الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الكسوف
أي صفتها وأحكامها وما يتبع ذلك ويقال كسفت بفتح الكاف وضمها ومثله خسفت وهما بمعنى ويقال انكسفا وانخسفا وخسفا وكسفا وكلاهما جاءت به الأخبار قال ثعلب وغيره أجود الكلام خسف القمر وكسفت الشمس والكسوف لغة التغير إلى سواد وكسوف الشمس والقمر ذهاب ضوء الشمس كله أو القمر كله أو بعض ضوء الشمس أو القمر.
والكسوف آية من آيات الله يخوف به عباده ليفزعوا إلى التوبة والاستغفار. وقد يكون سبباً لأمر مخوف كما قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفًا} وصلاة الكسوف سنة مؤكدة باتفاق المسلمين تواترت بها السنن الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فرواها عنه بضعة وعشرون نفساً من الصحابة رضي الله عنهم.
(قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ}) الدالة على عظيم قدرته وحكمه الدالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية الدال على تفرده بالآلهية {اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه فهمما متعاقبان لا يفتران {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن آياته أنه خلق الشمس بنورها وإشراقها والقمر وضياءه وقدرهما في فلكيهما. ولما كان الشمس والقمر أحسن المخلوقات في العالم العلوي والسفلي قال {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَر} فهما مخلوقان مسخران لا يستحقان أن يسجد لهما لأن السجود نهاية التعظيم {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} فهو سبحانه المستحق
للعبادة والتعظيم {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} تفردونه بالعبادة لا تشركون به شيئًا.
وحيث كان شرك المشركين منه ما هو بالشمس والقمر وهو جعل حق رب العالمين لبعض الخلق استنبط بعض أهل العلم صلاة الكسوف من هذه الآية فذكرت هنا فإن كونها تكسف هو من أدلة أن يعبد وحده. وقال زكريا الأنصاري احتج بقوله تعالى {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} أي عند كسوفهما لأنه أرجح من احتمال أن المراد النهي عن عبادتهما لأنهم كانوا يعبدون غيرهما فلا معنى لتخصيصهما بالنهي والمراد على تقدير تمام هذا الاحتجاج بالسجود في الصلاة اهـ ولعل الاستنباط بأن الله هو أمر بالسجود بعد ذكر أنها من آياته فدل على أنه يسجد عند آياته والمراد استنبط من عمومها ذلك وإرادة النهي عن عبادتهما لا يقدح في أنهم كانوا يعبدون غيرهما لجواز تخصيصهما بحكمة تقتضيه.
(وعن المغيرة مرفوعًا "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) أي علامتان من العلامات الدالة على وحدانيته وقدرته وعلى تخويف عباده من سطوته (لا ينكسفان لموت أحد أو لحياته) فليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع على أنفسهما والسبب أن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة
عشر قبل الفطام. وكان ولد من مارية القبطية سنة ثمان فقال الناس انكسفت الشمس لموت إبراهيم وكانوا يزعمون
أنهما لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء فبين لهم
النبي صلى الله عليه وسلم بطلان زعمهم وفساد اعتقادهم. وفي رواية أنه قال هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بها عباده (فإذا رأيتموها) وفي لفظ "فإذا رأيتم ذلك" أي كسوف الشمس أو القمر ذكره زيادة في الإفادة وبيانًا أن حكمهما واحد ثم أرشدهم إلى ما يشرع عند رؤية ذلك بقوله (فصلوا وادعوا) وفي رواية، فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة" وفي رواية "فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وهذا مما يرشح ما تقدم من استنباط السجود من الآية وفيه الاستعداد بالمراقبة لله والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه (حتى ينكشف) وفي رواية "حتى ينجلي" ومن حديث عائشة حتى يكشف ما بكم" ونحوه من حديث جابر وغيره أي حتى يرتفع ما حل بكم من كسوف الشمس أو القمر (متفق عليه) والأمر بالصلاة عند الكسوف وفعله مستفيض من وجوه عن أبي سعيد وابن مسعود وجابر وعائشة وغيرهم بألفاظ متقاربة ولا نزاع في مشروعيتها.
والجمهور على أنها سنة مؤكدة ونقل عن أبي حنيفة وجوبها وأمر صلى الله عليه وسلم بالمسارعة إليها ولما كسفت الشمس خرج مسرعًا فزعًا يجر رداءه فصلى بالناس وأخبر أن كسوفها سبب لنزول عذاب بالناس وأمر بما يزيل الخوف فأمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك من الأعمال الصالحة حتى يكشف
ما بالناس وجعل انكشافه غاية قال الشيخ الكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى بحسب ما يكسف منها فقد تكسف كلها وقد يكسف نصفها أو ثلثها فإذا عظم الكسوف طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن تجلى الكسوف وهو في الصلاة أتمها خفيفة لأن المقصود التجلي وقد حصل. ولا يقطعها لقوله {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الشيخ ويشرع تخفيفها لزوال السبب وكذا إذا علم أنه لا يطول وإن خف قبل الصلاة شرع وأوجز وعليه جماهير أهل العلم لأنها شرعت لعلة وقد زالت وإن فرغ منها قبل التجلي قال الشيخ وغيره يذكر الله ويدعو إلىلتجلي.
ولا تعاد باتفاق أهل العلم لأنه سبب واحد فلا يتعدد مسببه وقبل الدخول تفوت به فلا تقضى إذا فات محلها اتفاقًا لأن المقصود منها زوال العارض فوقتها يتقيد بحصول السبب من ابتدئه إلى التجلي اتفاقًا في أي وقت كان عند جمهور أهل العلم. ويقدم كسوف على جمعة ومكتوبة أمن فواتها وإلا فلا إذ السنة لا تعارض فرضًا وإن غابت الشمس كاسفة لم يصل. أو طلعت والقمر خاسف لم يصل لأنه قد ذهب وقت الانتفاع بهما وزال التخويف ويعمل بالأصل في بقائه فلا يصلي إذا شك في وجوده مع غيب ونحوه لأن الأصل عدمه.
ويصلي إذا علم الكسوف ثم حصل غيم فشك في التجلي
لأن الأصل بقاؤه ودعوى بعضهم غيبوبة القمر خاسفًا ليلاً أو الكسوف يوم عرفة ونحو ذلك لم يقع لأنه لا ينخسف إلا في ليالي الإبدار إذا تقابل جرم الشمس والقمر فحالت بينهما الأرض ولا تنكسف الشمس إلا ليالي الإستسرار إذا حال القمر بيننا وبينها. قال شيخ الإسلام وقد أجرى الله العادة أن القمر لا ينخسف إلا وقت الإبدار وهي الليالي البيض وأن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار.
ومن قال إنها تنخسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط ويستحيل كسوفها يوم عرفة ولم تجر به عادة كما لم تجر بالاستهلال ونحوه في غير وقته. وللشمس والقمر ليال معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف كما أن من علم ما مضى من الشهر يعلم أن الشهر يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها والعلم بالعادة فيه يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس من باب علم الغيب وإذا تواطأ خبرهم بوقت الصلاة لا يكادون يخطئون ومع ذلك لا يترتب على خبرهم حكم شرعي فإنها لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك.
(ولهما عن عائشة: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديًا ينادي الصلاة جامعة) الأول مفعول لفعل محذوف أي احضروا والثاني على الحال ويجوز رفعهما.
وعن ابن عمر نحوه وهو دليل على مشروعية الإعلام بهذا اللفظ للاجتماع لها. ولم يرد إلا في هذه الصلاة واتفقوا على
أنه لا يؤذن لها ولا يقام ولا يشترط لها إذن الإمام (فصلى أربع ركعات) أي ركوعات (في ركعتين) كما سيأتي موضحًا (وأربع سجدات) ولفظ ابن عمر: "لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلي عن الشمس".
وثبت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها وغيرها من غير وجه عن جابر وابن عباس وعمرو بن العاص وأبي موسى وغيرهم صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات وقال أحمد والشافعي والبخاري وابن عبد البر والشيخ وغيرهم هذا أصح ما في الباب وهو مذهب جمهور العلماء.
وهي الصفة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة
قال الشيخ قد ورد في صلاة الكسوف أنواع ولكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري ومسلم من غير وجه وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم كمالك والشافعي وأحمد أنه صلى بهم ركعتين في كل ركعة ركوعان وقال البخاري وغيره من أهل العلم بالحديث لا مساغ لحمل هذه الأحاديث يعني في كل ركعة ثلاث ركوعات أو أربع أو خمس على بيان الجواز إلا إذا تعددت الواقعة وهي لم تتعدد لأن مرجعها كلها إلى صلاته صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس يوم مات ابنه إبراهيم
وحينئذ يجب ترجيح أخبار الركوعين فقط لأنها أصح وأشهر. وما رواه مسلم من حديث جابر ست ركوعات قال الشافعي منقطع ومن حديث ابن عباس ثمان وهو من رواية حبيب عن طاوس. قال ابن حبان ليس بصحيح وحبيب معروف بالتدليس وقال شيخ الإسلام ما زاد عن ركوعين في ركعة غلط وإنما صلى صلى الله عليه وسلم مرة واحدة.
(وفيه) أي في حديث عائشة (جهر فيها بالقراءة) وللترمذي وصححه عنها أيضًا أنه صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها. قال شيخ الإسلام ثبت في الصحيح الجهر بالقراءة فيها لكن روي فيها المخافتة والجهر أصح والكسوف الذي صلى بالمسلمين فيه إنما وقع أول النهار بلا نزاع. والمثبت مقدم على النافي ودل الحديث وغيره على تأكد سنية صلاتها جماعة وهو أفضل اتفاقًا وقيل بوجوبها في الجامع أفضل اتفاقًا.
وفي الصحيحين عن عائشة "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه" ولأحمد "فافزعوا إلى الصلاة" وروي عن أبي حنيفة يصلي لخسوف القمر فرادى والأحاديث ثبتت بالتسوية ولا تشترط لها الجماعة فلو لم يجدوا إمامًا يصلي بهم صلوها فرادى وهو مذهب الجمهور. ولا يسن الغسل لها لمبادرته صلى الله عليه وسلم إلى فعلها من حيث العلم بالكسوف واستمر العمل عليه. وقال ابن القيم وغيره الصحيح أنه لا
يسن لها الغسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لها.
(ولهما عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قيامًا طويلاً نحوًا من قراءة سورة البقرة) ومهما قرأ به من السور جاز لعدم تعيين القراءة (ثم ركع ركوعًا طويلاً) من غير تقدير قال الموفق وغيره نحو مائة آية وهو مذهب الشافعي وأحمد وقال آخرون بقدر معظم القراءات والأولى أن يكون نسبيًا كالفريضة.
(ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول) وفي حديث عائشة "ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى بل كمعظمهما.
قال الموفق آل عمران أو قدرها وهو في رواية أبي داود ومذهب الجمهور مالك والشافعي ورواية عن أحمد لا تصح إلا بقراءة الفاتحة في القيام الثاني (ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول) نسبته إلى القراءة كنسبة ركوع الأولى من قراءة الأولى. وقال الموفق نحوًا من سبعين آية وقال النووي وغيره اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أكثر من القيام الأول وركوعه فيها (ثم رفع رأسه) أي من الركوع الثاني وفي حديث عائشة ثم كبر فركع ركوعًا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد.
ولا يطيل اعتداله حكاه القاضي وغيره إجماع العلماء لعدم
ذكره في الروايات الصحيحة ولا يقرأ بل يقول ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا إلخ (ثم يسجد) أي سجدتين طويلتين بالنسبة إلى القيام وثبت إطالتهما في الصحيحين وغيرهما من فعله صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة "ما ركعت ركوعًا قط ولا سجدت سجودًا قط كان أطول منه" وهو ثابت من رواية جماعة. ولا يزيد على سجدتين إجماعًا لأنه لم يرد في شيء من الأخبار ولا يطيل الجلوس بين السجدتين إجماعًا لعدم وروده.
(وذكر الركعة الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل) يعني في الأولى ولفظه ثم "قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول" يعني "ثم رفع" فلم يطل "ثم سجد" يعني "سجدتين طويلتين دون السجود الأول" ولفظ حديث عائشة، "ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات" وهذا مجمع عليه.
وقال القاضي وغيره القراءة في كل قيام أقصر مما قبله وكذا التسبيح. وقال ابن بطال لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها وحكاه النووي وغيره اتفاق أهل العلم. ولمسلم من حديث جابر وسجوده نحو من ركوعه (قال ثم انصرف) يعني بعد كمال ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات والتشهد والتسليم.
(وقد انجلت الشمس) ولفظ عائشة "وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ثم قام (فخطب الناس) فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال إن الشمس والقمر آيتان" إلخ وفي رواية للبخاري "وشهد أنه عبده ورسوله" وفيه أنه ذكر أحوال الجنة والنار وغير ذلك. ولمسلم من حديث فاطمة عن أسماء قالت "فخطب رسول
الله صلى الله عليه وسلم الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار" إلخ.
فدلت هذه الروايات على استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك الشافعي وأكثر أئمة الحديث وجمهور السلف فيحثهم على التوبة والصدقة والعتق ويحذرهم من الغفلة والاغترار ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار كما ثبت ذلك من غير وجه عنه صلى الله عليه وسلم إعذارًا
وإنذارًا.
قال شيخ الإسلام يصلي لكل آية كما دل على ذلك السنن والآثار وقالها المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم. ولولا أن ذلك يكون لشر وعذاب لم يصح التخويف لذلك وهذه صلاة رهبة وخوف كما أن صلاة الاستسقاء صلاة رغبة ورجاء وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا. وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئًا فافزعوا إلى الصلاة" وقال ابن أبي موسى يصلي لكل آية وهو ظاهر كلام أحمد وينبغي أن يعظهم عند نزول البلاء ويأمرهم بالتوبة والصدقة