الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسيحيات
[ص 95] وذكر ص 140: (المسيحيات في الحديث الخ).
وذكر تميمًا الداريَّ رضي الله عنه فافترى عليه، وعلّق في الحاشية أن تحوّله إلى الشام بعد قتل عثمان كان لتمكين الفتنة، والناس يعرفون أنه إنما أتاها لأنها وطنه.
وذكر ص 141 حديث الجسّاسة، وكلام صاحب «المنار»
(1)
فيه وقوله: (النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب
…
وكثيرًا ما صَدَّق المنافقين والكفار الخ).
أقول: قد مرّ (ص 19)
(2)
أنه لم يثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صدَّق كاذبًا، وإنما كان إذا احتمل عنده خبر إنسان أن يكون صدقًا وأن يكون كذبًا يبني على احتمال صِدْقه ما لا يرى ببنائه عليه بأسًا. والفرق بين القضايا التي تقدمت هناك وبين خبر الجسَّاسة عظيم جدًّا.
والأحاديث الثابتة في شأن الدجّال كثيرة، ويُعلم منها أن كثيرًا من شأنه خارج عن العادة. وكما أن الملائكة قد يأذن الله لهم فيتمثَّلون بشرًا يراهم من حَضَر، ثبت ذلك بالقرآن في قصة الملائكة مع إبراهيم ومع لوط، وفي تمثّل المَلَك لمريم وغير ذلك، وثبت في السنة في عدة أحاديث، فكذلك قد يأذن الله تعالى للشياطين ــ لحكمة خاصة ــ فيتمثلون في صور يراها مَنْ حَضَر.
فأما الجسّاسة فشيطان، وأما الدجّال فقد قال بعضهم: إنه شيطان، وعلى هذا فلا إشكال. كشف الله تعالى لتميم وأصحابه فرأوا الدجال
(1)
(19/ 99 ــ 100).
(2)
(ص 38 ــ 39).
وجساسته وخاطبوهما، ثم عاد حالهما إلى طبيعة الشياطين من الاستتار. وإن كان الدجال إنسانًا فلا أرى ذاك إلا شيطانًا مثل في صورة الدجال؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في أواخر حياته:«أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد»
(1)
. انظر «فتح الباري» (2: 61)
(2)
. والحكمة في كشف الله تعالى لتميم وأصحابه عما كشف لهم عنه أن يخبروا بذلك فيكون موافقًا لما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخبر به، فيزداد المسلمون وثوقًا به. وهذا بيِّن في الحديث؛ إذ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذكره لتميم:«وحدثني حديثًا وافق الذي كنتُ أحدثكم عن مسيح الدجال» ثم قال: «ألا هل كنتُ حدَّثتكم ذلك؟» فقال الناس: نعم. فقال: «فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة» .
وقال ص 144: (ومن المسيحيات في الحديث: ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن [ص 96] في الحجاب. وفي رواية .... إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا، غير مريم وابنها
…
». ثم قال: «وفِقْهُ هذا الحديث الذي سمعه الصحابي الجليل
…
حتى الرسل نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وعلى جميع النبيين. فانظر واعجب).
أقول: أما المؤمن فيعجب من جرأة أبي ريَّة وتحكّمه بجهله على ربّ العالمين أحكم الحاكمين عالم الغيب والشهادة. إن هؤلاء الرسل نُبِّئوا بعد أن بَلَغَ كلٌّ منهم أربعين سنة، وقد آتى الله تعالى يحيى وعيسى النبوّة في
(1)
أخرجه البخاري (116)، ومسلم (2537) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
لم أجد في الموضع المشار إليه شيئًا، فلعله وقع خطأ في الإحالة. وانظر (10/ 556).
صباهما، وقال الله تعالى في مريم وعيسى:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 29 - 33] هل يجحد أبو ريَّة هذا؟ أم يجحد قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 75 - 76] الآيات؟ وقول الله تعالى لخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ونحوها من الآيات؟ أما المؤمنون فيؤمنون بهذا كله، ويؤمنون بأنبياء الله كلهم، لا يفرِّقون بين أحد منهم ولا يخوضون في المفاضلة بينهم اتباعًا للهوى. وأرجو أن لا يكون من ذلك ما يلجئ إليه مقتضى الحال هنا مما يأتي.
إن الفضل الذي يعتدّ به كمالًا تامًّا للإنسان هو ما كان بسعيه واجتهاده، ومن هنا كان فضل الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام. أما طعن الشيطان بيده فليس مِن شأنه أن يُثاب العبد على سلامته منه ولا أن يعاقَب على وقوعه له، بل إن كان من شأنه أن يورث في نفس الإنسان استعدادًا ما لوسوسته، فالذي يناله ذلك ثم يجاهد بسعيه ويخالف الشيطان ويتغلَّب علىه أَوْلى بالفضل ممن لم يَنَلْه.
ثم ذهب ــ قاتله الله ــ يسخر من حديث شقّ صدره صلى الله عليه وسلم، قال: (ولم يقفوا
عند ذلك [ص 97] بل كان من رواياتهم أن النبيّ لم ينج من نخسة الشيطان إلا بعد أن نفذت إلى قلبه، وكان ذلك بعملية جراحية
…
وكأن العملية الأولى لم تنجح فأعيد شقّ صدره
…
).
أقول: لم يكن شقّ الصدر لإزالة أثر النّخْسَة كما زعم، وإنما كان لتطهير القلب من شيء يخلق لكلّ إنسان بمقتضى أنه خُلِق ليبتلى. أما تكراره فقد أنكره بعضهم كما في «الفتح»
(1)
حملًا لما ورد من ذلك على خطأ بعض الرواة. وفي «صحيح مسلم»
(2)
ذِكْر وقوعه في الطفولة وعند الإسراء، وقال في الأول: «أتاه جبريل
…
فاستخرج منه عَلَقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله
…
». وقال في حديث الإسراء: «فنزل جبريل ففتح صدري ثم غسله
…
، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغها في صدري». فليس في الثاني ذِكْر إخراج القلب ولا إخراج عَلَقة منه، ولا ذكر حظ الشيطان، وإنما فيه ذكر الصدر وزيادة ذكر إفراغ الحكمة والإيمان فيه، فتبيَّن أن المقصود ثانيًا غير المقصود أولًا، وأن كلًّا من المقصودَيْنِ مناسب لوقت وقوعه.
وفي «الفتح»
(3)
(1)
(7/ 204).
(2)
(163).
(3)
(7/ 206).
أقول: وحكمة عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى أدقُّ وأخفى من أن يحيط بها البشر.
قال أبو ريَّة ص 146: (وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح عليه السلام، وهو لم يرتكب ذنبًا يستوجب هذا الصلب، وإنما ذكروا ذلك ليغفر الله خطيئة آدم
…
).
أقول: شقُّ الصدر لم يؤلمه صلى الله عليه وسلم البتة، وليس هو لتكفير ذنبه ولا ذنب غيره، فأين هو ــ قاتلك الله ــ من خرافة الصَّلْب؟
قال: (ولئن قال المسلمون
…
ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية
…
، قيل لهم: ولِم لم يخلق الله قلب رسوله الذي اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه المرسلين؟ ).
أقول: أما المسلمون فلا يقولون ما زعمتَ، وإنما يقولون: كيف يذنب آدم وهو عبد من عبيد الله فيعاقب الله عيسى، وهو عند زاعمي ذلك «ابن الله الوحيد» بتلك العقوبة القاسية التي تألّم [ص 98] لها عيسى بزعمهم أبلغ الألم، وصرخ بأعلى صوته:«إيلي إيلي، لِمَ شبقتني» أي: إلهي إلهي لِمَ تركتني؟
ثم من أين علمتَ أن قلوب سائر المرسلين لم تُخلق كما خُلق قلب محمد؟ فقد تكون خُلِقت سواء وخُصَّ محمد بهذا التطهير أو طهرت أيضًا بهذه الوسيلة أو غيرها {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وعلَّق ص 144 بحكاية شيء من هَذَر القسوس، وفيما تقدم كفاية.
وقال ص 147: (ولا أدري والله أين ذهبوا مما جاء في سورة الحجر الخ).
أقول: فأين يذهب أبو ريَّة من تَدْلية الشيطان لآدم إلى أن كان ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ومِن قول موسى بعد قتله القبطي: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 15 - 16]، ومن قول أيوب:{مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [? ص: 41]، وقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 199 - 201]. أما آية الحجر فعلى المشهور أن المراد بقوله: {إِنَّ عِبَادِي} [الحجر: 42] عباده المخلصون خاصة، فقوله:{لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] معناه والله أعلم: لن تُسَلَّط على إغوائهم الإغواء اللازم، لأن الكلام فيه لتقدم قوله:{لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [? ص: 82] وهذا لا ينافي أن يُسلَّط على بعضهم لإغواء عارض، أو لإلحاق ضرر لا يضر الدين.
ثم ذكر ص 147 ــ عن الرازي وغيره ــ: أن الخبر على خلاف الدليل لوجوه (أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك).
أقول: ومن قال: إنّ النخسة دعاء إلى الشر؟ بل إن كانت للإيلام فقط فذلك من خُبْث الشيطان، مُكِّنَ منها كما مُكِّن مما أصاب أيوب، وكما يمكَّن الكفار من قتل المسلمين ــ حتى الأنبياء ــ وذبح أطفالهم. وإن كانت لإحداث أمرٍ مِن شأنه أن يورث القلب قبولًا ما للوسوسة بعد الكِبَر، فهذا لا يستدعي معرفة الخير والشر في الحال، والتمكين من هذا كالتمكين من الوسوسة والتزيين، وذلك من تمام أصل الابتلاء.
[ص 99] قال: (الثاني: أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم).
أقول: من أين يلزم من التمكّن مِن حَمْل رجل، التمكّن مِن حمل جبل؟ والشيطان لا يتمكَّن إلا إن مكَّنه الله تعالى، فإذا مكَّنه الله تعالى من أمر خاص فمن أين يلزم تمكّنه من غيره؟
قال: (والثالث: لِمَ خُصَّ بهذا الاستثناء مريم وعيسى
…
)؟
أقول: قد تقدَّم الجواب عن هذا
(1)
.
قال: (الرابع: أن ذلك النخس لو وُجِد لبقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء).
أقول: أرأيت إذا عركت أذن الطفل فأَلِمَ وبكى، أيستمر الألم والبكاء؟
ثم ذكر عن الشيخ محمد عبده كلامًا فيه: (فهو من الأخبار الظنية لأنها من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمانُ بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا).
أقول: لا نزاع أن الدليل الظنيّ لا يوجب الإيمان القاطع، لكنه يوجب التصديق الظنيّ، وكيف لا وظنّ ثبوت الدليل يوجب ضرورةً ظنّ ثبوت المدلول. أما قوله تعالى:{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فلي فيه بحثٌ طويل حاصله
(2)
: أن تدبُّر مواقع «يغني» في القرآن وغيره، وتدبّر
(1)
(ص 187 ــ 188).
(2)
انظره في «رسائل التفسير» (ص 292 - 302)، وله أيضًا كلام طويل فيه في رسالة «فرضية اتباع السنة» ضمن رسائل الأصول. كلاهما ضمن هذه الموسوعة.
سياق الآية؛ يقضي بأن المعنى: إنّ الظن لا يدفع شيئًا من الحقّ، وبعبارة أهل الأصول: الظني لا يُعارِضُ القطعي
(1)
.
قال ص 148: (ابن جريج الخ).
أقول: راجع (ص 68)
(2)
.
ثم قال: (ومن شاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين الإسلامي فليرجع إلى التفسير والحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال جولد زيهر وفون كريمر وغيرهما).
أقول: هذا موضع المثل: «صَدَقَني سِنَّ
(3)
بَكْرِه». وقوله: (في الدين الإسلامي) لها مغزاها، فأبو ريَّة ــ كما تعطيه هذه الكلمة والله أعلم ــ يرى في القرآن نحو ما جَهَر به في الحديث، وتقديمه لجولد زيهر اليهودي يؤيد ما قدمته (ص 94)
(4)
، وكُتُب جولد زيهر في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم معروفة
(5)
، وقد أحالك أبو ريَّة عليها، والله المستعان.
(1)
وانظر ما يأتي ص 176 [ص 335 ــ 337]. [المؤلف].
(2)
(ص 133) والحاشية.
(3)
تحرف في (ط): «من» . والمثل يُضرب لمن يخبرك بِسِرِّه. وفيه قصة. انظر «المستقصى» : (2/ 140)، و «فصل المقال» (ص 40 ــ 41). ويجوز في «سن» الرفع والنصب.
(4)
(ص 183 ــ 184).
(5)
انظر «السنة ومكانتها» (ص 189 ـ فما بعدها) للسباعي، في نقد جولد زيهر وطعونه في القرآن والسنة.
[ص 100] أبو هريرة
وقال أبو ريَّة ص 151: (أبو هريرة: لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام كالقرآن لا يقوم إلا عليها ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كلّ مسلم أن يعرفها ويتبع ما فيها، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه الأحاديث لكي تؤثر بعده، لكان أكثر الصحابة رواية لها أعلاهم درجة في الدين
…
).
أقول: قدمنا الكلام في نظرية: «دين عام ودين خاص» (ص 14 - 17)، و (ص 31 - 35)
(1)
. ولم يوجب الله تعالى على كلّ مسلم معرفة القرآن نفسه سوى الفاتحة لوجوبها في الصلاة. وأمّا الاتباع: فطريقته أن العلماء يعرفون ويجتهدون، والعامة تسألهم عند الحاجة، فيفتونهم بما علموا من الكتاب والسنة. وكان الصحابة مأمورين بأن يبلِّغ كلٌّ منهم عند الحاجة ما حفظه، والذين حفظوا القرآن كلَّه في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ليسوا مِنْ أكابر الصحابة، وقد مات أبو بكر وعمر قبل أن يستوفي كلٌّ منهما القرآنَ حفظًا
(2)
.
وكان هناك عملان: الأول: التلقي من النبيّ صلى الله عليه وسلم، الثاني: الأداء، فأما التلقّي فلم يكن في وُسع الصحابة أن يلازموا النبيّ صلى الله عليه وسلم ملازمةً مستمرَّة، وإذ كان أنس وأبو هريرة ملازمين للنبيّ صلى الله عليه وسلم لخدمته فلابدّ أن يتلقّيا مِن الأحاديث أكثر مما تلقاه المشتغلون بالتجارة والزراعة.
على أن أبا هريرة لحرصه على العلم تلقَّى ممن سبقه إلى الصُّحبة ما عندهم من الأحاديث، فربما رواها عنهم وربما قال فيها: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
» كما شاركه غيره منهم في مثل هذا الإرسال لكمال وثوق بعضهم ببعض،
(1)
(ص 29 ــ 36، وص 61 ــ 69).
(2)
انظر ما سبق (ص 63).
وقد ثبت أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة فقال: «لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك لما رأيت من حرصك على الحديث،
…
» أخرجه البخاري في «صحيحه»
(1)
، وتأتي أخبار كثيرة لإثبات هذا المعنى.
وأما الأداء فإنما عاش أبو بكر زمن الأداء نحو سنتين مشغولًا بتدبير أمور المسلمين، وعاش عمر مدَّة أبي بكر مشغولًا بالوزارة والتجارة، وبعده مشغولًا بتدبير أمور المسلمين. وفي «المستدرك» (98: 1)
(2)
: أنَّ معاذ بن جبل أوصى أصحابه أن يطلبوا العلم وسمَّى لهم: أبا الدرداء وسلمان وابن مسعود وعبد الله بن سلام. فقال يزيد بن عَميرة: وعند عمر بن الخطاب؟ فقال معاذ: «لا تسأله عن شيء، فإنه عنك مشغول» . وعاش عثمان وعليّ مشغولَيْنِ بالوزارة وغيرها ثم الخلافة [ص 101] ومصارعة الفتن.
وكان الراغبون في طلب العلم يتهيَّبون هؤلاء ونظراءهم، ويرون أن جميع الصحابة ثقات أُمناء، فيكتفون بمن دون أولئك، وكان هؤلاء الأكابر يرون أنه لا يتحتَّم عليهم التبليغ إلا عندما تدعو الحاجة، ويرون أنه إذا
(3)
جرى العمل على ذلك فلن يضيع شيء من السنة؛ لأن الصحابة كثير، ومدة بقائهم ستطول، وعروض المناسبات التي تدعو الحاجة فيها إلى التبليغ كثير، وفوق ذلك فقد تكفَّل الله عز وجل بحفظ شريعته، وكانوا مع ذلك
(1)
(99).
(2)
أصله عند الترمذي (3804)، والنسائي «الكبرى» (8196)، وأحمد (22104)، وابن حبان (7165) وغيرهم دون قوله: «فقال يزيد بن عَميرة: وعند عمر
…
» قال الترمذي: حسن غريب، وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
(3)
(ط): «إذ» .
يشدّدون على أنفسهم خشية الغلط، ويرون أنه إذا كان من أحدٍ منهم خطأ وقت وجوب التبليغ فهو معذور قطعًا، بخلاف من حدَّث قبل الحاجة فأخطأ، وكانوا مع ذلك يحبون أن يكفيهم غيرهم، ومع هذا فقد حدَّثوا بأحاديث عديدة، وبلغهم عن بعضهم أنه يكثر من التحديث فلم يزعموا أنه أتى منكرًا، وإنما حُكي عن بعضهم ما يدل أنه يرى الإكثار خلاف الأَوْلَى. فأما زعمُ أبي ريَّة أنهم كانوا (يرغبون عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها .. ) فقد تقدم تفنيده (ص 30)
(1)
.
وذكر أبو ريَّة كثرةَ حديث أبي هريرة وقال ص 152: (على حين أنه كان من عامة الصحابة، وكان بينهم لا في العير ولا في النفير) وسَيَبْسط هذا ص 184 وننظر فيه
(2)
.
وقال ص 152: (الاختلاف في اسمه الخ).
أقول: وماذا يضره ذلك؟ إنما المقصود من الاسم المعرفة وقد عُرِف بأبي هريرة، وأصحّ ما قيل في اسمه: عبد الله أو عبد الرحمن، وهو على ما نسبه ابنُ الكلبي وغيره
(3)
: ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبّه بن سعد بن ثعلبة بن سُليم بن فَهْم بن غَنْم بن دوس بن عُدْثان بن عبد الله بن زَهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأَزْد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان الأزدي ثم الدوسي، وأمه: أُميمة بنت صفيح بن الحارث بن سابي بن أبي صعب الخ.
(1)
(ص 59 ــ 60).
(2)
انظر (ص 282 فما بعدها).
(3)
انظر «نسب معد واليمن الكبير» : (2/ 492)، و «الجمهرة» (ص 381 ــ 382) لابن حزم.
قال ص 153: (نشأته وأصله
…
لم يعرفوا شيئًا عن نشأته ولا عن تاريخه قبل إسلامه غير ما ذكر هو عن نفسه
…
: نشأت يتيمًا وهاجرت مسكينًا وكنت أجيرًا لبُسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رِجْلي، فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدوا إذا ركبوا، وكنيت بأبي هريرة بهرَّةٍ صغيرة كنتُ ألعب بها).
[ص 102] أقول: أما أصله فقد تقدم، وهو من قبيلة شريفة كريمة عزيزة. وأما نشأته فما أكثر الصحابة الذين لا تُعرف نشأتهم، حتى من خيارهم وكبارهم. وأما قوله:«نشأتُ يتيمًا الخ»
(1)
فهذه القصة رُويت من أوجه في إسناد كلٍّ منها مقال، ومجموعها يُثْبت أصلَ القصة، فأما الألفاظ التي تنفرد بها بعض الروايات فلا، وفي «الإصابة»
(2)
: أن بُسْرة هذه أخت عتبة بن غزوان السلمي. وبلاد دوس بعيدة جدًّا عن بلاد بني سُليم، فيظهر أن أبا هريرة في هجرته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مرَّ ببلاد بني سُليم أو قريبًا منها، فوجد رفقة راحلين نحو المدينة وفيهم بُسْرة هذه، فصحبهم على أن يخدمهم في الطريق ويطعموه ويُعْقِبوه. ولا يدفع هذا ما ثبت عنه في «صحيح البخاري»
(3)
مِن قوله: «لما قدمتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق:
يا ليلةً من طولها وعنائها
…
على أنها من دارة الكفر نَجَّت
قال: وأَبَقَ لي غلام في الطريق، فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فبَيْنَا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال:«يا أبا هريرة هذا غلامك» ، فقلتُ: هو حرٌّ
(1)
أخرج القصة ابن ماجه (2445)، وابن حبان (7150)، والبيهقي:(6/ 120) وغيرهم. وفي سندها حيان بن بسطام بن مسلم لم يوثقه غير ابن حبان.
(2)
(7/ 537).
(3)
(2530، 2531).
لوجه الله. فأعتقته» انظر «فتح الباري» (8/ 79)
(1)
فقد يكون الغلامُ أبقَ منه قبل صحبته للرفقة.
وبهذا تبَّين أن في القصة مَنْقَبتَيْنِ له: الأولى: أن إخدامه لنفسه إنما كان ليبلغ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ودار الإسلام. والثانية: أنه مع قلة ذات يده أعتق غلامه، شكرًا لله تعالى على إبلاغه مقصده. وفي القصة عبرة بالغة، فإنه لما أذلَّ نفسَه بخدمة تلك المرأة استعانةً على الهجرة في سبيل الله عوَّضه الله تعالى بأن زوَّجه إياها تخدمه فوق ما خَدَمها. ثم كان على طريقته في التواضع والتحديث بالنعمة والاعتبار مع الميل إلى المزاح يذكر هذه القصة ويشير إلى تكليف امرأته بخدمته على نحو ما كانت تكلِّفه. وقد يكون وقع منه ذلك مرة أو مرتين على سبيل المزاح ومداعبة الأهل وتحقيق العبرة. وقد ثبت عن أبي المتوكل الناجي ــ وهو ثقة ــ:«أن أبا هريرة كانت له أَمَة زنجية قد غمَّتهم بعملها، فرفع عليها السوط يومًا ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوجَ ما أكونُ إليه (يعني الله عز وجل اذهبي فأنت حرة لله عز وجل» انظر «البداية» (112: 8)
(2)
.
فمَنْ كانت هذه حاله مع أَمةٍ مهينة، فما عسى أن تكون حاله مع امرأته الحرَّة الشريفة؟ ولكن أبا ريَّة ذكر ص 187 بعض الألفاظ التي انفردت بها بعض الروايات
(3)
، ثم راح يسبّ أبا هريرة رضي الله عنه ويرميه بما هو من
(1)
(8/ 102).
(2)
(11/ 385 ــ دار هجر). وأخرجه أحمد في «الزهد» (ص 177).
(3)
منها: «فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية» وأصح من هذه الرواية ما في «كنز العمال» (82: 7) عن عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين «فقلت: لتوردنه حافية ولتركبنه وهو قائم» . وأصح من هذا: ما أسنده ابن سعد في «الطبقات» (532: 4) عن ابن سيرين «
…
ولتركبنه قائمة» فلعل بعض الرواة لم يفهم النكتة فغيَّر اللفظ، وأي حرج عليها أن تركب البعير باركًا وهي قائمة عند الركوب وتكون حافية وهي راكبة؟ وفي رواية عبد الرزاق قول ابن سيرين:«وكانت في أبي هريرة مزاحة» وقد يكون مازَحَها بهذا القول، ثم لم يكن إيراد ولا ركوب. [المؤلف].
أبعد الناس عنه.
[ص 103] وهذا مما يوضِّح أن أبا ريَّة ليس بصدد بحثٍ علمي، إنما صدره محشوٌّ براكين من الغيظ والغِلّ والحقد، يحاول أن يخلق المناسبات للترويح عن نفسه منها، كأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل في أصحاب نبيه:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ولا يصدّق بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأُمه: أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين كما في ترجمته في فضائل الصحابة من «صحيح مسلم»
(1)
.
وقال ص 153: (إسلامه. قَدِم أبو هريرة بعد أن تخطَّى الثلاثين من عمره).
أقول: كذا زعم الواقدي عن كثير بن زيد عن الوليد بن أبي رياح عن أبي هريرة. والواقدي متروك، وكثير ضعيف، وقد قال الواقدي نفسه: إن أبا هريرة مات سنة 59 وعمره 78
(2)
، ومقتضى هذا أن يكون عمره عند قدومه سنة سبع نحو ست وعشرين سنة، وهذا أشبه. والله أعلم.
وفي الصحابة الطُّفيل بن عَمْرو الدوسي، وهو من رهط أبي هريرة بني ثعلبة بن سُليم بن فَهْم، أسلم قبل الهجرة وقصته مطولة في السيرة وغيرها،
(1)
(2491).
(2)
انظر «الطبقات الكبرى» : (5/ 257) لابن سعد.
وفي ترجمته من «الإصابة»
(1)
: أنه لما عاد بعد إسلامه إلى قومه ــ وذلك قبل الهجرة بمدة ــ دعا قومه إلى الإسلام فلم يجبه إلا أبوه وأبو هريرة. فعلى هذا يكون إسلام أبي هريرة قبل الهجرة، وإنما تأخرت هجرته إلى زمن خيبر.
وذكر أبو ريَّة ص 153 مقاولةَ أبي هريرة وأبان بن سعيد بن العاص وقول أبان: «واعجبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى علينا من قدوم ضأن» وعلَّق في الحاشية (الوبر دابة
…
والمعنى أن أبا هريرة ملتصق في قريش، وشبَّهه بما يعلق بوبر الشاة). وهذا من تحقيق أبي ريَّة! وليس أبو هريرة من قريش في شيء لا مُلْصق ولا غير مُلْصق. وقوله:(وشَبَّهه) يقتضي أن الرواية (وَبَر) بالتحريك، ولو كان كذلك لما بقي لقوله:(الوبر دابة .. ) معنى، وعلَّق أيضًا:(ومما يلفت النظر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ أبانًا بما أغلظ لأبي هريرة) وأقول: ليس ذاك بإغلاظ، مع أنه إنما كان جوابًا ومكافأة.
وقال ص 154: (ولفقره اتخذ سبيله إلى الصُّفَّة، فكان أشهر مَنْ أَمَّها، ثم صار عريفًا لمن كانوا يسكنونها) وعلَّق عليها عن أبي الفداء تعريفًا لأهل الصّفُّة كما توهَّم، وقد عرَّفهم أبو هريرة رضي الله عنه التعريفَ الحقَّ فقال كما في «الصحيحين» وغيرهما
(2)
: «وأهل الصفة أضياف الإسلام [ص 104] لا يأوون على أهل ولا مال الخ» . وقد قال الله تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 273]. كان للأنصار
(1)
(3/ 522).
(2)
البخاري (6452)، ولم أجده في مسلم، وأخرجه أحمد (10679)، والترمذي (2477).
حوائط يعملون فيها ويأكلون من غلَّتها، وكان كثير من المهاجرين يتاجرون. ومن الواضح أنَّ التجارة في المدينة ــ وهي مَحوطة بالمشركين من كلِّ جانب ــ لم تكن لتتسع للمهاجرين كلهم، فبقي بعضهم بالصُّفَّة، وكان أهل الصُّفة يقومون بفروض عظيمة، منها: تلقِّي القرآن والسنن، فكانت الصُّفة مدرسة الإسلام، ومنها حراسة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنها الاستعداد لتنفيذ أوامره وحاجاته في طلب من يريد طلبه من المسلمين وغير ذلك. كانوا قائمين بهذه الفروض عن المسلمين، فكانت نفقتهم على سائر المسلمين وإن سُمِّيَت صدقة. وكانوا بجوار النبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤْثرهم على نفسه وأهل بيته، وقد حدَّث عليّ رضي الله عنه أنه قال لفاطمة عليها السلام يومًا: «والله لقد سنوتُ حتى لقد اشتكيتُ صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي
…
» الحديث، وفيه أنهما أتيا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال: «والله لا أعطيكما وأدعُ أهلَ الصُّفَّة تطوي بطونُهم لا أجد ما أنفق عليهم
…
» الحديث، انظر «مسند أحمد» الحديث (838)
(1)
. وكان أبو هريرة من بين أهل الصُّفَّة يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم ويدور معه، فلم يكن ليجوع إلا والنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جياع، فهل في ذلك الجوع من عيب؟
وأمّا تعُّرضه لبعض الصحابة رجاء أن يطعمه، فإنما فعل ذلك مرة أو مرتين لشدَّة الضرورة، ولم يكن في تعرّضه سؤال ولا ذكر لجوعه. وقد نقل الله تعالى في كتابه أن موسى والخضر مرَّا بأهل قرية فاستطعماهم
(2)
، وانظر
(1)
وأخرجه ابن أبي شيبة (29956)، وابن ماجه (4152) وغيرهم. وانظر حاشية المسند:(2/ 203).
(2)
الآية (77) من سورة الكهف.
تفسير سورة التكاثر من «تفسير ابن كثير»
(1)
.
هذا، وقد عدّ أهل العلم ــ كما في «الحلية»
(2)
ــ جماعةً من المشاهير في أهل الصُّفَّة، منهم: سعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وزيد بن الخطَّاب، وعبد الله بن مسعود، وصُهَيب، وسلمان، والمِقْداد وغيرهم.
ثم قال أبو ريَّة ص 154: (سبب صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم. كان أبو هريرة صريحًا صادقًا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم
…
فلم يقل إنه صاحبه للمحبة والهداية كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين، وإنما قال: إنه قد صاحبه على ملء بطنه، ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول [ص 105]: «إني كنت امرءًا مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني» . ورواية مسلم «أخدم رسول الله» وفي رواية: «لشبع بطني» ).
أقول: حاصل هذا أنّ الواقع في رواية الإمام أحمد والبخاري: «أصحب» وهذا خلاف الواقع، فرواية أحمد وهو الحديث (7273)
(3)
: «حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مِلءِ بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم
…
».
(1)
(8/ 3847 ــ 3850).
(2)
(1/ 92، 100، 367، 124، 151، 185، 172) على التوالي.
(3)
(7275) ط. الرسالة.
ولفظ البخاري في «صحيحه»
(1)
في كتاب الاعتصام ــ باب الحجَّة على مَن قال: إن أحكام النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة الخ. «حدثنا عليّ حدثنا سفيان عن الزهري أنه سمعه
(2)
مِن الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ». وأخرجه البخاري في مواضع أخرى من وجوه أخرى عن الزهري وفيه:«ألزم»
(3)
، وفي موضع:«أن أبا هريرة كان يلزم»
(4)
.
فأبو هريرة لم يتكلم عن إسلامه ولا هجرته ولا صحبته المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، وإنما تكلَّم عن مزيّته وهي لزومه للنبيّ صلى الله عليه وسلم دونهم، ولم يعلِّل هذه المزيّة بزيادة محبته أو زيادة رغبته في الخير أو العلم أو نحو ذلك مما يجعل له فضيلة على إخوانه، وإنما علَّلها على أسلوبه في التواضع بقوله:«على ملء بطني» فإنه جعل المزية لهم عليه بأنهم أقوياء يسعون في معاشهم وهو مسكين. وهذا والله أدب بالغ تخضع له الأعناق، ولكنّ أبا ريَّة يهتبل تواضع أبي هريرة ويبدل الكلمة ويحرف المعنى، ويركّب العنوانَ على تحريفه، ويحاول صرف الناظر عن التحرِّي والتثبُّت بذكره رواية مسلم؛ ليوهم أنه قد تحرَّى الدقَّة البالغة، ويبني على صنيعه تلك الدعوى الفاجرة
(5)
.
(1)
(7354).
(2)
(ط): «سمع» ، والمثبت من البخاري.
(3)
(2047).
(4)
(118).
(5)
وقد قال أبو ريَّة في حاشية ص 39: «لعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين» . [المؤلف].
وقد تقدَّم
(1)
أن أبا هريرة أسلم في بلاده قبل الهجرة، لماذا؟ ثم ترك وطنه للهجرة مؤجِّرًا نفسه في طريقه على طُعْمته وعُقْبته، لماذا؟ ولمَّا شاهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم وجاء غلامُه الذي كان أبق منه أعتقه، لماذا؟ وتقدم (ص 100)
(2)
شهادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنه أحرص الصحابة على معرفة حديثه، لماذا؟ قال ابن كثير:«وقال سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا تسألني مِنْ هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟» [ص 106] قال: فقلت: أسألك أن تعلّمني مما علّمك الله .. » «البداية» (111: 8)
(3)
، لماذا؟ وتقدم (ص 46)
(4)
قول عمر بن الخطاب: «خفي عليَّ هذا مِنْ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفقُ بالأسواق» . وقال طلحة بن عبيد الله لما سئل عن حديث أبي هريرة: «والله ما نشكُّ أنه قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعَلِم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرَفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشكّ أنه قد عَلِم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع»
(5)
«البداية» (8: 109)
(6)
. وحدَّث أبو أيوب ــ وهو من كبار الصحابة ــ عن أبي
(1)
(ص 199).
(2)
(ص 194).
(3)
(11/ 382 ــ دار هجر). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» : (1/ 381).
(4)
(ص 89).
(5)
و «المستدرك» 3: 512 وقال: صحيح على شرط الشيخين، واقتصر الذهبي على أنه على شرط مسلم. [المؤلف]. وأخرجه أيضًا البزار:(3/ 147)، وأبو يعلى في «مسنده» (636)، والضياء في «المختارة»:(1/ 418).
(6)
(11/ 376 ــ دار هجر).
هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقيل له في ذلك؟ فقال:«إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع» «البداية» (109: 8)
(1)
. وحدَّث أبو هريرة بحديث، فاستثبته ابن عمر فاستشهد أبو هريرة عائشةَ فشهدت، فقال أبو هريرة: إنه لم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الوَدِيّ ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمةً يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت أَلْزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه» «البداية» (8: 109)
(2)
. وقالت عائشة لأبي هريرة: أكثرت الحديث.
قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكني أرى ذلك شَغَلكِ عما استكثرتُ من حديثي، قالت: لعله. «البداية» (109: 8)
(3)
.
فأنت ترى اعترافهم له، وترى أنّ أدبه البالغ المتقدِّم لم يكن تقية، فإنه لما اقتضى الحال صَدَعَ صَدْعَ الواثقِ المطمئنّ.
ثم ذكر أبو ريَّة ص 155 قول أبي هريرة: (كنت أستقرئ الرجلَ الآيةَ وهي معي كي ينقلب فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا). ثم قال أبو رية: (ومن أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعًا .. أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب).
(1)
(11/ 376).
(2)
و «المستدرك» 510: 3 وقال: «صحيح» ، وأقره الذهبي. [المؤلف]. و «البداية»:(11/ 373).
(3)
وانظر «المستدرك» 509: 3 وقال: «صحيح» ، وأقره الذهبي. [المؤلف]. و «البداية»:(11/ 374). والوَدِيّ: صغار النخل.
أقول: إسناده صحيح إلا أنه غريب، ومن تدبَّر ترجمة جعفر رضي الله عنه لم يستكثر عليه هذا، وفي [ص 107] «فتح الباري» (62: 7)
(1)
في شرح قوله: «وكان أَخْيَر الناس للمساكين» ، ما لفظه: «وهذا التقييد يُحمَل عليه المطلق الذي جاء
…
عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال .. ».
ثم ذكر ص 156 - 157 حكايات عن الثعالبي والبديع الهَمَذاني وعبد الحسين بن شرف الدين الرافضي، وكلّها من خرافات الرافضة وأشباههم، لا تمتُّ إلى العلم بِصِلَة.
ثم قال آخر ص 157: (وأخرج أبو نعيم في «الحلية» الخ).
أقول: هو من طريق فَرْقَد السَّبَخي قال: وكان أبو هريرة الخ، وفَرْقد ليس بثقة، ولم يدرك أبا هريرة
(2)
.
وقال ص 158: (وفي «الحلية» كذلك: أن أبا هريرة كان في سفر فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه وهو يصلي فقال: إني صائم، فلما كادوا يفرغون، جاء فجعل يأكل الطعام، فنظر القوم إلى رسولهم
…
فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صوم رمضان، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر: صوم الدهر، وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر، فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله).
أقول: هذه فضيلة له، وقد وقع مثلها لأبي ذر رضي الله عنه «مسند أحمد» (150: 5)
(3)
وغيره، وهو الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أظلَّت
(1)
(7/ 76).
(2)
انظر «تهذيب التهذيب» : (8/ 262 ــ 264).
(3)
(21339). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (9152).
الخضراء ولا أقلَّت الغبراء مِنْ ذي لهجةٍ أصدق مِنْ أبي ذر»
(1)
.
قال: (وفي «خاص الخاص» للثعالبي الخ).
أقول: ومن هو الثعالبي حتى يقبل قوله بغير سند؟
قال: (وقد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة، فقد سئل: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وإصلاح الصنيعة والغداء والعشاء بالأفنية).
أقول: ليس في هذا جعل الأكل نفسه من المروءة، وإنما فيه أن من المروءة أن يكون الأكل بالأفنية، يريد بموضع بارز ليدعو صاحبُ الطعام مَن مرَّ ويشاركه من حضر، لا يغلق بابه ويأكل وحده.
قال: (وقد أضربنا عن أخبار كثيرة لأن في بعضها ما يزيد في إيلام الحشوية الذين يعيشون بغير عقول)
(2)
.
أقول: أما عقول الملحدين الذي يعيشون بلا دين، ومقلِّديهم المغرورين، فنعوذ بالله منها.
ثم قال: (حديث: زُر غِبًّا تزدد حبًّا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة الخ).
[ص 108] أقول: هذا حديث مذكور في الموضوعات، رُوي عن عليّ وعائشة وابن عباس بطرق كلّها تالفة
(3)
.
(1)
بهذا اللفظ أخرجه الترمذي (3802)، وابن حبان (7132)، والحاكم:(3/ 342) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وله شاهد من حديث ابن عَمرو، أخرجه أحمد (6630)، والترمذي (3801)، والحاكم:(3/ 342) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن.
(2)
غيَّر أبو ريَّة هذه العبارة في الطبعات اللاحقة (ص 172 ــ ط السادسة) إلى: «في إيلام بعض الناس» .
(3)
ذكره الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص 260) ونقل قول الصغاني: إنه موضوع، وقال البزار بعد أن أخرجه (16/ 191): «ليس في «زُر غبًّا
…
» حديث صحيح». وانظر «المقاصد الحسنة» (ص 232 ــ 233)، و «العلل المتناهية»:(2/ 739 ــ 743).
ثم قال ص 161: (مزاحه وهذره. أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان رجلًا مزّاحًا مهذارًا).
أقول: أما المزاح فنعم، ولم يكن في مزاحه ما يُنكر. وأما الهَذَر فأسنده بقوله: «قالت عنه عائشة
…
في حديث المِهْراس: إنه كان رجلًا مهذارًا» وهذا باطل، لم تتكلم عائشة في حديث المِهْراس بحرف. انظر «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (300: 2)
(1)
. ثم رأيت الدكتور مصطفى السِّباعي قد بسطَ الكلامَ في هذا في الجزء 9 في المجلد 10 من مجلة المسلمون ص 20.
قال أبو ريَّة: (عن أبي رافع قال: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب حمارًا قد شدَّ عليه برذعة وفي رأسه خلية من ليف، فيسير فيلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير. وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب
(2)
فلا يشعرون بشيء حتى يُلقي نفسَه بينهم ويضرب برجليه فينفر الصبيان فيفرون. وأخرج أبو نعيم في «الحلية» عن ثعلبة بن [أبي] مالك القرظي قال: أقبل أبوهريرة في السوق
(1)
(2/ 400 ــ دار الفكر). ونقل عن شيخه الحافظ فيما رُوي عن عائشة وابن عباس أنه قال: «لا وجود له في شيء من كتب الحديث، وإنما الذي قال هذا لأبي هريرة رجل يقال له: قين الأشجعي
…
». وكذلك لم يقف عليه الزركشي في «المعتبر» (82)، ولا ابن كثير في «تحفة الطالب» (126، 127)، ولا ابن حجر في «موافقة الخُبر الخبر»:(1/ 461). وإنما جاء عن بعض أصحاب ابن مسعود كما ذكره ابن أبي شيبة (1058)، والبيهقي:(1/ 47 ــ 48). وانظر (ص 236).
(2)
في البداية [11/ 388]: «الأعراب وهو أمير» . [المؤلف].
يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان على المدينة فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن [أبي] مالك. فقلت له: يكفي هذا. فقال: أوسع الطريق للأمير، والحزمة عليه).
أقول: إنما كان يتعمّد هذا التبذّل والمزاح حين يكون أميرًا تهاونًا بالإمارة ومناقضةً لما كان يتَّسم به بعض الأمراء من الكِبْر والتعالي على الناس، وكانت إمارة أبي هريرة رحمةً بأهل المدينة، يستريحون إليها من عُبِّيّةِ أمراء بني أمية وعنجهيتهم، وكانت إحياء للسنة، فإن الأمير كان هو الذي يؤمُّ الناس، فكان الأمراء يُغفلون أشياء من السنة كالتبكير
(1)
في الصلاة وسجود التلاوة وقراءة السّوَر التي كان يقرؤها النبيّ صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فكان أبو هريرة إذا ولي كان هو الذي يؤمّ الناس، فيحيي ما أهمله الأمراء من السنن.
قال: (ولقد كانوا يتهكّمون برواياته ويتندَّرون عليها لما تفنَّن فيها وأكثر منها، فعن أبي رافع: أن رجلًا من قريش أتى أبا هريرة في حُلة وهو يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل سمعته يقول في حُلتي هذه شيئًا؟ فقال: [والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ما حدَّثتُكم بشيء]
(2)
سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم[ص 109] يقول: «إنّ رجلًا ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر في حُلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» ، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك).
أقول: متن الحديث ثابت في «الصحيحين»
(3)
وغيرهما من حديث
(1)
(ط): «كالتكبير» تصحيف.
(2)
هذه الزيادة من مصدر أبي ريَّة نفسه البداية (8: 108)[11/ 374]. [المؤلف].
(3)
البخاري (5789)، ومسلم (2088) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والبخاري (3485، 5790) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أبي هريرة ومن حديث ابن عمر، وهو عند أحمد وغيره من حديث ابن عَمرو
(1)
، ومن حديث أبي سعيد
(2)
، وجاء من حديث غيرهم
(3)
. وقال الدارمي في «باب تعجيل عقوبة من بَلَغه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظِّمه ولم يوقّره
…
: عن العجلان عن أبي هريرة» فذكر المتن وقال عَقِبِه: فقال له فتى ــ قد سماه ــ وهو في حُلة له: أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خُسِف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسّر منها، فقال أبو هريرة: للمنخرَيْنِ ولِلْفَمِ {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]».
أقول: فقد أخزى الله ذاك المستهزئ كما أخزى غيره من المستهزئين بدين الله ورسله وخيار عباده {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].
وقال ص 162: (كثرة أحاديثه) ثم قال ص 163: (وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدِّرة وقال له: «أكثرتَ يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذبًا).
أقول: لم يَعْزُ هذه الحكاية هنا، وعزاها ص 171 إلى «شرح النهج» لابن أبي الحديد حكايةً عن أبي جعفر الإسكافي، وابن أبي الحديد من دُعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة. والإسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضًا في القرن الثالث، ولا يعرف له سَنَد، ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعليّ وعائشة وغيرهم، وإنما
(1)
«مسند أحمد» (7074)، وأخرجه الترمذي (2491) وقال: حديث صحيح.
(2)
أخرجه أحمد (11356).
(3)
انظر حاشية المسند: (11/ 646).
يتشبَّت بها من لا يعقل.
وقد ذكر ابن أبي الحديد (360: 1)
(1)
أشياء عن الإسكافي من الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة، وذكر من ذلك شيئًا مِن مزاح أبي هريرة، فقال ابن أبي الحديد:«قلتُ قد ذكر ابن قتيبة هذا كلَّه في كتاب «المعارف»
(2)
في ترجمة أبي هريرة، وقوله فيه حجة لأنه غير متّهم عليه». وفي هذا إشارة إلى أن الإسكافي متهم. ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإسكافي باختلاق الكذب، ولكن نتهمه بتلقّف الأكاذيب من أفَّاكي أصْحَابه الرافضة والمعتزلة، وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة. فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإسكافي عمن تقدمه بزمان!
قال: (وقد أخرج ابنُ عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أو بأرض القردة).
أقول: عزاه إلى «البداية» (106: 8)
(3)
ولكن لفظه هناك: «
…
دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأُوَل أو لألحقنَّك بأرض القِرَدة». فأسقط أبو ريَّة هنا ذِكْر كعب، وجمع الكلمتين لأبي هريرة.
وله في هذه الحكاية فِعْلة أشنع من هذه:
قال ص 30: (وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لألحقنك الخ). أسقط
(1)
(4/ 69 ــ ت محمد أبو الفضل).
(2)
(ص 121).
(3)
(11/ 371 ــ دار هجر).
قوله: «عن الأُوَل»
(1)
لغرضين:
الأول: تقوية [ص 110] دعواه أن عمر كان ينهى عن الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
الثاني: ترويج دعوى مَهُولة فاجرة خبيثة، وهي دعوى أنّ كعبًا مع أنه لم يلق النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يحدّث عنه بما يشاء، وكان الصحابة يسمعون منه تلك الأحاديث ويقبلونها بسذاجة مُخْجلة، ثم لا يكتفون بذلك حتى يذهبوا فيروونها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسًا، فيوهموا الناسَ أنهم سمعوها من النبيّ صلى الله عليه وسلم أو على الأقل من بعض إخوانهم من الصحابة.
ولزيادة تفظيع هذا الزعم بالغَ في الحطِّ على كعب وزعم أنه كان منافقًا يسعى لهدم الإسلام ويفتري ما شاء من الأكاذيب؛ يرويها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيتقبَّلها الصحابةُ ويروونها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسًا، فعلى هذا يزعم أنّ كل ما جاء من أحاديث الصحابة ولم يصرِّح الصحابيُّ بسماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه يحتمل أن يكون مما افتراه كعب {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] وراجع (ص 73)
(2)
.
وهذه الخطة الجهنمية من أخطر خِطط الكيد اليهوديّ الخاسر الذي مرت الإشارة إليه (ص 49 و 99)
(3)
.
(1)
وسبق التنبيه على صنيعه هذا (ص 147). على أن قوله: «عن الأُوَل» ليست في بعض نسخ «البداية» ولا في «تاريخ أبي زرعة» . وإن كان ثابتًا في نسخة أبي ريَّة من «البداية» فإسقاطه لها ثابت.
(2)
و 74 و 75 و 82 و 89. [المؤلف]. (ص 145 ــ 146).
(3)
(ص 94 و 192).
وكذا قال ص 126: (قال له: لتتركن الحديث أو لألحقنك) أسقط قوله: «عن الأُوَل» أيضًا ليؤكِّد لك أنه عمدًا ارتكب ذلك، ثم لم يكفه حتى قال ص 115:(لما قدم كعب المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لِمَا أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبيّ (كذا؟ ) ولم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دِخْلته فنهاه عن الرواية عن النبيّ (كذا؟ ) وتوعَّده إن لم يترك الحديث عن رسول الله (كذا؟ ) أو ليلحقنّه بأرض القردة)، كذا قال، وعزا ذلك إلى المصدر نفسه وهو «البداية والنهاية» ج 8 لكنه جعل الصفحة 206 والصواب 106، فهل تعمَّد هذا ليعمِّي عن فضيحته؟ فليتدبر القارئ، ولينظر مَن الذي يعمل في دهاء ومكر لإفساد الدين بكيدٍ وسوء دِخْلة؟
هذا، وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في «البداية»
(1)
: «قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زُرْعة الرُّعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله
(2)
عن السائب الخ». ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة
(3)
، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله (بالتصغير) بن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أَسَمِعَ من السائب أم لا؟
وفي «البداية» عَقِبه: «قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه لم يسنده» .
(1)
(11/ 370 ــ 371). والخبر في «تاريخ دمشق» : (1/ 544) لأبي زرعة الدمشقي.
(2)
في الطبعة المحققة «عبيد الله» كما سيشير إليه المؤلف.
(3)
ترجمته في «تاريخ أبي زرعة» (1/ 286)، و «الثقات»:(9/ 79) لابن حبان، و «الثقات»:(2/ 237) للعجلي، و «تاريخ دمشق»:(53/ 41) لابن عساكر. (ت 216) وهو ثقة.
أقول: وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب. هذا ومخرج الخبر شامي، [ص 111] ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة، ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه، وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مرَّ (ص 106)
(1)
، هذا باطل قطعًا، على أن أبا ريَّة يعترف أنّ كعبًا لم يزل يحدِّث عن الأُوَل حياةَ عمر كلها، وكيف يُعقل أن يرخِّص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتمًا، وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس، والمهاجر يحرُم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدّد عمر مهاجرًا أن يردّه إلى بلده التي هاجر منها؟ وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في «فتوح البلدان» للبلاذري (ص 92 - 93)
(2)
. وبطبيعة الحال كان يعلّمهم ويفتيهم ويحدّثهم.
قال أبو ريَّة ص 163: (ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدِّرة، إذ أصبح لا يخشى أحدًا بعده).
أقول: لم يمت الحقُّ بموت عمر، وسيأتي تمام هذا.
قال: (ومن قوله في ذلك: إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشج رأسي).
أقول: يُروى هذا عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح.
(1)
(ص 204 ــ 205).
(2)
(ص 112 ــ مؤسسة المعارف).
قال: (وعن الزهري عن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبض عمر، ثم يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذا لأيقنت أن المِخْفَقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله).
أقول: إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له: صالح بن أبي الأخضر، قال فيه الجوزجاني ــ وهو من أئمة الجرح والتعديل ــ:«اتهم في أحاديثه» . وهناك أخبارٌ وآثارٌ تُعارض هذا وأشباهه، إلا أن في أسانيدها مقالًا فلم أنشط لذكرها وبيان عللها، تجد بعضها في ترجمة أبي هريرة من «الإصابة»
(1)
.
وبعد، فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار مع ثناء جماعة منهم عليه وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه كما يأتي= يدل على بطلان المحكيّ عن عمر من منعه، بل لو ثبت المنع ثبوتًا لا مدفع له لدلّ إجماعُهم على أن المنع كان على وجه مخصوص، أو لسبب عارض، أو استحسانًا محضًا لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أَوْلَى بالحقِّ من رأي عمر.
ثم حكى أبو ريَّة عن صاحب «المنار»
(2)
قال: (لو طال عُمْرُ عُمرَ حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث [ص 112] الكثيرة).
أقول: وما يدريك لعلّ عمر لو طال عمره حتى يستحرَّ الموتُ بحَمَلة
(1)
(7/ 425 ــ 444).
(2)
(10/ 851).
العلم من الصحابة، لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحثَّ عليه، وحِفْظُ الله تبارك وتعالى لشريعته، وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر، في حياة عمر وبعد موت عمر.
ثم قال أبو ريَّة ص 164: (كيف سوّغ كثرة الرواية؟ كان أبو هريرة يسوِّغ كثرة الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه ما دام لا يحلّ حرامًا ولا يحرِّم حلالًا فإنه لا بأس من أن يروي).
أقول: هذه دعوى من أبي رية، فهل من دليل؟
قال: (وقد أيَّد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبيّ، ومنها ما رواه الطبراني في «الكبير» عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إذا لم تحلّوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس).
أقول: ههنا مآخذ:
الأول: أن هذا لم يروه أبو هريرة ولا رواه الطبراني عنه، إنما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال:«أتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديثَ فلا نقدر أن نؤدّيه كما سمعنا. فقال: إذا لم الخ» . وهو في «مجمع الزوائد» (154: 1)
(1)
وقال: «رواه الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه» .
الثاني: أن هذا الخبر إنما يدلّ على إجازة الرواية بالمعنى لقوله فيه: «وأصبتم المعنى» ، وقد تقدم الكلام في فصل الرواية بالمعنى (ص 52 فما
(1)
(1/ 159 ــ مؤسسة المعارف).
بعدها)
(1)
ودعوى أبي ريَّة هنا شيء آخر كما يأتي.
الثالث: أن الخبر لا يثبت عن صحابيِّه لجهالة يعقوب وأبيه، ولهذا أعرضتُ عنه فلم أستشهد به في فصل الرواية بالمعنى وإن كان موافقًا لقولي.
قال: (وقال أيضًا: إنه سمع النبيّ يقول: من حدَّث حديثًا هو لله عز وجل رضًا فأنا قلته، وإن لم أكن قلته. روى ذلك ابن عساكر في «تاريخه»).
أقول: أخذ أبو ريَّة هذا من «كنز العمال» (223: 5)
(2)
، وهناك أن ابن عساكر أخرجه
(3)
عن البُخْتري بن عُبيد عن أبيه عن أبي هريرة. أقول: البختري كذَّاب، وأبوه مجهول.
قال أبو ريَّة: (وفي «الأحكام»
…
لابن حزم (78: 2) أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا [ص 113] حُدِّثتم عني بحديث يوافق الحقَّ فخذوا به، حَدَّثتُ به أو لم أحدِّث).
أقول: إنما ذكره ابن حزم من طريق أشعث بن بَرَاز، ثم قال ابن حزم في ذلك الموضع نفسه:«وأشعث بن بَراز كذَّاب ساقط» .
قال: (وروي عن رسول الله: إذا بلغكم عني حديث يحسن بي أن أقوله فأنا قلته، وإذا بلغكم حديث لا يحسن بي أقوله فليس مني ولم أقله).
أقول: عزاه إلى «توجيه النظر» (ص 278)
(4)
، وهناك عَقِبه قول
(1)
(ص 102 فما بعدها).
(2)
(10/ 230، 294 ــ مؤسسة الرسالة).
(3)
(38/ 206).
(4)
الطبعة الأولى ــ الجمالية سنة 1328 هـ.
أبي حاتم: «حديث منكر، الثقات لا يرفعونه» . يريد لا يَصِلونه، فإنه ذكره من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد جاء من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ذكره البخاري في «التاريخ» (2/ 1/434)، ثم ذكر أن بعضهم قال:«عن أبي هريرة» ، قال البخاري:«وهو وهمٌ، ليس فيه أبو هريرة» . ورواه بعضهم عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. ذكره ابن حزم في «الأحكام»
(1)
عقب الحديث السابق وقال: «عبد الله بن سعيد كذّاب مشهور» وفي ألفاظه في الروايات اختلاف، وسأشرح بقية حاله في التعليق على «موضوعات الشوكاني»
(2)
إن شاء الله تعالى.
هذه أدلة أبي ريَّة على دعواه، وعلّق على خبر البُخْتري بقوله:(ارجع إلى ص 101)، وكان قد ذكر هناك بعض هذه الأخبار تحت عنوان (كيف استجازوا وضع الأحاديث) وبهذا يُعرف حاصل دعواه هنا ومناسبتها لأدلتها، فإن تكذيب الصدّيقين لا يتم إلا بتصديق الكذابين.
قال: (روى ذلك وغيره).
أقول: أما «ذلك» أي الأخبار المتقدّمة فقد تبيَّن أن أبا هريرة لم يرو شيئًا منها، وأما غيره فما هو؟
قال: (على حين أن الثابت عن النبيّ أنه قال: من نقل عني ما لم أقله فليتبوَّأ مقعده من النار).
(1)
(2/ 78).
(2)
«الفوائد المجموعة» (ص 278 ــ 282).
أقول: كذا ذكر الحديث هنا وص 40، والثابت:«مَنْ يقل عليَّ ما لم أقل الخ» رواه أحمد
(1)
من حديث أبي هريرة، وكذا من حديث سلمة بن الأكوع
(2)
، وكذا جاء في أثناء حديث لأبي قتادة
(3)
. وكما أن هذا هو الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فكذلك هو الثابت عن أبي هريرة عنه كما ترى. وفي «صحيح البخاري»
(4)
وغيره من حديث مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة قال: «إن الناس يقولون: أَكْثَرَ أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله [ص 114] ما حدَّثت حديثًا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] إلى قوله: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] الحديث. وذكر مسلم سنَدَه ولم يسق متنه
(5)
.
وفي «الإصابة»
(6)
: «أخرج أحمد
(7)
من طريق عاصم بن كُلَيب عن أبيه: سمعت أبا هريرة يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «مَن كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه مِن النار» . وذكره ابنُ كثير في «البداية» (107: 8)
(8)
وقال: «ورُوي مثله من وجه آخر» .
(1)
(8776).
(2)
أخرجه البخاري (109).
(3)
أخرجه أحمد (22538)، وابن ماجه (35).
(4)
(118).
(5)
بعد رقم (2492).
(6)
(7/ 440).
(7)
(9350).
(8)
(11/ 372 ــ دار هجر).
قال أبو ريَّة: (وقد اضطر عمر أن يذكِّره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية).
أقول: يريد ما رُوي عن أبي هريرة قال: «بلغ عمرَ حديثي فأرسل إليَّ فقال: كُنْتَ معنا يوم كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان؟ قال: قلت: نعم، وقد علمتُ لِمَ تسألني عن ذلك. قال: ولِمَ سألتُك؟ قلتُ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: «مَنْ كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار» . قال: أما إذًا
(1)
فاذهب فحدِّث» «البداية» (107: 8)
(2)
. وهذا يدلُ على بطلان ما حُكي مِن مَنْعه له أو على أنه أذن له بعد منعٍ ما. وهذا الخبر مِن جملة الأخبار التي قدمتُ (ص 111)
(3)
أني أعرضت عنها لأن في أسانيدها مقالًا، وذكرته هنا لإشارة أبي ريَّة إليه
…
وحديث: «مَنْ كَذَب عليَّ الخ» ثابت في «الصحيحين»
(4)
وغيرهما من حديث أبي هريرة.
* * * *
(1)
في بعض نسخ «البداية» و «تاريخ دمشق» : «إما لا» ، وانظر «النهاية»:(1/ 72) لابن الأثير في إمالة الألف عند العوام لتصير ياءً «إمالي» قال: وهو خطأ.
(2)
(11/ 371) وأخرجه ابن عساكر: (67/ 345).
(3)
(ص 215).
(4)
البخاري (110)، ومسلم (3).