المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن - دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم = الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين

[عبد المحسن المطيري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: تعريف الطعن في القرآن

- ‌المبحث الثاني: مصطلحات ترادف الطعن في القرآن

- ‌المبحث الثالث: التعريف بالطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري

- ‌الباب الأول (النظري) الطعن في القرآن: نشأته، أسبابه، مواجهته

- ‌الفصل الأول: تاريخ الطعن في القرآن والكتب المؤلفة فيه

- ‌المبحث الأول: أول من تكلم فيه

- ‌المبحث الثاني: أول من ألف فيه

- ‌المبحث الثالث: اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال

- ‌المبحث الرابع: الكتب المؤلفة فيه

- ‌الفصل الثاني: أسباب الطعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: لماذا هذه الحرب على القرآن

- ‌المبحث الثاني: ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن

- ‌المبحث الثالث: أنواع المطاعن

- ‌المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن

- ‌الفصل الثالث: مواجهة دعاوى الطعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: تنزيه كلام الله عن المطاعن

- ‌المبحث الثاني: موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن

- ‌المبحث الثالث: قواعد التعامل مع المطاعن

- ‌الباب الثاني (تطبيقي) : موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم

- ‌الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: بشارة الكتب السابقة به:

- ‌المطلب الثاني: شهادة المنصفين:

- ‌المطلب الثالث: الآيات التي يجريها الله على يديه يخرق فيها العادة:

- ‌المطلب الرابع: إقرار الله تعالى له ولدعوته واستجابة دعائه

- ‌المطلب الخامس: من الأدلة على صدقه صلى الله عليه وسلم كمال أخلاقه:

- ‌المطلب السادس: جوابه الحاضر على أسئلة المشككين:

- ‌المطلب السابع: عدم استغلاله فرص التعالي:

- ‌المطلب الثامن: استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه، غير وجل ولا خائف أن يحيق به شيء

- ‌المطلب التاسع: حمايته من كل ما يكاد به، ونجاته من كل محاولات الاغتيال:

- ‌المطلب العاشر: انتفاء الغرض الشخصي:

- ‌المطلب الحادي عشر: إخباره بالنهايات في البدايات:

- ‌المطلب الثاني عشر: إخباره بالغيب:

- ‌المطلب الثالث عشر: إحكام التشريع

- ‌المطلب الرابع عشر: الإعجاز العلمي:

- ‌المطلب الخامس عشر: الوصف الدقيق للغيب:

- ‌المطلب السادس عشر: تأليف قلوب العرب:

- ‌المطلب السابع عشر: الإلزام:

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على صدق القرآن وما فيه

- ‌المطلب الأول: إعجاز القرآن:

- ‌المطلب الثاني: التحدي أن يؤتى بمثله:

- ‌المطلب الثالث: شهادة المنصفين من أهل الكتاب والكفار وأعدائه له بالصحة والصدق:

- ‌المطلب الرابع: الوحدة الموضوعية لكل سورة:

- ‌المطلب الخامس: عدم التناقض:

- ‌المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين

- ‌المبحث الرابع: ردود إجمالية أخرى

- ‌المطلب الأول: عدم معارضة كفار مكة له، مع أنهم أكثر الناس عداوة وفصاحة:

- ‌المطلب الثاني: إثبات الدليل (من أين لك هذا

- ‌المطلب الثالث: مخالفة الواقع:

- ‌المطلب الرابع: إجماع الأمة على ذلك (من سبقك إلى هذا) :

- ‌الفصل الثاني: الردود التفصيلية على من طعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى (مصدر القرآن)

- ‌المطلب الأول: دعواهم أن القرآن من عند النبي محمد صلى الله عليه وسلم :

- ‌المطلب الثاني: نقله من غيره ، والرد عليهم:

- ‌المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته، والرد عليهم

- ‌المبحث الثاني: زعم عدم حفظه (النص القرآني)

- ‌المطلب الأول: شبهة أنه ليس هو القرآن الذي أنزل:

- ‌المطلب الثالث: النسخ في القرآن:

- ‌المبحث الثالث: اتهام القرآن بالتناقض

- ‌المطلب الأول: هل في القرآن تناقض حقيقي

- ‌المطلب الثاني: زعم تناقض بعض الآيات مع بعض

- ‌المبحث الرابع: اتهام القرآن بمعارضة الحقائق

- ‌المطلب الأول: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية:

- ‌المطلب الثاني: دعوى تعارض القرآن مع الوقائع التاريخية:

- ‌المطلب الثالث: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن

‌المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن

ذكرنا في المبحث السابق الطعون العامة التي يوردها الطاعنون، ونشير هنا إلي الأسباب التي كانت وراءها، أو التي دفعت هؤلاء إلي الخوض في قضايا تمس القرآن الكريم، ومن ثم يمكن القول بأن اختلافهم في القرآن يرجع إلى مجموعة من الاعتبارات؛ نذكر أهمها فيما يلى:

أما نفي نسبة القرآن إلى الله تعالى، وزعم عدم حفظ القرآن، وما يندرج تحتهما من طعونات، فإنها دعاوى من غير أدلة ولا برهان، وسببها الحقد المحض، ولعل سببها الوحيد لديهم دعواهم وجود التناقض في القرآن، والتناقض دليل على عدم قدسيته.

وأما دعوى تناقض القرآن فإنها ترجع لخمسة أسباب، كما ذكرها الزركشي، فقد قال رحمه الله:

الأول: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى:

كقوله تعالى في خلق آدم إنه {من تراب} [آل عمران: 59]، ومرة {من حمأ مسنون} [الحجر: 26] ، ومرة {من طين لازب} [الصافات: 11] ، ومرة {من صلصال كالفخار} [الرحمن: 14] ، وهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها في أحوال مختلفة؛ لأن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر، وهو التراب، ومن التراب

ص: 90

تدرجت هذه الأحوال.

ومنه قوله تعالى: {فإذا هي ثعبان مبين} [الشعراء: 32]، وفي موضع {تهتز كأنها جان} [القصص: 31] ، والجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها؛ وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته.

السبب الثاني: اختلاف الموضوع:

كقوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون} [الصافات: 24]، وقوله:{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} [الأعراف: 6]، مع قوله:{فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 36] ؛ قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه.

وحمله غيره على اختلاف الأماكن؛ لأن في القيامة مواقف كثيرة، فموضع يسأل ويناقش وموضع آخر يرحم ويلطف به، وموضع آخر يعنف ويوبخ وهم الكفار، وموضع آخر لا يعنف وهم المؤمنون.

وقوله: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} [البقرة: 174]، مع قوله:{فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 92-93] وقيل: المنفي كلام التلطف والإكرام، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة،

ص: 91

فلا تنافي، وقيل: إن المنفي كلامهم في النار، والمثبت كلامهم في الحساب.

وكقوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]، مع قوله:{ولا يكتمون الله حديثا} [النساء: 42] ، فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق، والجواب من وجهين؛ أحدهما: أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب، وفي بعضها لا يقع، كما سبق، والثاني: أن الكذب يكون بأقوالهم، والصدق يكون من جوارحهم، فيأمرها الله تعالى بالنطق فتنطق بالصدق.

ومنه قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102]، مع قوله:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ، يحكى عن الشيخ العارف أبي الحسن الشاذلي، رحمه الله، أنه جمع بينهما فحمل الآية الأولى على التوحيد، والثانية على الأعمال، والمقام يقتضي ذلك؛ لأنه قال بعد الأولى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (.

وقيل: بل الثانية ناسخة؛ قال ابن المنير: الظاهر أن قوله: (اتقوا الله حق تقاته (إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم حق تقاته بأن قال:«هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر» . فقالوا: أينا يطيق ذلك. فنزلت (فاتقوا الله

ص: 92

ما استطعتم (وكان التكليف أولا باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس، كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا، والاقتدار منزل على هذا الاعتبار، ولم ينحط من درجاته، وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني: وفي كون ذلك منسوخا نظر، وقوله: (ما استطعتم (هو (حق تقاته (إذ به أمر فإن (حق تقاته (الوقوف على أمره ودينه، وقد قال بذلك كثير من العلماء اهـ.

والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره (حق تقاته (لم يثبت مرفوعا، بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي، وليس فيه قول الصحابة: أينا يطيق ذلك، ونزول قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم (.

ومنه قوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء: 3] مع قوله في أواخر السورة: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء: 129] فالأولى تُفهم إمكان العدل، والثانية تنفيه؛ والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن، وهذا ممكن الوقوع وعدمه، والمراد به في الثانية الميل القلبي؛ فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض، وقد كان يقسم بين نسائه ثم يقول:" اللهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تؤاخذني بما لا أملك ". يعني ميل القلب،

ص: 93

وكان عمر يقول: اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل.

ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام؛ أشار إليه ابن عطية، وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير، فيرتفع به الإشكال كقوله تعالى:{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] ثم قال سبحانه: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (والأصل في الأولى: وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة، والأصل في الثانية: وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات.

وكقوله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] مع قوله: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} [الإسراء: 16] ، والمعنى أمّرناهم وملّكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا، والمراد بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا ولكن قضاء؛ لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد، وفرقٌ بين الأمر الكوني والديني.

الثالث: الاختلاف في جهتي الفعل:

كقوله تعالى: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17] ؛ أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم باعتبار التأثير؛ ولهذا قال الجمهور: إن الأفعال مخلوقة لله تعالى، مكتسبة للآدميين، فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى. وكذا قوله:{وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال:17] أي ما رميت خلقا إذ

ص: 94

رميت كسبا. وقيل: إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال وهما بكسب الرامي، وعلى التبليغ والإصابة وهما بفعل الله عز وجل؛ قال ابن جرير الطبري: وهي الدليل على أن الله خالق لأفعال العباد؛ فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه، وذلك فعل واحد؛ لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم ومن نبيه بالحذف والإرسال، وإذا ثبت هذا لزم مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة، فمن الله تعالى الإنشاء والإيجاد، ومن الخلق الاكتساب بالقوى.

ومثله قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34] وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر لاختلاف جهتي الفعل.

الرابع: الاختلاف في الحقيقة والمجاز:

كقوله: {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} [الحج: 2]{ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} [إبراهيم: 17] وهو يرجع لقول المناطقة: الاختلاف بالإضافة. أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى أهوال القيامة مجازا، وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة.

ومثله في الاعتبارين قوله تعالى: {آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة:8] وقوله: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 21]، وقوله تعالى:{وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 198] ، فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار، لجواز قولهم: نظرت إليه فلم أبصره.

ص: 95

الخامس: بوجهين واعتبارين:

وهو الجامع للمفترقات، كقوله:{فبصرك اليوم حديد} [ق: 22] وقال: {خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45]، قال قطرب: (فبصرك (: أي علمك ومعرفتك بها قوية، من قولهم: بصر بكذا وكذا. أي علم، وليس المراد رؤية العين، قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم الحديد (وصف البصر بالحدة.

وكقوله تعالى: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك} [الأعراف: 127] مع قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ؛ فقيل: يجوز أن يكون معناه: ويذرك وآلهتك إن ساغ لهم، ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا كان يعبد في دين قومه، ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى، كما تقول العرب موالي من فوق وموالي من أسفل، فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له، فيحسن قولهم:(وآلهتك ((1)، وقوله تعالى:{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} [الرعد: 28] مع قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [الأنفال: 2] فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة؛ وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى، فتوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله:{تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23] فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم، ووثقوا به، فانتفى عنهم الشك.

(1) وقيل إن معنى (آلهتك) إلاهتك أي عبادتك، انظر: تفسير ابن كثير (2/239) .

ص: 96

وكقوله: {خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] وفي موضع {ألف سنة} [السجدة: 5]، وأجيب بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل {وكان يوما على الكافرين عسيرا} [الفرقان: 26] . وكقوله: {بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] وفي آية أخرى {بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} [آل عمران: 124]، قيل: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف، وكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف (مردفين) بفتحها

) (1) .

إذن فأسباب إيهام التناقض عند الزركشي خمسة: -

السبب الأول: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى.

السبب الثاني: اختلاف الموضوع.

السبب الثالث: اختلافهما في جهتي الفعل.

السبب الرابع: اختلافهما في الحقيقة والمجاز.

السبب الخامس: الاختلاف لوجهين واعتبارين.

وذكر صاحب كشف الأسرار أن من أسباب الاختلاف في القرآن:

(1- (الغُمُوض فِي المعنى) أَيْ الْإشكال إنَّمَا يَقَعُ لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ قولُه تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (، اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ أَوْ بِمَعْنَى أَيْنَ، فَعُرِفَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ، بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ وَبِدَلَالَةِ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي الْأَذَى الْعَارِضِ ، وَهُوَ الْحَيْضُ فَفِي الْأَذَى اللَّازِمِ أَوْلَى.

2-

(والاستعارة البديعة) وَأَمَّا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ (، فَالْقَوَارِيرُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِضَّةِ،

(1) البرهان للزركشي (64-74) بتصرف واختصار.

ص: 97

وَمَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَكُونُ قَوَارِيرَ، وَلَكِنْ لِلْفِضَّةِ صِفَةُ كَمَالٍ، وَهِيَ نَفَاسَةُ جَوْهَرِهِ وَبَيَاضُ لَوْنِهِ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَصْفُو وَلَا تَشِفُّ وَلِلْقَارُورَةِ صِفَةُ كَمَالٍ أَيْضًا، وَهِيَ الصَّفَاءُ وَالشَّفِيفُ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ ، وَهِيَ خَسَاسَةُ الْجَوْهَرِ، فَعُرِفَ بَعْدَ التَّأَمُّلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ صِفَةُ كَمَالِهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ ، وَهِيَ مَعَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ وَشَفِيفِهَا. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (، فَاللِّبَاسُ لَا يُذَاقُ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُ الظَّاهِرَ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَالْإِذَاقَةُ أَثَرُهَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا شُمُولَ لَهَا، فَاسْتُعِيرَتْ الْإِذَاقَةُ لِمَا يَصِلُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ إلَى الْبَاطِنِ وَاللِّبَاسُ بِالشُّمُولِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. أَيْ أَثَرُهُمَا وَاصِلٌ إلَى بَوَاطِنِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ شَامِلًا لَهُمْ.)(1)

ولعل أضبط التقاسيم بالنسبة لأسباب الطعون هو ما ذكره الراغب الأصبهاني (2) ؛ حيث قال:

(والمتشابه من القرآن: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره؛ إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى؛ فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:

محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه.

(1) كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري الحنفي (1/54) ، دار الكتاب الإسلامي، بيروت.

(2)

في كتابه المفردات (ص: 443- 444) تحقيق الداوودي، دار القلم، دمشق.

ص: 98

فالمتشابه في الجملة (1) ثلاثة أضرب:

متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.

- والمتشابه من جهة اللفظ ضربان:

1-

أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك:

أ-إما من جهة غرابته نحو: الأبّ (2) ، ويزفون (3) .

ب-وإما من جهة مشاركة اللفظ كاليد، والعين (4) .

2-

والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب:

أ- ضرب لاختصار الكلام نحو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ

} [النساء: 3] ، أي فلا تتزوجوهن وانكحوا

،

ب- وضرب لبسط الكلام نحو: {ليس كمثله شيء} [الشورى-11]، لأنه لو قيل: ليس مثله شيء. كان أظهر للسامع.

ج - وضرب لنظم الكلام نحو {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيما} [الكهف/1-2]، تقديره: أنزل الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجاً. وقوله: (لولا رجالٌ مؤمنون (إلى قوله: {لو تزيّلوا} [سورة الفتح /25] .

(1) يعني بقسميه المتشابه المطلق، والمتشابه من وجه.

(2)

كما في قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] .

(3)

كما في قوله تعال {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] .

(4)

فاليد تطلق على الجارحة والقوة والنعمة، وكذلك العين لها عدة معان مشتركة فتطلق على الشمس والبئر والجارحة وغير ذلك.

ص: 99

- والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه.

-والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب:

الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص (1) نحو: {اقتلوا المشركين} [التوبة5] .

والثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب (2)، نحو:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء/3] .

والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ (3) نحو: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] .

(1) العموم: هو شمول الحكم لكل فرد من أفراد الحقيقة، والخصوص: هو إخراج بعض ما يتناوله العموم قبل تقرر حكمه، انظر: تقريب الأصول إلى علم الأصول لابن جزئ الكلبي، ص: 137-141، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1414.

(2)

الوجوب: ما طلب الشرع فعله طلبا جزما (تقريب الأصول ص: 211)، والندب: ما طلب الشرع فعله طلبا غير جازم (السابق ص: 212) .

(3)

الناسخ: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا، التقريب، ص: 430، المنسوخ: هو الحكم الشرعي المرفوع بالخطاب الشرعي المتراخي عنه، السابق، نفس الموضع.

ص: 100

والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} [البقرة: 189] وقوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37] ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية.

والخامس: من جهة الشروط التي بها يصح الفعل، أو يفسد، كشروط الصلاة والنكاح.

وهذه الجملة إذا تصورت، علم أن كل ما ذكره المفسرون من تفسير المتشابه، لا يخرج عن هذه التقاسيم.

ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب:

ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة ونحو ذلك.

وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة.

وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام لابن عباس "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل ".

وإذا عُرفت هذه الجملة عُلم أن الوقف على قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله (ووصله بقوله (والراسخون في العلم (جائز، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. اهـ.

ص: 101