيقع دليلًا على وضعه ما دمنا نؤمن بأن محمدًا رسول الله يُطْلِعه الله مِن غَيبه على ما يشاء. فأما أن يكون مثل هذا مما يسترعي النظر ليبحث عن الخبر من جهة إسناده وما يتصل به ليحكم عليه بحسب ذلك فلا بأس.
وحديث: «الخلافة بالمدينة والملك بالشام» رواه هُشَيم (وهو ثقة يدلس) عن العوَّام بن حوشب (وهو ثقة) عن سليمان بن أبي سليمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3: 72) وقال: «صحيح على شرط مسلم» تعقبه الذهبي فقال: «سليمان وأبوه مجهولان» وهو في «تاريخ البخاري» (2/ 2/17) ذكر الجملة الأولى