المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أول بيان للحكومة المؤقتة - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٥

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ أول بيان للحكومة المؤقتة

2 -

‌ أول بيان للحكومة المؤقتة

أول تصريح للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (*)

26 أيلول - سبتمبر - 1958.

لقد أعلن يوم 19 سبتمبر - 1958 عن تشكيل حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية، وإن هذا الإعلان الذي تم باسم شعب يكافح منذ أربع سنوات من أجل استقلاله، يعيد الدولة الجزائرية التي حذفتها من الخريطة السياسية لشمال أفريقيا، صروف الاحتلال العسكري الذي تم سنة (1830).

وهكذا وضع حد لأبشع اغتصاب وقع في القرن الماضي، والذي أراد أن يحرم شعبا من جنسيته، وأن يحيده عن مجرى تاريخه، وأن يحرمه من وسائل عيشه، وأن يجعله بقايا من إنسان، وهكذا انتهى ليل طويل من الأساطير ومن الزيف، كما انتهى زمن الاحتقار والإهانة والعبودية، وإن شعبا لم يتخل ولو مرة واحدة طوال (128) سنة من الهيمنة على

(*) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية - العدد (30) 10 أكتوبر - 1958، و (ملفات وثائقية - 24) وزارة الإعلام والثفافة - الجزائر - 1976 ص 69 - 71.

ص: 155

الطريق الى الحرية

ص: 156

شخصيته، والذي تعرض لهزائم دامية من غير أن يرضخ أبدا، ولم يغير أسلوب حياته اليومية، طوال حياته، والذي حافظ على ثقافة ماضيه وعلى تقاليده وعلى لغته وعلى حضارته، إن هذا الشعب له الحق في الاحترام والحرية، ولأن هذه الحرية بقيت عبر الأجيال المثل الأعلى الذي تناقلته، فقد وقعت في أول نوفمبر - 1954 - انتفاضة جديدة وعنيفة هذه المرة؛ لقد نهض الشعب الجزائري ليؤكد، والسلاح بيديه، حقه المشروع في الاستقلال وفي الحرية وفي الكرامة.

إن شعبنا يكافح منذ أربع سنوات، وهو يواجه واحدا من أكبر جيوش العالم، وقد سقطت أكثر من ستمائة ألف ضحية على طريق الحرية الطويل، وإن شعبنا الخاضع لسلطة العنصريين الاستعماريين يتعرض كل يوم للتعذيب والتقتيل، غير أنه بني على الرغم من آلامه وآلاف شهدائه، صامدا في عقيدته، وفي إيمانه بالتحرير القريب. وإن جيشنا للتحرر الوطني، وبالرغم من إمكاناته المحدودة، يواجه ببسالة جيشا فرنسيا مجهزا بعتاد عصري قوي، وبالمدفعية وبالطائرات وبالبحرية، وإن هذه البطولة وهذه الشجاعة وهذه التضحيات العديدة، وبكلمة واحدة، فإن العزيمة الجماعية، هي التي تمنح شرعية الحكومة.

إن أول واجبات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، تتمثل في الإشادة بهذا الشعب الجزائري الشهيد الذي تعرض لأشد المحن في سبيل ميلاد الجمهورية الجزائرية الحرة وحياتها، وهذه الإشادة موجهة أيضا وبالحماسة ذاتها إلى جيش التحرير الوطني المظفر الذي وضع بفضل شجاعته وتضحياته قضية الثورة الجزائرية، نهائيا، على طريق النصر.

ص: 157

والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تترحم بتأثر، في هذه الأوقات التاريخية، على أرواح كل الشهداء الجزائريين، والذكرى الخالدة لأولئك الذين قتلوا بكل وحشية، والذين قلب اغتيالهم الرهيب بخبث - ولؤم - إلى (فرار) أو (محاولة فرار) أو إلى (انتحار) وكأنه أريد أن تضاف اللعنة الكبرى لتضحيتهم الكبرى.

فالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تعاهدهم على أن تبقى وفية لمثلهم في الحرية وفي العدالة وفي الترقية الاجتماعية، والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية النابعة عن إرادة الشعب، شاعرة الآن بسمؤولياتها، وهي ستضطلع بها كاملة، وهي تضع على عاتقها قبل كل شيء أن تقود الشعب وجيشه حتى التحرر الوطني، تعطي الكلمة للشعب الذي سيرجع إليه وحده صنع مؤسسات الدولة الجزائرية، فبتبنيه للثورة قد أعرب أمام العالم أنه يرغب في جمهورية ديموقراطية واجتماعية.

إن الشعب الجزائري هو شعب مسالم، وإن الاستعمار هو الذي دفعه إلى حمل السلاح بعد أن نفذت كل الوسائل السلمية لاسترجاع حريته واستقلاله، كما أن زيف (الجزائر الفرنسية) وفكرة (الإدماج) الوهمية، لم يكن لها أي أساس سوى سياسة القوة، فالجزائر ليست فرنسا، والشعب الجزائري ليس فرنسيا. أما الزعم - أو الادعاء - بفرنسة بلادنا فإنه يشكل أمرا فظيعا، وعملية في غير عصرها، وإجراما يدينه ميثاق الأمم المتحدة. وإن إجبار الجزائريين أن يوافقوا - عن طريق استفتاء - على المؤسسات الفرنسية البحتة، يعتبر استفزازا لا يحتمل ضد شعب يكافح من أجل استقلاله الوطني. إن الاستعماريين الفرنسيين المنتخبين في هياكلهم الامبريالية والعنصرية يحلمون بالماضي، ويريدون بحرب

ص: 158

الجزائر الإبقاء على جريمة سنة (1830)، والمحافظة على سيطرتهم. إن هذا الوقت قد مضى وانقفضى، ولم يعد لأية أمة مهما بلغت قوتها أن تفرض قانونها على أمة أخرى، وهذا يعني أن القوة ستبقى عاجزة أمام إرادة الجزائريين الجماعية. في بناء وطنهم وفي الاتصال من جديد بتاريخهم، وهذا يعني أيضا أنه لن يضع السلاح إلا عندما يعترف بحقوقه كشعب له سيادته. إن الجزائر في هذا الكفاح لم تعد وحدها، وعلى المسؤولين الفرنسيين أن يفكروا بأن هناك خلفنا تونس والمغرب اللذين ارتبط مصيرهما بمصيرنا عبر العصور، ومن المنطقي أن تكون الجزائر جزءا لا يتجزأ من المغرب العربي، وأن تبني مع هذين البلدين اتحاد أفريقيا؛ فندوة (طنجة) أصبحت تاريخية، والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ستبقى وفية لروح هذه الندوة، لأنها مقتنعة كل الاقتناع أنها الحل الوحيد لتقديم حلول ملائمة للقضايا المطروحة علينا، فهي تفتح أمامنا آفاقا على مستوى العالم العصري.

وهناك أيضا التراث الرائع للحضارة العربية - الإسلامية، فالشعب الجزائري المتعلق بحضارته ينتمي إلى الوطن العربي، فهذا الوطن واحد، ومن الخطأ السياسي محاولة تقسيمه؛ فلا يمكن أن نؤكد الصداقة للعرب في تونس وفي الرباط وفي بيروت،

وأن نضربهم في الجزائر أو في القاهرة أو في بغداد، فالتضامن العربي ليس كلمة جوفاء، فبفضل التضامن الفعال لهذه الشعوب الشقيقة وحكوماتها، أصبح الشعب الجزائري قريبا من بلوغ هدفه، وإذا كانت هناك حاجة للاعتراف بالشكر فيما بين الأشقاء، فإن الشعب الجزائري يعترف بجميل الشعوب العربية عرفانا كبيرا.

ص: 159

نذكر أيضا جميل البلدان المتحررة (مؤتمر أكرا) والشعوب التي لا تزال مقيدة - بأغلال الاستعمار - في القارة الأفريقية الشاسعة والتي تتطلع إلى استقلالها، فهي في وقت حاسم من مصيرها. وتحيي (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) شعوب أفريقيا ومدغشقر التي تربطها بالشعب الجزائري وحدة في الآلام وفي الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، فالأفارقة، والمالاغاشون، والجزائريون سيتعاونون بالإيمان الذي يتطلبه التحرر، وترقبه القارة الأفريقية.

وتقف (آسيا) مع الجزائر، كما تقف معها كل الشعوب التي هزت الهيمنة الاستعمارية، والتي أخذت شيئا فشيئا في الاضطلاع بمسؤوليات السلطة والتقنية العصرية. وفي هذا الصدد فإن الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من قبل (جمهورية الصين الشعبية) والذي سيتبعه اعتراف دول آسيوية أخرى، هذا الاعتراف له مدلوله الخاص، فلكل الشعوب التي جمعها (مؤتمر باندونغ) حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، توجه الجزائر المكافحة شكرها، وتؤكد لها في الوقت ذاته تمسكها بمبادىء باندونغ، وعرفانها بالجميل على المساعدة المادية والمعنوية التي قدمت لها، كما نوجه شكرنا أيضا إلى هؤلاء الرجال من خيرة أبناء وطنهم، إلى هؤلاء الديموقراطيين من الفرنسيين والذين ما انفكوا في أوروبا وفي أمريكا يؤيدون قضيتنا العادلة بحرية في التفكير تشرفهم، وإن أصحاب (الأفكار الجديدة) هؤلاء، هم بناة إنسانية خالية من كل روح للسيطرة، وإنهم - بأفكارهم - يدينون من غير تحفظ كامل النظام الاستعماري، وهؤلاء الرجال الذين ينتمون إلى كل العقائد والأصول، جلهم من أصدقائنا وحلفائنا.

ص: 160

وإذن، فللشعب الجزائري مساندة قوية ومتينة، وهو لا يقوم بالحرب من أجل الحرب، وهو ليس عدوا للشعب الفرنسي، ولكنه عدو للاستعمار فحسب. غير أن الصداقة بين الشعوب لا يمكن أن تفهم إلا في إطار احترام حرية وسيادة كل واحد منها، ولقد أكدنا دائما رغبتنا في الوصول إلى حل سلمي للقضية الجزائرية عن طريق (المفاوضات)، فرفض الحكومة الفرنسية المتعنت لأية مفاوضات هو وحده سبب استمرار الحرب، فمعنى ذلك أنه بالإمكان وضع حد بكل سرعة لحرب الجزائر إذا رغبت في ذلك الحكومة الفرنسية، وإن (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) مستعدة من جانبها لإجراء المفاوضات، ولذلك فهي مستعدة في كل وقت للاجتماع بممثلي الحكومة الفرنسية، فوجود فرنسيين وأوروبيين في الجزائر لا يشكل عقبة مستعصية على الحل. ومهما يكن من أمر، فإن الجزائر بعد خروج الاستعماريين منها لن تعرف لا مواطنين متفوقين، ولا مواطنين ناقصين، فالجمهورية الجزائرية لن تقوم بأية تفرقة تقوم على الجنس أو العقيدة بين أولئك الذين يريدون أن يبقوا أبناء لها، ولسوف تمنح ضمانات أساسية حتى يكون كل المواطنين من كل المستويات شركاء في حياة البلاد، وستحترم كل الحقوق المشروعة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن استقلال الجزائر لن يشكل أبدا عقبة أمام إقامة علاقات جديدة بين فرنسا والجزائر، وستكون هذه العلاقات مثمرة إذا اعتمدت على احترام سيادة كل من البلدين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الاستقلال سيكون وحده الكفيل بأن يفتح آفاقا جديدة أمام التعاون بين البلدين.

لقد سجلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية منذ الإعلان عنها بكل ارتياح الاعتراف بها من طرف عدد من الدول

ص: 161

الكبرى وهي تشكرها على ذلك بكل حرارة، وستعترف بها غدا دول أخرى، ولكل هذه الدول الكبرى نعلن أن حكومتنا شاعرة بمسؤولياتها في المجال الدولي، وأنها ستحترم مبادىء ميثاق الأمم المتحدة، ونتبنى التصريح العالمي حول حقوق الإنسان وستبقى هذه المبادىء أساس سياسة الجمهورية الجزائرية الذي لا مساس به، كما ستوجه عمل حكومتنا.

وفي هذا الميدان، فإن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ستقبل بارتياح كبير كل مبادرة دولية تهدف إلى تطبيق الإجراءات الإنسانية لاتفاقية جنيف في حرب الجزائر، كما ستقبل كل مبادرة ترمي إلى تدعيم السلام في العالم، وإلى إيقاف التسابق في التلسح وإلى منع التجارب النووية في العالم التي تريد فرنسا أن تمدها إلى الأرض الجزائرية.

وبودنا في نهاية هذا التصريح أن نذكر بأن استمرار حرب الجزائر يشكل تهديدا مستمرا على السلام العالمي، وإننا نوجه نداء مسلحا لكل الرجال، ولكل الشعوب ليضموا جهودهم إلى جهودنا من أجل وضع حد لهذه الحرب الدامية من أجل الاحتلال الاستعماري من جديد.

ونأمل كل الأمل أن يكون هذا النداء مسموعا.

***

ص: 162