الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحث الأول
في البرهان العقلي
الذي اعتمد عليه أبو ريَّة إذ قال: (إنَّ هذا القيد (متعمدًا)«لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق الخ» وقال: «وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها لمنافاة ذلك للعقل الخ» ).
أقول: ما عسى أن يقول أبو ريَّة في قول الله عزوجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، واقرأ (6: 93 و 144) و (7: 37) و (10: 17) و (11: 18) و (18: 15) و (29: 68) و (61: 70) كل هذه الآيات تذكر افتراء الكذب على الله، وافتراء الكذب هو تعمُّده، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على الكذب على الله، فلماذا لا يعقل أن يقيد النبي صلى الله عليه وسلم كما قيد القرآن؟
وقال الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]
(1)
وقد اعترف أبو ريَّة ص 8 بأنه ليس في وسع من سمع الحديث أن لا يقع منه في تبليغه خطأ البتة، وعبارته:(وتركه يذهب بغير قيد إلى أذهان السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر، الذي لا يستطيع إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه من سهو أو غلط أو نسيان). وإذا كان الله عزوجل لا يكلف نفسًا إلا وسعها فبماذا يستحق من وقع منه ما ليس في وسعه أن لا يقع أن يتبوأ منزلًا في جهنم؟ وقد علَّم الله عباده أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وما علَّمهم إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت في «الصحيح» أنّ الصحابة لما قالوها
(1)
واقرأ (2: 233) و (6: 152) و (7: 41) و (23: 62) و (65: 7)[المؤلف].
قال الله تعالى: «قد فعلتُ»
(1)
. وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال سبحانه:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. والمخطئ أولى بالعذر من المُكْره.
[ص 49] قد يقول أبو رية: كان للصحابة مندوحة عن الوقوع في الخطأ، وذلك بأن يَدَعوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة.
قلت: أنى لهم ذلك وهم مأمورون أن يبلغ شاهدهم غائبهم! كان ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، وكان أصحابه يبلِّغ بعضُهم بعضًا، وكانوا يتناوبون كما في «الصحيح» عن عمر: «كنت أنا وجار لي من الأنصار
…
وكنّا نتناوب النزولَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك
…
»
(2)
.
وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل والأمراء ويأمرهم أن يبلِّغوا مَن أُرسلوا إليهم، ويجيء أفراد من القبائل فيسلمون ويتعلمون ويسمعون ويرجعون إلى قبائلهم فيبلغونهم. وقد علموا أنّ محمدًا رسول الله
(1)
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (125)، ومن حديث ابن عباس (126) رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (89).
إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، وأنّ شريعته للناس كافة إلى يوم القيامة، وأن الله تعالى أمر الناس كافة باتباعه وطاعته والتأسّي به، وأخذ ما آتى والانتهاء عما نهى، وجعله المبيِّن عنه لما أنزله بقوله وفعله، وأنهم مأمورون بتبليغ الكتاب وبيانه، إذ كلّ ذلك دينٌ للناس كافة إلى يوم القيامة. وأنهم مأمورون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والدلالة على الخير، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده. وعلموا الوعيد الشديد على كتمان الحق، وكتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، مع علمهم بأنّ كتمان بيان الكتاب بمنزلة كتمان الكتاب. وحسبنا أنهم كانوا أعلم بالله ودينه وما لهم وعليهم، وأَتْبَع للحق وأحرص على النجاة من كلِّ من جاء بعدهم.
وقد حدَّث أفاضلهم وخيارهم ما بين مُكثر ومُقلّ، ولم يكن المقلُّ يَعيب على المكثر إلا أن يرى بعضهم أن الإكثار جدًّا خلاف الأَوْلى، وهذا عُمر الذي نُسِب إليه كراهية الإكثار قد جاءت عنه ــ مع تقدّم وفاته ــ أكثر من خمسمائة حديث، وله في «صحيح البخاري» وحده ستون حديثًا، وقد نسب إليه الوهم كما نُسِب إلى غيره. فالحق الذي لا يرتاب فيه عاقل أنهم كانوا مأمورين بالتبليغ عند الحاجة، مأذونًا لهم أن يحدِّثوا مطلقًا، مع العلم بشدّة حُرْمة الكذب في جميع الأحوال.
فمعنى ذلك أنّ عليهم ولهم أن يحدّثوا بما يعتقدون أنهم صادقون فيه، ومع العلم بأن أحدهم إذا حدَّث معتقدًا أنه صادق فقد يقع له خطأ، وإن من وقع له ذلك مع بذله وسعه في التحرّي والتحفُّظ فهو معذور، وهذا هو الذي تقتضيه القضايا العقلية والنصوص القرآنية، حتى لو فُرِض أنه لم يأت في الحديث [ص 50] لفظ «متعمِّدًا» ولا ما يؤدِّي معناه، فإن الأدلة القطعية
توجب أن يكون هذا مرادًا في المعنى.
ولا يتوهمنَّ أحدٌ أن كلمة «متعمّدًا» تخرج من حدَّث جازمًا وهو شاكّ، كلا فإن هذا متعمِّد بالإجماع، ولا نعلم أحدًا من الناس حتى من أهل الجهل والضلالة زعم أن كلمة «متعمدًا» تخرج هذا، وإنما وُجِد من أهل الجهل والضلال من تشبَّث بكلمة «عَلَيَّ» فقال: نحن نكذب له لا عليه
(1)
. فلو شكَّك أبو ريَّة في كلمة «عَلَيَّ» لكان أقرب.
وذكر أبو ريَّة ص 38 حديث الزبير، ودونك تلخيص حاله:
أشهر طرقه: رواية شعبة، عن جامع بن شدَّاد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن الزبير، رواه عن شعبةَ جماعةٌ بدون كلمة «متعمدًا» ، ورواه معاذ بن معاذ ــ وهو من جبال الحفظ ــ فذكرها.
فنظرنا في رواية غُنْدَر عن شعبة ــ فإن غُندرًا ضبط كتابه عن شعبة وعرضه عليه وحققه، قال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُندر حَكَمٌ بينهم
(2)
. فوجدنا الإمام أحمد رواه في «مسنده»
(3)
عن غُندر عن شعبة وفيه الكلمة «متعمدًا» . وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشَّار بُنْدار عن غُنْدَر، رواه ابن ماجه عنهما
(4)
. لكن في
(1)
وهو قول بعض الكرّامية والمتزهّدة. انظر «فتح الباري» : (1/ 199 ــ 200، 6/ 499)، و «علوم الحديث» (ص 99 ــ 100) لابن الصلاح، و «تدريب الراوي»:(1/ 334).
(2)
انظر «تهذيب التهذيب» : (9/ 85).
(3)
رقم (1413).
(4)
رقم (36).
«الفتح»
(1)
: أن الإسماعيلي أخرجه من طريق غُندر بدونها. وفي «الفتح»
(2)
: أن الزبير بن بكَّار روى الخبر في «كتاب النسب» من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير بدونها، ولا أدري كيف سنده. وكذلك أخرجه الدارمي
(3)
بدونها من طريق أخرى عن ابن الزبير، في سندها عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام. وقد أخرجه أبو داود
(4)
بسند صحيح عن عامر بن عبد الله بن الزبير بسنده وفيه الكلمة. وقال المنذري في «اختصاره لسنن أبي داود»
(5)
: «والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه (متعمدًا)» نظر فيه العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على «المسند»
(6)
فذكر أن ابن سعد روى الخبر في «طبقاته» (3/ 1/74)
(7)
عن عفّان ووَهْب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة. فذكر الحديث، وفي آخره:«قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال «متعمدًا» وأنتم تقولون «متعمدًا» رأى أحمد شاكر أن هذا من قول وهب بن جرير لزملائه الذين رووا معه عن شعبة، يريد وهب: والله ما قال شعبة الخ. فنِسْبتها إلى الزبير وَهْمٌ.
أقول: أما ظاهر قول ابن سعد: «قا ل وهب بن جرير في حديثه عن الزبير» فإنه يقتضي أن وهبًا ذكرها في الحديث نفسه. وفي «مشكل الآثار»
(1)
(1/ 200).
(2)
نفسه.
(3)
رقم (239).
(4)
رقم (3651).
(5)
(5/ 248).
(6)
(3/ 8) رقم (1413).
(7)
(3/ 99 ــ ط الخانجي).
للطحاوي (1/ 166)
(1)
: «حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا أبو داود ووهب بن جرير، حدثنا شعبة» فذكر الحديث وقال في آخره: «زاد وهب في حديثه: والله ما قال «متعمدًا» وأنتم تقولون: «متعمدًا» ، لكن يعلو على ذلك أن الحديث رُوِيَ من عدة طرق عن شعبة وغيره، وليس فيه هذه الزيادة «والله ما قال الخ» ولا هي موجودة في رواية غُندر عن شعبة، فيشبه أن تكون من كلام وهب قالها متصلة فحسبها السامع منه فقال:«قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير الخ» .
فأما قول ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (ص 49)
(2)
: «رُوي عن الزبير أنه [ص 51] رواه وقال: أراهم يزيدون فيه «متعمدًا» ، والله ما سمعته قال «متعمدًا» ، فأخشى أن يكون ابن قتيبة إنما أخذه من ابن سعد، وتغيير اللفظ من الرواية بالمعنى.
وعلى فرض صحّة هذه الزيادة عن الزبير فإنما يفيد ذلك خطأ مَن ذَكَر الكلمة في حديث الزبير، ثم تكون هذه الزيادة نفسها حجة على صحة الكلمة في الجملة؛ لأنّ الزبير ذكر أنه سمع إخوانه من الصحابة يذكرونها في الحديث، والظاهر كما تقدَّم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كرر التشديد في عدة مواقع، والحَمْل على أنه ترك الكلمة في موقع فسمعه جماعة منهم الزبير، وذَكَرها في موقع آخر فسمعه آخرون، أوضحُ وأحقُّ مِن الحَمْل على الغلط.
والغريب ما علقه أبو ريَّة في حاشية ص 39 من الهُجْر وفيه: (ولعنة الله على الكاذبين متعمّدين وغير متعمّدين، ومن يروّجه لهم من الشيوخ الحشويين) مع أنه
(1)
رقم (387 ــ ط الرسالة).
(2)
(ص 91 ــ المكتب الإسلامي).