المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب وليمة العرس - الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم - جـ ٤

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌باب الشروط في النكاح

- ‌فصل في العيوب

- ‌باب نكاح الكفار

- ‌باب الصداق

- ‌فصل في المفوضة

- ‌باب وليمة العرس

- ‌فصل في آداب الأكل

- ‌باب عشرة النساء

- ‌فصل في النشوز

- ‌باب الخلع

- ‌كتاب الطلاق

- ‌فصل في عدده

- ‌فصل في الكنايات

- ‌فصل في الحلف

- ‌باب ما يختلف به عدد الطلاق

- ‌تتمةفي إيقاع الطلاق في الزمن الماضي والمستقبل والمستحيل

- ‌باب تعليق الطلاق بالشروط

- ‌باب التأويل في الحلف

- ‌باب الشك في الطلاق

- ‌باب الرجعة

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الظهار

- ‌باب اللعان

- ‌كتاب العدد

- ‌فصل في الإحداد

- ‌باب الاستبراء

- ‌باب الرضاع

- ‌باب النفقات

- ‌فصل في نفقة الأقارب

- ‌فصل في نفقة المملوك

- ‌باب الحضانة

- ‌كتاب الجنايات

- ‌فصل في القصاص

- ‌فصل في الجراح

- ‌باب الديات

- ‌فصل في أصول الدية

- ‌فصل في دية الأعضاء

- ‌باب القسامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الزنا

- ‌فصل في اللواط

- ‌باب حد القذف

- ‌باب حد المسكر

- ‌باب التعزير

- ‌باب القطع في السرقة

- ‌باب حد قطاع الطريق

- ‌باب قتال أهل البغي

- ‌باب حكم المرتد

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌فصل في المضطر

- ‌فصل في الضيف

- ‌باب الذكاة

- ‌باب الصيد

- ‌باب الأيمان

- ‌فصل في الكفارة

- ‌فصل في النذور

- ‌باب القضاء

- ‌فصل في آداب القاضي

- ‌باب القسمة

- ‌باب الدعاوي والبينات

- ‌باب الشهادات

- ‌فصل في عدد الشهود

- ‌باب الإقرار

الفصل: ‌باب وليمة العرس

‌باب وليمة العرس

الوليمة من الولم وهو الجمع، لأن الزوجين يجتمعان، وقال ابن الأعرابي، أصلها تمام الشيء واجتماعه، وتقع على كل طعام يتخذ لسرور، وتستعمل في وليمة الأعراس بلا تقييد، وفي غيرها مع التقييد، وجزم جمع أنها الطعام في العرس خاصة.

(عن أنس) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف) القرشي الزهري أحد العشرة المشهود لهم بالجنة قيل إنه تصدق بشطر ماله ثم بأربعين ألف دينار ثم حمل على خمس مائة فرس في سبيل الله وخمس مائة راحلة وكان أكثر ماله من التجارة مات سنة إحدى وثلاثين (أو لم ولو بشاة) أي اصنع شاة وليمة العرس وظاهر الأمر الوجوب، وهو مذهب الظاهرية، وحكي عن مالك والشافعي وأحمد، وللطبراني "الوليمة حق" ولأحمد لما خطب علي فاطمة رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم «لا بد للعروس من وليمة» .

وجمهور أهل العلم أنها سنة مندوب إليها مرغب فيها، وفيها فضيلة، حتى قال ابن بطال والموفق لا أعلم أحدًا أوجبها، والخبر محمول على الاستحباب، وقال الشيخ تستحب بالدخول، وفي الصحيح بني بامرأة فدعوت رجالاً وقيل بالعقد وفي الإنصاف الأولى أنه يقال وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس، لصحة الأخبار في هذا وهذا.

ص: 54

وكمال السرور بالدخول اهـ ولو هنا ليست الامتناعية وإنما هي للتقليل.

وفي الحديث دليل على أن الشاة أقل مجزئ في الوليمة عن الموسر، ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أو لم على بعض نسائه بأقل من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقل ما يجزئ في الوليمة مطلقًا، وأجمعوا على أنه لا حد لأكثر ما يولم به، وأقله مهما تيسر أجزأ، لأنه صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بمد من شعير، والمستحب أنها على قدر حال الزوج، وإن نكح اثنتين فأكثر في عقد أو عقود في وقت متقارب أجزأت وليمة واحدة إن نواها للكل.

{وأولم صلى الله عليه وسلم على زينب} بنت جحش الأسدية أم المؤمنين رضي الله عنها تزوجها صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة وفيها نزلت (فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها) وماتت سنة عشرين وهي ابنة خمسين أولم عليها (بشاة) فدل الحديث أيضًا على سنة الوليمة بشاة ولا نزاع في ذلك (متفق عليهما) أي على حديث أنس المتقدم وعلى هذا أيضًا وهو حديث أنس.

ولفظه "ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة" وقيل إنه محمول على ما انتهى إليه علم أنس رضي الله عنه، أو لما وقع من البركة في وليمتها، حيث أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا من الشاة الواحدة وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم أولم على ميمونة بنت الحارث في عمرة القضية بمكة، وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها.

ص: 55

فلعله أن يكون ما أولم به عليها أكثر من شاة لوجود التوسعة عليه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، لأن ذلك كان بعد فتح خيبر، وقد وسع الله على المسلمين في فتحها عليهم، وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس إلا أنه لا يبالغ في التأنق فيما يتعلق بأمور الدنيا.

(ولمسلم في قصة صفية جعل) صلى الله عليه وسلم {في وليمتها} أي في طعام زواجه بها (التمر والأقط والسمن) ولهما أنه صلى الله عليه وسلم "أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني بصفية" قال أنس فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالانطاع فبسطت فألقي عليها التمر والأقط والسمن، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها""وأولم عليها بحيس" والأمور الثلاثة إذا خلط بعضها ببعض سميت حيسًا فدل الحديث على إجزاء الوليمة بغير ذبح شاة وهو مذهب جمهور العلماء.

(وله) أي لمسلم (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شر الطعام طعام الوليمة) سماه شرًا لما ذكر عقبه فكأنه قال: شر الطعام الذي شأنه كذا، أو من شأنه كذا وبين شريته فقال:(يمنعها من يأتيها) وهم الفقراء (ويدعي إليها من يأباها) وهم الأغنياء وفي رواية تدعي لها الأغنياء وتترك الفقراء، وللطبراني "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الشبعان ويمنع عنها الجيعان" وكان من عادة الجاهلية أن يدعو الأغنياء ويتركوا الفقراء.

ص: 56

ولم يرد صلى الله عليه وسلم أن كل وليمة طعامها شر الطعام، فإن لو أراد ذلك لما أمر بها ولا ندب إليها، ولا أوجب الإجابة إليها ولا فعلها صلى الله عليه وسلم بل قال صلى الله عليه وسلم (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) أي دعوة وليمة النكاح فدل على تأكد إجابتها، وتقدم أنه حكي وجوب إجابتها يعني وليمة النكاح فقد صدق عليها اسم الوليمة شرعًا قال الحافظ وهي بفتح الدال على المشهور.

(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها» وفي رواية البخاري «أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم إليها» .

(ولمسلم) أي عن ابن عمر مرفوعًا (فليجب عرسًا كان أو نحوه) أي سواء كانت الدعوة إلى وليمة عرس فيجيب إليها، أو كانت الدعوة على غير وليمة العرس، إلا أن إجابة الدعوة إلى وليمة العرس كانت آكد، لقوله:"فمن لم يجب فقد عصى الله ورسوله".

قال الشافعي إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل دعوة دعي إليها رجل وليمة، فلا ارخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين أنه عاص كما في وليمة العرس، وقد يسوغ الترك لأعذار ستأتي.

ونحو وليمة العرس حذاق لطعام عند حذاق صبي، وهو

ص: 57

ختم القرآن الكريم، ويقال مشداخ وعذيرة، وأعذار لطعام ختان، وخرسة وخرس لطعام ولادة، وكيرة لدعوة بناء ونقيعة لقدوم غائب، وتحفة منه، وعقيقة الذبح للمولود، وتقدمت، ومأدبة لكل دعوة بسبب وغير سبب، وشندخية لأملاك، وقيل تطلق الوليمة على كل طعام لسرور حادث.

لكن استعمالها في طعام العرس أكثر، وكلها مستحبة أو جائزة، لما فيها من جبر قلب الداعي وتطييب خاطره، وقال الموفق إذا قصد فاعلها شكر نعمة الله عليه وإطعام إخوانه،

وبذل طعامه، فله أجر ذلك، وينبغي إجابته، وإلا فقد دعي عثمان إلى ختان فأبى، وقال كنا لا نأتي الختان على عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ولأبي داود) أي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فإن كان) أي المدعو للوليمة (مفطرًا فليطعم) أي جبرًا لقلب داعيه، وأكله من تمام إجابة دعوته (وإن كان صائمًا فليدع) أي لداعيه لوليمته بالبركة والمغفرة، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا وقال الموفق صحيح "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصل" أي ليدع لما تقدم، ومنه "أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وذكركم الله فيمن عنده""وإن كان مفطرًا فليطعم"

فدل الحديثان وغيرهما على أنه يتأكد على من كان صائمًا أن

ص: 58

لا يعتذر بالصوم بل يجيب وليدع لأهل الطعام بالبركة والمغفرة، وظاهره أنه لا يجب عليه الإفطار، فأما إن كان صومه فرضًا كقضاء رمضان، وكنذر فلا نزاع في أنه يحرم عليه الفطر، لقوله:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وينبغي إخباره بصومه ليعلم عذره، وإن كان نفلا جاز له الفطر، ولا يجب لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا «إن شاء طعم وإن شاء ترك» وقال لرجل اعتزل عن القوم ناحية وقال إني صائم " دعاكم أخوكم وتكلف لكم كل ثم صم يومًأ مكانه إن شئت" وقال الشيخ وغيره يفطر استحبابًا إن جبر قلب أخيه المسلم، وإلا كان تمام الصوم أولى من الفطر، وهذا أعدل الأقوال.

وقال لا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو إذا امتنع من الفطر في التطوع، أو الأكل، إن كان مفطرًا فإن كلا الأمرين جائز، وإذا ألزمه بما لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها، ولا يحلف عليه ليأكل، ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع فإن فطره جائز، فإن كان ترك الجائز مستلزمًا لأمور محذورة فينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما يصير واجبًا، وإن كان في الإجابة مصلحة الداعي فقط، وفيها مفسدة الشبهة ففي أيهما أرجح خلاف اهـ.

وإن كان المدعو مريضًا أو ممرضًا أو مشغولاً بحفظ مال أو في شدة حر أو برد أو مطر يبل الثياب أو وحل، أو كان أجيرًا ولم

ص: 59

يأذن له المستأجر لم تجب الإجابة في حقه، لأحد هذه الأعذار، وقال بعض أهل العلم يكره لأهل العلم والفضل الإسراع إلى الإجابة والتسامح فيه، لأن فيه بذلة ودناءة وشرها، لا سيما القاضي، لأنه ربما كان ذريعة للتهاون به وعدم المبالاة.

قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن دخل على غير دعوة» أي من غير أن يدعوه صاحب الوليمة (دخل سارقًا) لأنه دخل بغير إذن، ورد في الرجل يدخل على آخر وهو يعلم أنه يأكل ليأكل معه (وخرج مغيرًا) من أغار يغير إذا نهب مال غيره، شبه دخوله على الطعام الذي لم يدع إليه بدخول السارق الذي يدخل بغير إرادة المالك، لأنه اختفى بين الداخلين وشبه خروجه بخروج من نهب قومًا وخرج ظاهرًا بعد ما أكل بخلاف الدخول فإنه دخل مختفيًا خوفًا من أن يمنع، وبعد الخروج قد قضى حاجته فلم يبق له حاجة إلى التستر، وإذا دعي فجاء مع الرسول فهو إذن في الأكل، فلا يشترط إذن ثان، وتقديم الطعام إليه بطريق الأولى، وهذا فيما إذا وضعه ولم يلحظ انتظار من يأتي، وينظر إلى العرف والعادة في ذلك البلد.

(وله) أي ولأبي داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا: «إذا اجتمع داعيان» أي لوليمة «فأجب أقربهما بابا» وفيه فإن أقربهما إليك بابًا أقربهما إليك جوارًا «فإن سبق أحدهما» أي أحد داعيين إلى وليمة «فأجب الذي سبق» سواء كان هو الأقرب أو الأبعد فالقرب وإن كان سببًا للإيثار لكنه لا

ص: 60

يعتبر إلا مع عدم السبق، فدل الحديث على أنه إذا اجتمع داعيان فالأحق بالإجابة الأسبق، فإن استويا قدم الجار، والجار على مراتب فأحقهم أقربهم بابًا، فإن استويا أقرع بينهما، وقيل إن كان أحدهما رحمًا، أو من أهل العلم، أو الورع، قدم لمرجح الإجابة.

(وعن أنس) رضي الله عنه (قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم) قال أنس فدخل بأهله فصنعت أم سليم حيسًا فجعلته في تنور فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ضعه» (وقال ادع فلانًا وفلانًا ومن لقيت) وكذا من شئت (متفق عليه) فدل على جواز الدعوة إلى الطعام على الصفة التي أمره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون تعيين المدعو. وتسمى هذه الدعوة الجفلى والخاصة والنقري، قال طرفة:

نحن في المشتات ندعوا الجفلى لا ترى الأدب فينا ينتقر

أي يخصص فتباح لهذا الخبر:

وعن أبي سعيد مرفوعًا "طعام أول يوم حق" فقيل واجب وتقدم أن الجمهور على الندب "وطعام اليوم الثاني سنة" ولأبي داود "معروف وطعام اليوم الثالث سمعة. ومن سمع سمع الله به" رواه الترمذي وغيره، أي فلا ينبغي فعله، ولا الإجابة إليه، وقال الشيخ يحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية الأيام، ولو العادة فعله، أو لتفريح أهله، ويعذر إن عاد.

ص: 61

وذهب جماعة إلى أنه لا بأس بالضيافة إلى سبعة أيام إذا كان المدعوون كثيرين، ويشق جمعهم في يوم أو يومين، وقال البخاري: باب حق إجابة الوليمة والدعوة، ومن أولم سبعة أيام ونحوه ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ولا يومين، ولابن أبي شيبة عن حفصة بنت سيرين قالت لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام، وفي رواية ثمانية أيام.

(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (مرفوعا: من رأى منكم منكرً) ذكره منكرًا ليعم جميع ما نهى الله عنه، فإذا دعي إلى وليمة مثلاً ورأى منكرًا كخمر وخنزير وآلة لهو وتصاوير وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله «فليغيره بيده» إن قدر على ذلك، وهو أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أثنى الله على هذه الأمة بذلك، فقال:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} بل أمر به فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثم طبع على ذلك بطابع الفلاح فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} .

{فإن لم يستطع} أي تغيير المنكر بيده (فـ) ليغير المنكر (بلسانه) إن قدر على ذلك «فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» متفق عليه. وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» بل قد يكون ممن رضي وتابع، فإن قدر على تغيير المنكر حضر وغيره، فأدى بذلك إجابة الدعوة وإزالة

ص: 62

المنكر، وإن لم يقدر على تغييره لم يحضر.

(وعن عمر) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر» رواه أحمد وله الترمذي والنسائي نحوه من حديث جابر، وحسنه الحافظ، ولأبي داود عن ابن عمر، "نهى عن الجلوس على مائدة يدار عليها الخمر" فدلت هذه الأحاديث على سقوط حق الداعي، وعدم حضور الدعوة لوجود المنكر، والمراد إذا لم يقدر على تغييره.

(ولابن ماجه) بإسناد رجاله رجال الصحيح (عن علي) رضي الله عنه قال: (صنعت طعامًا فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في البيت تصاوير فرجع) وقال الشيخ وغيره خرج أحمد من وليمة فيها آنية فضة، فقال الداعي نحوها فأبى أن يرجع، فإذا صار في الوليمة خمر أو خنزير أو تصاوير، أو شاهد ستورًا معلقة فيها صور حيوان لم يجلس إلا أن تزال، وهذا مذهب جماهير العلماء، وقال ابن عبد البر هذا أعدل المذاهب، ويكره أيضًا تعليق الستور على الحيطان والأبواب من غير حاجة، لوجود أغلاف غيرها من أبواب الخشب ونحوها، وما زاد عن الحاجة فسرف.

وأما الحرير والذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال، فكذا الحيطان والأبواب التي يشترك فيها الرجال والنساء: ينبغي أن تكون كالتي للرجال، وأما ما يختص بالمرأة

ص: 63

ففيه نظر، إذ ليس هو من اللباس، وإن حضر من غير علم به ثم علم به أزاله لوجوب إزالته عليه، ويجلس بعد إزالته وإن دام المنكر لعجزه عن إزالته انصرف لئلا تكون إجابته سببًا لشهود المنكر، قال الشيخ ويحرم دخول بيعة وكنيسة مع وجود صورة، وأنها كالمسجد على القبر.

ويحرم حضور أعياد المشركين، وأن يفعل كفعلهم والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا وتجب عقوبة فاعله، ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة، وإن كان هناك مضحك بالفحش والكذب، لم يجز الحضور، ويجب الإنكار، فإن كان مزح لا كذب فيه ولا فحش أبيح مع من يقل ذلك، قال: والفرق بين الدعوة والجنازة أن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة.

(وعن أنس) رضي الله عنه (مرفوعًا: «من انتهب فليس منا» رواه أحمد وصححه الترمذي) وللبخاري "نهى عن المثلة والنهبي" ولأحمد "عن النهبة والخلسة" وعن عمران بن حصين نحو ذلك، فثبت من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم النهي عن النهبة، ومن جملة ذلك انتهاب النثار، ولم يرد ما يصلح لتخصيصه، قال الحافظ ولا ضعيف فضلا عن صحيح فيكره، والنثار، شيء يطرحونه في أيام التزويج من دراهم أو غيرها، ويكره التقاطه، وأخذه ممن أخذه. قال أحمد هذه نهبة

ص: 64

تقتضي التحريم وقيل ليس بمكروه، قال الشيخ والرخصة المحضة تبعد جدًا اهـ للنهي عنه، ولما فيه من الدناءة والسخف.

(وفي السنن) وعند أحمد والحاكم وغيرهم إلا أبا داود من حديث محمد بن حاطب أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فصل ما بين الحرام والحلال الدف» أي ضرب الدف، والمراد ضربة غير ملهية كدف العرب على شكل الغربال، ولأنه المعهود حينئذ (والصوت في النكاح) أي رفع الصوت في النكاح للإعلان به.

وتقدم سنيته (حسنه الترمذي) فدل الحديث على سنية ضرب الأدفاف قاله الشيخ وغيره، بحيث يكون كدف العرب، لا الأغاني المهيجة للشرور المشتملة على وصف الجمال والفجور ومعاقرة الخمور، فإن ذلك يحرم في النكاح كما يحرم في غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم «نهيت عن صوتين أحمقين» وغيره، ويسن رفع الأصوات بشيء من الكلام، نحو أتيناكم أتيناكم، إعلانًا بالنكاح.

(ولابن ماجه عن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا «أعلنوا النكاح» أي أظهروه وأشيعوه «واضربوا عليه بالغربال» فهو المعهود على عهده صلى الله عليه وسلم وفي المسند عن عمر بن يحيى المازني عن جده أبي حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره نكاح السر، حتى يضرب بدف، ويقال: «أتيناكم أتيناكم فحيونا

ص: 65

نحييكم» وفي رواية شريك "فهلا بعثتم جارية تضرب بالدف.

(وللبخاري عنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال صلى الله عليه وسلم ما كان معكم من لهو فإن الإنصار يعجبهم اللهو) ولابن ماجه عن ابن عباس أن عائشة أنكحت ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أهديتم الفتاة» قالوا: نعم قال: أرسلتم لها من يغنى قالت لا قال: «إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم» ففي هذه الأحاديث وما في معناها الندب على إعلان النكاح بالدف والغناء المباح، وفي الصحيح لما رأى نساء وصبيانًا جاءوا من عرس قال إنكم من أحب الناس إلي.

(وله) أي للبخاري (عن الربيع) بنت معوذ رضي الله عنها أنه (دخل عليها) يعني النبي صلى الله عليه وسلم (وجويريات يضربن بالدف) أي فأقرهن ولم ينكر ذلك، قال الشيخ، ومن استدل بجواز الغناء للصغار في يوم عيد على أنه مباح للكبار من الرجال والنساء على الإطلاق فهو مخطئ، وقال أما الشابة فلم يرخص أحد من أهل العلم في حضورها مجمع الرجال الأجانب.

لا في جنازة ولا في عرس، وتحرم كل ملهاة سوى الدف المعهود في عصر النبوة، كمزمار، وطنبور وجنك وعود وسائر الملاهي المحرمة، وكذا الأغاني المهيجة للفجور.

ص: 66