الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
صراع الحياة هو حوار بين الإرادات المتصارعة، ما كان من هذا الصراع فرديا أو جماعيا، وما كان منه هادئا صامتا يحمل عادة اسم (الصراع السياسي) أو عنيفا صاخبا يحمل اسم (الصراع المسلح) ويمتزج عادة الصراع السياسي بالصراع المسلح عند اللجوء إلى العنف (الحرب) مما يزيد من صعوبة إدارة الحوار، بسبب ضرورة التنسيق بين الجهد المبذول على الصعيد السياسي، وبين الجهد الموجه على مستوى الصراع المسلح. وتتزايد صعوبة إدارة الحوار أيضا عند وجود تفاوت في مستويات الصراع، كما هو شأن الحروب الثورية في مواجهتها لقوى القمع - أو القهر - الاستعماري؛ إذ تكون وسائط الحروب الثورية محدودة، بينما تتوافر للقوى الاستعمارية قوى ضخمة ووسائل رهيبة، لا في ميادين الصراع المسلح فحسب، وإنما أيضا في آفاق الصراع السياسي، هذا بالإضافة إلى عامل (الهيبة) و (المكانة الدولية) التي ترافق القوة والقدرة، ولكن قوى الثورة تتمتع بالمقابل، بامتيازات خاصة، أولها: توافر رصيد شعبي هائل يمثله الخزان العظيم لقوى الشعب الثائر.
وثانيها: توافر مراكز عالمية مضادة يمكن لها دعم قوى الثورة والتعاطف معها، والوصول أحيانا إلى مشاركتها فى صراعها ماديا ومعنويا، مما يقدم للثورة قوة دفع جبارة (زخم).
وتتمثل إدارة الصراع - بالنسبة للقوى الثورية - بتفجير الصراع وتطويره، ودعمه، واكتساب الأصدقاء، وإضعاف جبهة الأعداء، والعمل باستمرار لتنمية العوامل المتشابكة في محصلة الصراع على حساب ما يتوافر للعدو من القوى والوسائط، وبكلمة أخرى: زيادة القدرة الذاتية على أنقاض ما يتم تفتيته من قدرات العدو وإمكاناته.
تلك هي بدهيات معروفة لكل من يتصدى لإدارة الحوار، غير أن لكل ثورة خصوصيها، وبقدر ما تتشابه الثورات في طرائقها وظواهرها، وبقدر ما تتماثل قوى القمع في أساليبها ومخططاتها، إلا أن هناك خلافا وتباينا قد يزيد في نوعه على التشابه والتماثل، وهنا يأتي الدور الريادي للقيادة الثورية التاريخية التي تستطيع التمييز بين ما هو مطلوب، وما هو ممكن.
لقد اضطلعت (جبهة التحرير الوطني) بإدارة الصراع السلمي والمسلح، وأعطت لهذا الصراع خصوصيته من خلال الأخذ بمجموعة من المعطيات، لعل أبرزها:
1 -
تحديد الهدف، وتعيين السبل المؤدية له، واختيار الوسائل الضرورية، كل ذلك بدقة تامة ووضوح كامل، مع ترك هامش للمرونة يسمح بالتحرك السياسي ضمن حدود الهدف ومن غير تجاوز له.
2 -
عدم إهمال أهداف العدو ووسائله المتميزة عادة بالخداع والغدر وكل (الأخلاق) التي عرف بها الاستعمار.
3 -
الإفادة من (الجهد العسكري) لدعم (الهدف السياسي) واستثمار كل (جهد سياسي) لدعم (العمل العسكري)، وضمان التوازن التام بين طرفي معادلة الصراع (السياسي - المسلح).
لقد كانت جبهة التحرير الوطني تعرف يقينا، ومنذ البداية، أن باستطاعتها الاعتماد على ما يحتويه خزان (الشعب العربي الأبي في الجزائر) من الطاقات الثورية المتفجرة.
وكانت تعرف يقينا أن باستطاعتها الاعتماد على الدعم العربي الإسلامي، سواء في المغرب أو في المشرق، غير أنها لم تكن تعرف يقينا أن التحالف غير المقدس للقوى الاستعمارية سيتألب عليها بمثل تلك الضراوة، وبمثل تلك الوحشية، ولم تكن تعرف يقينا أنها ستسير على درب الصراع الشاق طوال سبع سنوات ونيف.
وهنا يبرز من جديد دور الشعب العظيم في إفراز قيادات متتالية تتمتع بدرجة عالية من الكفاءة القيادية، بقدر ما يبرز أيضا دور تلك القيادات الريادي في الاضطلاع بمسؤوليات القيادة وواجباتها.
إنها علاقة جدلية ثابتة، ثورة عظمى تضطلع بقيادتها ريادة تاريخية عظيمة، وقيادة راشدة عظمى تقود ثورة تاريخية رائدة، وكان أروع ما في الثورة ذلك التكامل، وذلك الانسجام بين الثورة وقيادتها.
وبالتعرض لدور القيادة التاريخية، في هذا الكتاب، تصل هذه المجموعة الوجيزة في (جهاد شعب الجزائر) إلى نهايتها.
وتبقى قصة الثورة الجزائرية أضخم من هذا الوجيز الذي سبق عرضه، فمجموعة كتب (جهاد شعب الجزائر) ستبقى مجرد خطوط عامة في (ملحمة الشعب العظيم).
ومع وصول هذا الوجيز إلى نهايته، تظهر هناك نقطتان: الأولى
تتعلق بمضمون هذا العدد والثانية تتعلق بدور القيادة التاريخية في (بناء الثورة) لمرحلة ما بعد الاستقلال.
أما بالنسبة للنقطة الأولى، فإن دور (جبهة التحرير الوطني) يبرز من خلال كافة الكتب التي سبق عرضها، وإن التركيز هنا يهدف إلى إبراز وتأكيد بعض الأسس التي انتهجتها الثورة، والمبادىء التي سارت عليها، ونظرا لوفرة المادة فقد كان لا بد من التوقف عند أبرز الأعمال وضوحا، ولو أن بقية الأعمال لا تقل عما تم عرضه قيمة وأهمية. أما النقطة الثانية فهي تلك التي سبق عرضها في مقدمة الأعداد الأولى (أعني سرقة الثورات).
لقد أدركت القيادة التاريخية أنها بحكم ظروفها، ومع كل تقدم لها خلال سنوات الصراع، ستضطر إلى إفساح المجال أمام المتسللين و (الديماغوجيين) و (الطفيليين) سارقي الثورات ومنتحلي الانتصارات، ومن هنا كان إصرارها على الإمساك بالقيادة، وعدم تسليمها الا (للثوار المجاهدين) - اقرأ (جبهة التحرير الوطني - تنظيم وادارة)، ولكن هل استطاع هذا الإجراء تشكيل سد ضد الانحرافات؟.
لقد قامت الثورة على أرضية عربية - إسلامية، وغذتها دماء المجاهدين، ودعمتها تضحياتهم، حتى إذا اشتد ساعد الثورة، وقسا عودها، وباتت بواكير ثمارها اليانعة بالظهور أسرع (الديماعرجيون) للقطاف، من ثمار سيول الدماء الزكية، وتضحيات الشعب الصامد وآلامه ومعاناته.
ومثل هؤلاء موجودون في كل شعب، غير أن الثورة العظمى لا بد وأن تبقى منارا في العالم العربي - الإسلامي، حتى تكون وفية
لتضحية شهدائها، وحتى تعود شمس العرب المسلمين ساطعة في الغرب لتضيء الشرق.
لقد مضى ربع قرن على الاستقلال، وما من أحد يستطيع تقويم ما أنجزته ثورة الجزائر لشعبها بمثل ما تستطيعه القيادة التاريخية التي لا زالت تتربع على عرش السلطة.
ولئن حدثت بعض الانحرافات خلال هذه الفترة، فكيف سينتهي إليه أمر الجزائر المجاهدة عندما ينتهي دور (القيادة التاريخية) بتأثير الضربات المستمرة من أعداء الخارج، وأعوان الداخل؟.
لقد أكدت مسيرة الثورة، أن الاستعمار الفرنسي لم يخسر كل أسلحته.
وأكدت نهاية الثورة، أن الدول العظمى ستبقى مستمرة في تطوير عمليات نهب الشعوب واستنزافها وإضعافها.
وبرهنت مرحلة ما بعد الثورة أن الصراع المسلح قد أفسح المجال أمام الصراع السياسي بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
فالصراع مستمر إذن.
وإرادة الحوار في الصراع باقية.
وهنا تبرز أهمية العودة لاعتماد الأسس التي أكدت التجربة التاريخية عامة، وتجربة الجزائر المجاهدة بصورة خاصة، قوتها
وأهميتها في كل صراع.
إنها أسس (الأصالة الذاتية).
الأصالة التي تعتمد على خزان الشعب العربي - المسلم العظيم.
والأصالة التي تعتمد على وحدة الصف ووحدة الهدف في المغرب العربي - الإسلامي.
والأصالة التي تعتمد على (الشخصة المميزة للإنسان العربي المسلم).
وفي البحث عن هذه الأصالة، تعزيز للانتصارات، ووفاء لأرواح الشهداء، والتزام بالأمانة التاريخية التي اضطلع بها المجاهدون الصابرون، والذين لا زالوا يرسمون للجزائر مستقبل أجيالها.
إن أبناء المشرق الإسلامي يتطلعون، وهم لا زالوا تحت حكم (الصليبية الجديدة والمتطورة) إلى إخوانهم من أبناء المغرب العربي - الإسلامي، ليجدوا فيهم العون من أجل المحافظة على ما بقي لهم من أصالتهم.
ومن أوفى بحمل هذا الأمل من أبناء (الجزائر المجاهدة) خاصة والمغرب العربي - الإسلامي عامة.
فهل ستعود شمس العرب المسلمين لتشرق من الغرب؟.
بسام العسلي