المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الأيمان جمع يمين وضعت في الأصل لتوكيد المحلوف عليه، وهي - الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم - جـ ٤

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌باب الشروط في النكاح

- ‌فصل في العيوب

- ‌باب نكاح الكفار

- ‌باب الصداق

- ‌فصل في المفوضة

- ‌باب وليمة العرس

- ‌فصل في آداب الأكل

- ‌باب عشرة النساء

- ‌فصل في النشوز

- ‌باب الخلع

- ‌كتاب الطلاق

- ‌فصل في عدده

- ‌فصل في الكنايات

- ‌فصل في الحلف

- ‌باب ما يختلف به عدد الطلاق

- ‌تتمةفي إيقاع الطلاق في الزمن الماضي والمستقبل والمستحيل

- ‌باب تعليق الطلاق بالشروط

- ‌باب التأويل في الحلف

- ‌باب الشك في الطلاق

- ‌باب الرجعة

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الظهار

- ‌باب اللعان

- ‌كتاب العدد

- ‌فصل في الإحداد

- ‌باب الاستبراء

- ‌باب الرضاع

- ‌باب النفقات

- ‌فصل في نفقة الأقارب

- ‌فصل في نفقة المملوك

- ‌باب الحضانة

- ‌كتاب الجنايات

- ‌فصل في القصاص

- ‌فصل في الجراح

- ‌باب الديات

- ‌فصل في أصول الدية

- ‌فصل في دية الأعضاء

- ‌باب القسامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الزنا

- ‌فصل في اللواط

- ‌باب حد القذف

- ‌باب حد المسكر

- ‌باب التعزير

- ‌باب القطع في السرقة

- ‌باب حد قطاع الطريق

- ‌باب قتال أهل البغي

- ‌باب حكم المرتد

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌فصل في المضطر

- ‌فصل في الضيف

- ‌باب الذكاة

- ‌باب الصيد

- ‌باب الأيمان

- ‌فصل في الكفارة

- ‌فصل في النذور

- ‌باب القضاء

- ‌فصل في آداب القاضي

- ‌باب القسمة

- ‌باب الدعاوي والبينات

- ‌باب الشهادات

- ‌فصل في عدد الشهود

- ‌باب الإقرار

الفصل: ‌ ‌باب الأيمان جمع يمين وضعت في الأصل لتوكيد المحلوف عليه، وهي

‌باب الأيمان

جمع يمين وضعت في الأصل لتوكيد المحلوف عليه، وهي القسم والإيلاء والحلف، واتفق أهل العلم على أن من حلف على يمين لزمه الوفاء بذلك، إذا كان طاعة، وقال الشيخ: الحالف لا بد له من شيئين، من كراهة الشرط، وكراهة الجزاء عند الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفًا، سواء كان قصده الحظ والمنع، أو لم يكن، قال: والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة، فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام فهو نذر وعهد ويمين، وإن قال: لا أكلم زيدًا فيمين وعهد لا نذر، فالأيمان تضمنته مع النذر، وهي أن يلتزم به قربة فيلزمه الوفاء، وهي عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه.

وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه، فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها، إن كان العقد لازمًا، وإن لم يكن لازمًأ خير، وهذه أيمان بنص القرآن، ولم يتعرض لها ما يحل عقدتها إجماعًا وما يقصد به الحظ أو المنع أو التصديق أو التكذيب، بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه، سواء كان بصيغة القسم أو الجزاء فهو يمين، عند جميع الخلق، والأصل في الأيمان الكتاب والسنة والإجماع.

ص: 457

(قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة، فإن اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به، وروي أنه قول الرجل: لا والله بلى والله من غير قصد في الكلام، وقيل في الهزل، وقيل في المعصية، وقيل على غلبة الظن، وقيل في النسيان، وقيل هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك والمقصود أنه اليمين من غير قصد ولا عقد.

{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} أي يعاقبكم ويلزمكم {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أي بما صممتم عليه منها، وقصدتموها وتعمدتموها، وفي قراءة "عاقدتم" بالألف، وفي قراءة بالتشديد، أي وكدتم (وعقدتم) أصله عقد أحدهما يده بيد الآخر {فَكَفَّارَتُهُ} أي ما تعمدتموه {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إلى قوله {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} قال ابن القيم: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا كفارته ويأتي.

(وقال) تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين، وكسب القلب العقد والنية، وقال ابن عباس: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، وهذه الآية كالتي قبلها وهي قوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ولا تنعقد اليمين إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة

ص: 458

من صفاته كقول: والذي نفسي بيده والله والرحمن، وعزة الله وعظمته ولعمر الله: يمين وكذا أمانة الله.

وأما قول الرجل: لعمرك جرى علي رسم اللغة، وذكر صورة القسم لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط، لأنه أقوى من سائر المؤكدات، وأسلم من التأكيد بالقسم بالله، لوجوب البر به، وليس الغرض اليمين الشرعي، فصورة القسم على الوجه المذكور لا بأس به، ولهذا شاع بين المسلمين، وقال عليه الصلاة والسلام:"أفلح وأبيه".

(وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فأقسم تعالى بربوبيته الكاملة الشاملة وخص السماء والأرض وهما من أكبر مخلوقاته ولا نزاع في أن القسم برب السماء والأرض، وكذا برب كل شيء ونحو ذلك، جائز ويمين منعقدة.

وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي قسمًا غليظًا وذكر تعالى القسم باسمه الشريف في مواضع، وقال تعالى:{تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ *} سؤال توبيخ، من إثباتهم الشريك، وجعلهم له نصيبًا مما رزقهم الله وقال تعالى:{تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وغير ذلك.

وقال تعالى: {قُلْ بَلَى} تبعثون {وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} فأمره تعالى بالإقسام به على تصديق ما خبر به في ثلاثة مواضع من كتابه، ويستحب الحلف على

ص: 459

الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حفظ عنه صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثلاثين موضعًا.

وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم، إذا حلفتم على تركها، وذلك بأن يدعى أحدكم، إلى صلة رحمه أو بر، فيقول: حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البر، قال تعالى:{أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} .

قال ابن عباس: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير، وفي الصحيحين " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وقال لعبد الرحمن بن سمرة "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك"

فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما سيأتي، قال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يجعل اسم الله عز وجل عرضة للأيمان يمنع من بر أو صلة، وإن كان قد حلف فالأولى، أن يحنث إذا حلف على ترك البر، ويكفر، وقال تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ} أي لا يحلف من الألية وهي القسم {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} أي الطول والصدقة والإحسان {وَالسَّعَةِ} أي الجدة {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين، نزلت في الصديق حلف أن لا

ص: 460

ينفع مسطح بن أثاثه بعدما قال في عائشة.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون {بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الكاذبة {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي شيئًا قليلا من حطام الدنيا {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} .

وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} وهو ادعاء الإسلام {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الحلف عليه كذب، عنى بها المنافقين الذين تولوا قومًا غضب الله عليهم، أخبر أنهم كاذبون في

حلفهم.

(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف) أي بلفظ (لا ومقلب القلوب، رواه البخاري) فلا رد ونفي للكلام السابق، ومقلب القلوب هو المقسم به، والمراد تقليب أحوالها، وصرفها من رأي إلى رأي، وذكر الألفاظ التي كان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقسم بها، وفي رواية "لا ومصرف القلوب" "والذي نفسي بيده" "والذي نفس محمد بيده" "ورب الكعبة" ولابن أبي شيبة كان إذا اجتهد في اليمين قال:"والذي نفس أبي القاسم بيده" وفيها دليل على جواز الإقسام بها، وانعقاد

اليمين.

(ولهما عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: لما خلق الله الجنة) وزخرفت وأرسل جبريل إليها فقال: انظر إلى ما أعددت

ص: 461

لأهلها فيها (قال جبرائيل: لا وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها) لما رأى من النعيم ولذاتها، وذلك قبل أن تحف بالمكاره، والنار بالشهوات، وفيه جواز الحلف بعزة الله، وانعقاد اليمين به، وحكى الله عن إبليس أنه (قال:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وفي الصحيحين في الذي بين الجنة والنار فيقول: رب اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسأل غيرها، وفي الخبر عن أيوب: بل وعزتك وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.

(وعن قتيلة) بنت صيفي الأنصاري صحابية مهاجرة، قالت:(أمرهم صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة) فلا يقولوا والكعبة كما ذكر ذلك عنهم من أنهم يقولون والكعبة (رواه أحمد) والنسائي وذلك أن اليهودي قال: إنكم تنددون تقولون والكعبة، فأمرهم بما لا تنديد فيه ولا شرك، فدل على جواز الحلف برب الكعبة، وانعقاد اليمين به.

(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: إن لله تسعة وتسعين اسمًا) عدها بعض الرواة (من أحصاها دخل الجنة) ففيه فضيلة حفظها، وجواز القسم بها (متفق عليه) وفي لفظ "من حفظها" وليس الحديث حصرًا لأسماء الله، لحديث "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".

ص: 462

قال الوزير: اتفقوا على أن اليمين بالله منعقدة بجميع أسماء الله الحسنى، كالرحمن والرحيم والحي وغيرها، وبجميع صفات ذات الله كعزة الله وجلاله.

والمراد فيما إذا حنث فيها، تجب فيها الكفارة، قال ابن عبد البر وغيره، لا خلاف في ذلك إلا عمن لا يعتد بقوله.

(ولهما عن عمر" رضي الله عنه (مرفوعًا: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وذلك أنه صلى الله عليه وسلم سمعه يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده: "فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" أي فلا يحلف إلا بالله أو أسمائه أو صفاته، وهذا باتفاق أهل العلم، وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على عدم جواز الحلف بغير الله، والجمهور على أن الحلف بغير الله لا ينعقد، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه.

(وللنسائي) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد» و (لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) وفي لفظ "ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" فدل الحديث- وكذا غيره- على تحريم الحلف بغير الله، ويأتي "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" ويحرم الحلف بالبراءة من الإسلام، أو من الدين أو بأنه يهودي ونحو ذلك.

وقال ابن القيم: اتفق الناس أنه إن قال: إن فعلت كذا فهو

ص: 463

يهودي أنه لا يكفر إن قصد اليمين، ولأبي داود وغيره:"إن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا".

(وعن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا: من حلف بغير الله بنبي أو ولي أو غيرهما (فقد كفر أو أشرك) وفي رواية: "فقد كفر" وفي رواية "فقد أشرك" ويحتمل أن يكون شكًا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو (حسنه الترمذي) ورواه أبو داود وغيره، وصححه الحاكم.

وقد يكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما يكون من الشرك الأصغر، ما لم يسو بينه وبينه أو يكون المحلوف به عند الحالف أعظم من الخالق جل وعلا، فهو أكبر ناقل عن الملة، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر وقال تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

(وعن ابن عمر) رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم قال في زيد بن حارثة) رضي الله عنه حين أمر ابنه (وأيم الله إنه لخليق بالإمارة) أي لجدير بها يستحق أن يكون أميرًا، وقال في قصة سليمان "وايم الذي نفس محمد بيده" الحديث، وحديث "وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد" إلخ، قيل أصلها يمين الله، وقيل عوض عن واو القسم، وقيل كقول بالله، أو أحلف بالله، وحكي غير ذلك، ومذهب المالكية والحنفية والأصح عن أحمد أنها يمين تنعقد، وعند الشافعية إن نوى اليمين.

ص: 464

(وقال أسيد) بن حضير رضي الله عنه (لسعد) بن عبادة لما استعذر النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن أبي (لعمر الله لنقتلنه) فتثاور الحيان، والحديثان (متفق عليهما) وذلك فيما قص الله علينا من قصة أهل الإفك، وتبرئة عائشة رضي الله عنها، فمن قال: لعمر الله فكأنه قال: أحلف ببقاء الله، واللام للتوكيد، أي: ما أقسم، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.

(وقال العباس) بن عبد المطلب رضي الله عنه (للنبي صلى الله عليه وسلم أقسمت عليك) وذلك في هجرة صفوان، وقد انطلق به العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فامتنع فقال العباس: أقسمت عليك (لتبايعنه) فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: "هات أبر قسم عمي ولا أهجره"(رواه أحمد) وابن ماجه، فدل على أن قول الرجل: أقسمت عليك: يمين؛ وهو مذهب الكوفيين والمشهور عن أحمد.

ويحرم الحلف بالله على الكذب، وأعظم منه الحلف بغير الله، وإن كان صادقًا، وقال ابن مسعود وغيره: لأن أحلف بالله كاذبًا، أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقًا؛ قال الشيخ: لأن حسنة التوحيد، أعظم من حسنة الصدق؛ وسبب الكذب أسهل من سبب الشرك.

(ولأبي داود عن بريدة) رضي الله عنه (مرفوعًا من حلف بالأمانة) لكونها مخلوقة (فليس منا) ففيه الوعيد الشديد على من

ص: 465

حلف بالأمانة، حيث تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة، والوديعة والأمان وغير ذلك، وإذا قال الحالف: وأمانة الله كعهد الله، فيمين وتقدم.

وإن حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه، وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحد القولين لأحمد لما تقدم من قوله:"من حلف بغير الله فقد كفر" وقوله "لا تحلفوا إلا بالله" وغيرهما، وأما الحلف بالعتاق والطلاق، فقال الشيخ في موضع: لا يكره لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئًا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك، كما أنكروا على من حلف بالكعبة.

وقال ابن القيم في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات، والحلف بأحب القربات المالية إلى الله، وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم، ولا مخالف لهم من بقيتهم، وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق، كما ثبت ذلك عن علي، ولا مخالف له منهم، فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه، حتى يثبت إجماع الأمة إجماعًا متيقنًا على خلافه، فإن الأمة لا تجتمع على خطأ ألبتة.

ص: 466

(وتقدم) في باب التأويل في الحلف (يمينك) أي إنما تنعقد يمينك (على ما يصدقك به صاحبك) أي واقع عليه، والحديث رواه مسلم، وفي رواية:"اليمين على نية المستحلف" بكسر اللام، والمراد المستحلف المظلوم، أي اليمين حصلت على نية المستحلف، وهو طالب اليمين، فالنظر في اليمين إلى نية طالب الحق واعتقاده، فالتأويل على خلاف قصد طالب اليمين لا يدفع إثم اليمين الكاذبة، فالاعتبار بقصد المحلف، سواء كان هو الحاكم أو الغريم، وأن يكون المحلف بفتح اللام ظالمًا.

أما لو كان مظلومًا، والمحلف بكسر اللام كاذب فالاعتبار بنية الحالف، وكذا إذا حلف بغير استحلاف، وورّى فتنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء، أو حلفه غير القاضي، كما حكاه النووي وغيره، فاليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه، قال والتورية وإن كان لا يحنث بها، فلا يجوز فعلها، حيث يبطل بها حق المستحلف وهذا مجمع عليه.

وحكى القاضي الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته، ويقبل قوله، وأما إذا كان لغيره حق عليه، فلا خلاف أنه يحكم بيمينه سواء

حلف متبرعًا، أو باستحلاف، ولعل مستند الإجماع على

أن الحالف له نيته في غير استحلاف القاضي ونحوه – خبر

ص: 467

حنظلة، حيث حلف للعدو أن وائلاً أخوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "كنت أبرهم وأصدقهم".

وقال الشيخ وغيره: لا يجوز التعريض لغير ظالم وهو قول جماعة، ولأنه تدليس كتدليس المبيع، ونص أحمد على أنه لا يجوز التعريض مع اليمين.

(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (لأن يستلج) أي يتمادى (أحدكم في يمينه) فيلج فيها ولم يكفرها زاعمًا أنه صادق (آثم له عند الله) أي أعظم إثمًا (من أن يؤدي الكفارة) وتقدم أنه قال: "ما حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني" فدل الحديث على أن أداء الكفارة، خير من التمادي فيما زعمه الذي يأثم

من أجله.

(وفي السنن عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: من حلف على يمين) أي مطلقًا (فقال إن شاء الله، فلا حنث عليه) لأن الاستثناء بمشيئة الله، والتقيد به يمنع الحنث في اليمين، ورواه أحمد وغيره، وله طرق وللخمسة نحوه من حديث أبي هريرة، ولأبي داود "ولأغزون قريشًا" ثم قال:"إن شاء الله" وفي الثالثة، ثم سكت، ثم قال:"إن شاء الله" ولم يحنث من قصد تعليق

الفعل على مشيئة الله وإرادته، بخلاف من قاله تبركًا أو سبق لسانه بلا قصد، والحديث وما في معناه دليل على

ص: 468

أن من قال في يمينه إن شاء الله، لم يحنث فإن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين، وهو مذهب الجمهور.

وقال ابن العربي: أجمع المسلمون على أن قول: إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين، بشرط كونه متصلاً، قال: ولو جاز منفصلاً كما روى بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، والجمهور هو أن يكون قوله إن شاء الله متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا يضر سكتة النفس، وقوله: ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله" ظاهره السكوت اختيارًا، فيدل على جوازه ما لم يطل الفصل، ولا فرق بين الحلف بالله أو بالطلاق أو العتاق أن التقييد بالمشيئة يمنع الانعقاد، وهو مذهب الجمهور، ومذهبهم أيضًا أن الاستثناء لا بد أن يكون باللفظ، فلا يكفي بالنية دون اللفظ.

(وعن عائشة) رضي الله عنها (أنه) يعني رسول الله (حلف) وورد بألفاظ (لن أعود) أي مرة أخرى (إلى شرب العسل) وذلك لما قال له بعض نسائه: أكلت مغافير، قال:"بل شربت عسلا" (فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} من شرب العسل {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} وصحح غير واحد أنها نزلت في شرب العسل لا تحريم مارية.

(إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} قال القاضي عن عامة العلماء: عليه كفارة يمين بنفس التحريم (متفق عليه)

ص: 469