المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: إعجاز القرآن: - دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم = الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين

[عبد المحسن المطيري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: تعريف الطعن في القرآن

- ‌المبحث الثاني: مصطلحات ترادف الطعن في القرآن

- ‌المبحث الثالث: التعريف بالطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري

- ‌الباب الأول (النظري) الطعن في القرآن: نشأته، أسبابه، مواجهته

- ‌الفصل الأول: تاريخ الطعن في القرآن والكتب المؤلفة فيه

- ‌المبحث الأول: أول من تكلم فيه

- ‌المبحث الثاني: أول من ألف فيه

- ‌المبحث الثالث: اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال

- ‌المبحث الرابع: الكتب المؤلفة فيه

- ‌الفصل الثاني: أسباب الطعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: لماذا هذه الحرب على القرآن

- ‌المبحث الثاني: ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن

- ‌المبحث الثالث: أنواع المطاعن

- ‌المبحث الرابع: أسباب الاختلاف في القرآن

- ‌الفصل الثالث: مواجهة دعاوى الطعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: تنزيه كلام الله عن المطاعن

- ‌المبحث الثاني: موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن

- ‌المبحث الثالث: قواعد التعامل مع المطاعن

- ‌الباب الثاني (تطبيقي) : موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم

- ‌الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: بشارة الكتب السابقة به:

- ‌المطلب الثاني: شهادة المنصفين:

- ‌المطلب الثالث: الآيات التي يجريها الله على يديه يخرق فيها العادة:

- ‌المطلب الرابع: إقرار الله تعالى له ولدعوته واستجابة دعائه

- ‌المطلب الخامس: من الأدلة على صدقه صلى الله عليه وسلم كمال أخلاقه:

- ‌المطلب السادس: جوابه الحاضر على أسئلة المشككين:

- ‌المطلب السابع: عدم استغلاله فرص التعالي:

- ‌المطلب الثامن: استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه، غير وجل ولا خائف أن يحيق به شيء

- ‌المطلب التاسع: حمايته من كل ما يكاد به، ونجاته من كل محاولات الاغتيال:

- ‌المطلب العاشر: انتفاء الغرض الشخصي:

- ‌المطلب الحادي عشر: إخباره بالنهايات في البدايات:

- ‌المطلب الثاني عشر: إخباره بالغيب:

- ‌المطلب الثالث عشر: إحكام التشريع

- ‌المطلب الرابع عشر: الإعجاز العلمي:

- ‌المطلب الخامس عشر: الوصف الدقيق للغيب:

- ‌المطلب السادس عشر: تأليف قلوب العرب:

- ‌المطلب السابع عشر: الإلزام:

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على صدق القرآن وما فيه

- ‌المطلب الأول: إعجاز القرآن:

- ‌المطلب الثاني: التحدي أن يؤتى بمثله:

- ‌المطلب الثالث: شهادة المنصفين من أهل الكتاب والكفار وأعدائه له بالصحة والصدق:

- ‌المطلب الرابع: الوحدة الموضوعية لكل سورة:

- ‌المطلب الخامس: عدم التناقض:

- ‌المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين

- ‌المبحث الرابع: ردود إجمالية أخرى

- ‌المطلب الأول: عدم معارضة كفار مكة له، مع أنهم أكثر الناس عداوة وفصاحة:

- ‌المطلب الثاني: إثبات الدليل (من أين لك هذا

- ‌المطلب الثالث: مخالفة الواقع:

- ‌المطلب الرابع: إجماع الأمة على ذلك (من سبقك إلى هذا) :

- ‌الفصل الثاني: الردود التفصيلية على من طعن في القرآن

- ‌المبحث الأول: التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى (مصدر القرآن)

- ‌المطلب الأول: دعواهم أن القرآن من عند النبي محمد صلى الله عليه وسلم :

- ‌المطلب الثاني: نقله من غيره ، والرد عليهم:

- ‌المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته، والرد عليهم

- ‌المبحث الثاني: زعم عدم حفظه (النص القرآني)

- ‌المطلب الأول: شبهة أنه ليس هو القرآن الذي أنزل:

- ‌المطلب الثالث: النسخ في القرآن:

- ‌المبحث الثالث: اتهام القرآن بالتناقض

- ‌المطلب الأول: هل في القرآن تناقض حقيقي

- ‌المطلب الثاني: زعم تناقض بعض الآيات مع بعض

- ‌المبحث الرابع: اتهام القرآن بمعارضة الحقائق

- ‌المطلب الأول: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية:

- ‌المطلب الثاني: دعوى تعارض القرآن مع الوقائع التاريخية:

- ‌المطلب الثالث: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المطلب الأول: إعجاز القرآن:

قال الحافظ ابن حجر: ويمكن نظم القولين في كلام واحد؛ فإن محصلهما لا ينافى بعضه بعضا) (1) .

وفي هذا المبحث عدة مطالب كلها تدل على صدق القرآن وصحة ما فيه:

‌المطلب الأول: إعجاز القرآن:

إعجاز القرآن من الأدلة على صدقه، وأنه من عند الله تعالى حقا، وأوجه إعجاز القرآن كثيرة جدا منها:

1-

إخبار القرآن بالغيب:

سواء الغيب الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهذا دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإعجاز القرآن؛

وهذا الدليل مأخوذ من قوله تعالى:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] .

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] .

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] .

(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ () وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ () وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( [القصص:44-46] .

(1) الخصائص الكبرى للإمام السيوطي (1/188) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي،1985.

ص: 125

أي أنك يا محمد لم تكن موجودا في ذلك المكان حتى تستطيع أن تعرف هذه القصة -قصة موسى-ولكن الله تعالى هو الذي أوحى إليك بها، فلعل الناس إذا عرفوا ذلك تذكروا وآمنوا بك، قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى منبها على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى: "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون" الآية أي وما كنت حاضرا لذلك ولكن الله أوحاه إليك وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه ثم قال تعالى: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين" الآية وقال في آخر السورة "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك" وقال بعد ذكر قصة يوسف "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون" الآية وقال في سورة طه "كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق" الآية وقال ههنا بعدما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له "وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية

ص: 126

على شاطئ الوادي "وما كنت من الشاهدين" لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدها ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى: "وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا" أي وما كنت مقيما في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه "ولكنا كنا مرسلين" أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولا) (1) .

وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ () بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ الظَّالِمُونَ ( [العنكبوت:48-49] .

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس موجودا في تلك الأمكنة، ولا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب، دل هذا قطعا أن هذه الأخبار إنما هي من عند الله تعالى، الذي لا تخفى عليه خافيه.

ومن إخباره بالغيب المستقبل؛ قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ () فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ () فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ () بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ () وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( [الروم:2-6] ، وقد تحققت غلبت الروم بعد سنوات قليلة.

فعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (ألم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ (قَالَ: غُلِبَتْ وَغَلَبَتْ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ

(1) تفسير ابن كثير (3/391) .

ص: 127

وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ» . فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ (فَقَالَ:«أَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونَ الْعَشْرَ» . قَالَ: ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ بَعْدُ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (ألم غُلِبَتْ الرُّومُ

إِلَى قَوْلِهِ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ (قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ)(1) .

وقوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:43-46] ، هذه الآية نزلت تتحدث عن غزوة بدر، ووقت نزولها كان قبل الهجرة بسنوات، وعائشة كانت صغيرة:

عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ((2) .

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يوم بدر: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ» . فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ.

(1) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الروم، رقم:3193)، وإسناده صحيح. انظر: صحيح سنن الترمذي للألباني رقم: 2551.

(2)

أخرجه البخاري: (كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)، رقم:4595.

ص: 128

وَهُوَ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.» (1) .

قال ابن كثير: ((يولون الدبر (أي سيتفرق شملهم ويغلبون، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت (سيهزم الجمع ويولون الدبر (قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله (يثب في الدرع وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر (فعرفت تأويلها يومئذ. أهـ)(2) .

ومن هذا إخباره عن بعض المشركين أنه من أهل النار وهو حي، فيموت على الكفر؛ كأبي لهب وامرأته:(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ () مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ () سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ () وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ () فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ( [المسد:1-5] .

2-

الإعجاز العلمي:

من مثل قوله تعالى:

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ () بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ( [الرحمن:19-20] .

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] .

فقد لاحظ علماء البحار عند التقاء فرعي نهر النيل عند دمياط وعند الرشيد بالبحر الأبيض، حيث تندفع مياه النهر العذبة بقوة شديدة إلى البحر المالحة، ومع هذا كل منهما تحتفظ بمذاقها وأحيائها (3) .

(1) أخرجه البخاري: (كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي، رقم:2758) .

(2)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/266) .

(3)

انظر: الإعجاز العلمي في القرآن لسيد الجميلي (ص:27) ، والقرآن الكريم، من منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إسيسكو) (ص:30) ،الطبعة الأولي،1997، فقد أشار القرآن إلى كروية الأرض ودورانها، والجنين ومراحل تطوره، وغير ذلك من أنواع الإعجاز العلمي.

ص: 129

وهذا الإعجاز في جميع المجالات؛ الطبية، والجغرافية، والاجتماعية، والفضائية، وفي عالم الحيوان، وعالم النبات، وغيرها (1) .

3-

الإعجاز البياني (2) :

فقد حوى القرآن على القدح المعلى من البلاغة والبيان والفصاحة، وشمل على جميع شروط الكلام البليغ في كل سُوَرِه وآياته وكلماته.

وقد أخذ من أكل أنواع البلاغة بأوفر نصيب، فتجد فيه إيجاز القصر، والتشبيه الرفيع، والتتميم.

(1) انظر: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لسيد الجميلي، دار الهلال، بيروت.

- والإعجاز العلمي في القرآن الكريم لحمادة الدبلاني، دار الوفاء، والمنصورة، الطبعة الأولي،2000.

- والإبداعات الطبية لرسول الإنسانية لمختار سالم، مؤسسة المعارف في بيروت، الطبعة الأولي،1995. =

=

- والجراد في القرآن الكريم والعلم الحديث، د. كارم السيد غنيم، ود. عبد العظيم محمد الجمال، دار الصحوة، القاهرة، الطبعة الأولي، 1988م.

- وإعجاز النبات في القرآن الكريم، د. نظمي خليل أبو العطا، مكتبة النور، مصر الجديدة.

- والاكتشاف العلمية الحديثة ودلالتها في القرآن الكريم، د. سليمان عمر قوش، دار الحرمين، الدوحة، الطبعة الأولي، 1987م.

- والقرآن والسنة والعلوم الحديثة، محمد أحمد مدني، وليس فيه ذكر المكتبة ولا تاريخ الطبع.

(2)

انظر: دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، ط3،1992،وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي، طباعة دار الكتاب العربي في بيروت،1990.

ص: 130

هذا وقد احتوى النظم القرآني على الجزالة، والتناسق، والاهتمام بالإيقاع، والانسجام في اللفظ والنغم؛ وقد حصل للصحابة وهم أفصح الناس، وأعلمهم باللغة وبيانها، حصل لهم التأثير الكبير به، فمن ذلك:

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَقَرَأَ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (. قَالَ قُلْتُ: كَاهِنٌ. قَالَ: (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ

(إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ)(1) .

وعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُم الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُم الْمُسَيْطِرُونَ (قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَن يَطِيرَ)(2) .

(وفي رواية وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِيمَان فِي قَلْبِي "

(1) أخرجه أحمد في المسند (مسند العشرة المبشرين بالجنة، رقم:108) ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع فشريح لم يدرك عمر، انظر (المسند تحقيق أحمد شاكر (1/201) .

(2)

أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، باب سورة الطور، رقم:4573)

ص: 131

وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَة بْن زَيْد عَنْ اَلزُّهْرِيِّ نَحْوُهُ وَزَادَ " فَأَخَذَنِي مِنْ قِرَاءَتِهِ الْكَرْب " وَلِسَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ هُشَيْمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ" فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْت الْقُرْآن) (1) .

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ (قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِن الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا، وهو أمية بن خلف)(2) .

وعن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له أو إنك كاره له. قال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وأنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يؤثره عن غيره. فنزلت: (ذرني ومن خلقت وحيدا ( {3} [المدثر:11] .

(1) انظر فتح الباري (2/290) .

(2)

متفق عليه: (البخاري: كتاب الجمعة باب سجدة النجم، رقم:1020، ومسلم: كتاب المساجد وموضع الصلاة، باب سجود التلاوة، رقم:576) .

(3)

أخرجه الحاكم (2/550) وقال الذهبي: صحيح، طبعة دار الباز تحقيق مصطفى عطا.

ص: 132

4-

الإعجاز التشريعي (1) :

فالقرآن معجز في تنظيمه لأحوال البشر في جانب العقائد والعبادات والأخلاق (2) ، في تنظيمه لجميع مصالح الأفراد والمجتمعات والسياسات والدول؛ فقد نظم الإسلام حياة الإنسان في نفسه، ومع غيره؛ فهناك آداب الزوجية، وحقوق الوالدين والأبناء والأصدقاء والجيران، وولاة الأمر، والمجتمع، والمسلمين بعامة، ونظم العلاقة بغير المسلمين، فهناك الذمي والمعاهد والمحارب، وهناك حال ضعف الدولة الإسلامية وحال قوتها، وهناك حال الدعوة، وحال المجادلة، وحال المجالدة، وغير ذلك (3) .

وقد قام بعض المعاصرون بمحاولة بائسة للتشكيك في الإعجاز التشريعي ومحاولة نقضه، وبيان عدم صلاحيته، أو مخالفته العقل، ومن أشهرهم المهندس محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة)(4) ، وقد رد عليه طائفة كبيرة من العلماء (5) ، مثل تشكيكه

(1) انظر كتاب " القرآن وإعجازه التشريعي " لمحمد إبراهيم إسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة.

(2)

انظر دستور الإخلاق في القرآن، لدراز، تحقيق عبد الصبور شاهين، بيروت، مطبعة الرسالة، الطبعة الأولي0،1998.

(3)

انظر كتاب مباحث في إعجاز القرآن، لمصطفى مسلم، في الفصل الثالث: الإعجاز التشريعي، ص:231-258، وكتاب (القرآن الكريم) ص:31، من أساليب الغزو الفكر، لغنايم (ص:543) .

(4)

نشر في دمشق عام 1990وطبعته عدة مكاتب.

(5)

وممن رد عليه:1/القراءة المعاصرة للقرآن في الميزان، لأحمد عمران، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولي،1995. 2/بيضة الديك (نقد لغوي لكتاب الكتاب والقرآن) ، ليوسف الصيداوي، المطبعة التعاونية في دمشق، وهو كتاب عظيم رد فيه على أول عشر صفحات من الكتاب من الجانب اللغوي فقط في مائتين وأربع وستين ورقة.

ص: 133

بالحدود الشرعية كقطع يد السارق، ودعوته إلى تحديث الشريعة وعصرنتها، وأن يستبدل الجلد بالسجن، وإنكاره تعدد الزوجات وأنه لا يجوز التعدد إلا بالأرملة ذات الأيتام، وتجويزه ظهور المرأة عارية تماما أمام محارمها، وإنكاره الحجاب الشرعي واشتراط المهر وتنصيف أرث المرأة، وتجويزه النظر للمرأة غير المحرم وغير ذلك من أنواع التحريف واللعب بكتاب الله تعالى وتشريعاته.

قال القرطبي رحمه الله: (ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة:

- منها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له (وفي " صحيح مسلم " أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعركاهن ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء -قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر، لما قرأ عليه رسول الله (حم فصلت، على مايأتي بيانه هنالك،

ص: 134

فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة والبلاغة، بأنه ما سمع مثل القرآن قط، كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له، ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.

- ومنها الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب (1) .

- ومنها الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة ق والقرآن المجيد إلى آخرها، وقوله سبحانه:{والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} [الزمر: 42] إلى آخر السورة، وكذلك قوله سبحانه: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون (إلى آخر السورة.

فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق: علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول:{لمن الملك اليوم} [غافر: 16] ولا أن يقول: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} [الرعد: 13] .

قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين؛ أحدهما الإخبار عن الكوثر وعِظَمِهِ وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل، والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان أول نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق (ذرني ومن

(1) يعني أنه ليس بشعر ولا نثر ولا سجع.

ص: 135

خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ( [المدثر:11-14] ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده وانقطع نسله (إن شانئك هو الأبتر (.

- ومنها التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.

- ومنها الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصص أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية، ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته فتحققوا صدقه، قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى المتعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه؛ عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.

- ومنها الوفاء بالوعد المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيد بشرط كقوله:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]{ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن: 11]{ومن يتق الله يجعل له مخرجا} [الطلاق: 2]{إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] وشبه ذلك.

ص: 136

- ومنها الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي، فمن ذلك ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق (الآية [الصف: 9] ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي - الله عنه - إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه؛ ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا برا وبحرا قال الله تعالى:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} [النور: 55] وقال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27] وقال: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال: 7] وقال: {ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم:1-3] فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله، لتكون دلالة على صدقه.

- ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام.

- ومنها الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.

- ومنها التناسب في جميع ما تضمنه اختلاف، قال الله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] قلت فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم) (1) .

(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/52-54) ، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولي،1988.

ص: 137

(وقد سرد هبةُ الدين الحسيني الشهرستاني المزايا الإجمالية للقرآن وهي:

- فصاحةُ ألفاظه الجامعة لكل شرائعها.

- بلاغته بالمعنى المشهور؛ أي موافقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبات المقام، أو بلاغته المعنوية.

- توفر المحاسن الطبيعية فوق المحاسن البديعية.

- إيجاز بالغ مع الإعجاز بدون أن يخل بالمقصود.

- إطناب غير ممل في مكرراته.

- سمو المعاني وعلو المرمى في قصد الكمال الأسمى.

- طلاوة أساليبه الفطرية، ومقاطعه المبهجة، وأوزانه المتنوعة.

- فواصله الحسنى وأسماعه الفطرية.

- أسرار علمية لم تهتد العقول إليها بعد عصر القرآن إلا بمعونة الأدوات الدقيقة، والآلات الرقيقة المستحدثة.

- غوامض أحوال المجتمع، وآداب أخلاقية تهذب الأفراد وتصلح شؤون العائلات.

- قوانين حكيمة في فقه تشريعي، فوق ما في التوراة، والإنجيل، وكتب الشرائع الأخرى.

- سلامته عن التعارض، والتناقض، والاختلاف.

- خلوصه من تنافر الحروف، وتنافي المقاصد.

- ظهوره على لسان أُمي لم يعرف الدراسة، ولا ألف محاضرة العلماء، ولا جاب الممالك سائحا مستكملا.

- طراوته في كل زمان، كونه غضاً طرياً كلما تُلي وأينما تُلي.

ص: 138

- اشتماله على السهل الممتنع، الذي يعد ملاك الإعجاز، والتفوق النهائي.

-قوة عبارته لتحمل الوجوه، وتشابه المعاني.

-قصصه الحلوة، وكشوفه التاريخية من حوادث القرون الخالية.

- أمثاله الحسنى التي تجعل المعقول محسوسا، وتجعل الغائب عن الذهن حاضرا لديه.

- معارفه الإلهية كأحسن كتاب في علم اللاهوت، وكشف أسرار عالم الملكوت، وأوسع سفر من مراحل المبدأ والمعاد.

- خطاباته البديعية، وطرق إقناعه الفذة.

- تعاليمه العسكرية، ومناهجه في سبيل الصلح، وفنون الحرب.

- سلامته من الخرافات والأباطيل، التي من شأنها إجهاز العلم عليها كلما تكاملت أصوله وفروعه.

- قوة الحجة، وتفوق المنطق.

- اشتماله على الرموز في فواتح السور، ودهشة الفكر حولها وحول غيرها.

- جذباته الروحية الخلابة للألباب، السحرة للعقول، الفتانة للنفوس.

هذا وإن وجوه إعجاز القرآن كثيرة، وقد أُلفت فيها كتب كثيرة، ويمكن أن يضاف إلى ما ذكره الشهرستاني ما يلي:

- ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، مما يؤكد عجز البشر عن الإتيان بمثله.

ص: 139

- اتساق القرآن في أغراضه ومعانيه على طول المدة التي استغرقها في تجميعه، فخواتيمه بعد ربع قرن جاءت مطابقة متساوقة لفواتحه يصدق بعضها بعضا، ويكلمه كأنه نَفَس واحد.

- سهولة حفظه كما قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (. فهو ميسر على جميع الألسنة، ومحفوظ في الصدور.

- حسن التخلص من قصة إلى أخرى، والخروج من باب إلى غيره.

- إطنابه في خطاب اليهود، وإيجازه في خطاب العرب، للتفاوت بينهما فَهْمًا وبلاغة.

- وجود كلمات في جمل لا يسد مسدها غيرها، مثل قوله تعالى:{وأهش بها على غنمي} [طه:18] فليس بمقدور أحد أن يأتي بكلمة تسد مسدها.

- نزاهته في التعبير، كقوله:{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187]، وقوله:{نساؤكم حرث لكم} [البقرة:223] وقوله: {أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21] وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [النساء: 43] .

- خلوص ألفاظ الهجاء فيه من الفحش، كقوله تعالى:{أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله} [النور:50] .

- ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر، كقوله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول

} [المجادلة:8]، وقوله تعالى: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا

} [آل عمران:154] وقوله تعالى:

ص: 140

{ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم} [النساء:46]، وقوله:{وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال:7] .

- جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة، وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا.

- اقتران معانيه المتغايرة في السور المختلفة، فيخرج في السورة من وعد إلى وعيد، ومن ترغيب إلي ترهيب، ومن ماض إلي مستقبل، ومن قَصَصٍ إلي مَثَلٍ، ومن حكمة إلى جدل، فلا يتنافر، وهي في غيره من الكلام متنافر.

- لا يخرج عن أسلوبه، ولا يزول عن اعتداله باختلاف آياته في الطول والقصر.

- آي وردت بتعجيز قوم في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوها ولا قدروا، فالإخبار بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن معجزة للقرآن.

- قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل الانكباب علي تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، وغيره من الكلام يُعادى إذا أعيد، ويمل على الترديد.

- كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه.

- الإعجاز في ترتيب الآيات والسور) (1) .

وذكر السيوطي في كتاب معترك الأقران خمسة وثلاثين وجها من وجوه إعجاز القرآن، وهكذا لو تُتبعت لزادت عن المائة وجه.

(1) انظر كتاب الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره، للدكتور محمد أحمد يوسف قاسم، دار المطبوعات الدولية، الطبعة الأولي،1979.

ص: 141

وكل عالم يزيد وجها لم يذكره غيره وهذا مصداقا لقول عليٍّ ( «لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ» (1) .

بل إن السيوطي - رحمه الله تعالى - فصل في كتاب الخصائص في وجوه إعجاز القرآن بعملية حسابية، فبلغت تلك الوجوه عشرات الألوف، فإليك ما قال:

قال السيوطي رحمه الله: (وقد اختلف الناس في الوجه الذي وقع به

(1) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، رقم:2906) مرفوعا، قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَفِي الْحَارِثِ مَقَالٌ. أهـ وأخرجه الدارمي من نفس الطريق (كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، رقم:3331)، وأخرجه الإمام أحمد (رقم:706) عن علي مرفوعا ولفظه: (أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أُمَّتَكَ مُخْتَلِفَةٌ بَعْدَكَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ فَأَيْنَ الْمَخْرَجُ يَا جِبْرِيلُ قَالَ فَقَالَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ يَقْصِمُ اللَّهُ كُلَّ جَبَّارٍ مَنْ اعْتَصَمَ بِهِ نَجَا وَمَنْ تَرَكَهُ هَلَكَ مَرَّتَيْنِ قَوْلٌ فَصْلٌ وَلَيْسَ بِالْهَزْلِ لَا تَخْتَلِقُهُ الْأَلْسُنُ وَلَا تَفْنَى أَعَاجِيبُهُ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ) والراوي عن علي هو الحارث أيضا كما هو الحال في إسناده الترمذي والدارمي،

وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الدارمي في نفس الباب الماضي، رقم:3315، ولفظه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ وَالنُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ لَا يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم وَلَكِنْ بِأَلِفٍ وَلَامٍ وَمِيمٍ)، وهو ضعيف فيه إبراهيم الهجري وهو لين الحديث يرفع الموقوفات كما قال ابن حجر في التقريب (ص:116) .

ص: 142

إعجاز القرآن على أقوال بينتها مبسوطة في كتاب الإتقان والملخص انه وقع بعدة وجوه:

1-

منها حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.

2-

ومنها صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.

3-

ومنها ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد.

4-

ومنها ما أنبأ به من أخبار القرون الماضية والشرائع السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك فيورده على وجهه ويأتي به على نصه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.

5-

ومنها ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر كقوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وقوله تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول.

6-

ومنها آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله في اليهود ولن يتمنوه أبدا.

7-

ومنها ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة.

8-

ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم والهيبة التي تعتريهم عند سماع تلاوته كما وقع لجبير بن مطعم انه سمع النبي يقرأ في المغرب بالطور قال فلما بلغ هذه الآية ام خلقوا من غير شيء

ص: 143

أم هم الخالقون إلى قوله المصيطرون كاد قلبي يطير قال وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي.

9-

ومنها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد ولهدا وصف القرآن بأنه لايخلق على كثرة الرد

10-

ومنها كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه.

11-

ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة.

12-

ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا.

13-

ومنها جعله آخر الكتب غنيا من غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد تحتاج إلى بيان يرجع فيه اليه كما قال تعالى (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون)(1)

ثم بين السيوطي أن وجوه الإعجاز تصل إلى عشرات الألوف فقال:

(قال القاضي عياض: إذا عرفت ما ذكر من وجوه إعجاز القرآن، عرفت أنه لا يحصى عدد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر؛ لأنه قد تحدى بسورة منه فعجزوا عنها، قال أهل العلم: وأقصر السور (إنا

(1) الخصائص الكبرى (1/195-196) .

ص: 144

أعطيناك الكوثر (فكل آية أو آيات منه بعددها وقدرها معجزة، ثم فيها نفسها معجزات على ما سبق. قلتُ (1) : وإذا عَدَدْتَ كلمات سورة الكوثر وجدتها بضع عشرة كلمة، وقد عد قوم كلمات القرآن سبعا وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعا وثلاثين، فالقدر المعجز منه يكون في العدد نحو سبعة آلاف تقريبا، تضرب في ثمانية أوجه؛ الأولان (2) والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر (3) تبلغ ستة وخمسين ألف معجزة، ثم ينضم إلى ذلك في بعضه من الوجه الثالث والرابع والخامس والسادس (4) جملة

(1) القائل السيوطي.

(2)

وهما: 1-حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.

(3)

وهي: 7-ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة.

(4)

وهي:3-ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد.

ص: 145