الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنَّ عليهم أن يجمعوا السنة. على أنهم كانوا إذا فكّروا في جمعها بدا لهم احتمال اشتماله على مفسدة كما مرَّ (ص 30)
(1)
، وكذلك كان فيه تفويت حِكَم ومصالح عظيمة (راجع ص 21 - 22)
(2)
. وتوقّفهم عن الجمع لِما تقدّم لا يعني عدم العناية بالأحاديث، فقد ثبت بالتواتر تديُّنهم بها، وانقيادهم لها، وبحثهم عنها كما تقدم في مواضعه، ولكنهم كانوا يؤمنون بتكفّل الله تعالى بحفظها، ويكرهون أن يعملوا مِن قِبَلِهم غير ما وَضَح لهم أنه مصلحة محضة، (راجع ص 30)
(3)
، ويعلمون أنه سيأتي زمان تتوفّر فيه دواعي الجمع وتزول الموانع عنه، وقد رأوا بشائر ذلك من انتشار الإسلام، وشدّة إقبال الناس على تلقِّي العلم وحفظه والعمل به، وقد أتمَّ اللهُ ذلك كما اقتضته حكمته.
ثم ذكر ص 220 - 222 فصولًا في جمع القرآن، ثم قال ص 223 - 232:
(تدوين الحديث)
.
أقول: راجع لكتابة التابعين الحديث (ص 28 و 55)
(4)
، فأما أتباع التابعين فكانوا يكتبون ويحتفظون بكتبهم ولاسيما بعد أن أمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بالكتابة (راجع ص 30)
(5)
. وفي «جامع بيان العلم»
(6)
(1)
(ص 59 ــ 60).
(2)
(ص 43 ــ 46).
(3)
(ص 59 ــ 60).
(4)
(ص 55 ــ 56 و 108 ــ 109).
(5)
(ص 59 ــ 60).
(6)
(438).
لابن عبد البر بسنده إلى ابن شهاب الزهري قال: «أمَرَنا عمرُ بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كلِّ أرض له عليها سلطان دفترًا» . ثم أكثر ابنُ شهاب من الكتابة بعد وفاة عمر لما أمر هشام بن عبد الملك. على أنّ ما كُتِب لعمر ولهشام لم يلق قبولًا عند أهل العلم؛ لأنهم كانوا يحرصون على تلقّي الحديث مِن المحدّث به مشافهةً. لكن الرواة عن ابن شهاب وغيره انهمكوا في الكتابة. ثم شرع بعضهم في التصنيف. وقد ذكر أبو ريَّة ص 229 عِدَّة من المصنِّفين، وأحب أن أشير إلى من مات منهم قبل سنة 160:
فمنهم: ابن جُرَيج المتوفى سنة 150 له مصنفات تلقَّاها عنه جماعة، منهم حجّاج بن محمد الأعور، وعبد الرزاق الصنعاني، وعنهما الإمام أحمد وغيره. ولعبد الرزاق مصنفات موجودة.
ومنهم: ابن إسحاق صاحب المغازي توفي سنة 151، صنف السيرة وغيرها.
[ص 175] ومنهم: مَعْمَر بن راشد توفي سنة 153، وله مصنّفات بعضها موجود، وأخذها عنه عبدُ الرزاق وغيره.
ومنهم: الأوزاعي، وسعيد بن أبي عَرُوبة تُوُفيا سنة 156، وكانت مصنفاتهما عند جماعةٍ من أصحابهما، تلقاها عنهم الإمام أحمد وغيره.
ثم قال أبو ريَّة ص 233: (أثر تأخير التدوين
…
).
ذكر أنه لو دُوّن الحديث كما دُوّن القرآن لانسدَّ بابُ الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وانسدّ بابُ التفرُّق في الدين.
أقول: أأنتم أعلم أم الله؟ أرأيتَ لو قال قائل: لو خلق الله عباده على هيأة كذا لانسدَّ باب الظلم والعدوان والفجور، ولو أُنزل القرآن وكلّ دلالاته يقينية، لا يمكن أحدًا أن يشك أو يتشكك فيها لانسدَّ باب التفرق، ولو، ولو
…
إنما شأنُ المؤمن أن ينظر ما قضاه الله واختاره، فيعلم أنه هو الحقّ المطابق للحكمة البالغة، ثم يتلمَّس ما عسى أن يفتح الله عليه به مِنْ فهم الحكمة، وراجع (ص 55 و 60 - 62)
(1)
. وذكر أمورًا قد تقدم النظر فيها، فراجع الفهرس.
ثم قال ص 237: (نشأة علم الحديث
…
) إلى أن قال ص 240: (الخبر وأقسامه) وذكر المتواتر ثم علّق عليه في الحاشية: (
…
أنكر المسلمون أعظم الأمور المتواترة، فالنصارى واليهود هما أمتان عظيمتان يخبرون بصلب المسيح، والإنجيل يصرِّح بذلك، فإذا أنكروا هذا الخبر وقد وصل إلى أعلى درجات المتواتر فأيّ خبرٍ بعده يمكن الاعتماد عليه والركون إليه؟)
(2)
.
أقول: هذا إما جنون، وإما كفر، «فاختر وما فيهما حظٌّ لمختار»
(3)
. وقد بيَّن علماء المسلمين سقوط دعوى تواتر الصّلْب بما لا مزيد عليه. وكلُّ
(1)
(ص 108 ــ 109 و 117 ــ 122).
(2)
أقول: حذف أبو ريَّة هذه الحاشية من الطبعات اللاحقة، فإما أن يكون عاد إلى رشده، أو تاب من كفره! وإن كان كتابه «دين الله واحد» يشي بسوء دِخْلَته وفساد طويّته!
(3)
عجز بيت من قصيدة للأعشى «ديوانه» (ص 229 - نشرة محمد محمد حسين)، صدره:
فقال: ثُكْلٌ وغدرٌ أنت بينهما
…
فاخْترْ .......................
وانظر «الشعر والشعراء» : (1/ 262)، و «الأغاني»:(6/ 314).
عاقل يعرفُ التواترَ الحقيقيَّ ثم يتدبر الواقعةَ يعلم أنها ليست منه. ومقتضى سياق أبي ريَّة أنه يحاول التشكيك في المتواتر، وزَعْم أن دلالته ظنية فقط. (ألف).
ونقل ص 241 - 242
(1)
عبارةً عن «المستصفى» ، ينبغي مقابلتها بـ «المستصفى» (142: 1)
(2)
مع قول «المستصفى»
(3)
في الصفحة التي قبلها: «(الخامس) كلّ خبر
…
» ومراجعة المسألة في «أحكام ابن حزم»
(4)
وغيره.
وقال ص 242: (ومن قواعدهم المشهورة
…
ولا يلزم من الإجماع على حكم مطابقته لحكم الله في نفس الأمر).
أقول: يراجع البحث في كتب الأصول، والمقصود هنا أن أبا ريَّة يرى دلالة الإجماع ظنية فقط. (ب).
وذكر آخر ص 343 عن الرازي: (
…
وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع).
أقول: للرازي تفصيل معروف
(5)
، وقد تعقَّبه شيخ الإسلام ابن تيمية
(6)
وغيره، والحق أنّ في القرآن [ص 176] دلالات قطعية، وأن دلالته المقطوع
(1)
انتهت في السطر الثالث. [المؤلف].
(2)
(1/ 257 ــ ط الرسالة) وقد قابلت النص فوجدته قد تصرّف في كلمتين منه وهي قوله: «فيتصور إجماعهم [اجتماعهم] تحت ضغط [ضبط] الإيالة
…
».
(3)
(1/ 265).
(4)
(1/ 104 وما بعدها).
(5)
ذكره في «المحصل» (ص 142)، وفي «أساس التقديس» .
(6)
في كتابه العظيم «درء تعارض العقل والنقل» ، وفي «بيان تلبيس الجهمية» وغيرهما.
فيها بالظهور تكون قطعية إذا علم أنه لم يكن وقت حاجة المخاطبين إلى الأخذ بها قرينة صارفة عن ذاك الظاهر؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. وينبغي أن يتنبه لأن القرينة إنما يعتدّ بها إذا كانت بيِّنة يدركها المخاطَب إذا تدبَّر، ولتقرير هذا موضع آخر.
ومقتضى صنيع أبي ريَّة أن دلائل القرآن ــ بَلْه الأحاديث ــ كلها ظنية. (ج).
وقال قبل ذلك: (قال الجمهور: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم قطعًا ولو كانت مخرَّجة في البخاري ومسلم، وأنّ تلقي الأمة لهما بالقبول إنما يفيد العمل بما فيهما؛ بناء على أن الأمة مأمورة بالأخذ بكل خبر يغلب على الظن صدقه).
أقول: مسألة أخبار «الصحيحين» تأتي
(1)
، وإنما المهمّ هنا أنه علَّق على آخر هذه العبارة قوله:(ترى هل هذه القاعدة التي قرروها قد أمر الله بها ورسوله؟ وترى هل هي تخرجنا من حكم اتباع الظن الذي جاء في آيات كثيرة من القرآن مثل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] ومثل قوله تعالى في قول النصارى بصلب المسيح: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]). (د).
تأمَّل هذه القضايا المرموز على أواخرها بهذه الأحرف (ألف ــ ب ــ ج ــ د) وانظر ماذا بقي لأبي ريَّة من الدين؟
أما الآيات، فقد قيل وقيل. ومن تدبّر السياقَ وتتبّع مواقعَ كلمة {يُغْنِي} ومشتقاتها في القرآن وغيره تبيَّن له ما يأتي: كلمة {الْحَقِّ} في الآيتين مراد
(1)
(ص 355 ــ 358).
بها الأمر الثابت قطعًا، وكلمة {يُغْنِي} معناها «يدفع» كما حكاه البغويّ في «تفسيره»
(1)
، وقد يعبر عنها بقولهم:«يصرف» ونحوه. راجع «لسان العرب» (376: 19)
(2)
. ومنها في القرآن قوله تعالى: {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31] وقوله سبحانه: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]. وفي آية أخرى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47] وهذا سياق الآية الأولى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32][ص 177] فالكلام في محاجَّة المتخذين مع الله إلهًا آخر، وكلمة «الحق» في قوله:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ} مراد بها الأمر الثابت قطعًا، ومنه: أنَّه لا إله إلا الله. ثم ساق الكلام في تقريرهم إلى أن قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فالحقُّ هنا هو الأمر الثابت قطعًا كما مرَّ، والمعنى: إن الظن لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا، وعلى تعبير أهل الأصول: الظنُّ لا يعارض القطع.
والآية الثانية في سياق محاجَّة المشركين القائلين: الملائكة بنات الله، ويسمونهم بأسماء الإناث ويعبدونها، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا
(1)
(2/ 362 ــ 363).
(2)
(15/ 139 ــ دار صادر).
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] والهدى هنا بيان الحق الثابت قطعًا، فالمعنى: أنهم يتبعون الظنَّ والهوى مُعْرِضين عما يخالفه من الحقِّ الثابت قطعًا. ثم قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] أي: ليس عندهم علم فيعارض الحقَّ الثابت قطعًا، إنما عندهم ظنّ، والظنّ لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا. أو: الظن لا يعارض القطع.
وأما الآية الثالثة فهي: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] المراد: أنّ الله يخبر بأنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، وخبره سبحانه يفيد العلم القطعيّ، وليس عند أهل الكتاب علم قطعيّ فيعارض خبرَ الله، وإنما عندهم ظنّ، والظنّ لا يعارض القطع
(1)
.
وقال أبو ريَّة ص 244: (ابن الصلاح ومخالفوه
…
) وساق الكلام إلى أن قال 246: (أما المتكلمون فقد عُرِف من حالهم أنهم يردُّون كل حديث يخالف ما ذهبوا إليه ولو كان من الأمور الظنية).
أقول: أما في الأمور الظنية فالمعروف عنهم قبوله، غير أنهم لا يجزمون بمدلوله إذا كان في العقليات.
ثم قال: (فمن ذلك حديث: تحاجَّت الجنة والنار
…
، أخرجه البخاري ومسلم
(1)
وانظر ما سبق (ص 192 ــ 193).
عن أبي هريرة
…
).
أقول: قد تقدم (ص 159)
(1)
وبيَّنتُ هناك أنه رواه مع أبي هريرة أنسٌ وأبو سعيد وأُبيُّ بن كعب.
ثم قال ص 247: (فهذا الحديث ونظائره وهي كثيرة يبعد على المتكلم أن يقول بصحتها فضلًا عن أن يجزم بذلك، وإذا أُلجِئَ إلى القول بصحتها لم يَألُ جهدًا في تأويلها ولو على وجه لا يساعد اللفظ عليه، بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن).
[ص 178] أقول: هذا يتضمّن الاعتراف بأنّ النصوصَ اللفظية تكون قطعية الدّلالة. هذا ومسلكهم في التأويل هو عينه مسلكهم في دفاع الآيات الكثيرة المخالفة لهم من القرآن، فإذا كان لا ينفي ثبوت الآيات القرآنية عن الله ورسوله قطعًا، فكذلك لا ينفي صحة الأحاديث الصحيحة ظنًّا أو قطعًا. وراجع (ص 2)
(2)
.
وقال ص 249: (من المعروف
…
أنك تجد الحديث يعمل به الحنفي لشهرته، ثم يأتي الشافعي فيرفضه لضعفٍ في سنده، وتجد المالكي يرفض الحديث لأن العمل جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوةٍ في سنده على ما رأى هو).
أقول: ما دمنا نعرف أنَّ العلماء غير معصومين، فاختلافهم في بعض الأحاديث أيؤخذ بها أم لا؟ ليس فيه ما يوهم ذا عقل أن الأحاديث كلّها لا تصلح للحجة، ولا ما يقضي أن تلك الأحاديث المختلَف فيها تصلح أو لا تصلح، بل المدار على الحجة. فقد يرى العالم اشتهار حديث بين الناس
(1)
(ص 304).
(2)
(ص 7 ــ 8).
فيغلب على ظنه أنه لم يشتهر إلا وأصله صحيح فيأخذ به، فيأتي غيره فيبحث فيجد مرجع تلك الشهرة إلى مصدر واحد غير صحيح، كما في مسألة القهقهة في الصلاة. وقد يبلغ العالمَ حديثٌ من طريق واحد ويرى أن أهل العلم خالفوه فيمسك عنه، فيجيء غيره فيبحث فيجد الحديث ثابتًا، ويجد بعضَ أهل العلم قد أخذوا به، وأنَّ الذين لم يأخذوا به لم يقفوا عليه، أو نحو ذلك مما يبيِّن أن عدم أخذهم به لا يخدش في كونه حجة. وقد ينعكس الحال.
وعلى مَنْ بَعْد المختلفين اتباع الحجة، فإن بقي بين مُتَّبعي الحجة خلاف فلا حرج، وإذا اتضح وبان أنَّ الحقَّ مع أحد المختلفين ولكن أَتْباعُ الآخر أَصَرُّوا على اتِّباعه، فليس في هذا ما يقدح في الحجة، سواء أعذَرْنا أولئك الأتباع أم لم نعذرهم. وهكذا الاختلاف عند معارضة الحديث لبعض القواعد الشرعية أو لجميع الأقيسة.
وقال: (في مرآة الوصول وشرحها
…
).
أقول: راجع (ص 126)
(1)
.
وذكر ص 250 عبارة لأبي يوسف نقلها من «الأم» للشافعي (307: 7 - 308)
(2)
وتَرَكَ قِطَعًا منها. وقد تعقَّب الشافعيُّ كلامَ أبي يوسف بما تراه هناك.
وفي كلام أبي يوسف مما أرى التنبيه عليه أخبار:
الأول: قال: «حدثنا ابن أبي كريمة عن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
».
(1)
(ص 243).
(2)
(9/ 182 فما بعدها ــ ط دار الوفاء).
أشار الشافعي إلى هذا الخبر في «الرسالة» (ص 224 - 225) وقال: «رواية منقطعة عن رجل مجهول» . وفي التعليق
(1)
هناك عن ابن معين والخطابي وغيرهم أنه موضوع.
[ص 179] الثاني: «وكان عمر فيما بلغنا لا يقبل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بشاهِدَيْنِ» .
أقول: وهذا باطل قطعًا، تقدم رده (ص 46)
(2)
.
الثالث: «وكان عليُّ بن أبي طالب لا يقبل الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
أقول: كذا وقع، وهو باطل قطعًا، ولعله أراد أن عليًّا كان يُحلِّف مَنْ حدَّثه كما تقدم مع ردّه (ص 47)
(3)
.
أقول: كذا وقع ولعله: «لا أحرِّم إلا ما حرَّم القرآن»
(4)
فقد رُوي بلفظ: «لا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه» راجع «أحكام ابن حزم» (77: 2)،
(1)
يعني للشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
(2)
(ص 88 ــ 90).
(3)
(ص 90 ــ 91).
(4)
نقله البيهقي في «معرفة السنن والآثار» : (6/ 524) كما صححه المؤلف. والحديث أخرجه الشافعي في «الأم ــ جماع العلم» : (9/ 46 ــ 47)، وعبد الرزاق (4/ 534) من مرسل طاوس بلفظ:«فإني لا أحل لهم إلا ما أحلّ الله لهم، ولا أحرِّم عليهم إلا ما حرَّم الله» . وقال الشافعي عَقِبه: «هذا منقطع» .
و «مجمع الزوائد» (171: 1)
(1)
وهو على كلّ حال غير ثابت. ومع ذلك قد فسَّره الشافعي ثم ابن حزم بما يصحِّح معناه.
ومن تتبَّع أقوال أبي يوسف في الفقه واستدلالاته عَلِم أنه نفسه لا يرى صحة هذه الأخبار ولا يبني عليها، وإنما كَثَّر بها السواد في بيان أن الأحكام لا تُبنى إلا على رواية الثقات كما أشار إليه الشافعي، إذ قال في تعقُّبه: وقد كان عليه أن يبدأ بنفسه فيما أَمَر به أن لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من الثقات
(2)
.
وقال ص 251: (رأي مالك وأصحابه أنهم يقولون: تثبت السنة من وجهين: أحدهما: أن نجد الأئمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا بما يوافقها. الثاني: أن لا نجد الناس اختلفوا فيها).
أقول: لم يذكر مصدره، وهذه كتب المالكية أصولًا وفروعًا لا تعطي هذا. نعم قد يقف المجتهد عن حديث ولا يبيّن عذرَه، أو يروي عنه بعضُ أصحابه كلمة لا يريد بها أن تكون قاعدة، فيذهب بعض أصحابه يحاول أن يضع قواعد يعتذر بها. وفي «الأم» (177: 7 ــ)
(3)
من قول الربيع: «قلت [للشافعي]: فاذكر ما ذهب إليه صاحبنا [مالك] من حديث النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يرو عن الأئمة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي شيئًا يوافقه. فقال: نعم سأذكر من ذلك إن شاء الله ما يدلُّ على ما وصفت، وأذكر أيضًا ما ذهب إليه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه عن بعض الأئمة ما يخالفه
…
(1)
(1/ 176 ــ 177).
(2)
«الأم» : (9/ 192).
(3)
(8/ 514).
قال أبو ريَّة: (وقد روى الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها تكون بعدي رواة [ص 180] يروون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فحدّثوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تحدّثوا به).
أقول: لم يذكر مصدرَه، وهذا هو الخبر الأول في عبارة أبي يوسف المتقدمة (ص 178)
(1)
وقد حكم الأئمة بأنه موضوع كما مرَّ.
قال: (وقد طعن رجال الأثر في هذا الحديث، ورووا حديثًا هذا نصه: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه». وهذا من أعجب العجب، لأنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي مثل الكتاب ــ أي مثل القرآن ليكون تمامًا على القرآن لبيان دينه وشريعته ــ فلم لم يُعْنَ صلوات الله عليه بتدوينه وكتابته قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى كما عُنِيَ بتدوين القرآن).
أقول: قد تقدَّم البيان المنير في مواضع، منها (ص 20 - 21)
(2)
.
قال: (ولم ينه عن كتابته بقوله: لا تكتبوا عني غير القرآن).
أقول: تقدّم البيان الواضح (ص 22 - 24)
(3)
.
قال: (وهل يصح أن يدع الرسول نصف ما أوحاه الله إليه يعدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا وينساه ذاك؟ وهل يكون الرسول ــ بعمله هذا ــ قد بلّغ الرسالة على وجهها وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها؟ ).
أقول: قد تقدم دفع هذا الريب (ص 20 - 21)
(4)
، والقَدْر الذي يحصل
(1)
(ص 339 ــ 340).
(2)
(ص 41 ــ 44).
(3)
(ص 44 ــ 49).
(4)
(ص 41 ــ 44).
به تبليغ الرسالة وأداء الأمانة إنما تحديده إلى الله عز وجل لا إلى المرتابين في حِكْمته سبحانه وتعالى وقدرته، وراجع (ص 32 - 33 و 52)
(1)
.
قال ص 252: (وأين كان هذا الحديث عندما قال أبو بكر للناس .. ؟ وعند ما قال عمر
…
؟ ولم يشفق
…
عندما فزع إلى أبي بكر).
أقول: راجع (ص 36 و 39 و 173 - 174)
(2)
.
وذكر توقُّف مالك وأبي حنيفة عن بعض الأحاديث لمعارضتها ما هو أقوى منها عندهما، وقد مرَّ جوابه (ص 178)
(3)
.
وذكر ص 253 قصةَ مناظرةٍ جرت بين الأوزاعي وأبي حنيفة، وهي قصة مكذوبة عارضَ بها بعضُ من لايخاف الله من الحنفية قصةَ مناظرة رواها الشافعية بسند واهٍ، راجع «سنن البيهقي» (82: 2) و «فضائل أبي حنيفة» للموفق (131: 1)، وكلتا القصتين مروية عن «الشاذكوني قال: سمعت سفيان بن عيينة
…
».
ثم ذكر ص 254 كلامَ النُّحاة في الاستدلال بالأحاديث، وهذا لا يهمنا، مع أنَّ الحق أن ابن مالك توسَّع، وأنه كما مرَّ (ص 60)
(4)
يمكن بالنظر في روايات الأحاديث وأحوال رواتها أن يُعْرَف في طائفة منها أنها بلفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي، وهو ممن يحتجّ به في العربية، لكن
(1)
(ص 63 ــ 66 و 102 ــ 103).
(2)
(ص 70 ــ 71 و 76 ــ 77 و 329 ــ 332).
(3)
(ص 339 ــ 340).
(4)
(ص 117 ــ 118).
تحقيق ذلك يصعب على غير أهله، فلذلك أعرض قدماءُ النحاة عن الاحتجاج بالحديث، ووجدوا في المتيسّر لهم من القرآن وكلام العرب ما يكفي.
وذكر ص 259 كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث: أن يهوديًّا سَحَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
أقول: النظر في هذا في مقامات:
المقام الأول: مُلخَّص الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم في فترة من عمره ناله مرض خفيف، ذكرت عائشةُ أشدَّ أعراضه بقولها:«حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم» ، وفي رواية:«حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» وفي أخرى: «يُخيَّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله» ، والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات، فالأخريان محمولتان عليها
…
وفي «فتح الباري» (193: 10)
(1)
أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره صلى الله عليه وسلم بذاك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه. فالذي يتحقَّق دلالةُ الخبر عليه: أنه صلى الله عليه وسلم كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة، وهو صلى الله عليه وسلم عالم أنه لم يجئها ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذَّى صلى الله عليه وسلم من ذلك. وليس في حمل الحديث على هذا تعسُّف ولا تكلُّف.
(1)
(10/ 227).
المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: «حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرتِ أنّ الله أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟ أتاني رجلان (أي ملكان ــ كما في رواية أخرى ــ في صورة رجلين)
…
فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: مَنْ طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيِّ شيء؟ قال: في مُشْط ومُشاطة وجُفّ طَلْع نخلة ذَكَر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فجاء
…
قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: «قد عافاني الله، فكرهتُ أن أثير على الناس شرًّا، فأمرت بها فدُفِنَتْ» .
ومحصّل هذا: أن لبيدًا أراد إلحاق ضرر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعمل عملًا في مُشط ومشاطة الخ، فهل من شأن ذلك أن يؤثر؟ [ص 182] قد يقال: لا، ولكن إذا شاء الله تعالى خَلَق الأثرَ عَقِبه. والأقرب أن يقال: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص، وبيانُه: أن الأفعال التي من شأنها أن تؤثِّر ضربان:
الأول: ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء مَنَعَه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا، فلما أراد الله تعالى منعه قال:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
الضرب الثاني: ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا، فإذا اقتضت الحكمة أن يمكَّن من التأثير رُفِع المنع فيؤثر. وقوله تعالى في السحر:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] يدلُّ أنه من الضرب الثاني، وأنّ المراد بالإذن الإذن الخاص، والحكمةُ في مصلحة الناس تقتضي هذا، والواقع في شؤونهم يشهد له، وإذ كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.
المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده. وفيه ثلاث قضايا:
القضية الأولى: قال: (فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد).
أقول: أما صحته فثابتة بإثبات أئمة الحديث لها، فإنْ أراد الصحة في نفس الأمر فهب أنَّا لا نقطع بها ولكنَّا نظنها ظنًّا غالبًا، وعلى كلا الحالين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومَن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظنَّ فلا مفرَّ من الظنّ وما يترتَّب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حقٌّ في كلّ دليل لا يفيد إلا الظن.
القضية الثانية: أنه مناف للعصمة في التبليغ قال: (فإنه قد خالط عقلَه وإدراكَه في زعمهم
…
فإنه إذا خولط
…
في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئًا وهو لم يبلغه، أو أن شيئًا ينزل عليه وهو لم ينزل عليه).
أقول: أما المتحقِّق من معنى الحديث كما قدَّمنا في المقام الأول فليس فيه ما يصحّ أن يُعَبَّر عنه بقولك: «خُولط في عقله» وإنما ذاك خاطر عابر، ولو فُرِض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا لم يتَعَدَّه إلى سائر أمور الدنيا فضلًا عن أمور الدين، ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ، بل سبيلُه سبيل ظنه أن النخل لا يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا، وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع (ص 18 - 19)
(1)
. وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون، وأَخْذه برأسه لظنه أنه قصَّر مع أنه لم يقصِّر، وفيه قول يعقوب لبنيه لمَّا ذكروا له ما جرى لابنه الثاني:{بَلْ سَوَّلَتْ [ص 183] لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18]
(1)
(ص 36 ــ 40).
يتَّهمهم بتدبير مكيدة مع أنهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى عن يونس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87].
القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن (في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وسلم وعدّه من افتراء المشركين عليه
…
مع أن الذي قصَدَه المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إنّ الشيطان يُلابسه عليه السلام، ومُلابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضَرْب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي يُنسب إلى لبيد
…
وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نَسَب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبَّخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا).
أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه صلى الله عليه وسلم يفتري ــ أي يتعمَّد ــ الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد، فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني بزعم أنَّ له اتصالًا بالجنّ، وأنَّ الجِنّ يُلْقون إليه ما يلقون، فيصدّقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه. هذا مدار شبهتهم، وهو مرادهم بقولهم: به جِنَّة. مجنون. كاهن. ساحر. مسحور. شاعر. كانوا يزعمون أنَّ للشعراء قُرَناء من الجن تُلقي إليهم الشعرَ؛ فزعموا أنه شاعر أي: أن الجن تُلقي إليه كما تُلقي إلى الشعراء، ولم يقصدوا أنه يقول الشعر. أو أن القرآن شعر.
إذا عُرِف هذا، فالمشركون أرادوا بقولهم:{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] أنَّ أمْرَ النبوّةِ كلّه سحر، وأن ذلك ناشئٌ عن الشياطين استولوا عليه ــ بزعمهم ــ يُلقون إليه القرآن، ويأمرونه وينهونه فيصدقهم في ذلك كلّه ظانًّا أنه إنما يتلقّى من الله وملائكته. ولا ريب أن الحال التي ذكر
في الحديث عروضها له صلى الله عليه وسلم لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون، ولا هي من قبيلها في شيء من الأوصاف المذكورة. إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث.
فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنها سحر، ففي الحديث عن عائشة: «سَحَر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ
…
» والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
قلت: أما الذي أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المَلَك فإنّما سمّاها (طبًّا) كما مرَّ في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في «مقاييس اللغة» (408: 3):
فإن كنتُ مطبوبًا فلا زِلْتُ هكذا
…
وإن كنتُ مسحورًا فلا برأ السحرُ
(1)
وأقلّ ما يدل عليه هذا: أنّ الطّبَّ أخصّ من السِّحْر، وأن من الأنواع التي يُصاب بها الإنسان ويطلق [ص 184] عليها «سحر» ما يقال له:«طبّ» وما لا يقال: «طب» . وعلى كلِّ حال فالذي ذُكِر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون، ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله. وقد قدَّمْتُ أنَّ وقوع أثر ذلك نادر، فلا غرابة في خفاء تفسيره. وهذا يغني عما تقدم (ص 98)
(2)
.
ثم نقل أبو ريَّة ص 261 ــ فصلًا عن صاحب «المنار» فيه: (إن بعض أحاديث
(1)
البيت من ثلاثة أبيات اختلف في نسبتها، فقيل: لمجنون ليلى «ديوانه المجموع» (ص 100)، وقيل: للنهدي «الحماسة» : (2/ 29)، وقيل: لرجل من بني ربيعة «سمط اللآلي» : (1/ 403).
(2)
(ص 190 ــ 191).
الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يَلْزم العملُ بها).
أقول: عدم الثبوت والطمأنية قد يكون لسبب بيِّن، وقد يكون لسبب محتمل يقوَى عند بعض أهل العلم ويضعف عند بعضهم، وقد يكون لما دون ذلك من هوى وزيغ وارتياب وتكذيب. وعلى الأمة أن تُنْزِل كلّ واحد من هؤلاء منزلته بحسب ما يتبيَّن من حاله. وكما أننا إذا رأينا مَنْ يتعبَّد عبادة غير ثابتة شرعًا، فسألناه، فذكر حديثًا باطلًا، فبيَّنَّا له فقال: هو ثابت عندي مطمئنٌّ به قلبي= كان علينا أن ننكر عليه، وكان على وليِّ الأمر ومن في معناه منعه ومعاقبته. فكذلك إذا رأينا رجلًا ينفي حديثًا ثابتًا وبيَّنَّا له ثبوته، فقال: لم يثبت عندي ولم يطمئنَّ به قلبي، ولم يذكر سببًا، أو ذكر سببًا لا يُعتَدُّ به شرعًا.
قال: (ولذلك لم يكن الصحابة يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها
…
).
أقول: قد تقدم الكشف عن هذا (ص 20 - 50)
(1)
.
قال: (ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحمل الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ).
أقول: إنما أنكر الإلزام بـ «الموطأ» ، لأنه يعلم أنَّ فيه أحاديث أخذ بها هو وقد يكون عند غيره ما يخصِّصها، أو يقيّدها أو يعارضها، وفيه توقّف عن أحاديث قد يكون عند غيره ما يقوِّيها ويؤيِّدها، وقد يكون عند غيره أحاديث لم يقف عليها هو، وفيه كثير مما قاله باجتهاده، وفي الأمة علماء لهم أن
(1)
(ص 41 ــ 99).
يجتهدوا ويعملوا بما رَجَح عندهم وإن خالفوا مالكًا، وفوق هذا كلِّه فهو يعلم أنه بنى على ما فهمه من القرآن ومن الأحاديث التي ذكرها، وأنَّ في علماء الأمة من يخالفه في بعض ذلك الفهم.
وعلى كلِّ حال فليس في امتناع مالك من إلزام الأمة كلها علمائها وعامّتها بقوله ما يقتضي أن لا يُلْزَم بالعمل بالحديث مَنْ يعلم أنه ليس عنده ما يخالفه إلا الهوى والزيغ والارتياب والتكذيب والعناد.
ثم قال ص 262: (وإنما يجب العمل
…
). كرر معنى ما تقدم.
[ص 185] قال: (أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد
…
).
أقول: راجع (ص 182)
(1)
.
قال: (وكل من ظهر له علة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لأجلها فهو معذور كذلك).
أقول: الصواب في هذا أن يُنظر في تلك العِلّة ويُعامل صاحبها بما يستحق، كما مرَّ.
قال: (ولا يصح أن يقال: إنه مكذب لحديث كذا).
أقول: أمّا إن زعم أنه كذب فهو مكذِّب له، ولا يَضُرُّه ذلك مالم يلزمه أحد أمرين: إما تكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإما تكذيبُ صادقٍ بغير حجة.
قال: (وهي تفيد الظن).
أقول: في هذا كلام معروف.
(1)
(ص 345 ــ 346).