الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: تنزيه كلام الله عن المطاعن
في هذا المبحث نبين عقيدة من عقائد المسلمين الثابتة، ولكن قل من يعرف أدلتها من الكتاب، فأحببت في هذا المبحث أن أجمع جميع الآيات التي تدل على تنزيه كلام الله
- تعالى - من المطاعن وشرح معناها.
قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، فالتدبر للقرآن، ومعرفة أنه ليس فيه أدنى اختلاف، يورث الإنسان العلم أنه من عند الله، إذ لو كان من عند البشر لكان فيه اختلاف كثير، قال البغوي:(أي أفلا يفكرون فيه فيعرفوا-بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر-أنه كلام الله تعالى؛ لأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن التناقض والاختلاف)(1) .
وقال تعالى: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1-2] أي لا شك فيه، وكلمة (ريب (نكرة في سياق النفي فتعم، فنفى الله جميع أنواع الريب والشك كبيرها وصغيرها ظاهرها وباطنها، قال القرطبي: (لا ريب نفي عام، والريب هو الشك والتهمة، فكتاب الله لاشك فيه ولا ارتياب.)(2) .
(1) معالم التنزيل للبغوي (2/254) ، تحقيق محمد النمر، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1989.
(2)
جامع أحكام القرآن للقرطبي (1/112) باختصار.
وهذا أمر عجيب، فالعادة في كتب بني البشر أن يستفتح أحدهم كتابه بالاعتذار وإظهار العجز، وأن كتابه فيه أخطاء، والمرجو تقبل الحق الذي فيه، والتماس العذر لأخطائه، وبعضهم يطالب القارئ بإصلاح ما يجد، وبعضهم يقول:
إن تجد عيبا فسد الخللا جل من لا عيب فيه وعلا ولكن الله - تعالى - استفتح كتابه بهذه الكلمة، معلنا فيها التحدى لكل من يقرأ أن يجد فيه خطأ أو ريبا أو شكا.
وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] ، فليس فيه أدنى اعوجاج، وما كان كذلك فلا يمكن أن يتطرق الطعن فيه، قال القاسمي رحمه الله: ((عوجا (أي شيئا من العوج، باختلال في نظمه وتناف في معانيه، أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق، بل جعله مزيلا للعوج إذ جعله
(قيما (( (1) .
فهذا القرآن هو أحسن الحديث وأجمله، فلا كتاب أحسن منه، وإذا كان القرآن أحسن الحديث، فإنه لا يمكن لما هو أحسن الحديث، أن يكون فيه تناقض أو إشكال أو مجال للطعن.
وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، قال ابن كثير رحمه الله: (أي ليس للبطلان
(1) محاسن التأويل للقاسمي (5/7) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994.
إليه سبيل؛ لأنه منزل من رب العالمين) (1) ، وهذا نص صريح على استحالة وجود الباطل في كتاب الله، بل على استحالة افترائه عليه، فإن الله يوكل من عباده من ينفي عنه انتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وذلك مصداقا لقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، فـ {مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] ، بل هو كتاب عظيم فصل (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ () وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ( [الطارق: 13-14] .
فهذا الكتاب (مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ( [الشعراء: 210-211]، والدليل أنهم لا يستطيعون التحدي لهم بمثل قوله تعالى:{قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [سراء: 88] .
ومن الأدلة على أن هذا الكتاب من عند الله قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .
فما كان لرجل أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يأتي بمثل هذا الكلام، ويتحدى به الثقلين، ولم يقدر أحد على معارضته وإجابة هذا التحدي.
وقد شهد على صحة هذا القرآن أهل الكتاب كما قال تعالى:
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 192-197] .
(
…
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/102) .
() وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( [المائدة: 82-83] .
ثم إنه ما كان لبشر أن يفتري كلاما وينسبه إلى الله، ويضل به الملايين من الناس، ثم بعد ذلك لا يعاجله الله تعالى بالعقوبة:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37] وقال تعالى: (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ () وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ () لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ () ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ () فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( [الحاقة: 44-47] .
ونحن نقول -على سبيل التنزل- لمن أنكر أن القرآن كلام الله: افرض أن هذا الكتاب من عند الله حقا، وأنك مخطئ، فما أنت صانع {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52] .
وقد توعد الله تعالى المكذبين بهذا الكتاب بالنكال والعذاب، فقال:{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] .
وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55] .
وأخيرا نقول لمن كفر بالقرآن: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107-108](1) .
(1) وسوف يأتي - إن شاء الله - مزيد أدلة على صحة القرآن، وأنه من الله تعالى في الفصل الأول، من الباب الأول، في مبحث الأدلة على صدق القرآن.