الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ (فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ)(1) .
وقد قررنا أن القرآن جاء ليقر الحق ويصحح الخطأ.
ثم نقول لهم: إن العرب -الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم -كانوا أعرف الناس بالشعر، وأحرص الناس على الطعن في القرآن؛ ومع هذا لم يورد أحد منهم هذا الطعن الساذج.
المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته، والرد عليهم
(2) :
أولا: هذا لون آخر من ألوان المواجهة البغيضة ضد القرآن، وهو
(1) متفق عليه: (البخاري: كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة، رقم: 394، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، رقم: 2399) .
(2)
وفي مجلة البيان - العدد 159،لشهر فبراير 2001- مقال بعنوان (الليبرالية العربية وهدم النص والسقوط في التبعية) لمحمود سلطان، أصل هذا المنهج وعرف بأشهر رموزه - أمثال شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد وإسماعيل مظهر وأدونيس وفرج فودة وهشام الترابي، وعلي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم وطه حسين-.
ليس موجها ضد النص القرآني في مصدره الإلهي، ولكنه يستهدف أثر القرآن في الحركة الفكرية والتقدم العلمي.
فهو قد يقر بأن القرآن من عند الله، ولكن هذا الأمر لا يجعله يسلم من النقد والمخالفة، وحقيقة هذا الطعن أنه إنكار لقدسيته، وأنه من عند الله ولكن بأسلوب ذكي؛ لأنه يعلم أنه لو صرح بإنكار القرآن وأنه ليس من عند الله، فسوف يلقى طوفاناً من المواجهة والتهم التي قد تصل إلى تكفيره؛ فلجأوا إلى هذه الشبهة ومؤداها هو نفس مؤدى إنكار القرآن، فأهم قضية عند المسلمين -وهي التي تؤرق الكافرين وأذنابهم- أن القرآن قدسي لا يقبل النقد، وحاكم واجب الاتباع.
و (يتزعم هذه النزعة ضد الإسلام الفيلسوفان الألمانيان؛ تنمان المتوفى 1829 وبروكر المتوفى 1770، والفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان المتوفى 1947، ويرى هؤلاء أن أهم عوامل الركود في العقلية العربية وضآلة الفكر الإسلامي ترجع إلى القرآن أولا، فهو كتاب المسلمين المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر)(1) .
وبما أنه يعوق النظر العقلي الحر فيجب هجره وعدم التعويل عليه أو التحاكم له،
ويقول طه حسين: (لا شك أن الباحث الناقد، والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر)(2) .
(1) القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين، للدكتور أحمد الشاعر (ص:96-97) ، وانظر التمهيدي في تاريخ الفلسفة للشيخ مصطفى عبد الرازق (ص:5) .
(2)
نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد أحمد عرفة، ص:4.
ويقول: (إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية، أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة، فالأمة تتجد بمعزل عن الدين)(1) .
ويقول نصر حامد أبو زيد: (آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان)(2) ،
وكتب نصر أبو زيد ومحمد أركون الجزائري (3) تدور حول هذه القضية وأن القرآن -لو سلمنا بسلامة نصه وأنه من الله- فإن مفهومه ليس إلهيا ولا مقدسا بل هو إنساني (4)، ولنضرب بعض الأمثلة لكلامهم في هذا الباب:
يقول نصر أبو زيد: (إن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث مفهومه يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوما يفقد
(1)(طه حسين حياته وفكره) لأنور الجندي، ص:144، نقلا عن كتاب مستقبل الثقافة في مصر.
(2)
انظر كتابه: " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية "،ص:112، نشرته شركة (سينا للنشر) سنة:1991.
(3)
انظر كتاب: تهافت الاستشراق العربي (بحث نقدي في فكر وإنتاج محمد أركون) ، لمحمد بريش؛ رئيس تحرير مجلة الهدى المغربية، وهي عبارة عن مقالات له في المجلة في الأعداد 13،14،15،16،17،18،19.
(4)
انظر كتبه " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية "، " ونقد الخطاب الديني"، و" مفهوم النص "، وغيره من الكتب والمقالات.
صفة الثبات، ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية (1) لا ندري عنها شيئا، والنص منذ لحظة نزوله الأولى، تحول من كونه (نصا إلهيا) وصار فهما (نصا إنسانيا) ؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل، إن فهم النبي صلى الله عليه وسلم (2) للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري، ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية
…
) (3) ،
ويقول عن القرآن: (كتاب العربية الأكبر وإثرها الأدبي الخالد دون نظر إلى اعتبار ديني)(4)، ويقول (إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي) (5) . ويقول:(منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب)(6) .
(1) يعني الأمور الغيبية غير المحسوسة، وهذه العبارات يكثر منها أبو زيد في كتبه -مع أن أكثر الناس لا يفهمونها-لإعطاء القارئ انطباعا بعمق المؤلف، ومدى اتساع علمه وثقافته، فيكسب نفسه هالة من قوة الطرح التي تنطلي على ضعاف الشخصيات والمتأثرين به، وهذا من أساليب الإرهاب الفكري الخفي، فهو يستطيع أن يقول (حالة غيبية لا ندري عنها شيئا) وتكون أسهل في الفهم، ولكنه يريد أن يتعالم أمام القارئ.
(2)
لم يذكر في كتابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بل هي مني.
(3)
نقد الخطاب الديني (ص:126) ، القاهرة، مطبعة مدبولي، الطبعة الثالثة.
(4)
مفهوم النص، لنصر أبو زيد (ص:12) .
(5)
المرجع السابق (ص:27) .
(6)
انظر قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، د. عبد الصبور شاهين (ص:86) .
وهذا هو أساس المذهب العلماني الذي ينطلق من مبدأ عزل الدين عن السياسة، وينتهي بعزل الدين عن الحياة (1) .
ثانيا: الرد عليهم:
يحسن فى بداية هذا الرد أن أقرر أن ثمة فرقاً كثيرة من الفرق المنحرفة، فتحت هذا الباب للطاعنين؛ منها المعتزلة في دعواهم تقديم العقل على النقل (2) ، ومنها الصوفية في دعواهم أن للقرآن معنى ظاهرا وباطنا، وأن الباطن لا يفهمه إلا كبار مشايخ الصوفية، وأن الكشف والرؤى والمنامات أهم مصادر التلقي عندهم (3) ، ومنها الشيعة الذين يقدمون قول الأئمة على القرآن (4) .
لذلك كان من أهم ما يميز عقيدة أهل السنة والجماعة ما يسمى بمنهج التلقي (5) ، فهم يعتمدون في تلقى الأحكام الشرعية على القرآن
(1) انظر: كتاب العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي، مصر، مكتب الطيب، ط2،1999.
(2)
انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص:56) ، بيروت، دار المعرفة، ط7،1998، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/73) ، نشر الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، ط3،1418.
(3)
انظر كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، القاهرة، دار الحرمين، ط4،1989.
(4)
انظر كتاب: (أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، عرض ونقد) ،د. ناصر بن عبد الله القفاري، القاهرة، دار الحرمين للطباعة، ط2،1994.
(5)
انظر: رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص:15) ،دار ابن خزيمة، الرياض، الطبعة الأولى 2002، والموسوعة الميسرة (1/40) ،وغيره من كتب العقيدة وأصول الفقه.
والسنة والإجماع والقياس، وغيرها من الأدلة التي يذكرها كل من تكلم في علم أصول الفقه، ويعتمدون في الفهم على فهم السلف الصالح للنصوص.
والرد على هؤلاء وهؤلاء كالتالي:
إذا ثبت أن القرآن ليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه من الله تعالى بكل ما فيه من كلمات وحروف-كما أثبتنا هذا في المباحث السابقة- فهو إذن مقدس لا يمكن الاعتراض عليه ولا نقده، فقد أمر الله الناس باتباع الشرع، والأمر يدل على الوجوب؛ فقال سبحانه:
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109] ، فكيف نخالف أمر الله تعالى بأن نتبع غير الوحي؟
ومن أعظم معاني العبادة الرضى به حَكَمًا سبحانه:
{..إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] ، فالدين القيم أن تجعل تحاكمك لله، والتحليل والتحريم والتشريع من خصائص الربوبية، ومن جعلها لغير الله فقد اتخذه ندا له سبحانه:
{
…
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] .
والحصر يدل على انفراد الله تعالى بالحكم.
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: " أَتَيْتُ النَّبِيَّ (وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ ". وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا
اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. ((1) .
يعني أنهم لم يتخذوهم أربابا لأنهم عبدوهم، بل لكونهم أطاعوهم في التحليل والتحريم.
وقال سبحانه: {..وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] ، فسمى التحاكم لغيره شِركًا (2) ،
وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} [الشورى:10] ، وكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي وهذا من صيغ العموم، فكل شيء نختلف فيه فالحكم فيه لله، ثم أكد على إرادة العموم بـ (من) التي تفيد التأكيد (3) .
والله سبحانه لا يحكم ولا يقضي إلا بالحق، فمن رد حكم الله وشرعه فإنما رد الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ
…
} [يونس:32] .
قال جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
…
} [المائدة:48] .
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
…
} [النساء:105] .
وقال سبحانه: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ
…
} [الإسراء:105] ، فهو متلبس بلبوس الحق على كل أحواله (4) .
والله تعالى لا يظلم ولا يحيف في الحكم (5) (
…
أَمْ يَخَافُونَ
(1) أخرجه الترمذي (كتاب التفسير، باب سورة التوبة، رقم:3095) وحسنه الألباني (صحيح الترمذي (3/56) رقم:2471) .
(2)
انظر: أضواء البيان للشنقيطي (4/91) ،مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1988.
(3)
انظر: تفسير القرطبي (16/7) .
(4)
انظر: تفسير القاسمي (4/636) .
(5)
انظر تفسير ابن كثير (3/298) .
أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ ( [النور:50] ، فلماذا إذن لا نأخذ حكمه؟
وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]{..وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87] ، {
…
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] .
فإن كان الله أحسن الحاكمين وخيرهم وأحكمهم، فكيف يعرض المسلم عنه إلى غيره؟ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله تعالى عنه:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام:114] ، يعني وأهل الكتاب يشهدون بفضله ومنزلته وأنه حق.
واتباع الرسالة هو ينبوع السعادة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(إن السعادة والهدى في متابعة الرسول، وإن الضلال والشقاء فى مخالفته، وإن كل خير فى الوجود إما عام وإما خاص، فمنشأه من جهة الرسول، وإن كل شر فى العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وإن سعادة العباد فى معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة (1) ،
(1) يشير ابن تيمية إلى ما أخرجه الترمذي (في كتاب الزهد، باب منه، رقم:2322) ، وابن ماجه (كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، رقم:4112) عن أبي هريرة مرفوعا (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا) ، وهو حسن، حسنه الترمذي والألباني (صحيح سنن الترمذي (2/269) .
وكذلك العبد ما لم تشرق فى قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة وهو من الأموات قال الله تعالى:(أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (فهذا وصف المؤمن، كان ميتا فى ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورا يمشى به فى الناس، وأما الكافر فميت القلب (في الظلمات) ، وسمى الله تعالى رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا (فذكر هنا الأصلين وهما الروح والنور، فالروح الحياة، والنور النور.
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض الى الطب، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فان الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (أي لا مفلح إلا هم، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما، وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل.
ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة،
وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به واتخاذهم أولياء من دونه، وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به، واتبع غير سبيلهم، ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (وقال تعالى: (ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون (أي تمرون عليهم نهارا بالصباح وبالليل، وهذا كثير في الكتاب العزيز يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل، ونجاة اتباع المرسلين؛ ولهذا يذكر سبحانه فى سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم (فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة وهو العزيز الرحيم، فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله واتباعهم برحمته.
والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة؛ فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمنا، وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان، والتوحيد، والعدل، والبر، والتصدق، والإحسان، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والحلم، والصبر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى
المماليك، والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب، عنده وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته وفى ضد ذلك شقاوته ومضرته فى دنياه وآخرته، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم، أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالا منها، فمَنْ قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها، فهو من خير البرية، ومَنْ رَدَّها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم، وفى الصحيح من حديث أبى موسى رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكانَتْ مِنهَا طَائِفَة قَبِلَتْ الماءَ فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبِ أَمْسَكَتِ الماءَ فنَفَعَ اللهُ
بها النَّاسَ، فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا، وأصابَ طائفةً منها أخرى إنما هي قيِعَانُ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلأ، فذلك مثل من فَقِهَ في دِينِ اللهِ تعالى ونَفَعَه ما بعثني اللهُ به، فعَلِمَ وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به» متفق على صحته.
فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولا من أنفسنا، يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ن وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين، والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة، وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا دَرسَتْ آثار الرسل من الأرض، وانمحت بالكلية، خرب الله العالم العلوي والسفلي، وأقام القيامة، وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله، يقول:" يا أيها الناس إنما أنا رحمةً مهداة " وقال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (وقال صلوات الله وسلامه عليه: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (1) وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل. أهـ) (2) .
لذلك كان من يعرض عن دين الله ويحكم أي شيء آخر، فإنما هو متبع لهواه:
قال سبحانه: (فَإِن لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] ؛ يعني لا أحد أضل ممن اتبع هواه.
وقال جل جلاله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم
(1) أخرجه الدرامي عن أبي صالح مرسلاً (المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبى رقم 150)
(2)
فتاوى ابن تيمية (19/93-101) بتصرف يسير.
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( [المائدة:49-50] ، فكل حكم غير حكم الله، فهو حكم الجاهلية، وليس الحضارة والتقدم كما يزعم الطاعنون.
وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
…
} [المائدة:48] .
وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد:37] ، وهذا وعيد شديد للنبي (لو خالف كتاب الله؛ فما بالك بغيره.
بل هذا التولي عن دين الله يعد من نواقض الإسلام يقول تعالى:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فنفى الله تعالى عن من لم يُحَكِّمِ النبيَّ (الإيمان، وأقسم على ذلك بأعظم قسم -أقسم بنفسه العلية- وأكد هذا بالنفي مرتين (لا.. لا) ، (وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة فإنه أولا اقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) فضم إلى التحكيم أمرا آخر هو عدم وجود حرج أي حرج في صدورهم فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى
يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله (ويسلموا) أي يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال (تسليما) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ويسلم لحكم الله وشرعه تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة.) (1)
وقال سبحانه:
{
…
وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] .
{
…
وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] .
{
…
وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] .
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( [النور:47-54] .
لذلك كله فلا يجوز لأحد كائنا من كان أن ينتقد كتاب الله
(1) فتح القدير للشوكاني (1/573) .
أو يخالف مقتضاه:
قال تعالى: {
…
وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] .
نعم لا يجوز لأحد أن يعقب على أحكام الله، وذلك أن الانتقاد والتعقيب إنما يكون بسبب أمور؛ إما أن المعقب والمنتقِد أعلم من المنتقَد، سواء كان أعلم على العموم أو بهذه المسألة بالذات التي أنتقد فيها، أو لا يكون أعلم ولكن المنتقَد غفل عن نقطة معينة في حكمه جانب فيها الصواب، فينبهه المنتقِد عليها.
وكل هذا منتفٍ بحق الله سبحانه، فلا أحد أعلم منه في كل الأمور جملة وتفصيلا،
والله سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نسيان ولا غفلة:
{
…
لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه:52] .
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132] .
وقد الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
…
} [النساء:105] .
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
…
} [النساء:64] .
إذن الغاية من إنزال الكتب أن يُتحاكم إليها، والغاية من إرسال الرسل طاعتها، فمن لم يحقق هذه الغايات فهو لم يؤمن أصلا بدين الإسلام، بل بكل الأديان، فما الدين إلا طاعة الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وما الإسلام إلا استسلام لله في تطبيق شرعه على نفسه ومجتمعه.
-الرد التفصيلي:
وأما زعم المستشرقين -تنمان وبروكر وفيكتور - أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر، فهذا باطل لوجوه:
1/القرآن أمر في كثير من الآيات بالنظر والتفكر والبحث:
فقد أمرهم الله تعالى بالنظر إلى كل العلوم، فأمر بالنظر إلى عالم النبات في قوله {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99] وقال سبحانه {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]، وأمرهم بالنظر إلى علم الفلك في قوله {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] ، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] ، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] ، وفي علم الطب والتشريح قال {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] ،
وأمرهم بالنظر إلى علم التاريخ فقال تعالى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] وقال {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20] ،
وفي علم الطبيعة والجغرافيا قال {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3] ،
وأثنى الله تعالى على المفكرين والمتأملين لهذا الكون فقال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران:191]، وأمر بالتفكر فقال {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8] ، وقال:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] .
فالزعم أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر هو غاية في المناقضة لصريح القرآن.
2/الذي يعوق أتباعه عن النظر العقلي الحر هو من كان يظن أن في كتابه شيئا من الخطأ يتعارض مع العقل، أما والحال أن القرآن ليس فيه شيء من الخطأ أو الخلل فإنه أمر بل تحدى أن يجد الناس في القرآن شيئا يخالف ما عليه النظر العقلي الحر (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ، وقد ألف الإمام ابن تيمية رحمه الله كتاب (درء تعارض العقل والنقل) قرر فيه أنه لا يمكن أن يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح وأن الشرع لا يأتي بشيء تحيله العقول، ثم فند فيه كل زعم المعارضة بينهما.
-قول طه حسين (الباحث الناقد والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) ومثله قول نصر أبو زيد (منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب) :
فهذا الكلام في غاية من الخطورة مخالف لما عليه إجماع المسلمين، وكيف لا يفرق الناقد بين كتاب الله المنزه سبحانه عن كل خطأ ونقص وكتاب إنسان المجبول على الخطأ والنقص، وما الطعن في كتاب الله إلا طعنا في الله سبحانه إذ القرآن من كلام الله الذي هو صفة من صفاته، فهل يجوز الطعن في الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، لقد اتفقت الملل والأديان والشعوب والمذاهب أن الإله المستحق للعبادة هو الذي بلغ الكمال المطلق في كل شيء، فإن كان الإله كاملا فما يقوله كامل أيضا، وما هذه الدعوى إلا تمهيدا لتجريئ الناس على كتاب الله؛ فإذا كان يمكن نقده إذن يمكن مخالفته وعدم اتباعه، بل هذا ما صرح به طه حسين نفسه عندما قال-كما تقدم-:(إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة فالأمة تتجد بمعزل عن الدين) وكذا صرح بهذا نصر أبو زيد عندما قال (آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان) .
ونحن نسأل هؤلاء الذين يرون وجوب التحرر من سلطة النصوص
ويرون أن القوانين الدينية لم تعد تصلح كأساس للأخلاق والأحكام، ما هو الذي يصلح إذن كأساس للأخلاق والأحكام؟ هل هي شريعة الغاب في أفريقيا، أم شريعة الإباحية في أوروبا التي تبيح للرجل فعل الفاحشة حتى أرحام وعائلته وتبيح زواج المثلين والشذوذ الجنسي مع الحيوانات، فما هي القوانين الوضعية التي تصلح الآن كأساس للأخلاق والأحكام؟.
وقد علم الله تعالى أن كثيراً من الناس سوف يعارض حكم الله بعقله القاصر، فأمر بالصبر على حكمه وعدم التنازل لأي بشر في هذه القضية:
قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
…
} [الإنسان:24] وهذه الآية ذُكِرَتْ كثيرا في كتاب الله.
وقام بعض الطاعنين من المعاصرين بحيلة جديدة لإبطال النصوص، فأخذوا يبحثون في كتب أهل العلم عن مدخل يلجوا منه إلى إسقاط العمل بكتاب الله وإبطال النصوص، فوجدوا قاعدة من قواعد التفسير للعلماء فيها قولان، فأخذوا القول الضعيف منهما والمخالف لما عليه الجمهور؛ لأنهم ظنوا أنه يخدم أغراضهم، وهذه القاعدة هي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأخذوا بالرأي الآخر وهو: أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وفهموا من هذه القاعدة فهما خاطئا؛ وهو أن كل نص يُخص الحكم بسببه ولا يتعدى فيه الحكم إلى غيره.
مع أن أصحاب القول المرجوح لم يقولوا هذا، بل رأوا أنه ما كان فيه نفس علة سبب النزول فله نفس الحكم من باب القياس الجلي، فالخلاف بين العلماء هو في الوقائع التي بمثل علة النص، هل تدخل
في النص بعمومه أم بالقياس، فهم لم يختلفوا في دخولها، وإنما اختلفوا في كيفية دخولها، فبعضهم قال: النص يشملها بعمومه. وبعضهم قال: لا يشملها النص، ولكن يقاس على المنصوص عليه.
وأما هؤلاء فقالوا: إن الحكم مقصور على سبب نزوله لا يتعداه إلى غيره بحال من الأحوال، لا نصا ولا قياسا، وشنوا حربا على قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) حتى قال المستشار العشماوي: إن قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) قد حدثت في فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقلي) ، وهذا ما يدندن عليه نصر أبو زيد في كتابه
(مفهوم النص) كثيرا، ثم زادوا الطين بلة، فقالوا: والنصوص لا تفهم إلا بأسباب نزولها، فما لم يكن له سبب نزول معروف، فلا يجوز تطبيقه ولا العمل به، وبما أن أكثر النصوص من هذا الباب؛ إذن فيجب على الناس أن يجتهدوا في كل زمان في تشريع الأحكام التي تناسب عصرهم بقطع النظر عن القرآن، فهم يريدون تفريغ القرآن من محتواه وجعله أوعية فارغة، وقوالب لا معنى لها، أو لها معنى مقصور على عصر التنزيل فقط (1) .
ومِثْل هذا أيضا جارودي (2) الذي يرى أن القرآن موجه إلى
(1) انظر في دراسة هذا الموضوع والرد على المخالفين فيه كتاب (أسباب النزول بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني) ، للدكتور محمد سالم محمد، القاهرة، ط1، 1996،وهو يريد بهذا الرد على نصر أبو زيد ومحمد سعيد العشماوي ومحمد أركون الجزائري الذين تبنوا هذا الرأي ودافعوا عنه في مؤلفاتهم، وقد لخصته في هذه الصفحات.
(2)
روجيه جارودي [1913 - على قيد الحياة] : مفكر فرنسي معروف، كان أحد كبار زعماء الحزب الشيوعى الفرنسى سابقاً، أعتنق النصرانية فى مرحلة الشباب، وفي عام 1933 أنضم إلي الحزب الشيوعي الفرنسي،، وفصل عنه عام 1970، وفي جنيف وتسمى بـ (رجاء جارودي) ، وكتب العديد من المؤلفات، ولكن كان لثقافته الشيوعية بقية آثار على فكره، فكان أحيانا يتخبط فى كتبه. [انظر:"فكر جارودي بين المادية والإسلام "، لعادل التل، ص 25، " قالوا عن الإسلام " ص 214]
شعب معين في تاريخ محدد (1) ، ويكفيك من شر سماعه، وحكاية كلام هؤلاء يكفي في بطلانه، وبيان بشاعته وخطورته على الدين، وقد تقدم في النصوص السابقة من الكتاب والسنة الرد عليهم، فيغني عن إعادته.
(1) فكر جارودي بين المادية والإسلام (نقد كتابات روجيه جارودي في ضوء الكتاب والسنة) ، عادل التل، (ص:131) ، دار البينة، بيروت، ط2،1997.