الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
تطور جبهة التحرير الوطني (سنة 1957)
قد لا تكون هناك حاجة للتعليق على (منهج الصومام) الذي سبق عرض مقتطفات منه، ذلك أن هذا المنهج واضح في مضمونه، صريح في عرضه للقضايا التي جابهتها الثورة، دقيق في وضعه للحلول والمخططات التي يجب العمل بها. و (المنهح) في واقعه تعبير عن الحالة العقلية أو (الذهنية) التي كانت تعيشها قيادة (جبهة التحرير الوطني)، غير أن فهم الأبعاد التي تضمنها المنهج، يتطلب بالضرورة القيام بجولة سريعة، أو بعرض وجيز، للمراحل التي سبقت المؤتمر والتي تلته وجاءت في أعقابه.
لقد أصدر القادة التاريخيون بيانهم الأول - في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 وهم يدركون تماما ما يعنيه هذا البيان، ولقد قيل (بأنه ليس في وسع أي ثوريين أن يحكموا سلفا على ما تلقاه النداءات التي يوجهونها للثورة من استجابة)(*) غير أن مثل هذا القول يفتقر للدقة، في حالة الثورة الجزائرية على الأقل، إذ لو لم
(*) الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) تعريب خيري حماد - دار الطليعة - بيروت 1961 - ص 139.
يكن القادة التاريخيون يعرفون يقينا مدى استعداد الجزائر للاحتراق بنار الثورة، لما أطلقوا شرارتها، ولما وجهوا بيانهم التاريخي إلى (الشعب الجزائري)، ولما كان باستطاعتهم تطوير تلك الهجمات الأولية المذهلة التي شنت في ليل (عيد جميع القديسين)، ولكان في وسع الفرنسيين القضاء بسهولة على الثورة وهي في مهدها، بما لديهم من جيوش مجهزة أحسن تجهيز، ووافرة العدد والوسائط القتالية، وكان الواجب الأول الملقى على عاتق جبهة التحرير الوطني أن تحصل على الدعم الشعبي اللازم لتطوير الثورة واستمرار تصاعد قوتها. وقد تضمنت وثيقة إعلان الثورة الأسس والمبادىء التي وردت بوضوح أكبر في (منهح الصومام) مما يؤكد وضوح الخط الثوري، وضوحا لا يقبل الجدل أو النقاش.
لقد توجهت قيادة جبهة التحرير الوطني ببياناتها إلى (الشعب الجزائري) مباشرة، وبات لزاما عليها أن تتخذ موقفا واضحا من مراكز القوى المختلفة والتي طالما أدت صراعاتها إلى خدمة الأهداف الاستعمارية وإلى تشتيت القوى وتمزيقها، ولقد تضمن البيان الأول للثورة نداءا إلى جميع الجزائريين على اختلاف أحزابهم وطبقاتهم إلى أن يتبنوا حركة النضال في سبيل الاستقلال، وبات واضحا تماما أن جبهة التحرير ليست (تجمعا للأحزاب) وإنما هي جبهة مفتوحة على كل المواطنين للعمل تحت راية الجبهة ببرامج جديدة وأهداف واضحة، بصرف النظر عن كل الآراء السياسة التي كان يحملها هؤلاء المواطنون قبل الثورة. وبكلمة أخرى فإن الجبهة أظهرت استعدادها لاحتضان كل الأحزاب لا بصفتها الحزبية وإنما بصفتها مجموعة من المواطنين المستعدين لحمل راية الثورة. وعندما قامت الإدارة الفرنسية بحل (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) قام
أتباع (مصالي الحاج) من المطالبين بالإصلاح بتأليف حركة أسموها (الحركة الوطنية الجزائرية) بينما انضم اتباع (اللجنة المركزية) بصورة تدريجية إلى الجبهة، والتحموا معها، ولم تنجح المحاولات المستمرة التي بذلت لاقناع (مصالي الحاج) بالتعاون مع جبهة التحرير، وأدى إطلاق صراح أتباع (مصالي) إلى إقامة حركة منافسة من (رجال المقاومة) تابعة (للحركة الوطنية الجزائرية) التي افتضحت بسرعة بسبب تواطئها مع الشرطة الفرنسية. وقامت الجبهة بعد أن أدانت حركة مصالي بمناوأتها للثورة، بمهاجمة مقاومي الحركة وتصفيتهم (في العام 1955)، وفي العام (1957) انتقل الصراع إلى فرنسا حيث دارت معارك ضارية بين أنصار (جبهة التحرير الوطني) وبين (أنصار الحركة الوطنية الجزائرية) من العمال
المهاجرين إلى فرنسا.
كان موقف (الاتحاد الديموقراطي) الذي يتزعمه (فرحات عباس) مغايرا لموقف (الحركة الوطنية الجزائرية)، وكانت الجبهة ترغب كل الرغبة في انضمامه للجبهة، بهدف دعم الوحدة الوطنية من جهة، وللإفادة من طبقة المثقفين (الطبقة المتوسطة) التي يحتويها هذا التكتل، وقد جرت عدة محادثات سرية مع ممثلي الجبهة في مطلع العام (1955)، ولم يحل شهر أيار (مايو) حتى كان قد انضم اليها وأتباعه، الأمر الذي دعم من قوة الجبهة وزاد من هيبتها.
أما موقف جمعية العلماء، وهي الحركة الوطنية الدينية القديمة - المتجددة، فقد ظل متحفظا تجاه الجبهة، فقد أعلن الشيخ (بشير الإبراهيمي) رئيس الجمعية وغيره من زعمائها في خارج الجزائر قبول برنامج الجبهة، وكان انضمام الشيخ (أحمد
توفيق المدني) للجبهة برهانا على هذا التأييد. أما في الجزائر، فقد ظل العلماء متحفظين في تأييدهم لجبهة التحرير بسبب انحرافها في استخدام سلاح الإرهاب (ذبح الخونة وأنصار الفرنسيين على مشهد من الناس مما يخالف تعاليم الشرع)، ولكن المفاوضات بقيت مستمرة لتكوين قناعة مشتركة في هذا الموضوع.
لقد استثارت الإجراءات التعسفية التي استخدمها الجيش الفرنسي ضد مسلمي الجزائر، تلك العناصر المعتدلة ودفعتهم إلى الاحتجاج، وكانت جماعة الواحد والستين، وهي فئة تضم النواب الجزائرين المنتخبين من طريق - انتخاب الدرجتين - والتي يتزعمها - بن جلول - كثيرا ما دعت الإدارة الفرنسية إلى وضع حد لهذه الإجراءات التي لم تنجح إلا في توسيع نطاق الثورة، وقد مضى بعضهم إلى القاهرة في العام 1955 أو طالبوا بالاستقلال، وكان رفضهم الصمت، واحتجاجهم على أعمال القمع الفرنسي، من العوامل التي حالت دون جمع المعتدلين الجزائريين حول سياسة فرنسا لإجراء إصلاحات من شأنها عزل الجبهة.
عقدت جبهة التحرير الوطني اجتماعا لها في أيار - مايو - 1950، باشتراك مندوبين من الجزائر وفرنسا والقاهرة، لوضع تقرير عن المنجزات التي حققتها، وتخطيط السياسة للمستقبل، وقد استنكرت الجبهة السياسة الاستعمارية الجديدة، ومحاولاتها (تخدير) الشعب الجزائري ببعض الاصلاحات الطفيفة، ولتوحيد جهد الوطنيين ضد هذه السياسة، واقترحت جبهة التحرير أن يشن الشعب حملة من المقاطعة السياسية لفرنسا، ومن تخريب الكيان الاقتصادي عن طريق المقاطعة والإضراب وغيرهما من أساليب المقاومة السلبية، أما عمل جيش التحرير الجزائري فمشروع
وحيوي (لوضع حد للعنف العسكري الفرنسي).
خلال هذه الفترة كانت قيادة جبهة التحرير الوطني تعمل جاهدة لتدويل قضية الجزائر، غير أن عملية التدويل سارت بصورة بطيئة بسبب مقاومة فرنسا لها، وكانت (المملكة العربية السعودية) قد أخذت المبادأة عندما وجهت نداء إلى مجلس الأمن الدولي، طالبت فيه ببحث الوضع في الجزائر باعتبار أنه (تهديد للسلام والأمن الدوليين)، ولكن المجلس رفض قبول هذا الطلب.
عقد مؤتمر (باندونغ) في نيسان - ابريل - 1955 وحضره (محمد يزيد) - وهو من الأعضاء السابقين لحركة انتصار الحريات الديمرقراطية - ممثلا لجبهة التحرير الوطني، كما حضره (صالح بن يوسف) ممثلا عن حزب الدستور الجديد التونسي، و (علال الفاسي) ممثلا عن حزب الاستقلال المغربي، وقد طلب ممثلو المغرب العربي - الإسلامي من الدول الممثلة في باندونغ، أن تقدم طلبا رسميا إلى الأمم المتحدة لبحث (قضية الجزائر) على أساس مبدأ (حق تقرير المصير) الذي تقره الهيئة الدولية، وقد استجاب المؤتمر إلى هذه النداءات بتسجيل ملاحظته عن المغرب العربى الإسلامي جاء فيها:(إن هناك تنكرا في شمال أفريقيا لحقوق الشعوب في التدريس بلغاتها الخاصة، وطبقا لثقافاتها) وأكد المؤتمر (تأييده لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأعلن تأييده لاستقلال الشمال الأفريقي، وحث الحكومة الفرنسية على الوصول إلى تسوية سلمية لجميع هذه القضايا دون تأجيل)، وقد ساعد اشتراك الوفد الجزائري في مؤتمر باندونغ على إقامة اتصالات واسعة النطاق، ولو أن هذه الاتصالات لم تؤثر في هذه المرحلة تأثيرا كبيرا على السياسة الفرنسية. وواجهت جبهة التحرير صدمة ثانية في
صراعها لتدويل (القضية الجزائرية) في شهر تموز - يوليو - 1955؛ ففي هذا الموعد طلبت أربع عشرة دولة تمثل الكتلة الأفريقية - الآسيوية في الأمم المتحدة، طرح المشكلة الجزائرية على جدول أعمال (الجمعية العامة) على أساس (حق تقرير المصير)، ولكن اللجنة التوجيهية للجمعية رفضت الطلب بعد نقاش حاد، على أساس أن القضية تتعلق بالشؤون الداخلية الفرنسية.
وزعت جبهة التحرير الوطنى في أواخر صيف سنة (1955) منشورا جديدا في جميع أنحاء الجزائر، يعرض قائمة حساب بأعمالها عن الأشهر التسعة الأولى من القتال، وقد هاجم هذا المنشور أنصار (مصالي الحاج) و (اللجنة المركزية لحركة انتصار الحريات الديموقراطية) واتهمها بالنشاط المناوىء للثورة، وعدد المنشور أرقام القتلى والجرحى عند الفرنسيين وفي جيش الثورة، وحسر النقاب عن أن جبهة التحرير قد حصلت مؤخرا على المدافع المضادة للطائرات، وكان اهتمام المنشور محصورا في نقطتين أخريين، فقد تضمن ما يلي:(إن النضال ضد الفرنسيين لم يجعلنا ننسى الخونة من شعبنا، فقد صفينا أكثر من خمسمائة خائن، وسيحمل نحوا من مائة حتى الأيام الأخيرة من حياتهم العلامة الفارقة المشيرة إلى خيانتهم). وقد رمزت السنة الأولى من الثورة إلى وضع الإدارات على الخونة لقضية الجزائر، مثل جدع الأنوف، وصلم الآذان - قطعها - وقد نجمت هذه الأعمال عن المرارة التي كانت الجبهة تشعر بها من أعمال هؤلاء الذين يتعاونون مع الفرنسيين، وعلى رغبتها في ردع من تسول له نفسه التعاون مع العدو، وقد توقفت هذه الإجراءات منذ العام (1956)، واقتصر العمل منذ هذا التاريخ ضد المتعاونين على اختيار عدد من (الخونة) ومحاكمتهم
أمام لجان جبهة التحرير، وصدور القرار بإعدامهم سواء وجاهيا أو غيابيا.
وأجاب المنشور على بعض نظريات الدعاية الفرنسية الموجهة ضد جبهة التحرير، وضد تأكيدها بأنها (الممثلة الحقيقية للشعب الجزائري) وأنها (الوحيدة التي تستطيع التفاوض باسمه) كما ردت جبهة التحرير على الزعم الفرنسي القائل بأنها مؤلفة من (رجال العصابات والهاربين من وجه العدالة) بأن تسعة وتسعين في المائة من المجاهدين هم من الفلاحين الشبان الذين لم يدخلوا السجن قط ومن واحد في المائة فقط من الذين سبق لهم أن سجنوا لأسباب سياسية، وردت على الزعم الفرنسي بأنها في خدمة بعض الحكومات الأجنبية، وبأن ليس في صفوفها أي أجنبي، وأنها في خدمة الجزائر وحدهما. وقالت الجبهة في معرض الرد على الادعاء بأن انتصاراتها العسكرية ناجمة عن شحنات الأسلحة الضخمة التي تتلقاها من الخارج، بأنها حصلت على الجزء الأكبر من أسلحتها من الفرنسيين أنفسهم، ودحضت مزاعم (الاستعماريين الفرنسيين) بأن:(الجبهة مؤلفة من أناس بدائيين سفاكين للدماء وبرابرة، يتجاهلون قوانين الحرب) فأعلنت أنها لم تقم بإعدام أي من الأسرى الذين يقعون في أيديها، بينما يقوم الاستعماريون بإعدام أي أسير يقع في أيديهم، وذكرت في معرض الرد على المزاعم القائلة بالتعاون بين الثورة والشيوعيين:(إن كل إنسان يعرف أن الحزب الشيوعي الجزائري غير موجود في الريف الجزائري، وأنه محدود القوة والتأثير في المدن الكبيرة، فليس بيننا شيوعيون، وليست لنا أية علاقة بالحزب الشيوعي). وأخيرا تحدثت الجبهة عن النظرية الاستعمارية الجديدة القائلة: (بأننا حملنا السلاح لأننا
جياع ولأننا عاطلون عن العمل، ولأن المستوطنين الجشعين يستغلوننا أبشع استغلال) فقالت:(إن هذا القول خطيئة كبرى؛ لقد حملنا السلاح حتى تستعيد الجزائر حريتها واستقلالها، فنحن جزائريون، ونريد أن نظل جزائريين لأننا نفخر بجزائريتا، ولن يكون في وسع أي اضطهاد مهما بلغ من الوحشية أن يحولنا إلى فرنسيين، ولن يكون في وسع أية رفاهية أو كيان اجتماعي أن يحملانا على نسيان حريتنا الضائعة). وكان هذا التأكيد عن الروح السياسية للثورة موجها إلى سياسات فرنسا الاصلاحية، التي كانت تقوم، ولا تزال على أساس الافتراض بأن الجزائريين جياع أكثر منهم وطنيين.
بدأت التحولات الحاسمة لمصلحة (جبهة التحرير الوطني) مع بداية سنة (1956)؛ ففي كانون الثاني - يناير - اتخذ العلماء موقفا رسميا بتأييد الجبهة والعمل معها، وفي شهر نيسان - ابريل - ذهب إلى القاهرة (فرحات عباس) الذي كان قد أوضح منذ عدة أشهر افتقاره إلى السلطة في الجزائر، وكان في رفقته (أحمد توفيق المدني) أبرز زعماء جمعية العلماء، بعد خطف الفرنسيين للشيخ (العربي التبسي)، وانضما إلى (البعثة الخارجية) لجبهة التحرير الوطني الجزائري، وأعلن (فرحات عباس) في مؤتمر صحفي في القاهرة، تأييده الكامل للجبهة، وحل (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري)، وأدى هذا العمل إلى توحيد جميع الاتجاهات المهمة في التفكير السياسي الجزائري ضمن إطار الجبهة، وأضفى عليها مكانة عالمية خاصة، وخطت جبهة التحرير بعد ذلك خطوات واسعة نحو إقامة (دولة جزائرية، ضمن نطاق الدولة التي تتولى فرنسا إدارتها). وعندما رأت الجبهة في نهاية
شهر شباط - فبراير - أن (الحركة الوطنية الجزائرية - أو حركة مصالي الحاج) قد عملت على تنظيم (اتحاد عمالي)، سارعت هي بدورها إلى إقامة (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) وكان العمال الجزائريون المنظمون حتى تلك الفترة، هم أعضاء في نقابات مندمجة في النقابات الفرنسية، ولا سيما التابعة منها للشيوعيين، والمسماة (بالاتحاد العام للعمل). وقد لقي الاتحاد العام للعمال التابع لجبهة التحرير نجاحا أوليا واضحا، إذ لم تحل نهاية شهر أيار - مايو - حتى بلغ عدد أعضائه مائة وعشرة آلاف عامل، وقد طالب فور تشكيله بتحسين أحوال العمل بالنسبة إلى الجزائريين، أما برنامجه السياسي فكان مطابقا لبرنامج (جبهة التحرير الوطني). وقد قبل الاتحاد العام في عضوية (الاتحاد العالمي للنقابات العمالية الحرة) في شهر تموز - يوليو -، وأقام علاقات وثيقة مع الاتحادات العمالية المنظمة في تونس والمغرب. ولكن الاتحاد ما لبث أن عانى من وطأة الإجراءات التعسفية الفرنسية، فقد اعتقل زعماؤه عدة مرات، وأوقف نشاطه الرسمي تقريبا، فانصرف الاتحاد لإقامة مراكز تدريبية في تونس والمغرب، واضطلع بأداء بعض الخدمات الاجتماعية بالنسبة لعمال الجزائر اللاجئين. وبعد بضعة أسابيع، أقامت الجبهة (الاتحاد العام للتجار الجزائريين) ليضم التجار وصغار رجال الأعمال، وقد مارست هاتان المنظمتان دورا بارزا في أعمال العنف التي وقعت في الجزائر ابتداء من ربيع العام (1956) وفي جمع الأموال لمساعدة الثورة بصورة عامة. وكانت الجبهة قد بذلت نشاطا سياسيا في حقل آخر، فأقامت قبل عام (الاتحاد العام للطلاب الجزائريين) الذي دعى إلى اضراب عام في امتحانات العام (1956) وقد نجح هذا الاضراب، وترك
أثرا فعالا عدة أشهر، وأسفر عن حشد صفوف الطلاب حول الجبهة، وانضمام عدد من الطلاب والمثقفين إليها. وكان أهم ما حققته الجبهة في الحقل السياسي في تلك السنة، تنظيم الإضراب العام الناجح الذي قامت به في الخامس من تموز - يوليو - (1956) وهو إحياء للذكرى السنوية التي احتلت فيها القوات الفرنسية الاستعمارية مدينة (الجزائر)، وعلقت الجبهة على أهمية الإضراب، فقالت إن الشعب الجزائري أكد عن طريقه الحقائق التالية:
(1 - الالتفاف الجماعي حول جيش التحرير الوطني، وصورته السياسية الممثلة في - جبهة التحرير الوطني، مبرهنا على فساد النظرية الفرنسية القائلة بأن الثائرين لا يمثلون إلا فئة قليلة من الشعب.
2 -
النضج السياسي للشعب الجزائري الذي لن يهدأ حتى يستعيد جميع حقوقه في الحرية والديموقراطية.
3 -
إضفاء الصفة الشعبية على الثورة الوطنية عن طريق الإسهام الكامل لجميع الطبقات في الاحتفال بهذه الذكرى السنوية من مثقفين وعمال وطلاب وفلاحين.
وقد أثبت هذا اليوم أيضا أن للتضامن الأفريقي الشمالي كل المعاني، ففي البلدين العربيين الشقيقين تونس والمغرب، اشترك الشعب اشتراكا فعليا إلى جانب إخوانه الجزائريين في جميع المظاهرات التي كان العلم الجزائري يتقدمها).
وقع حادثان في الأشهر التي سبقت إضراب الخامس من تموز - يوليو - قدر لهما أن يتركا أثرا واضحا على مستقبل (جبهة التحرير) في الميدانين الدولي والعسكري؛ فقد عقدت المجموعة الأفريقية -
الآسيوية في شهري أيار وحزيران (مايو ويويو) سلسلة من المحادثات في الأمم المتحدة لدراسة القضية الجزائرية أسفرت عن تقديم طلب إلى مجلس الأمن الدولي لمناقشة القضية. وعلى الرغم من أن المجلس قد رفض الطلب، إلا أنه اعترف بالصفة الدولية للمشكلة الجزائرية، وبدأ جيش التحرير وجبهته في الحقل العسكري، في العشرين من حزيران - يونيو - مرحلة من مراحل قذف القنابل في مدينة الجزائر، وغيرها من المدن، مما أسفر عن قيام فرنسا بنقل الجزء الأكبر من جيشها إلى الجزائر، وعن قيام حالة من الذعر وعدم الطمأنينة في الشمال الأفريقي (المغرب العربي -الإسلامي). ولكن، على الرغم من هذه النتائج العظيمة التي تحققت، فقد كانت هناك أزمة في القيادة والتنظيم داخل جبهة التحرير، وقد كتبت صحيفة (المجاهد) ما يلي (لقيت الثورة سلسلة من المتاعب، ولم يتمكن المجاهدون العاملون في مناطق مختلفة من إيجاد الارتباط بينهم، فالارباط شاق، والسلاح غير متوافر، وظل التثقيف السياسي للفئات المسلحة غير كاف، ولم تكن هناك سلطة عامة قومية رسمية، فالثورة ظلت تفتقر إلى القاعدة العقائدية، وكثيرا ما تردد القادة المسؤولون وهم على ما هم عليه من عزلة وانفصال، في اتخاذ موقف محدد من المشاكل المهمة، وبقيت الحركة المصالية قوية ومنتشرة تحظى بتأييد العدو وأعوانه).
يظهر ذلك كله الأهمية البالغة، والضرورة المسلحة، لعقد مؤتمر (الصومام)، وفي الواقع، وكما سبقت الإشارة اليه، فإن فكرة عقد المؤتمر لم تكن بالفكرة الجديدة، غير أنها لم تكن لتظهر إلى عالم الوجود لو لم تجد داعية لها، ومدافعا عنها، في شخص
القائد (يوسف زيروت) ومن ثم في (رمضان عبانه) و (كريم بلقاسم) وسواهم من زعماء المجاهدين في (القبائل)، واتخذت استعدادات كبيرة لعقد المؤتمر في مدينة (قسنطينة) التي كان يسيطر عليها (يوسف زيروت). وبعد فترة من التأخير، عقد المؤتمر في العشرين من شهر آب (اغسطس) في وادي الصومام، وكانت السلطات الفرنسية قد أعلنت أن الوادي قد أصبح منطقة هادئة، وبالفعل، فقد لقي قادة الداخل مصاعب جمة للاتصال بالخارج، ولم يتمكن عدد من القادة، وبينهم جميع أعضاء البعثة الخارجية الذين كانوا ينتظرون من غير جدوى في إيطاليا وليبيا، لحضور المؤتمر، واقتصر المؤتمر على كبار القادة:(كريم بلقاسم، رمضان عبانة، العربي بن مهيدي، يوسف زيروت، علي الملاح، الأخضر بن طوبال، عمر بن بو العيد - شقيق الشهيد مصطفى بن بو العيد بطل الأوراس - ونواوره) وتمثلت في المؤتمر جميع الولايات، حتى ولاية الصحراء التي تولى الملاح قيادتها.
لقد اتخذ المؤتمر، على الرغم من عدم شموله، عددا كبيرا من القرارات الدائمة والمهمة؛ فقد تقررت إعادة تنظيم جيش التحرير، وتجسيمه، بعد أن تبنى الطراز المتبع في جيش المجاهدين في القبائل، وظهر أن (كريم بلقاسم) الذي غدا القائد الذي لا منافس له في الداخل، وقد تم اختياره في المؤتمر ليكون قائدا عاما للجيش. أما من الناحية السياسية، فقد تقررت إقامة (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) ولجنته التنفيذية المسماة (بلجنة التنسيق والتنفيذ)، وقد أعطيت للهيئة الأولى صلاحية التوجيه العام للثورة، على أن تضم ممثلين عن جميع الفئات في المسرح السياسي الجزائري، بينما أعطيت للهيئة الثانية المؤلفة
على الغالب من قادة الداخل العسكريين صلاحية الإشراف على الثورة وإدارتها، وهكذا أصبحت القيادة الفعلية في أيدي قادة الجهاد، لا في أيدي الزعماء المنظمين الأولين، أو أعضاء البعثة الخارجية، ووضع المؤتمر في الميدان العقائدي ثلاثة مبادىء أساسية وهي القيادة الجماعية وأولوية السياسة على الحرب وأولوية الداخل على الخارج.
…
على كل حال، لم تستمر قيادة (جبهة التحرير) و (جيش التحرير) مدة طويلة على ما كانت عليه عند عقد (مؤتمر وادي الصومام). فقد اختطفت القيادة الاستعمارية أربعة من أعضاء البعثة الخارجية في يوم 22/ 10/ 1956 عندما كانوا يستقلون طائرة مغربية في طريقهم إلى تونس وهم:(أحمد بن بيللا، وحسين آية أحمد، ومحمد بو ضياف، ومحمد خيضر)، كما أن ثلاثة من أعضاء (لجنة التنسيق والتنفيذ) غابوا بفعل الاعتقال أو الوفاة وهم (محمد العربي بن مهيدي وبن يوسف بن خدة وسعد دحلب). وفي نهاية العام (1956) اجتمع عدد من أعضاء القيادة العسكرية ومن البعثة الخارجية في (تونس) و (القاهرة) للبحث في نتائح مؤتمر (وادي الصومام) ولإقامة ارتباط أوثق بين الجماعتين، وسرعان ما نقلت لجنة التنسيق والتنفيذ مقر قيادتها إلى تونس للتخفيف من حدة الانقام بين القيادتين الداخلية والخارجية.
عقد المجلس الوطني للثورة الجزائرية مؤتمره الثاني في القاهرة (في شهر آب - أغسطس - 1957) وتقرر توسيع عضوية المجلس من أربعة وثلاثين إلى أربعة وخمسين لكي يصبح بمثابة تمهيد لقيام البرلمان الجزائري، ولم يعلن عن أسماء أعضاء المجلس الثاني،
ولكن من المفروض أنه قد ضم جميع أعضاء المجلس الأول، بالإضافة إلى أولئك الذين مارسوا دورا فعالا في الثورة، وتقرر أن يعهد إلى (لجنة التنسيق والتنفيذ) باختيار العشرين عضوا الجدد، ولكن اللجنة لم تخترهم فورا. ووسعت عضوية اللجنة أيضا من خمسة إلى أربعة عشرة بينهم خمسة من المسجونين في (باريس) أو (الجزائر)، وكانت هناك سابقة في الاحتفاظ ببعض القادة المسجونين في عضوية المجلس الوطني، وكان هؤلاء يستشارون عادة إما عن طريق الاتصالات السرية، أو الوسطاء العرضيين. وترك مؤتمر القاهرة مهام المجلس الوطني ولجنة التنسيق والتنفيذ على نحو ما كانت عليه في السابق، وتقرر أن يعقد المجلس الوطني بوصفه (الهيئة العليا للثورة) اجتماعا سنويا، كما تقرر أيضا أن تعطى للجنة التنسيق والتنفيذ (صلاحيات واسعة تتناول جميع المشاكل لتنفيذ السياسة التي حددها المجلس الوطني، باستثناء القضايا التي تتعلق بمستقبل البلاد، كالمفاوضات مثلا أو إنهاء العمليات الحربية، أو التحالف مع هذه الكتلة، أو تلك، أو حل المشكلة الجزائرية دوليا، أو تدخل طرف ثالث في الصراع الجزائري - الفرنسي)، وتكون لجنة التنسيق والتنفيذ مسؤولة أمام المجلس الوطني الذي يستطيع تنحيتها باقتراع الثلثين. وكان أعضاء اللجنة في شهر آب - أغطس - سنة 1957 هم:(رمضان عبانة، وفرحات عباس، والأخضر بن طوبال، وعبد الحفيظ بوصوف، ومحمود شريف، وكريم بلقاسم، ومحمد الأمين دباغين، وعبد الحميد عمراني) يضاف اليهم كأعضاء فخريين (حسين آية أحمد، وأحمد بن يللا، ورابح بيطاط، ومحمد بو ضياف، ومحمد خيضر)، وقد ضمت اللجة الجديدة بعكس اللجنة الأولى قادة من
من الخائف - الشعب أم أعدائ الشعب؟
الداخل والخارج، إذ اشترك فيها (فرحات عباس والأمين دباغين، وعبد الحميد المهري) وغدا هؤلاء الثلاثة هم بناة السياسة الديبلوماسية في (لجنة التنسيق والتنفيذ).
أخذت قيادة (جبهة التحرير الوطني) في الأشهر التي تلت آب - أغسطس - 1957، تهتم اهتماما متزايدا بإقامة سياسات مشتركة مع جارتيهما المستقلتين، تونس والمغرب، وأدى اجتماع (طنجة) في نيسان - أبريل - عام 1958 - الذي حضره ممثلو حزب (الاستقلال المغربي) و (حزب الدستور الجديد التونسي) و (جبهة التحرير الوطني الجرائري) إلى تقرير مبدأ إقامة (حكومة جزائرية) بعد التشاور مع الحكومتين التونسية والمغربية. ودعا الاجتماع أيضا إلى إقامة (برلمان مغربي) و (لجنة تنسيق لشؤون المغرب)، ولم تؤد المشاورات إلى إنشاء الحكومة الجزائرية فورا. ولكن لجنة التنسيق والتنفيذ شرعت في شهر حزيران - يونيو - في توزيع المهام الحكومية المعينة على أعضائها، ووزعت المهام على الشكل التالى:
فرحات عباس: لشؤون الاستعلامات.
كريم بلقاسم وعمار عمارنة وعبد الحفيظ بو صوف: للشؤون العسكرية.
محمد الأمين دباغين: للشؤون الديبلوماسية.
الأخضر بن طوبال: للشؤون الداخلية.
محمود شريف: للشؤون المالية.
عبد الحميد المهري: للشؤون الاجتماعية.
***
أدى اعتقال زعماء (البعثة الخارجية) - أحمد بن بيللا ورفاقه - إلى انتهاء المحاولة الأولى للوصول إلى - تسوية للقضية الجزائرية عن طريق المفاوضات؛ وكانت هذه المفاوضات قد جرت في شهري آذار ونيسان (مارس وابريل) من ذلك العام (1956) في إطار (محادثات استطلاعية) بين زعماء البعثة الخارجية لجبهة التحرير في القاهرة، وبين (المسيو بيغارا والمسيو غورسيه) الممثلين الشخصيين لرئيس الوزراء الفرنسي (غي موليه). وعلى الرغم من أن زعماء جبهة التحرير كانوا يمثلون الجيش أيضا، إلا أنه لم يعرف تماما المدى الذي كان قادة الداخل على اطلاع فيه، بالنسبة إلى المفاوضات الدائرة، وقدم الجزائريون اقتراحات محددة لعقد مؤتمر صلح جزائري - فرنسي. وعلى أي حال، فإنه لم يصل رد من فرنسا على هذه الاقتراحات، وقد ظهر بأن الحكومة الفرنسية قد اعتبرت المباحثات ذات طابع استطلاعي، وأنها لم تعتزم التفاوض جديا في ذلك الوقت. وتمكن الزعيم اليوغوسلافي (الماريشال تيتو) من بذل محاولات جديدة، حيث أمكن له في شهر تموز -
يوليو - تنظيم اجتماع بين الجزائريين والفرنسيين، (أبان مؤتمر بريوني) وقدمت جبهة التحرير إلى رؤساء الحكومات (تيتو ونهرو وناصر) مذكرة أكدت فيها:(أهدافها السلمية وشروطها لوقف إطلاق النار ومفاهيمها للاستقلال الجزائري) وقد طلبت عودة السيادة الجزائرية، وممارسة هذه السيادة بصورة حرة وكاملة، وتحقيق الاستقلال الكامل، ووحدة الأرض الجزائرية، واعتبرت من الشروط التي لا مندوحة عنها تحقيق بعض المتطلبات السياسية، ومنها: (اعتراف فرنسا بسيادة الشعب الجزائري ووحدته التي لا يمكن لها أن تتجزأ، مع الاعتراف باستقلال الجزائر دون شروط أو
تحفظات، وبحكومة جزائرية يتم اختيارها للتفاوض على شروط الصلح بين البلدين، وإذا ما قبلت فرنسا بشروط الجبهة لوقف إطلاق النار، فلن تظل هناك أية قضية تتعلق بالمصالح الخاصة للفريقين متعذرة على الحل). وعقدت خمسة اجتماعات متعاقبة ابتداء من شهر تموز - يوليو - بين زعماء الجبهة، وبين ممثلي رئيس الوزراء الفرنسي (غي موليه) في (بريوني) أولا ثم في (روما) وكان (يزيد وخيضر) هما الممثلين الرئيسيين للجبهة في هذه المحادثات، بينما مثل (المسيو بيير كومان) الزعيم الاشتراكي البارز (المسيو غي موليه) رئيس الوزراء، وقد اشتملت المحادثات، التي توقفت أخيرا عند اعتقال الزعماء - ابن بيللا ورفاقه - على نقاط مهمة، إذ أنها أوضحت الحد الأدنى لمطالب جبهة التحرير، وبعثت الجبهة فيما بعد بمذكرة إلى الأمم المتحدة جاء فيها:
(لقد اشترط ممثلو جبهة التحرير الوطني ضرورة وضع تسوية سياسية عامة، قبل صدور الأمر بوقف إطلاق النار، وقد أكد ممثلو الشعب الجزائري موقفهم بأن على فرنسا أن تعترف بحق الجزائر في الاستقلال، وبإقامة حكومة جزائرية مؤقتة توافق عليها جبهة التحرير الوطني، للإسراع في تحقيق وقف إطلاق النار والبدء بالمفاوضات لتحديد العلاقات بين فرنسا والجزائر. أما الاقتراحات الفرنسية فلم تتعد مجرد منح بعض الاصلاحات السياسية التي ستحول الجزائر من - مجموعة من المقاطعات الغرب - إلى - مقاطعة فرنسية واحدة كبيرة - تتمتع ببعض الاستقلال الذاتي المحدود من الناحية الإدارية).
لقد اختلفت هذه الشروط عن الشروط الرسمية السابقة، فقد
طلبت جبهة التحرير مجرد اعتراف فرنسا بحق الجزائر في الاستقلال، وتأليف حكومة جزائرية تقوم بإجراء المفاوضات على أن توافق عليها الجبهة، دون أن تكون مؤلفة فقط من أعضائها. أما من الناحية الفرنسية، فقد ظهرت الرغبة هناك لتوحيد أراضي الجزائر، ومنحها درجة من الحكم الذاتي، وهي خطوة أولية لا بأس بها، إذا كانت فرنسا تعتزم حقا منح الجزائر استقلالها. ولم يقبل الجزائريون قط بسياسة (غي موليه) الرسمية والرامية إلى وقف اطلاق النار أولا، ثم إجراء انتخابات عامة، ثم البدء بالمفاوضات.
أبلغت جبهة التحرير (المسيو كومان) رغبتها في إجراء محادثات (رسمية) بدلا من هذه المحادثات الشبيهة بالرسمية، فوافق الفرنسيون على العرض فورا، وتظاهر ممثلو الرئيس الفرنسي بالموافقة على تسهيل حرية الانتقال بالنسبة إلى زعماء الجبهة للتشاور مع جماعات الجبهة الأخرى، وطلبت حكومة (غي موليه) في الوقت ذاته من حكومتي تونس والمغرب أن تذللا العقبات في طريق المحادثات الفرنسية - الجزائرية، وأن يشترك البلدان فيها إن أمكن، وأبلغت (البعثة الجزائرية)(كومان) أن الجبهة تعتزم إرسال وفد عنها في أواخر شهر تشرين الأول - أكتوبر - للتشاور مع الزعماء التونسين والمغاربة في مؤتمر يعقد في تونس، ولكن الفرنسيين أرغموا الطائرة التي كانت تقل الوفد الجزائري، وهي في طريقها بين الرباط وتونس على النزول فوق أرض الجزائر، حيث اعتقل أعضاء الوفد، وقد نقلوا فورا إلى سجن (باريس) حيث ظلوا هناك دون أية محاكمة، وعندما أصدر الرئيس (ديغول) في العام 1959 تدابيره التي أطلق عليها صفة (الرأفة بالثائرين) نقل الزعماء إلى قلعة لم يذكر اسمها في تلك الفترة. وأدى هذا الحادث إلى
اضطرابات عنيفة في أقطار المغرب العربي - الإسلامي خاصة وفي العالم العربي عامة، ووضع ذلك نهاية فاشلة للمحادثات الفرنسية - الجزائرية التي كان رئيس الوزراء (غي موليه) قد أحبطها سلفا، وأدى حادث الطائرة أيضا إلى تبديد أوهام بعض الزعماء المعتدلين من رجال الجبهة وآمالهم في الوصول إلى تسوية، وإلى تقوية مراكز المتشددين من الزعماء الآخرين، ولم تتح فرصة مواتية أخرى منذ العام 1956 للوصول إلى اتفاق عن طريق التفاوض. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد أدى فشل هذه المفاوضات، وتعاظم خطورة الموقف العسكري، وأزمة السويس إلى جعل العام (1957) هو (سنة الجزائر في الأمم المتحدة)؛ إذ بحثت فيها قضيتها مرتين في الندوة الدولية، وكانت عدة دول أفريقية - آسيوية قد طلبت في
شهر تشرين الأول - أكتوبر - إدراج (القضية الجزائرية) على جدول أعمال الدورة الحادية عشرة للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة وقدمت (جبهة التحرير الوطني في الثاني عشر من تشرين الثاني - نوفمبر - 1957 مذكرة إلى رئيس الجمعية العامة أوضحت فيها ضرورة دراسة الأمم المتحدة للقضية، وتضمنت المذكرة ما يلي:
(إن الجزائريين، رغبة منهم في الوصول إلى حل سلمي عن طريق المفاوضات المباشرة مع فرنسا، يعتقدون، أن ضغط الرأي العام الدولي وحده، الممثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، هو الذي سيحمل فرنسا على قبول التفاوض مع الممثلين الحقيقيين للشعب الجزائري، والوصول إلى حل سلمي للمشكلة الجزائرية.
وأشارت المذكرة أيضا إلى تأييد تونس والمغرب، فوضعت بذلك القضية الجزائرية في إطارها الجغرافي الطبيعي لوحدة المغرب العربي - الإسلامي. وبدأت اللجنة السياسية للأمم
المتحدة مناقشة الموضوع في مطلع شهر شباط - فبراير - 1958، وتولى مندوب سوريا التحدث باسم (جبهة التحرير الوطني)، وبذلت الجبهة جهودا جبارة لإقناع الوفود المعنية بوجهة نظرها، واتخذت الجمعية العامة في الخامس عشر من شباط - فبراير - قرارا وسطا - بالإجماع - أعربت فيه:(عن الأمل بالوصول عن طريق روح التعاون إلى حل سلمي وديموقراطي وعادل، يتفق مع شرعة الأمم المتحدة). وعلى الرغم من أن القرار لم يتضمن الدعوة إلى استقلال الجزائر، إلا أن القضية قد بحثت اخيرا في الأمم المتحدة. وعلقت صحيفة (المقاومة الجزائرية) الناطقة بلسان (جبهة التحرير الوطني)، والتي كان قد مضى على صدورها نحوا من سبعة أشهر، تعليقا ينطوي على الارتياح من تحقيق هدفها في تدويل القضية، ومن اعتراف الأمم المتحدة بحقها في بحث القضية، وأضافت الصحيفة أن (سبعا وسبعين دولة) قد أعطت فرنسا مهلة لتسوية القضية، لا لحلها عسكريا، وغدا من حق الأمم المتحدة بعد هذا التاريخ أن (تراقب وتشرف على الصراع الفرنسي - الجزائري). وكانت اللجنة السياسية قد رفضت بأغلبية صوت واحد فقط، شروع القرار الأفريقي - الآسيوي، الذي كان أكثر مطابقة لوجهة نظر الجزائر، بينما قبلت اللجنة الفقرة الخاصة (بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره)، وأشارت مناقشات الأمم المتحدة إلى أن السنة الثالثة للثورة الجزائرية ستكون سنة تطورات على الصعيدين السياسي والدولي.
…
تمكنت جبهة التحرير من عرض قوتها الداخلية عرضا سياسيا بارزا في مطلع العام (1957)؛ فقد دعت إلى إضراب عام في جميع
أنحاء البلاد لمدة ثمانية أيام، في نفس الوقت الذي تشرع فيه الأمم المتحدة فى مناقشة القضية الجزائرية، وخصصت صحيفة (المقاومة الجزائرية) عددا كاملا للإضراب الذي استمر من الثامن والعشرين من كانون الثاني حتى الخامس من شهر شباط - فبراير - 1957، وقالت إن الإضراب سيبرهن للأمم المتحدة أن (جبهة التحرير الوطني) تحظى بتأييد الشعب الجزائري تأييدا كاملا. أما مدة الإضراب وهي ثمانية أيام، فقد كانت ظاهرة جديدة لم يحدث مثلها من قبل. فكانت (محكا) أو تجربة لقدرة الشعب على التضحية ناشئة عن اتساع وعيه السياسي. وتجدر الإشارة إلى أن بعض القادة الجزائريين في هذه المدة الطويلة من الإضراب كانت خطيئتهم السياسية الكبيرة والوحيدة هي التي ارتكبها (عبانة). وقد سمع (الجنرال ماسو) بنهب الحوانيت والمخازن في هذه الفترة. كما اتخذ إجراءات مشددة أخرى، ألحقت خسائر حقيقية بالأهلين، وأنزلت بهم متاعب جمة. ووسعت جبهة التحرير من نشاطها الصحفي والدعائي في غضون عام (1957). وبدأت إذاعة الجزائر الحرة في الربيع تنطلق من أرض الجزائر ذاتها، مضيفة إلى الإذاعات الجزائرية التي تنطلق من إذاعتي القاهرة وتونس الشيء الكثير. وفي منتصف العام توحدت صحيفتا (المقاومة الجزائرية) و (المجاهد الحر) في صحيفة واحدة؛ (المجاهد) أصبحت اللسان الناطق باسم جبهة التحرير، وغدت لغة الصحافة أكثر تصنعا، ولا سيما بعد أن تولى (أحمد أبو منجل) وهو من زعماء (الاتحاد الديموقراطي لأنصار الحرية) السابقين، مسؤولا عن جميع، المطبوعات التي تصدر في الجزائر.
ظلت قضية الوصول إلى تسوية عن طريق المفاوضات مع الحكومة الفرنسية، هي المشكلة المعقدة بالنسبة إلى جبهة التحرير
الوطني الجزائري، واتخذت حكومة (بورجيس مرنوري) في الحرب الكلامية والإذاعية، موقف سابقاتها من الزعم بعدم وجود جهة تمثل الشعب الجزائري، بحيث يمكن التحدث إليها والتفاوض معها، واتهمت (جبهة التحرير) بالعناد لتمسكها بشرطها الأولي (بوجوب الاعتراف بالاستقلال قبل التفاوض). وحاولت (جبهة التحرير) من جانبها شرح الأسباب التي تدعوها إلى التمسك بهذا الشرط المسبق، فذكر ممثلها في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدتها في شباط - فبراير - 1957:(أن الجبهة على استعداد للتفاوض مع فرنسا إذا تولت الأمم المتحدة ضمان هذه المفاوضات). وعقد القادة السياسيون والعسكريون لجبهة التحرير مؤتمرا صحفيا لهم في (تونس) في آذار - مارس - 1957 - أكد فيه الدكتور (محمد الأمين دباغين) بأن الشعب الجزائري: (بات اليوم وهو أكثر تصميما من أي يوم مضى على بلوغ استقلاله،، وأشار إلى اشتراط الجبهة اعتراف فرنسا مسبقاء بالاستقلال الجزائري، فقال أن القضية لا تتناول الإجراء، وإنما تتناول القصد والنوايا، وعندما سئل إذا كانت الجبهة تتعمد الآن الحديث عن (الاستقلال) بدلا من (الحق في الاستقلال)، رد الدكتور الأمين بقوله:(إنهما شيء واحد). وتقدمت الحكومة الفرنسية في شهر تموز - يوليو - إلى الجبهة بعرض جديد يتناول إمكان المفاوضات. وكما وقع تماما في العام (1956) فإن وقوع بعض الأحداث شكل عرضي وغير عادي، أدى إلى فشل هذه المحاولة التي كانت تبشر بنجاح؛ فقد بعثت حكومة (بورجيس مونوري) إلى تونس (بغو -
بربيسونيير) مستشار وزير الخارجية الفرنسية، لحضور اجتماع للاتحاد الدولي للنقابات العمالية الحرة. وكان في تونس (الدكتور محمد الأمين دباغين) و (محمد يزيد) من أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية. ونقل (غو - بريسونيير) عن طريق أحد الزعماء النقابيين الجزائريين إلى (محمد يزيد) أنه مكلف رسميا بالاجتماع إليه. وقد فسرت الجبهة هذه الخطوة على أنها محاولة لتجزئة من يوصفون (بالمعتدلين) عن الذين يوصفون (بالمتصلبين) من أعضاء القيادة الجزائرية، وأبلغ (يزيد) المبعوث الفرنسي، عن طريق أحد الوسطاء، أنه سينقل الرغبة الفرنسية إلى المجلس الوطني، مؤكدا أنه ليست له صلاحيات بالقيام بمحادثات شخصية وكان من الممكن أن يعود المبعوث الفرنسي، الذي سافر إلى باريس، حاملا تعليمات أكثر مرونة، لكن المعلومات عن بعثته، انتشرت بطريقة ما، فتقرر رسميا العدول عنها. وقبيل نهاية الشهر، بعث (يزيد) بمذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، قال فيها:
(يؤسفنا أن نبلغ سعادتك أننا لا نرى في الوقت الحاضر أية إمكانية للتفاوض أو للاتصال بين فرنسا والجزائر، والوصول إلى تسوية سلمية للمشكلة الجزائرية. ولدينا كل الحجج اللازمة للاعتقاد بأن خطوة كالتي اتخذها المسيو (غو- بريسونيير) مؤخرا في تونس، تمثل مناورة فرنسية رسمية، ليست ناشئة في أي حال من الأحوال عن الرغبة الحقيقية في حل المشكلة الجزائرية عن طريق الوسائل السلمية، بل جاءت ثمرة خطة موضوعة، لتكون في وقت واحد مع الطلب الذي تقدمت به إحدى وعشرون دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، طالبة إدراج القضية الجزائرية
على جدول أعمال الدورة الثانية عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة).
لما فشلت المفاوضات المباشرة بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا، من جديد، واجهت الجبهة موضوع تطوير الصراع سواء بطرائقه أو بوسائله، وكانت (البعثة الخارجية) قد بدأت منذ سنة 1955 بالاعتماد في دعمها على مصر ودول عدم الانحياز. وأدى استقلال تونس والمغرب في العام 1956 إلى التقارب مع الجارتين الراغبتين بدورهما في تطوير التعاون مع جبهة التحرير، لإجراء مفاوضات أو محادثات من شأنها الوصول إلى تسوية سلمية مع فرسا، غير أن اعتقال الزعماء الأربعة من قادة جبهة التحرير، وطريقة اعتقالهم، أدت إلى إيقاف هذا الاتجاه، ولو بصورة موقتة. وأرادت الجبهة في نهاية العام 1956 وبداية العام 1957 الحصول على ضمانات من الأمم المتحدة لأية مفاوضات قد تقوم بها مع فرنسا، وكان القصد من هذه الضمانات اتخاذ الحيطة ضد أي تراجع أو نكوص عن المحادثات، كما وقع من قبل فعلا في عهد حكومة (غي موليه). وأدى حادث (غو - بريسونيير) إلى تعزيز موقف قادة جبهة التحرير الذين فقدوا كل ثقة لهم في (استقامة) الحكومات الفرنسية المتعاقبة، ولهذا، فقد اشترط هؤلاء القادة، أن تعترف فرنسا رسميا ومسبقا، في بيان تصدره، باستقلال الجزائر قبل البدء بأية مفاوضات، ولكنهم رأوا في الوقت ذاته بعض الفائدة من الاستمرار في سبر أغوار النوايا الفرنسية، ومن إيجاد صلة بين قضية الجزائر، وبين بعض المعروفين باعتدال آرائهم في الميدان الدولي. وبعد فترة من التعاون الوثيق إلى حد ما مع تونس والمغرب (في عام 1956 ومطلع 1957) وسعت جبهة التحرير اتصالاتها مع
أقطار العالم العربي، فكان من نتائج هذه السياسة عقد الاجتماع العام للمجلس الوطني في القاهرة. وعاد زءماء الجبهة قبيل نهاية الصيف إلى تأييد قيام علاقات أوثق مع المغرب وتونس، فاحتل هذا الاتجاه مكان الصدارة في سياستهم، واجتمعت (لجنة التنسيق والتنفيذ) في تونس في تشرين الأول - أكتوبر - عام 1957.
وأصدرت بيانا عن موضوع المفاوضات أكدت فيه بصورة قاطعة:
(إن هدف حرب التحرير الوطني كان وسيظل، استقلال الجزائر، وإن اللجنة لا ترى مناصا من أن تؤكد بحزم وإخلاص، أنه لن يكون ثمة تفاوض قبل الاعتراف مسبقا باستقلال الجزائر).
وعندما تحدث البيان عن طريقة الضغط التي ستتع لإرغام فرنسا على ذلك قال:
(إن الأمل قائم على عقد مؤتمر قريب يضم دول المغرب الحرة لإقامة خط مشترك تسير عليه للإسراع في تحقيق استقلال الجزائر)، وقد أنهى هذا التأكيد محاولة غير رسمية قام بها البعض في (جبهة التحرير) للعدول عن اشتراط (الاستقلال المسبق) والتفاوض دون أي التزام فرنسي سابق، لكن هذا الأسلوب - أو التكتيك - لم يلق أية استجابة فرنسية إيجابية، فقد مضت حكومة (بورجيس مونوري) في مشروعها لحمل (الجمعية الوطنية الفرنسية) على المصادقة على قانونها الأساسي الجديد الذي وضعته للجزائر، وكان هذا القانون - الذي عارضته جبهة التحرير الوطني - يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة بصدد القضية الجزائرية، وكان ذلك أحد الأسباب في عدم موافقة الجمعية عليه، مما حمل (مونوري) على الاستقالة.
***
ظل الباب مفتوحا أمام تونس والمغرب لممارسة دور من شأنه خلق الأوضاع المناسبة لقيام مفاوضات مباشرة بين جبهة التحرير وفرنسا، ولما كانت الدولتان قد اقلفتهما الأوضاع السائدة على حدودهما مع الجزائر، فقد اتفقتا على القيام بجهد مشترك للوصول إلى تسوية سلمية، واجتمع الرئيس (الحبيب بورقيبة) والملك (محمد الخامس) في الرباط، في أواخر شهر تشرين الثاني - نوفمبر - بحضور مراقبين عن جبهة التحرير الوطني، وقد اقترحت الحكومتان البدء بمفاوضات (تؤدي إلى حل عادل يضمن إقامة سيادة الشعب الجزائري على أسس راسخة تتفق مع مبادىء ميثاق الأمم المتحدة)، وعرضا وساطتهما لتحقيق هذه الغاية. وسارعت جبهة التحرير إلى إعلان قبولها لعرض الوساطة من جارتيها، معلنة بدورها، أنها ترى أن السيادة تعني الاستقلال، لكن الحكومة الفرنسية رفضت العرض قائلة أن تونس والمغرب ليستا محايدتين في الصراع، وأدى فشل الوساطة التونسية - المغربية إلى بقاء الأمم المتحدة المرجع الوحيد لجهود جبهة التحرير. وكانت المجموعة الأفريقية - الآسيوية قد طلبت في السابع عشر من تموز - يوليو - إدراج (القضية الجزائرية) على جدول أعمال الدورة الثانية عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وطلبت الجبهة في أواسط شهر أيلول - سبتمبر - من الأمم المتحدة أن تعلن (إفلاس فرنسا السياسي) في الجزائر، وأعربت الجهة في مذكرة ثانية قدمتها إلى الأمم المتحدة في مطلع شهر تشرين الأول - أكتوبر - عن رغبتها في (التعاون المطلق) مع الأمم المتحدة، وأشارت إلى أن أية تسوية سلمية، يجب أن يتم الوصول إليها عن طريق التفاوض بين جبهة التحرير وفرنسا، وأن اشتراك تونس والمغرب ضروري في مثل هذه
المفاوضات إذ أن عقد مؤتمر يضم هذين البلدين بالإضافة إلى فرنسا وجبهة التحرير: (كفيل بأن يخلق الظروف المناسبة لإيجاد تسوية سلمية -سياسية - عاجلة للمشكلة الجزائرية) وأضافت المذكرة تقول:
(ومن الواجب أن ترضي التسوية السلمية التي يتم الوصول إليها عن طريق التفاوض للمشكلة الجزائرية آمال الشعب الجزائري في الاستقلال، وتعلن جبهة التحرير عن استعدادها لدراسة أي شكل من أشكال التعاون الحربين فرنسا والشمال الأفريقي، إذا كان هذا التعاون يأخذ بعين الاعتبار مصالح فرنسا المشروعة).
وسيطر الاعتدال، وقيام جبهة مغربية متحدة على المناقشات التي دارت في الأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - وكانون الأول - ديسمبر - وكان المندوب التونسي هو المتحدث باسم (جبهة التحرير) على نحو ما كان المندوب السوري في دورة شباط - فبراير - السابقة، وهكذا تناسقت استراتيجية جبهة التحرير مع بقية دول المغرب العربي - الإسلامي (الشمال الأفريقي كما كانت تسميه فرنسا).
لم تطلب جبهة التحرير من الجمعية العامة إصدار قرار يقضي (باستقلال الجزائر) بل اقترحت: (الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تطبيق مبدأ تقرير المصير)، وطالبت بإجراء مفاوضات للوصول إلى حل يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة، وقد عدل هذا القرار بشكل يضمن قبول فرنسا به، فتمت الموافقة على التعديلات بأغلبية صوت واحد، مما حمل الكتلة الأفريقية - الآسيوية على رفض القرار بعد تعديله، وأيدتها في موقفها هذا دول الكتلة الشيوعية وبعض الدول الأخرى، ولهذا لم تتقدم اللجنة السياسية بأية توصيات إلى الجمعية العامة، واتخذت الجمعية في العاشر من كانون الاول -
ديسمبر - قرارا وسطا، ينص على ملاحظة وساطة كل من تونس والمغرب، ويعرب:(عن الرغبة في الدخول في مفاوضات، بروح من التعاون المثمر، وفي استخدام الوسائل المناسبة الأخرى، للوصول إلى حل يتفق مع أهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه)، وأشارت جبهة التحرير الوطني في بيان رسمي أصدرته بعد مناقشات الأمم المتحدة إلى ارتياحها من القرار المتخذ، ولكن، وعلى الرغم من ارتياح الجبهة رسميا للقرار، إلا أنها استاءت من هزيمة مشروعها المعتدل الذي قدمته إلى الجمعية العامة، وشعرت بأن تفهم الولايات المتحدة والغرب عامة لقضيتها يسير سيرا بطيئا للغاية، وأشارت صحيفة (المجاهد) إلى أن ما تحقق كان شيئا شئيلا للغاية، وأن من الواجب المضي في الصراع المسلح، لا سيما وقد تمكنت الجبهة عن طريق - تكتيكها - من معرفة أصدقائها الحقيقيين. ووجهت (الجبهة) في كانون الثاني - يناير - 1958 مذكرة أخرى إلى الأمين العام للامم المتحدة، أشارت فيها إلى أن فرنسا ما زالت ماضية في تجاهلها لتوصيات الجمعية العامة، وإلى أن الولايات المتحدة رغم هذا التجاهل منحت فرنسا فروضا كبيرة، وإلى أن فرنسا قد حصلت على قروض مماثلة من (صندوق النقد الدولي) ومن (اتحاد المدفوعات الأوروبي) مما يعتبر:(إسهاما من جميع هذه المصادر في الحرب الاستعمارية التي تشنها فرنسا في الجزائر). وسارت الأمور سيرا سريعا في السنة الرابعة للثورة (1958) فقد تابعت جبهة التحرير من الناحية العسكرية معركة الحدود، وحققت انتصارات جديدة في نقل الأسلحة، واستمر تطوير التنظيم العسكري في الداخل، ولا سيما في مجال تمويل القطاعات وتحسين سبل المواصلات، بتوجيه (عبانة) الذي تنقل في جميع
أنحاء الجزائر في أواخر العام (1957) ومطلع العام (1958) ولكنه استشهد في شهر شباط - فبراير - برصاصة غادرة من كمين فرنسي، ففقدت الثورة الجزائرية أحد قادتها الأقوياء، كما فقدت جبهة التحرير قوة داعية إلى التماسك في جهاز قيادتها.
…
قد يكون لزاما بعد ذلك، التوقف عند وثيقتين أصدرتهما قيادة (جبهة التحرير الوطني) مختتمة بهما مرحلة من مراحل صراعها السياسي، بعد مضي سنوات الصراع الثلاثة الأولى من عمر الثورة.
أ - تصريح لجنة التنسيق والتنفيذ (*)
لقد اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ (لحزب جبهة التحرير الوطني) بتونس من (25) إلى (29) تشرين الأول - أكتوبر - 1957، وبعد التحليل الشامل للحالة العسكرية في الجزائر، والوضعية السياسة والديبلوماسة في (شمال أفريقيا) والعالم، ومع إحياء الذكرى الثالثة لحرب التحرير الوطني وبداية السنة الرابعة من الحرب، ومع وعيها التام بمسؤولياتها وواجباتها،
تصرح بما يلي:
1 -
الشروط المسبقة للتفاوض مع فرنسا.
إن أهداف حرب التحرير الوطنية، كانت وستبقى الاستقلال التام للجزائر، وعليه، وحتى يوضع حد للتعليقات الحاقدة
(*) مجلة المجاهد (الجزائرية) العدد (11) فاتح نوفمبر - 1957 - ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 66 - 68.
والمؤامرات المغرضة، فإن لجنة التنسيق والتنفيذ ترى أنه من الضروري التأكيد علنا، ومن جديد، بأنه من المحال إجراء المفاوضات ما لم يتم الاعتراف مسبقا باستقلال الجزائر، إذ أن هذا الاعتراف ما هو إلا حق طبيعي وأساسي لمطامح الشعب الجزائري.
2 -
حرب التحرير، شمال أفريقيا وتضامن الشعوب.
تتقدم (لجنة التنسيق والتنفيذ) بالتحية والشكر لكل الحكومات والشعوب التي أعلنت بوسائلها المختلفة عن مساندتها المشجعة للشعب الجزائري، وتذكر بالخصوص الشعوب العربية والشعوب الأفريقية - الآسيوية، والتنديد الكبير بالاستعمار الفرنسي الذي أبدته شعوب مؤتمر باندونغ، ووعيا بخطورة الحرب وتأثيراتها الحقيقية على الشعبين الشقيقين في تونس والمغرب، فإن لجنة التنسيق والتنفيذ تتقدم بكل شكر وإجلال لحكومتي تونس والمغرب على مساعيهما الرامية إلى إيجاد حل سلمي، غير أنها تأسف لأن كل هذه الجهود قد انتهت إلى الفشل بسبب تجاهل وتعنت وتكالب الحكومات الفرنسية المستمرة في الاعتداءات البربرية والقرصنة المتمادية في خرق الحرمة والقوانين الإنسانية الدولية المحضة.
فلجنة التنسيق والتنفيذ تتمنى، وتبدي رغبتها الملحة، في تنسيق الجهود على مستوى شمال أفريقيا كله في سبيل إنجاح مسعاها، وإعطائه فعالية أكبر، كما أن (لجنة التنسيق والتنفيذ) التي لا تقلل من خطورة الامبريالية الفرنسية تجاه كل شمال أفريقيا، ترغب في تعدد اللقاءات بينها وبين الحكومتين التونسية والمغربية وتعرب عن أمنيتها في تنظيم مؤتمر بين الأقطار المغربية الثلاثة لبحث خطة موحدة لحصول الجزائر على استقلالها.
3 -
العمليات العسكرية
تتقدم (لجنة التنسيق والتنفيذ) بكل خشوع وتحية للمجاهدين الجزائريين والمنفيين من وطنهم والمساجين وكذلك النساء والأطفال والشيوخ وكل المعذين، وجميع الذين ثاروا - معروفين أو مجهولين - في سبيل انتزاع استقلال وطنهم، وتنحني بكل أسى وخشوع ترحما على القتلى والجرحى الذين ذهبوا ضحية حرب شاملة. وتسجل (لجنة التنسيق والتنفيذ) بكل اعتزاز التقدم الذي تم في الميدان العسكري بفضل الهجوم الشامل يوم 0 2 آب - أوت - 1957؛ فبعد إحداث وإحياء الجبهة الصحراوية، أكدت (جبهة التحرير الوطني) عزمها وتصميمها لتوسيع هذه الجبهة، وبرهنت على تفوق مبادرتها العسكرية في الميدان.
و (لجنة التنسيق والتنفيذ) عازمة على إظهار عزيمة شعبنا الرافض للأطماع التي تريد هضمه وابتلاعه بواسطة عملية قرصنة تكاد تكون دولية لسرقة خيرات الجزائر، فالمنقبون عن الذهب الأسود يجب ألا ينسوا بأن حسابهم معنا، وكذلك بالنسبة لأعضاء (السوق الأوروبية المشتركة) فيجب ألا يجهلوا بأن الجزائر لا تلتزم بالمعاهدات التي وقعتها أو توقعها معها فرنسا باسم بلادنا.
وتسجل (لجنة التنسيق والتنفيذ) بكل اعتزاز التحسن الذي تم الحصول عليه - كما وكيفا - لتسليح مجاهدينا الذين ما انفكوا يهزمون جيشا عصريا يزيد عدد جنوده على (600) ألف جندي يضاف إليهم أعداد الدرك والشرطة والميليشيا الوطنية؛ فجيش وطني الذي تكون في الفاتح من نوفمبر - 1954 - من ثلاثة آلاف شخص بعتاد ضئيل، وليس له من الأسلحة سوى بنادق الصيد، بات يضم في صفوفه اليوم أكثر من (100) ألف شخص
مزودين بأحدث الأسلحة، ويقاومون بكل بسالة جيوش العدو العاملة.
وعليه، فإنه يجب على الرأي العام الفرنسي والدولي، أن يعلما بأن (سياسة الإخماد) التي هي الحرب ستنتهي الى فشل
محقق.
4 -
السياسة الفرنسية وإخفاق محاولات الاتصال.
تلاحظ (لجنة التنسيق والتنفيذ) بأنه منذ الفاتح من نوفمبر (1954) وخصوصا منذ 6 شباط - فيفري - 1956، والحكومة الفرنسية، تتابع بدون جدوى فرض حرب استعمارية عنصرية؛ حرب تهدف بكل وضوح إلى القضاء على الشعب الجزائري، وإن (لجنة التنسيق والتنفيذ) تؤكد للعالم بأنها مستعدة لتقديم الأدلة. إن الخراب الذي سببته الحرب في الجزائر، بالنسبة للأشخاص والممتلكات تفوق الخسائر التي عرفتها فرنسا إبان الحرب العالمية (1914 - 1918). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن محاولات الاتصال التي قامت بها الحكومة الفرنسية لم تكن أكثر من عملية سبر - جس نبض - وقد تمت حتى الآن بواسطة مبعوثين مرتدين أو مبعدين، مما جعل هذه المحاولات تتضح لنا بأنها مجرد تلاعب ومؤامرة منحطة، هدفها الأساسي خداع الرأي العام العالمي. وهكذا، وببطء، ولكن بكل تأكيد، دمرت هذه الحكومات كل أمل في التفاوض. ففرنسا إذن أوضحت سياستها الجهنمية - عن قصد - بتطلعات قوة وحشية، تسببت في إبعاد كل إمكانيات التعايش بين الفرنسيين والجزائريين. إن الحكومة الفرنسية التي سمحت لنفسها بتطبيق سياسة العنف والتقتيل، تعمل على رفض الحل السياسي، وفرض الحل العسكري على الجزائر الثائرة.
5 -
توصيات الأمم المتحدة
لقد طبت منظمة الأمم المتحدة في دورتها العادية الأخيرة - مستعملة أساليبها المحدودة - من الحكومة الفرنسية أن تبحث عن حل سلمي ديموقراطي عادل للمشكلة الجزائرية في إطار مبادىء ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
إن (جبهة التحرير الوطني) الوفية للروح الأممية والتحريرية لميثاق الأمم المتحدة قد استجابت لهذا النداء، باعتبار أن الاستقلال الوطني هو من الأهداف الأساسية لحزب جبهة التحرير الوطني، وهو أيضا ما يؤكده ميثاق الأمم المتحدة كحق لكل الشعوب، الأمر الذي دفع الجبهة إلى الإسراع في إبلاغ هيئة الأمم المتحدة باستعدادها للتفاوض، لكن الحكومات الفرنسية رفضت إعطاء الأهمية والاستعداد لتنفيذ مثل هذه التوصية؛ لأنها تعلم أن النتائج السياسية لذلك هي القضاء على النظام الاستعماري، والتعجيل باستقلال الجزائر، وإن فرنسا وهي تسعى إلى إقناع الأمم المتحدة، تريد فرض الحل العسكري بانتصار قواتها، وهو ما جعلها تنتظر الربع ساعة الأخيرة (يوم 18 كانون الأول - ديسبر - 1957) لتحديد السياسة التي تريد تطبيقها، والمتمثلة في قانون الملاك (لوا - كادر) غير أن عدم جدية هذه السياسة وتناقضاتها الداخلية قد خدعت الرأي العام الفرنسي وكذلك الرأي العام الدولي، والأكثر من هذا، هو أن قانون (لوا - كادر) هذا الذي يعود تاريخه إلى ما قبل تشريع (1947) وقانون (1919) والنصوص التشريعية لسنة (1900) التي تتعلق بالاستقلال المالي للجزائر التي رفضها البرلمان الفرنسي، مما سبب مشاكل داخل الوزارة الفرنسية لا تزال قائمة حتى الآن.
والمعروف أن فرنسا التي هي الآن بدون حكومة، تتمسك بعدم الاعتراف (بجبهة التحرير الوطني) في حين - هي تقوم بحرب ضروس - تمارس سياسة تجاه الجزائر لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
6 -
نشاط الأمم المتحدة
هل من واجب الأمم المتحدة ان تنتظر كل سنة حلول النية الحسنة الفرنسية؟.
لقد تدخلت منظمة الأمم المتحدة - في إطار سياسة تصفية الأستعمار في شمال أفريقيا - لصالح كل من تونس والمغرب، واليوم لا يمكنها أن تبقى صامتة أمام صرخات الألم التي يطلقها شعب وقع ضحية عدوان لا إنساني، من جراء حرب ضروس. وعليه، فإن (جبهة التحرير الوطني) توجه نداءها الحاسم العلني لمنظمة الأمم المتحدة لكي تحاكم نفسها وتتخذ موقفا محددا وحاسما بصفتها الحارس الأمين لميثاقها.
إن حرب أثيوبيا - التي كانت حربا استعمارية - قد حطمت كيان عصبة الأمم.
وجبهة التحرير الوطني تتمنى ألا تكون حرب الجزائر - التي هي حرب استعمارية أيضا - سببا في تحطيم كيان منظمة هيئة الأمم المتحدة.
7 -
دور الشعب الفرنسي.
إن (لجنة التنسيق والتنفيذ) تريد أن تؤكد مرة أخرى، وبكلمة واحدة، للشعب الفرنسي كل الروابط التي بإمكانها خلق ظروف التعايش السلمي بين فرنسا والجزائر المستقلة، ولا يفوت لجنة التنسيق والتنفيذ أن تخطر الرأي العام الفرنسي بأن المشكل الوزاري
تفاقم بسبب مأساة الجزائر، هذه المأساة التي بسببها ما زال الدم ينزف. فالحالة خطيرة، وإذا كان الشعب الفرنسي يريد أن يقوم ثانية بمجهودات تهدف إلى الحفاط على النظام الاستعماري المحكوم عليه بالزوال، فعليه أن يعلم بأن الشعب الجزائري قد عزم على التحرر بصفة نهائية، وأنه لا يمكن أن يتراجع، كما لا يمكن لأحد أن يهزمه، أما الحرب التي فرضت عليه، فهي حرب استعمارية رأسمالية عنصرية، إن لم نقل حربا صليبية، فإنها حرب غير شرعية مفروضة عليه، ولا بد أن ينتصر فيها قريبا.
إن رئيس مجلس الوزراء المعين مؤخرا، منحنا في خطاب تنصيبه وقف القتال بدون شرط سياسي مسبق، وهو يريد بذلك أن يفرض علينا سياسة (لالوا - كادر) الممنوحة من طرف السيد (بورجس - مرنوري) والمنقحة حسب رغبة المعمرين في الجزائر، كما يريد منا أيضا أن نمتثل فرادى أمام أسيادنا.
وأمام اقتراحات من هذا النوع، فإن (لجنة التنسيق والتنفيذ) تحتفظ بعروض واضحة ومحددة لشعب تم تحريره، بعد عروض سلم عن طريق التفاوض والاستقلال المعترف به مسبقا للجزائر.
***
فاتح نوفمبر 1954 - فاتح نوفمبر 1957
ب- نداء - من جبهة التحرير الوطني (*)
أيها الشعب الجزائري!
أيها الضباط وضباط الصف وجنود جيش التحرير الوطني!
مناضلو جبهة التحرير الوطني!
منذ ثلاث سنوات والشعب الجزائري كله يخوض معركة تاريخية من أجل الاستقلال.
وفي هذا اليوم التذكاري، ندعوكم لكي تقدروا معنا الشوط الذي قطعناه حتى نخوض الشوط الذي بقي لنا القيام به بكيفية أحسن، فغداة الثورة لم تكن الأحزاب السياسية التي كانت مهمتها جمع وتوجيه الطاقات منقسمة على نفسها فحسب، بل كانت واقفة الواحد ضد الآخر؛ فحركة (انتصار الحريات الديموقراطية) كانت تمزقها أزمة داخلية انزلقت بها نحو الجمود، ولم تكن حالة الأحزاب الأخرى أفضل أو أحسن، وكان الاستعماريون الفرنسيون يطربون من شدة الفرح، وكان الشعب الجزائري يعض مكبحه من شدة الغضب والحسرة، وكان ينظر بغيرة للشعبين الشقيقين في المغرب وتونس وهما يقاتلان بالسلاح الامبريالية الفرنسية. ففي تلك الأثناء قررت جماعة من المناضلين الشباب، والوطنيين المخلصين والثوريين الأصليين الخروج بالجزائر من المأزق؛ فعينت هيئة تضم تسعة أعضاء، واجبها إعطاء الإشارة لاندلاع الثورة المسلحة،
(*) مجلة (المجاهد) الجزائرية. العدد (11) الفاتح من نوفمبر 1957 - ملفات وثاثقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 64 - 65.
فالبعض من أعضائها سقطوا في ميدان الشرف لكي تحيا الجزائر، وهم: ابن بو العيد وديدوش وابن مهيدي.
وتحققت المعجزة، ففي مدة ستة أشهر تمكنت جماعة من الرجال، منعدمي الإمكانيات العتادية والمالية، في جو يسوده التشاؤم، وبمجهودات جبارة، من ضم ثلاثة آلاف مناضل وتنظيمهم وتسليحهم وكل ذلك في سرية تامة. وفي فاتح نوفمبر، على الساعة (صفر) تم ميلاد (جبهة التحرير الوطني) والتي وجهت النداء للشعب الجزائري ولمناضلي القضية الوطنية، ولم يهمل شيء: البرنامج وإمكانيات الكفاح، والأهداف الداخلية والخارجية، وحدد لأول مرة إطار للمفاوضات المقبلة والمحتملة ولأنهم كانوا واعين بقوة الشعب الثورية، وبحقائق البلاد، ومقدرين لأهمية قوات العدو، فقد تبنى طلائعيو - رواد - الثورة الخطة العسكرية المشهورة التي عرفت باسم (القنفذ)؛ فبعد طلقة الإنذار العام، انسحبوا نحو جبال الأوراس، والشمال القسنطيني، والقبائل، وجبال الغرب الجزائري، وشرعوا في تنفيذ مهمة تنظيم الشعب والجيش، دون أن يكفوا عن مناوشة العدو. إن مجهود وضع الهيكل الثوري كان يتطلب من المسؤولين والمناضلين روحا للتضحية لا مثيل لها وتحملا لمشاق كبيرة، وإيمانا مطلقا. وتطلب الوصول إلى أهداف المرحلة الأولى حوالي سنة فقط، وواجه الشعب الجزائري المهيأ محنة يوم 20 آب - أوت - سنة 1955 الدامية، وكان جيشه الوطني للتحرير المظفر يدله على طريق النجاح. وبدأ تحقيق هدف المرحلة الثانية، وهي إقرار انعدام الأمن العام عبر جميع أنحاء التراب الوطني، وتبلورت الشبكة التنظيمية للجنة التحرير الوطني، وتنوعت أجهزتها المنسقة
بانسجام، وامتد نفوذ جيش التحرير الوطني إلى كل انحاء الجزائر، وتحول من (حرب العصابات) البسيطة إلى طور (الحرب الجزئية) وتعددت مصالحه التقنية المختصة: المعتمدية العسكرية، الدرك، المواصلات، المصالح الصحية، المخابرات الخ .. ولكونه جيشا عصريا حقيقة، فقد نما (جيش التحرير الوطني) مميزا بشخصيته وهو يواجه جيشا من أكبر جيوش العالم، وتوجت هذه المجهودات بالإجماع التاريخي لمؤتمر الصومام في 20 - أوت - آب - 1956 حيث تحقق جمع القوات، وضمان وحدة القيادة وإقرار منهج في الكفاح.
كانت بعثاتنا في الخارج، تعمل في الوقت ذاته باتصال مباشر مع الداخل، وتخوض المعركة الديبلوماسية محطمة بناية الكذب التابعة لدعاية العدو، مبرزة الوجه الحقيقي للثورة الجزائرية.
اضطر العدو للتقهقر عندما وجد نفسه مهاجما في ميدان كان يسيطر عليه وحده، ومنذ سنة والقضية الجزائرية مدرجة في جدول أعمال الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، في حين كان الشعب الجزائري يعبر عن مساندته (لجبهة التحرير الوطني) من خلال إضراب دام ثمانية أيام، وهتف في وجه العالم بتصميمه على العيش حرا أو الموت.
إن انتصاراتنا في الداخل لها صدى في الخارج، وأصبحت هذه الانتصارات ممكنة بفضل الكفاح البطولي لشعبنا، وبفضل تضحيات أبنائه الأبرار الذين سقطوا في ميدان الشرف. إن عشرات الآلاف من الجزائريين، رجالا ونساء وأطفالا قد سجلوا أسماءهم إلى جوار أسماء (عبد القادر) و (المقراني) مشرفين بذلك تاريخ
الجزائر.
وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والألم والتضحية، فإن شرف وطننا وكرامته قد انقذا، إذ غسلا بدم وعرق ودموع شعب متعطش للحرية، وعاقد العزم على الانتصار.
نعم، سوف ننتصر لأن قضيتنا عادلة، وإيماننا راسخ، ولأن قدرتنا القتالية لا تعرف حدا.
وفي الوقت الذي نرى فيه شروق شمس الحرية على الأفق، فلنضم صفوفنا أكثر، لنزيد من طاقتنا ولتكن ضربتنا أقوى حتى نزيح عن أرض وطننا الحبيب حشود المستعمرين.
أيها الشعب الجزائري! ويا جيش التحرير الوطني ومناضلو جبهة التحرير الوطني.
إن معركة التحرير مستمرة، فإلى الأمام.
***