المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مؤتمر (وادي الصومام) وبعض مقرراته - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٥

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ مؤتمر (وادي الصومام) وبعض مقرراته

2 -

‌ مؤتمر (وادي الصومام) وبعض مقرراته

انقضت عدة أشهر في الإعداد للاجتماع الأول للمجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي عقد في (وادي الصومام)، وكانت فكرة الدعوة إلى مؤتمر وطني يضم زعماء جميع الجماعات قد انبثقت من الاقتراح السابق لأعضاء اللجنة المركزية لحركة (انتصار الحريات الديموقراطية) وهو الاقتراح الذي تبناه عدد من قادة الجيش، وفي طليعتهم (زيروت) في الشمال القسنطيني، وقد اختار القادة العسكريون (وادي الصومام) مكانا لاجتماعهم بهدف تأكيد سيطرتهم العسكرية على المنطقة التي كان الفرنسيون يزعمون أنهم يسيطرون عليها. ولا ريب في أن اختيار هذه المنطقة مكانا للاجتماع، قد جعل اتخاذ الترتيبات الضرورية لعقده وكذلك تأمين الوصول إليه، وضمان الاتصالات مع الزعماء في الخارج، من الأمور الصعبة والشاقة، ولهذا فقد تأخر الإجتماع عن موعده المقرر بعض الوقت. وعندما اجتمع القادة العسكريون في الوادي، وجدوا أنفسهم منقطعين عن أعضاء (البعثة العسكرية) الذين كانوا ينتظرون الأخبار في إيطاليا، ولكن القرار قد اتخذ من قبل (عبانة) وحده على الغالب بعقد المؤتمر بأي ثمن.

ص: 24

قرر مؤتمر (وادي الصومام) أن يتألف (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) من سبعة عشر عضوا كاملي العضوية، وسبعة عشر عضوا مساعدا، وكان من بين الأعضاء - كاملي العضوية - عدد من منظمي (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) وبعض القادة العسكريون الجدد، (وفرحات عباس) الذي سافر إلى القاهرة في العام 1956 للانضمام إلى جبهة التحرير، وأحمد (توفيق المدني) من جماعة العلماء، وعدد من زعماء حركة انتصار الحريات الديموقراطية البارزين من أمثال (الأمين دباغين) و (محمد يزيد).

وضمت قائمة الأعضاء المساعدين (بن يحي) الذي نظم حركة الطلاب المنضمة لجبهة التحرير و (عبد الحميد المهري) من أعضاء اللجنة المركزية (لحركة انتصار الحريات) السابقين، وها هي قائمة كاملة بأسماء الأعضاء الكاملين والمساعدين في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، كما تألف في العشرين من آب - أوت - 1956:

أ - الأعضاء الكاملون: (حسين آية أحمد، فرحات عباس، رمضان عبانة، أحمد بن بيللا، مصطفى بن بو العيد، بن يوسف ابن خدة، محمد العربي بن مهيدي، رابح بيطاط - وكان سجينا في قبضة الفرنسيين منذ شباط، فبراير، 1955 - ، محمد بوضياف، سعد دحلب، محمد خيضر، كريم بلقاسم، محمد الأمين دباغين، أحمد توفيق المدني، محمد يزيد، يوسف زيروت.

ب - الأعضاء المساعدون: عماره العسكري، بن عورة، الأخضر بن طوبال، محمد بن يحيى، بومدين، عبد الحفيظ بوصوف، محمود شريف، سليمان دهيليس، أحمد فرنسيس،

ص: 25

العموري، أحمد محساس، عبد الحميد المهري، علي الملاح، ابراهيم مزهودي، الطيب الثعالبي.

ج - وانتخب (مؤتمر الصومام) أيضا أعضاء (لجنة التنسيق والتنفيذ) التي تكونت من خمسة أعضاء حفظت أسماؤهم سرا، وهم:(رمضان عبانة، وبن يوسف بن خدة، ومحمد العربي بن مهيدي، وسعد دحلب، وكريم بلقاسم)، وكلهم من القادة العاملين على أرض الجزائر ذاتها.

وقد عكست هذه اللجنة الأهمية الأولى للعمل العسكري، وصعوبة الاعتماد على الاتصالات بصورة دائمة واعتيادية بين القادة في الداخل والخارج، ونصت قرارات مؤتمر (وادي الصومام) على أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية هو:(أعلى جهاز للثورة يوجه سياسة جبهة التحرير، وهو الهيئة الوحيدة المخولة في النهاية باتخاذ القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد)، والمجلس الوطني هو:(صاحب الحق وحده في إصدار الأمر بوقف إطلاق النار)،أما لجنة التنسيق والتنفيذ (فهي مجلس الحرب الحقيقي، وهي مسؤولة عن توجيه وإدارة جميع فروع الثورة من عسكرية وسياسية ودبلوماسية، وهي تسيطر على جميع هيئات الثورة المنظمة من سياسية وعسكرية ودبلوماسية واجتماعية وإدارية، وجميع القادة العسكريين مسؤولون بصورة مباشرة أمام لجنة التسيق والتنفيذ). وقد أقامت اللجنة مركزها في الجزائر، على الرغم من أن أعضاءها كانوا دائمي التنقل، وكان على اللجنة أن تعين لجانا فرعية تدرس مختلف القضايا المتعلقة بنشاط الثورة في الحاضر والمستقبل، وتكون هذه اللجنة مسؤولة أمامها.

ص: 26

لقد وضع القادة في مؤتمر (وادي الصومام) أسسا واضحة لخط مسار الثورة، وعالجوا همومها وما تجابهه من مصاعب وعقبات وحددوا طرائق معالجتها، ومن هنا تبرز الأهمية التاريخية لما تمخض عنه هذا المؤتمر، الأمر الذي يفرض ضرورة التوقف عند بعض من مقتطفات (منهج الصومام) الذي صدر في 20 - آب - أغسطس - 1956، وفقا لما وردت في (وثائق الثورة) (*):

لضمان انتصار الثورة الجزائرية، في الكفاح من أجل الاستقلال الوطني.

مقدمة

غرض هذا الجزء من البيان الأساسي لنشاط جبهة التحرير الوطني هو تحديد موقف الجبهة بصفة عامة في مرحلة حاسمة من مراحل الثورة الجزائرية، مقسما الى أقسام ثلاثة:

1 -

الحالة السياسية الحاضرة.

2 -

البوادر العامة.

3 -

وسائل العمل والدعاية.

1 -

الحالة السياسية الحاضرة

أ - تقدم الثورة الجزائرية العاصف الجارف.

تحارب الجزائر منذ عامين ببطولة وبأس شديد في سبيل الاستقلال الوطني، وإن الثورة الوطنية المناهضة للاستعمار لجادة في السير، وإنها لتفرض إعجاب الرأي العام العالمي.

(*) المرجع: ملفات وثائقية - 24 - وزارة الإعلام والثقافة - أوت 1976. الجزائر. ص 11 - 27.

ص: 27

1 -

المقاومة المسلحة

لقد خرج جيش التحرير الوطني من أول اختبار في القتال موفقا فائزا، في وقت قصير نسبيا، بعد أن كان منحصرا في جبال (أوراس) وفي (بلاد القبائل)، فقد أحبط حملة التطويق والإبادة التي شنها عليه جيش قوي عصري، هو في خدمة النظام الاستعماري لدولة من أكبر دول العالم. وعلى الرغم من قلة السلاح، وقتها، فقد استطاع جيش التحرير الوطني توسيع نطاق عمليات العصابات والمناورات والاتلاف التي أصبحت اليوم تعم التراب الوطني كله، وما انفك يدعم مراكزه بتحسين خطته وفنه ونفوذ عمله، واستطاع أن ينتقل بمزيد السرعة من حرب العصابات إلى مستوى الحرب الجزئية.

وأجاد تنسيق الأساليب المجربة في الحروب ضد الاستعمار مع الأساليب العادية، وتطبيقها تطبيقا منظما يتماشى وخصائص البلاد، وأقام البرهان الكافي الآن، وقد تم توحيد نظامه العسكري، على أنه متمكن من الفن المطلوب لحرب تشمل كافة القطر الجزائري.

إن جيش التحرير الوطني يحارب من أجل قضية عادلة.

إنه يضم وطنيين ومتطوعين ومجاهدين، عازمين مصممين على الكفاح والنضال باذلين النفس والنفيس الى أن يتم تحرير الوطن الشهيد، ولقد تعزز جانبه بمن انضم إليه من الضباط والجنود المحترفين أو المجندين الذين استيقظت فيهم مشاعر الوطنية فهجروا

صفوف الجيش الفرنسي بما معهم من سلاح وتجهيزات.

ولأول مرة في التاريخ العسكري، لم تعد فرنسا تستطيع

ص: 28

الاعتماد على (إخلاص الجنود الجزائريين) بل اضطرت إلى نقلهم إلى فرنسا وألمانيا، وعصابات (الحركة - القومية) التي كونتها السلطة الفرنسية بمن اختارتهم من العاطلين، وأغرتهم في أغلب الأحيان، وخدعتهم في حقيقة العمل الذي دعتهم اليه، فقد أخذت تهرب وتتوارى في الجبال والغابات، أما بعض هذه - الحركات - فقد عمدت السلطة إلى تجريدها من السلاح وحلها لشدة استيائها من النتيجة.

إن جيش التحرير الوطني يمتلك ذخيرة وفيرة لا تنفذ من الرجال، وكثيرا ما يضطر الجيش إلى رفض تجنيد الجزائريين شبانا وشيوخا، من الحواضر ومن البوادي، وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يتاح لهم إحراز الشرف بالجندية في جيشهم. ويتمتع جيش التحرير الوطني بحب الشعب الجزائري حبا عميقا، وتأييده الحماسي الشديد وتضامنه الفعال المعنوي والمادي، التام الكامل المتين. فكبار الضباط وقادة المناطق والمحافظون السياسيون، وإطارات جيش التحرير وجنوده، يعظمون ويكرمون من قبل جماهير الشعب تعظيم وتكريم الأبطال الوطنيين، وهم يمجدونهم في أغانيهم الشعبية التي نفذت إلى الكوخ الفقير والخيمة البائسة، كما اقتحمت الغرفة المنزوية بين الأزقة الضيقة، وإلى الردهات والبيوتات الرفيعة.

تلك هي الأسباب الجوهرية (للمعجزة الجزائرية)؛ فقد خيب جيش التحرير الوطني سعي القوة الهائلة التي يمتلكها جيش الاستعمار الفرنسي المدعم (بالفيالق الذرية) والتي تم سحبها من القوات المخصصة للدفاع عن أوروبا الغربية، الأمر الذي أرغم القادة الفرنسيين - الجنرالات - على الاعتراف: بأنه من المحال

ص: 29

إيجاد تسوية للقضية الجزائرية عن طريق الحل العسكري، هذا على الرغم من النجدات التي يستمر تدفقها عليهم، والتي سرعان ما تغدو غير كافية، وعلى الرغم أيضا من خطة تقسيم البلاد المعروفة (بكادرياج) أو غيرها من الخطط التي لم يكن لها تأثير، كما لم

يكن هناك أي تأثير لما أطلقوه من النار وآلات الدمار.

ولزاما علينا أن نشير بصورة خاصة إلى منظمات المقاومة الكثيرة الذي تشكلت في المدن، والتي أصبحت تؤلف جيشا ثانيا لا يرتدي أفراده الثياب العسكرية؛ وقد أبدت الأفواج المسلحة في المدن والقرى، بما قامت به من الإغارات على مراكز الشرطة والدرك وتدمير المباني العامة وإشعال الحرائق، والقضاء على أصحاب الرتب من رجال الشرطة والوشاة والخونة، وهذا مما يضعف الهيكل العسكري وجهاز شرطة العدو الاستعماري إلى درجة لا يستنهان بها، ويزيد من تشتيت قواه في كافة أنحاء البلاد، ويضاعف من تدهور الروح المعنوية لجنوده الذين سبقون دائما في حالة إرهاق وإزعاج بسبب اضطرارهم للبقاء باستمرار في حالة استنفار.

ومن الأمور التي لا ينكرها احد أن نشاط جيش التحرير الوطني قد قلب الجو السياسي في الجزائر، ولقد أحدث صدمة نفسية أيقظت الشعب من سباته، وحررته من روعه، وأزالت عنه ريبته، وبعثت في الشعب الجزائري الشعور بكرامته القومية، وكونت اتحادا روحيا وسياسيا بين جميع الجزائريين، فظهر ذلك الإجماع الوطني في دعم الكفاح المسلح، وجعل انتصار الحرية أمرا حتميا لا بد منه.

2 -

تنظيم سياسي فعال

أصبحت جبهة التحرير الوطني، رغم طبيعة نشاطها السري،

ص: 30

هي المنظمة الوطنية الحقيقية الوحيدة، ونفوذها في عامة القطر الجزائري لا يقبل الجدل أو النقاش، وقد نجحت الجهة في فترة زمنية قصيرة جدا، بالتفوق على سائر الأحزاب السياسية القائمة منذ عشرات السنين، ولم يحدث ذلك عرضا ومصادفة، وإنما كان نتيجة توافر الشروط الضرورية الآتية:

أ - منع النفوذ الفردي، وإقرار مبدأ الإدارة الجماعية المؤلفة من رجال أطهار أمناء يتنزهون عن الرشوة، شجعان لا يردهم الخطر ولا السجن ولا رهبة الموت.

ب - وضوح المذهب، فالغاية المنشودة هي الاستقلال الوطني، والوسيلة هي الثورة بتدمير الحكم الاستعماري.

ج - تحقق اتحاد الشعب في الكفاح ضد العدو المشترك، بدون تحيز أو تعصب. لقد أكدت جبهة التحرير الوطني في أول عهد الثورة:(أن تحرير الجزائر سيكون عمل جميع الجزائريين، لا عمل جزء فقط من الشعب الجزائري، مهما كان هذا الجزء كبيرا، ولذا فإن جبهة التحرير ستعتبر في كفاحها جميع القوى المضادة للاستعمار، وإن هي لم تزل خارجة عن نطاق إشرافها).

د - الاستنكار النهائي لتقديس الشخصية، والكفاح العلني ضد الصعاليك والوشاة وخدام الإدارة الفرنسية والشرطة وجواسيسها - عيونها - ومن ثم كانت قدرة جبهة التحرير الوطني على إحباط المناورات السياسية وأبطال مكائد منظمات الشرطة الفرنسية، وليس معنى هذا أن المصاعب أزيلت كلها، فإن نشاطنا قد أعاقته في المرحلة الأولى العوائق الآتية:

أ - قلة الإطارات، وقلة الوسائل المادية والمالية.

ب - ضرورة القيام بعمل طويل شاق في توضيح الجو السياسي

ص: 31

وبيان الموقف بأناة وصبر وثبات للتغلب على الاضطراب الذي لا بد منه، مثل الاضطراب في الجسم خلال مرحلة البلوغ.

ج - الواجب الاستراتيجي الذي يقتضي ربط الأمور كلها بجبهة الصراع المسلح.

وإن هذا الضعف الذي هو عادي ولا بد منه في البداية قد أصلح، وأمكن استدراكه، فبعد المدة التي كانت جبهة التحرير فيها تكتفي بإلقاء الأوامر بمقاومة الاستعمار، برزت الجبهة بروزا حقيقيا في ميدان الكفاح السياسي، على نحو ما شهدناه، وقد امتازت هذه النهضة بالإضراب التذكاري الذي أعلن في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1955؛ ذلك الإضراب الذي كان يعد الحدث الحاسم، سواء لما له من مظهر، أو لما له من نتيجة إيجابية وصفة بعيدة المدى، حيث كان يدل على نفوذ الجبهة لدى جميع طبقات الأمة، ويعرف كل جزائري أنه ما من منظمة سياسية استطاعت تنظيم إضراب عظيم كهذا شمل كل مدن الوطن وقراه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النجاح الذي وفقت إليه جبهة التحرير الوطني في دعوتها إلى عدم التعاون السياسي مع الفرنسيين، لم يكن برهانه أضعف من برهان الاضراب، لقد كان من شأنه استقالة النواب الوطنيين، التي تلتها استقالة النواب الموالين للإدارة أن أرغمت الحكومة الفرنسية على العدول عن تمديد نيابة النواب في المجلس الوطني الفرنسي، وعلى حل المجلس الجزائري، أما المجالس العمالية والبلدية والجماعات فقد حلت بدورها ولم يعد لها وجود.

ومما زاد في هذا الفراغ، ووسع من رقعته، استقالة عدد كبير من الموظفين وأعوان السلطة الاستعمارية، من

ص: 32

القادة ورؤساء الأقسام والحرس، ولما لم تجد الإدارة الفرنسية مرشحا أو عضوا، تمزقت أوصالها، وانحلت أجزاؤها، وأصبح هيكلها غير قادر على ممارسة دوره الوظيفي، ولم تجد من يتعاون معها من الشعب، وإنما وجدت سلطة جبهة التحرير قائمة معها في جميع الجهات وهذا التفتت البطيء، ولكنه في الوقت ذاته بعيد المدى في التأثير على الإدارة الفرنسية، قد مكن من نشوء ازدواج النفوذ ونموه، وتقوم إدارة الثورة الآن بما لها من جماعات سرية، ومرافق تشتغل بالتموين وجباية الضرائب والقضاء، وتجنيد المجاهدين، والأمن والاستعلامات، وستتقدم إدارة جبهة التحرير بمرحلة جديدة بما تؤسسه من مجالس شعبية ينتخبها سكان القرى، قبل الذكرى السنوية الثانية لثورتنا، وقد ثبت الوعي السياسي لجبهة التحرير ثبوتا جليا باهرا بانضمام الفلاحين إلى صفوفنا لأن الحصول على الاستقلال الوطني معناه أيضا في نظرهم الحصول على الإصلاح الزراعي الذي سيملكهم الأراضي التي يستثمرونها بأيديهم، ونجم عن هذا كله نشوء جو ثوري انتشر بسرعة في كافة البلاد، وكان من شأن وجود أفراد من الحضر ذوي إدراك سياسي واسع وحنكة بالغة تحت إشراف جبهة التحرير وتسييرها البصير أن مكن من التنبيه السياسي للنواحي المتأخرة، وكانت مساعدة الطلبة والطالبات كبيرة النفع، لا سيما في الميدان السياسي والميدان الإداري والميدان الصحي.

لقد اجتازت الثورة الجزائرية مرحلتها التاريخية الأولى بعزة وشرف، وإن هذه الحقيقة، الحية، قد أبطلت الرهان العابث الذي تقدم به الاستعمار الفرنسي حيث ادعى أنه يقضي عليها في أشهر قلائل. إنها ثورة منظمة وليست بحركة ثورية فوضوية، إنها كفاح

ص: 33

وطني يهدف إلى تدمير حكم الاستعمار الفوضوي، وليست بحرب دينية، إنها سير الى الأمام في الاتجاه التاريخي للإنسانية، وليست برجوع إلى النظام الاقطاعي. والحاصل، إنها كفاح وطني يهدف إلى تدمير حكم الاستعمار من أجل إقامة نهضة دولة جزائرية في شكل جمهورية ديمرقراطية واجتماعية، وليست في سبيل إعادة حكم ملكي، أو حكم قائم على ما يعبر عنه (باللاهوتية) فتلك أنظمة قد اضمحلت ودالت دولتها.

3 -

إخفاق المنظمات السياسية السابقة

من آثار الثورة الجزائرية على الشعب الجزائري أنها عجلت بنضجه السياسي؛ فقد شحذت ذهنه، وأذكت فيه روح النقد والتمحيص، وأبدت له على ضوء التجربة الحاسمة، تجربة النضال في سبيل الحرية، وعجز المذهب الاصلاحي وعقم الشعوذة الخادعة المناهضة للثورة، ولقد ظهر إخفاق الأحزاب القديمة للعيان جهارا، وتفككت المنظمات المختلفة؛ فأما الأعضاء الأساسيون فانضموا إلى جبهة التحرير الوطني، وأما (حزب البيان) المنحل و (جمعية العلماء) فأيدا بشجاعة مواقف جبهة التحرير، وأما (جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين) التي تضم سائر الجامعيين وتلاميذ المدارس الثانوية فنادت بنفس العاطفة على لسان مؤتمرها الذي وافق على الأمر بإجماع، وأما (الهيئة المركزية -لحركة انتصار الحريات الديموقراطية) فقد ذهبت ولم يبق لها أثر سواء بصفتها مجمعا للزعماء السابقين، أو بصفتها نزعة سياسية.

أ - انهيار مذهب (مصالي)

لم تكن الحركة القومية الجزائرية لتقوى على التغلب على الأزمة

ص: 34

التي أودت بحركة انتصار الحريات الديموقراطية، وذلك رغم ما تظاهرت به من خدمة للشعب في محاولة لاستمالته إليها، ولم يبق لها

من هيكل أساسي إلا في فرنسا، لوجود مصالي بها وهو في المنفى، ولجهل المهاجرين الجزائريين بفرنسا لحقيقة الموقف في الجزائر جهلا تاما؛ فمن هناك كانت تصدر الأوامر والأموال والرجال لتنظيم أفواج مسلحة ومناطق منشقة للمقاومة، ولم يكن الغرض منها المساهمة في محاربة العدو الممقوت، بل القيام بعمليات التحدي والاستفزاز، وإفساد الثورة الجزائرية التي تجابه النظام الاستعماري وجيشه وشرطته وذلك عن طريق القيام بجهد لإحباط عمل قادتها العسكريين والسياسيين، بما تبشه من روح الهزيمة، وما تدخله من الاضطراب وما تقترفه من أعمال القتل.

لقد ظهر كل نشاط الحركة القومية الجزائرية، المشتت والقصير المدى، في بعض المدن القليلة ومنها مدينة الجزائر، وظهر هذا النشاط في إطار تكتل مناهض للثورة، قام بعمليات التفرقة والإلهاء (كالحملة على بني ميزاب) واللصوصية (كابتزاز أموال التجار) والتشويش والافتراء (كتقديم مصالي بصفته مؤسس جيش التحرير الوطني وقائده)، وقد فقد مذهب مصالي قيمته كتيار سياسي، وأصبح شيئا فشيئا مجرد حالة نفسية تذوب وتضعف بتوالي الأيام. وحسبنا دليلا على قيمة هذا المذهب، أن آخر المعجبين بمصالي والمدافعين عنه، هم الصحفيون والأدباء القريبون من رئاسة الحكومة الفرنسية؛ فهم يذهبون إلى استنكار جحود الشعب الجزائري الذي لم يعد يعترف (بفضل مصالي ومزاياه الاستثنائية وهو الذي أنشأ القومية الجزائرية قبل ثلاثين عاما)، وإن نفسية مصالي أشبه شيء باعتقاد الديك الأحمق الذي جاء عنه في القصص

ص: 35

أنه لا يكتفي بمشاهدة شروق الشمس ولكنه ينادي بأنه (هو الذي يجعل الشمس تشرق).

إن القومية الجزائرية التي يزعم (مصالي) بوقاحة أنه هو محدثها، إنما هي حدث عالمي نتيجة تطور طبيعي تسير عليه جميع الشعوب التي تفيق من سباتها، فكما أن الشمس تشرق من غير أن يكون للديك في شروقها يد، فكذلك الثورة الجزائرية تنتصر من غير أن يكون (لمصالي) فيها فضل أو مزية.

لقد كان هذا المديح لمذهب مصالي في الصحافة الفرنسية دليلا جديا على ما كان يجري من إعداد لجو مصطنع يوافق المناورة الواسعة النطاق ضد الثورة الجزائرية، تلك هي التفرقة التي هي السلاح المعروف للاستعمار.

لقد حاولت الحكومة الفرنسية عبثا أن تقاوم جبهة التحرير الوطني بتنظيم الهيئات المعتدلة، ولما أيقن الاستعمار الفرنسي أنه لا

يستطيع أن يعول على (السايح) أو (فارس) لأن فكرة (بني وي وي) قد كسدت سوقها وزالت بصفة نهائية لا رجوع بعدها، طمع في استخدام رئيس (الحركة القومية الجزائرية) في مكيدته الشيطانية الأخيرة، حتى يسلب الشعب الجزائري انتصاره؛ و (مصالي) في ذلك خير آلة للسياسة الاستعمارية لأنه رجل ذو غرور وعجرفة، ليس له ضمير ولا أنفة، وعلى هذا لم يكن من المصادفة قول (جاك سوستيل) للأستاذ (مانسيون) في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1955:(إن مصالي هو وسيلتي الأخيرة)، ولا يتورع الوزير المقيم (لاكوست) من التعبير للصحافة الاستعمارية الجزائرية عن سروره بملاحظة أن (الحركة القومية الجزائرية) إنما تعمل على

ص: 36

إضعاف جبهة التحرير الوطني ليس إلا.

وقد كشفت الجريدة الاشتراكية الأسبوعية (دومان/ غدا) عن الخلافات القائمة بين الساسة الفرنسيين في الخطة التي يجب سلوكها، فكتبت أن بعض الوزراء مستعدون لإطلاق الحرية لمصالي، لمنع جبهة التحرير الوطني من أن يتعزز جانبها، (وإنما المشكلة الوحيدة هي التأمين على حياة الزعيم الجزائري).

واذا ما ذكرنا أن مصالي قد حمل حملة عنيفة على البلاد العربية، (وهذا لا محالة مما يسر سوستيل ولاكوست وبورجو وأمثالهم) تحققنا أن نقله من (أنقولام) إلى (بل إيل) يثبت الفكرة التي عرضتها جريدة (دومان)، وإذا كانت حياة مصالي نفيسة إلى هذا الحد عند الاستعمار الفرنسي، فهل نعجب من أن نراه يتدهور إلى الخيانة عن خبرة ودراية؟.

الشيوعية غائبة

لم يستطع الحزب الشيوعي الجزائري أن يلعب دورا يستحق الذكر، رغم وجوده في حالة غير قانونية، ورغم الدعاية الصاخبة التي أضفتها عليه الصحافة الاستعمارية لتبرير اشتراكه المزعوم في الثورة الجزائرية. إن الإدارة الشيوعية التي هي إدارة مكتبية (بيروقراطية) لا صلة لها بالشعب، ولم تكن قادرة على تحليل الحالة الثورية تحليلا صحيحا. ولذا فقد استنكرت (الإرهاب) وأمرت أعضاء الحزب من سكان (أوراس) الذين قدموا إلى الجزائر في الأشهر الأولى من نشوب الثورة يأخذوا الأوامر والتعليمات بألا يحملوا السلاح. لقد كان خضوع (الحزب الشيوعي الجزائري) للحزب الشيوعي الفرنسي، خضوع (بني

ص: 37

وي - وي/ نعم نعم) نظرا إلى الصمت الذي لزمه بعد موافقة البرلمان الفرنسي على إطلاق النفوذ للحكومة.

لم تكن لدى (الشيوعيين الجزائريين) الشجاعة الكافية لاستنكار هذا الموقف الانتهازي الذي وقفته الكتلة البرلمانية الشيوعية، وليس هذا فقط، بل إنهم لم يقولوا ولو كلمة احتجاج واحدة ضد ما تقرره فرنسا، أو القيام بنشاط واضح ضد حرب الجزائر، مثل المظاهرات ضد إرسال النجدات العسكرية، أو تنظيم إضراب في وسائل النقل وفي البحرية التجارية وفي الموانىء لشحن العتاد الحربي.

لقد اضمحل (الحزب الشيوعي الجزائري) بصفته منظمة جدية، وذلك على الخصوص لكثرة ما فيه من الأوروبيين الذين تضعضعت عقائدهم (القومية الجزائرية) فأظهرت ما فيهم من تناقض أمام المقاومة المسلحة.

إن الأصل في انعدام هذا الانسجام في السياسة المضطربة الناشئة عنه، هو البلبلة والاعتقاد بأنه من المحال تحرير الوطن الجزائري قبل انتصار ثورة طبقة العمال في فرنسا؛ وهذه الأيديولوجية التي تذكر الحقيقة هي من آثار نظريات الخلية الفرنسية الأممية العمالية التي تدعو إلى سياسة الإدماج السلبي والانتهازي. فهي تنكر (صفة الثورة) على طبقة الفلاحين عامة، والفلاحين الجزائريين منهم خاصة، وتزعم أنها تحمي طبقة العمال الجزائريين من خطر مريب، هو خطر الوقوع تحت سيطرة (البورجوازية العربية)، وكأن الاستقلال الوطني الجزائري سيسلك حتما طريق الثورات الفاشلة، بل يتقهقر إلى نظام إقطاعي ما.

ص: 38

إن جامعة الشغل العامة (س. ج. ت) الخاضعة للتأثير الشيوعي هي في مثل موقف (الحزب الشيوعي) تدور وتدور في الفراغ، دون أن تستطيع أن تصدر أمرا أو تنفذه. فالجمود الذي عم حركة العمال المنظمة وأثقله موقف نقابات (القوة العمالية - ف. او) و (الجامعة الفرنسية للعمال المسيحيين - س. ف. ت. س.) ليس وليد ضعف في عزيمة عمال المدن، ولكنه ناجم عن جمود الأركان النقابية للاتحاد العام للنقابات الجزائرية، والتي تنتظر وهي مكتوفة الأيدي أوامر (باريس).

لقد برهن عمال (ميناء الجزائر) على قوة عزيمتهم بالمساهمة في الإضراب السياسي التذكاري في فاتح نوفمبر 1956.

أدرك كثير من العمال أن ذلك اليوم الوطني كان يصطبغ بصبغة الإجماع على نطاق أوسع بيانا وأقوى نشاطا وأكبر فائدة لو دعيت منظمات العمال إلى الكفاح العام بحذاقة ولباقة من طرف هيئة نقابية مكزية وطنية حقيقية، ولقد تأكد هذا الحكم الصحيح بوضوح تام من خلال النجاح الرائع الذي أحرزه الإضراب العام الوطني في يوم 5 تموز - يوليو - 1956، ولذلك استقبل العمال الجزائريون نشأة (الاتحاد العام للعمال الجزائريين - او. ج. ت. أ) الذي كان نموه مطردا لا يقهر بصفته اللسان المعبر عن رغبتهم وتشوقهم إلى مساهمة أقوى وأنشط في تدمير الاستعمار المسؤول عن حالة البؤس والبطالة والهجرة والمهانة، وإن انتشار هذا الشعور الوطني، مع ارتفاع مستواه إلى مرتبة أرقى، لم يلبث أن قوض الأساس العمالي للحزب الشيوعي الجزائري كما يقوض المبنى القائم على الرمل، وكان ذلك الأساس ذاته قد ضعف بعد ضياع عناصره الأوروبية المترددة المذبذبة. على أننا نسجل بعض الأعمال الفردية الصادرة عن بعض

ص: 39

الشيوعيين الذين انضموا إلى صفوف جبهة التحرير وجيش التحرير، ومن الممكن إيقاط بعض الأفراد، وتنبيههم لتصحيح مفهومهم عن التحرير الوطني، والأمر المحقق هو أن الحزب الشيوعي الجزائري سيحاول في المستقبل استثمار هذه المواقف الفردية، بهدف إخفاء عزلته التامة، والتستر على تغيبه عن الجهاد التاريخي الذي تقوم به الثورة الجزائرية.

ب - استراتيجية الاستعمار الفرنسي

لقد أبطلت الثورة الجزائرية جميع التكهنات الاستعمارية التي أضفي عليها غطاء من التفاؤل المزيف، وها هي ذي تستمر في نموها واتساعها بعزيمة خارقة في تطور متصاعد بعيد المدى، وهي في تقدمها هذا تزعزع وتقوض ما بقي من الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية المتدهورة؛ وقد تعرضت الحكومات الفرنسية المتتالية كلها لأزمات سياسية لم يسبق لها نظير، فبعد أن أرغمت على التخلي عن مستعمراتها في آسيا اعتقدت أنها تستطيع الاحتفاط بمستعمرات أفريقيا، ولما أحست بأنها لا تقوى على مجابهة (فساد الحالة في أفريقيا الشمالية، أطلقت العنان لتونس والمغرب عساها أن تحتفظ بالجزائر).

أ - عظة التجارب التونسية والمغربية

إن هذه السياسة التي لا تستند إلى أسس واقعية قد أسفرت بالخصوص عن سلسلة من الهزائم المعنوية التي تعاقب بسرعة في كافة الميادين: الاستياء في فرنسا، حركات إضراب من العمال، ثورات التجار، اضطرابات الفلاحين، العجز في الميزانية،

ص: 40

التضخم المالي، ضعف الانتاج، الكساد الاقتصادي، القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، تسليم إقليم السار لألمانيا الغربية.

ثم إن الزحف الثوري في شمال أفريقيا على الرغم من انعدام خطة سياسية مشتركة لضعف لجنة تحرير المغرب في أساسها قد اضطر الاستعمار الفرنسي إلى وضع خطة دفاعية ارتجالية مستعملا كل أنواع القمع الاستعبادي التقليدي، والمحادثات الفرنسية - التونسية التي كان المفروض أن تقوم بمثابة حاجز استعماري على الطريقة الجديدة، قد أصبحت متأخرة من أثر الخط الشعبي، ومن الضربات التي انهالت على الاستعمار في البلدان الشقيقة الثلاثة، وكان تطور الأزمة المغربية السريع، ودخول الجبليين في الكفاح المسلح، معززين جانب المقاومة في الحضر، ولا سيما أثر الثورة الجزائرية، كل ذلك كان من العوامل الفعالة في انقلاب الموقف الرسمي الفرنسي وفي استقلال المغرب. وهذا التغيير المفاجىء في سلوك الحكومة الاستعمارية التي تخلت عن الجمود وأوغلت في طريق البحث عن حل عاجل، إنما دعت إليه أسباب استراتيجية هي:

1 -

منع تكوين جبهة ثانية حقيقية بإنهاء الاتحاد بين الكفاح المسلح في الريف المغربي وفي الجزائر.

2 -

القضاء على وحدة الكفاح في بلدان شمال أفريقيا الثلاثة (تونس والجزائر والمغرب).

3 -

عزل الثورة الجزائرية التي كانت صبغتها الشعبية تجعلها أشد خطرا.

ص: 41

ولكن جميع تقديرات المستعمرين قد خابت؛ فقد كان الغرض من المفاوضات التي أجريت على حدة، هو خداع بعض زعماء البلدين الشقيقين، أو إغرائهم ودفعهم إلى التخلي عن علم أو عن جهل، عن الميدان الحقيقي للكفاح الثوري، والوصول بهذا الكفاح حتى نهايته. ويمتاز الوضع السياسي في (شمال أفريقيا) باندماج القضية الجزائرية في القضية المغربية وفي القضية التونسية، بحيث تشكل القضايا الثلاث قضية واحدة.

والواقع أن استقلال المغرب وتونس من غير استقلال الجزائر هو مجرد عبث (لغو) لا قيمة له؛ فالتونسيون والمغاربة لم ينسوا أن فتح فرنسا بلادهم قد جاء في أعقاب فتح الجزائر، وقد أصبحت شعوب المغرب العربي الآن مقتنعة بعد التجربة بأن الكفاح المشتت ضد عدو مشترك ليس له مآل غير الهزيمة للجميع، لأن كل واحد يمكن قهره على حدة، وإنه لخطأ فاحش وضلال بعيد أن يعتقد أحد أن باستطاعة المغرب وتونس التمتع باستقلال حقيقي إذا ما بقيت الجزائر رازحة تحت نير الاستعمار.

فإن الساسة الاستعماريين، الخبراء في الغش الديبلوماسي، الذين يأخذون بيد ما يعطونه باليد الاخرى لا يفوتهم أن يفكروا في إعادة فتح هذين البلدين بمجرد ما تظهر لهم ظروف دولية مواتية، بيد أنه من - الأمور الهامة جدا، أن الزعماء المغاربة والتونسيين قد شرعوا يعبرون في تصريحاتهم المتكررة عن وجهات نظر تلتقي بوجهة نظر جبهة التحرير الوطني.

ب - سياسة الحكومة (الفرنسية) في الجزائر

ما لبثت الحكومة (الفرنسية) ذات الرياسة الاشتراكية، أن

ص: 42

رجعت في السادس من شباط - فبراير - 1956 وبعد المظاهرة الاستعمارية في الجزائر، عن الوعود التي وعدت بها (الجبهة الجمهورية) قبل الانتخابات من إعادة السلم إلى الجزائر عن طريق المفاوضات، وإرجاع الجنود - الفرنسيين - إلى منازلهم، وتحطيم الاقطاعيات المالية والإدارية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإغلاق المحتشدات.

ولئن كان (منديس فرانس) يمثل في الحكومة - قبل استقالته - النزعة الراغبة في المفاوضة، ضد النزعة المعارضة الذي يمثلها

(بورجيس مونوري) و (لاكوست) من دعاة القوة والحقد، فإن سياسة (لاكوست) هي التي أصبحت تحظى بالإجماع، إنها سياسة الحرب العوان ضد الشعب الجزائري عن طريق محاولة فصل الثورة عن الشعب بالمحق والإبادة، وهي محاولة باتت ضربا من الوهم والخيال.

ولا يمكن أن يقع أي خلاف أمام هذا الهدف الذي وافقت عليه الحكومة بإجماع إلا إذا أخفقت سياسة الإبادة هذه التي تدعى (سياسة التهدئة)؛ إنه لجلي واضح أن الأهداف السياسية التي أعلنها (غي مولي) من جديد ليس الغرض منها إلا ستر المشروع الحقيقي الذي هو القضاء على جميع قوانا الحية قضاء مبرما. فالحملة العسكرية المدفوعة بحملة سياسية هي معرضة لا محالا للفشل الذريع.

لقد ظل (الاعتراف بالشخصية الجزائرية) قولا مبهما لا ينطوي على معنى حقيقي ملموس دقيق، والحل السياسي الذي اعلن باختصار لم يكن قائما إلا على مبدأين اثنين: مشاورة الجزائريين

ص: 43

بواسطة انتخابات حرة، ووقف القتال. ولم يكن إعلان الإصلاحات الجزئية الطفيفة إلا كصرخة في واد، لا يبالي بها أحد وهي ترمي إلى إلغاء تمثيل الجزائر في البرلمان بصفة مؤقتة، وحل المجلس الجزائري وتطهير الشرطة تطهيرا خفيفا، وتبديل ثلاثة من كبار الموظفين، والزيادة في الأجور الفلاحية، وتعيين المسلمين في الوظائف العمومية في بعض المناصب الإدارية، والإصلاح الزراعي والانتخابات في هيئة ناخبة واحدة، واليوم تعلن حكومة (غي مولي) وجود ستة أو سبعة مشاريع لوضع دستور الجزائر الذي تكون خطته الأساسية هي إنشاء مجلسين أحدهما تشريعي والثاني اقتصادي مع حكومة تتألف من وزراء مندوبين ويرأسها وجوبا وزير من أعضاء الحكومة الفرنسية، وهذا يدل من جهة على التطور الذي وقع في الرأي العام بفرنسا بفضل جهادنا، كما يدل من جهة أخرى على الحلم الجنوني الذي لا يزال يحلم به الساسة الفرنسيون حين يعتقدون أننا سنرضى بتواطوء مخجل كهذا. ثم إن محاولة التفريق بين هيئة المقاومة وتضامن الشعب الجزائري التي دعا إليها (نيجلان) في الميدان الداخلي قد تقرر شفعها بمحاولة فصل الثورة الجزائرية عن تضامن الشعوب المناهضة للاستعمار في الميدان الخارجي، وتولى (بينو) القيام بها، ولكن جبهة التحرير الوطني ستخيب مساعي العدو المقبلة، كما خيبتها في الماضي.

2 -

البوادر السياسية

لقد قام الدليل على أن الثورة الجزائرية ليست بحركة تمرد فوضوية محدودة، دون انسجام ولا إدارة سياسية، أو أنها معرضة للفشل. ولقد قام الدليل - أيضا - على أنها بالعكس ثورة حقيقية

ص: 44

منظمة وطنية شعبية لها إدارة مركزية، وتقودها أركان حرب قادرة على الوصول بها إلى النصر النهائي.

لقد قام الدليل على أن الحكومة الفرنسية أيقنت أنه من المحال تسوية القضية الجزائرية عن طريق الحل العسكري، فأصبحت مضطرة إلى البحث عن حل سياسي.

ومقابل ذلك، اقتنعت جبهة التحرير الوطني بمبدأ:(أن المفاوضات تأتي تتويجا لكفاح مستمر ضد عدو غاشم، وليست قبل ذلك أبدا)، وموقفنا في هذا المجال يعتمد على ثلاثة اعتبارات جوهرية، للانتفاع بتوازن القوى:

1 -

اتخاذ مذهب سياسي واضح.

2 -

توسيع نطاق الصراع المسلح توسيعا مستمرا حتى تصبح الثورة عامة.

3 -

القيام بنشاط سياسي واسع النطاق.

أ - لماذا نحارب

للثورة الجزائرية مهمة تاريخية هي القضاء بصفة نهائية لا رجعة فيها على النظام الاستعماري البغيض والمنحط والذي يحول دون الرقي والسلم، (ويتطلب ذلك التعرض للنقاط التالية):

أولا: الأهداف الحربية.

ثانيا: وقف القتال.

ثالثا: المفاوضات للسلم.

أولا: أهداف الحرب

أهداف الحرب هي نهاية الحرب التي منها تبدأ أهداف السلم.

ص: 45

متظاهرون جزائريون: انهم يقفون وجها لوجه مع رجال الأمن الجمهوري

ص: 46

وأهداف الحرب هذه هي الحالة التي نصل بالعدو فيها لحمله على قول أهدافنا السلمية؛ وهذه الحالة تكون إما النصر العسكري الحاسم (الاستسلام من دون قيد ولا شرط) و (إلحاق الهزيمة به) أي (الانكسار التام لقواته)، وإما أن تكون هي البحث عن (وقف للقتال) أو (هدنة) بقصد المفاوضات والحاصل، أن أهدافنا الحربية بالنظر إلى مواقفنا السياسية والعسكرية هي:

1 -

إضعاف الجيش الفرنسي إضعافا تاما، بحيث يصبح من المحال عليه الانتصار بالسلاح.

2 -

تدمير الاقتصاد الاستعماري على نطاق واسع، بعمليات التخريب والإتلاف حتى يصبح من المتعذر إدارة البلاد.

3 -

الإخلال إلى أقصى حد ممكن بالحالة في فرنسا في الميدان الاقتصادي والاجتماعي حتى يصبح من المحال عليه متابعة الحرب.

4 -

عزل فرنسا سياسيا في الجزائر وفي العالم.

5 -

توسيع الثورة إلى حد يجعلها مطابقة للقوانين الدولية (إعطاء الجيش شخصيته، وتنظيم حكم سياسي يمكن الاعتراف به، واحترام قوانين الحرب، وتنظيم إدارة عادية - مدنية - للمناطق التي يحررها جيش التحرير الوطني.

6 -

مؤازرة الشعب مؤازرة ثابتة، ودائمة، أمام الجهود التي يبذلها الفرنسيون لإبادته.

ثانيا: وقف القتال

أ - الشروط السياسية

1 -

الاعتراف بالشعب الجزائري شعبا واحدا لا يتجزأ وهذا الشرط ينفي الوهم الاستعماري (الجزائر الفرنسية).

ص: 47

2 -

الاعتراف باستقلال الجزائر وسيادتها في جميع الميادين، بما فيها الدفاع الوطني والديبلوماسية.

3 -

الإفراج عن جميع الجزائريين والجزائريات، الأسرى والمعتقلين والمنفيين، بسبب نشاطهم الوطني، قبل وبعد نشوب الثورة الوطنية في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954.

4 -

الاعتراف بجبهة التحرير الوطني بصفتها الهيئة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري، وأنها وحدها مؤهلة للقيام بأية مفاوضات، ومقابل ذلك، فإن جبهة التحرير الوطني تتعهد بوقف القتال، وهي المسؤولة عنه بالنيابة عن الشعب الجزائري.

ب - الشروط العسكرية

(تعرض فيما بعد)

ثالثا: المفاوضات للسلم

1 -

يمكن إجراء المفاوضات إذا توافرت شروط وقف القتال، وجبهة التحرير الوطني هي المفاوض الصحيح والوحيد، وإن جميع الوسائل المتعلقة بتمثيل الشعب الجزائري هي من اختصاص (جبهة التحرير) وحدها (الحكومة والانتخابات الخ

) وعليه فلا يقبل أي تدخل في الأمر من طرف الحكومة الفرنسية.

2 -

تجري المفاوضات على أساس الاستقلال، بما يشمله من الديبلوماسية والدفاع الوطني.

3 -

تحديد نقط المفاوضات.

* - حدود القطر الجزائري (الحدود الحاضرة - بما تتضمنه من الصحراء الجزائرية).

* - الأقلية الفرنسية (على أساس الخيار بين الجنسية

ص: 48

الجزائرية أو الجنسية الأجنبية - لا تخص بنظام تفضيلي - ولا جنسية مزدوجة جزائرية وفرنسية).

* - الأملاك الفرنسية: (أملاك الدولة الفرنسية، أملاك المواطنين الفرنسيين).

* - نقل الاختصاصات (الإدارة).

* - أشكال المساعدة الفرنسية في الميادين الاقتصادية والنقدية والاجتماعية والثقافية الخ

* - مسائل أخرى.

تقوم حكومة جزائرية، في الطور الثاني بالمفاوضات، وتكلف بتبيان محتوى الفصول، وتنشأ هذه الحكومة من مجلس تأسيسي ينشأ هو نفسه عن انتخابات عامة.

اتحاد شمال أفريقيا

ستعنى الجزائر الحرة المستقلة بتحطيم الحواجز العنصرية التي أقيمت على الحيف الاستعماري، وتعزيز الوحدة والإخاء على

أسس جديدة في الشعب الجزائري، الذي ستسفر نهضته عن بروز شخصيته المزدهرة. غير أن الجزائرين سوف لا يتركون حبهم للوطن - وهو تلك العاطفة النبيلة الكريمة - يتحول إلى وطنية متعصبة ضيقة عمياء؛ فهم (شمال أفريقيون) مخلصون يتعلقون تعلقا شديدا أو متبصرا بالتضامن الطبيعي والضروري بين بلدان المغرب الثلاثة، وتؤلف شمال أفريقيا مجموعة كاملة:(الجغرافية والتاريخ واللغة والحضارة والمصير)، ومن ثم، يجب أن يسفر هذا التضامن بالطبع عن تأسيس اتحاد لدول شمال أفريقيا الثلاث، وإن من مصلحة الشعوب الشقيقة الثلاثة أن تبدأ

ص: 49

بتنظيم دفاع مشترك، واتجاه ونشاط ديبلوماسي مشترك، وحرية المبادلات، وخطة مشتركة ومفيدة في التجهيز والتصنيع وسياسة نقدية مشتركة والتعليم، وتبادل الأركان الفنية والاختصاصية والمبادلات الثقافية، واستثمار الثروات الباطنية والنواحي الصحراوية التابعة لكل بلد.

المهام الجديدة لجبهة التحرير الوطني في إعداد الثورة الشاملة

إذا ظهرت بوادر لافتتاح مفاوضات للسلم، فينبغي أن لا يكون ذلك مدعاة للانتشاء بالفوز، لأن ذلك يؤدي لا محالة إلى نوع من الاسترخاء، وإلى تناقص اليقظة والانتباه، والفتور في العزائم، مما قد يضعضع التناسق السياسي لدى الشعب، ويقتضي الطور الحاضر للثورة الجزائرية متابعة الصراع المسلح بشدة وقوة، وتدعيم المواقف وتنمية القوى العسكرية - السياسية للمقاومة.

إن افتتاح المفاوضات، والمضي فيها حتى نهايتها الناجحة، متوقف أولا على النسبة التي تكون بين القوى المتصارعة، ولذا

يجب العمل فورا، وبدقة واتقان، من أجل تحويل الجزائر إلى معسكر محض منيع. تلك هي المهمة الي يجب على جبهة التحرير الوطني وجيشها إنجازها بشرف ومن غير تأخير، ولهذا الغرض، فإن الأمر الأساسي، والأكثر أهمية، هو: كل شيء

لدعم جبهة الكفاح المسلح، وكل شيء لنيل النصر الحاسم.

لم يعد استقلال الجزائر ذلك المطلب السياسي وذلك الحلم الذي طالما علل الشعب الجزائري به نفسه وهو رازح تحت نير السيطرة الفرنسية؛ بل إنه اليوم الغاية الأولى التي أخذت تدنو بسرعة

ص: 50

خاطفة، لتصير في العاجل حقيقة ناصعة. إن جبهة التحرير الوطني تتقدم بخطى واسعة لتهيمن على الحالة في الميدان العسكري والميدان السياسي والميدان الديبلوماسي.

الأهداف الجديدة:

العناية من الآن، وبصفة منتظمة دائبة، بإعداد الثورة العامة التي لا تنفصل من التحرير الوطني.

أ - إضعاف الهيكل العسكري والبوليسي (الشرطة والدرك - الجندرمة) والإداري والسياسي للاستعمار.

ب - توفير الوسائل المادية، والاهتمام بذلك من دون انقطاع.

ج - تدعيم تناسق العمل السياسي والعسكري وتطويره (ترقيته).

مجابهة المناورات التي لا بد أن يقوم بها العدو للتفرقة أو العزل أو الاشغال (التلهية) بحملة معاكسة متبصرة وشديدة قائمة على إحكام الثورة الشعبية التحريرية وتعزيز جانبها، وذلك:

أ - تمتين الاتحاد الوطني المناهض للامبريالية.

ب - الاعتماد بالخصوص على الطبقات الاجتماعية التي هي أكثر عددا وأشد فقرا، وأكبر استعدادا وميلا للثورة، وهي طبقات الفلاحين - العمال الزراعيين.

ج - إقناع المتأخرين بصبر وثبات، وتشجيع المترددين والضعفاء والمعتدلين وتنبيه الغافلين.

د - عزل المتطرفين من الاستعماريين، بالسعي في الحصول على تأييد الأحرار من الأوروبيين أو اليهود، وإن كان عملهم لا زال فاترا أو محايدا.

وفي الميدان الخارجي، يجب السعي للحصول على أقوى ما

ص: 51

المرتزقة - جند الاستعمار في مواجهة غضبة الشعب الجزائري

ص: 52

يمكن من التأييد المادي والمعنوي والروحي.

أ - تصعيد تأييد الرأي العام.

ب - تنمية الإعانة الددبلوماسية بجذب حكومات البلاد التي جعلتها فرنسا في الحياد، أو التي لم تطلع اطلاعا كافيا على الصفة الوطنية لحرب الجزائر، وحمل هذه الحكومات على مناصرة القضية الجزائرية.

3 -

وسائل العمل والدعاية

تبرز البوادر السياسية العامة التي سبق وصفها، القيمة الحقيقية لوسائل العمل التي لا بد لجبهة التحرير أن تستخدمها لتحقيق النصر التام في الكفاح الجليل الذي تقوم به في سبيل استقلال الوطن. وسنحاول هنا أن نبين مجمل هذه الوسائل في الميدان الجزائري، والشمال الافريقي والفرنسي والأجنبي.

1 -

كيفية تنظيم وقيادة ملايين الرجال للكفاح العظيم

إن الاتحاد الروحي والسياسي للشعب الجزائري الذي التحم وتوطد في الكفاح المسلح قد أصبح اليوم حقيقة تاريخية، وهذا الاتجاه القومي الوطني المناهض للاستعمار هو القاعدة الأساسية للقوة السياسية والعسكرية للمقاومة، ويجب أن يحافظ على هذا الاتحاد تاما كاملا غير ممسوس ولا منقوص، نشيطا حازما، كما يجب اجتناب الأخطاء التحزيبية أو الانتهازية، وهي أخطاء لا تغتفر لأن من شأنها أن تيسر للعدو مناورته ومكائده الشيطانية، وأفضل وسيلة لذلك هي إبقاء جبهة التحرير الوطني بصفتها المرشد الوحيد للثورة الجزائرية، وينبغي أن لا يؤول هذا الشرط بحب الظهور الأناني أو بالزهو والغرور الذي هو خطير بقدر ما هو حقير.

ص: 53

إن تحقيق (وحدة القيادة) هو مبدأ ثوري، ويتم ذلك عن طريق (هيئة أركان حرب) برهنت على مقدرتها وبعد نظرها وإخلاصها لقضية الشعب الجزائري.

يجب علينا ألا ننسى أبدا، أن قوة الاستعمار الفرنسي لم تكن قبل اندلاع الثورة متكونة من قوته العسكرية والبوليسية (أجهزة شرطته) فحسب، بل كانت متكونة أيضا من ضعف بلادنا التي كانت تحت السيطرة، متفرقة غير متأهبة للكفاح المنظم، الأمر الذي زاد من قوة زعماء مختلف أجزاء الحركة الاستعمارية زمنا طويلا. وعلى هذا، فإن وجود جبهة تحرير وطني قوية ولها جذورها العميقة في كافة طبقات الشعب، إنما هو ضمان من الضمانات الضرورية.

أ - تنظيم جبهة التحرير الوطني تنظيما شاملا في كل أنحاء البلاد: في كل مدينة وقرية، في كل عرش وحارة، في كل معمل

وجامعة ومدرسة الخ

ب - نشر الوعي السياسي في مراكز الثورة.

ج - انتهاج سياسة تقوم على إطارات مدربة تدريبا سياسيا، ومحنكة، تحرص على احترام هيكل المنظمة ومتيقظة وقادرة على الإبداع - الابتكار -.

د - الرد بسرعة وبوضوح على جميع الأكاذيب، واستنكار أعمال الاستفزاز، وتعريف أوامر جبهة التحرير الوطني، بنشر مكاتب كثيرة ومتنوعة، تبلغ جميع الدوائر حتى المحصورة منها.

هـ - إكثار مراكز الدعاية، وتجهيزها بآلات الكتابة والطباعة والورق (لنسخ الوثائق الوطنية العامة، وطبع المنشورات المحلية)، وطبع رسائل في الثورة، وإصدار نشرات داخلية

ص: 54

للتعليمات والإرشادات الموجهة للإطارات (الكادرات)، ويجب التشبع بالمبدأ: ليست الدعاية ذلك الهرج والمرج المتميز بعنف القول الذي يكون عقيما كالزبد يذهب جفاء. أما وقد أصبح الشعب الجزائري مدركا للأوامر، ومستعدا للعمل المسلح الإيجابي المثمر، فإن كلام جبهة التحرير يجب أن يكون معبرا عن رشد الشعب باتخاذه شكلا جادا معتدلا، دون أن ينقصه الحزم والصدق والحماسة الذي هو من فضائل الثورة. كل منشور، أو تصريح، أو حديث، أو نداء، يصدر عن جبهة التحرير الوطني، صار يترك اليوم أصداء قوية في المحافل الدولية، ولذا يجب علينا العمل بشعور المسؤولية الحقيقي، وبما يشرف السمعة العالمية التي تتمتع بها الجزائر السائرة قدما في طريق الحرية والاستقلال.

2 -

تصفية الجو السياسي.

يجب علينا للمحافظة على اتجاه المقاومة القائمه كلها لتدمير العدوان، أن نزيل جميع الحواجز والعراقيل التي أقامتها على طريقنا كل العناصر، الشاعرة أو غير الشاعرة، بعملها المفسد الذي أبدت التجربة سوءه ومضراته.

3 -

تحويل السيل الشعبي إلى طاقة خلاقة.

يجب أن تكون جبهة التحرير الوطني قادرة على توجيه الموج الجبار الذي يهيج الحماسة الوطنية، ويجب أن لا تضيع الغضبة الشعبية ذات القوة الهائلة للشعب التي لا تقاوم، كما تضع قوة السيل الجارف عندما تغور في الرمل. ولتحويل هذه القوة إلى طاقة خلاقة منتجة، شرعت جبهة التحرير الوطني في عمل جبار لاستخدام الملايين من الرجال، لأنه يجب أن تكون الجبهة حاضرة

ص: 55

في كل مكان، ويجب تنظيم فروع النشاط البشري في أشكال عديدة كثيرا ما تكون مركبة معقدة.

أ - الحركة الفلاحية

إن الأغلبية الساحقة للفلاحين والخماسين والعمال الزراعيين في الثورة، والنسبة القوية التي يمثلونها بين المجاهدين والمسلمين في جيش التحرير الوطني قد دل دلالة بالغة على الصفة الشعبية التي تتصف بها الثورة الجزائرية، وحسبنا لتقدير تلك الأهمية الاستثنائية أن ننظر إلى الانقلاب الكبير الذي وقع في السياسة الزراعية الاستعمارية؛ فبينما كانت هذه السياسة قائمة بصورة خاصة على اغتصاب أراضي الأوقاف والأعراش والملاك، وقد استمرت إجراءات نزع الملكية الى غاية سنتي 1945 و1946، وأصبحت الحكومة الفرنسية اليوم تدعو إلى إصلاح زراعي وتقطع الوعود المتتالية بتوزيع قسم من الأراضي المروية (السقي)، وتنفيذ قانون (مارتان) الذي ظل حبرا على ورق بسبب مقاومة موظف كبير من خدام الاستعمار الجبار، وهذا (لاكوست) ذاته يجرؤ على التفكير في إجراء تدبير ثوري وهو نزع الملكية من بعض الأملاك الكبرى. ولحفظ التوازن، وتأمين كبار المعمرين وتهدئة اعتراضهم وثورتهم، قررت الحكومة الفرنسية إجراء إصلاح في (نظام الخماسة)؛ وهو تدبير خادع يريد أن يوهم بوجود خلاف بين الفلاحين والخماسين.

والواقع، أن الزراعة تطورت تطورا طبيعيا نحو وضعية أكثر إنصافا دون تدخل الدوائر الرسمية، وتحولت بصفة عامة إلى (شركة بالنصف)، وإن تغيير الأسلوب هذا ليدل على ما اعترى الاستعمار من الذبذبة والبلبلة، حيث أضحى يعمد إلى

ص: 56

خداع الفلاحين ليصرفهم عن الثورة، وهذه المؤامرة الفاحشة لا تخدع الفلاحين الذين سبق وأن أحبطوا خرافة (مسألة السكان الأصليين) التي كانت تدعو الى تقسيم الجزائريين إلى تقسيم مصطنع ما بين (عرب وبربر) بهدف إثارة العداء والبغضاء فيما بينهم، وصار الفلاحون يعرفون، ويؤمنون، بأن حبهم للأرض لا يمكن أن يشفى غليله إلا بتحقيق الانتصار والاستقلال الوطني. فالإصلاح الزراعي الحقيقي الذي هو الحل الوطني لمشكلة البؤس التي تتخبط فيها البوادي ملازم لهدم النظام الاستعماري هدما تاما شاملا، ويجب على جبهة التحرير الوطني أن تخوض في هذه السياسة العادلة الاجتماعية المشروعة، وستكون نتائجها كالتالي:

أ - الحقد الشديد على الاستعمار الفرنسي وإدارته وجيشه وشرطته والخونة المساعدين له.

ب - تكوين قوات احتياطية لا تنفذ لجيش التحرير والمقاومة.

ج - نشر أسباب الخطر في البوادي (بأعمال الإتلاف وإحراق المزارع وتحطيم محلات الجمعيات التعاونية للتبغ والخمر، والتي هي رمز وجود الاستعمار).

د - إحداث الشروط لتنظيم ودعم المناطق المحررة الجديدة وتعزيزها.

ب - الحركة العمالية.

ينبغي لطبقة العمال أن تساهم مساهمة أقوى يظهر أثرها في التطور السريع للثورة ودعم قوتها، ونجاحها النهائي، وجبهة

التحرير الوطني، تحيي تأسيس (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) كرد فعل سليم قام به العمال ضد التأثير الذي كانت تمارسه (جامعة

ص: 57

الشغل العامة. س. ج. ت) و (القوة العمالية. ف. أو) و (الجامعة الفرنسية للعمال المسيحيين. س. ف. ت. س) لشل حركة العمال وعرقلتها. ويعمل الاتحاد العام للعمال الجزائريين على إخراج الطبقة العاملة من الظلمات الى النور، ومن الغموض إلى الوضوح، ومن الانتظار والتردد إلى الإقدام والسير إلى الأمام، وقد قلقت الحكومة الفرنسية الاشتراكية، وقلقت معها (نقابة القرة العمالية. ايف، او) ذات النزعة الاستعمارية الجديدة، قلقا كبيرا من انضمام (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) إلى (الجامعة الدولية للنقابات الحرة) التي كانت مساعدتها لكل من الاتحاد العام للعمال التونسيين، والهيئة المركزية للعمال المغاربة، إيجابية مفيدة في محتلف الميادين الوطنية والخارجية.

وفعلا، فقد أحدث ميلاد (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) وتطوره، ضجة بعيدة المدى، وأثار بروزه إلى الوجود اضطرابا عنيفا في صفوف جامعة الشغل العامة، التي انصرف العمال عنها انصرافا كليا، وقد حاول المسؤولون الشيوعيون أن يحتفظوا بالرؤساء الواعين من العمال ببعث روح النقابة القديمة التي كان شعارها استقلال الجزائر، ولكنه دفن بعد تكوين الوحدة النقابية في سنة 1935. ولكن هذه الهيئة النقابية التي هي فرع للجامعة العامة التي مقرها بباريس، لا يكفيها لتصبح هيئة مركزية وطنية أن تغير اسمها، وتبدل لون بطاقة الاشتراك، وتقطع الصلة النسبية الواهية التي بينهما، وكذلك لا يكفي (الاتحاد العام للنقابات الجزائرية - او. ج. س. أ) أن يغير شكله أو مظهره الخارجي ليتكيف مع الوظائف الجديدة للحركة العمالية التي بلغت مرحلة النضح التام.

وكل من يتأمل مناورات الشيوعية لا يلبث أن يجد فيها نفس

ص: 58

الوسائل التي درج عليها الاستعماريون الذين أشرفوا على تحويل (المجلس الحالي) إلى ذلك (المجلس الجزائري) الفاسد الوضيع. وإن ارتقاء بعض أعضائها العاملين إلى مراكز ومناصب في الإدارة النقابية، ليذكر بالترقية الرمزية لبعض النواب الموالين للإدارة - الفرنسية -. وفي الحالتين، كان ينبغي تغيير الهدف والطبيعة والمحتوى، سواء في النادي المدني (فواييه سيفيل) أو في قصر كارنو (مركز المجلس الجزائري). وما كان لعجز إدارة الحزب الشيوعي الجزائري في الميدان السياسي؛ إلا أن يبدو أثره في الميدان النقابي، وينجر عنه ذات الفشل والإخفاق. وما الاتحاد العام للعمال الجزائريين إلا صورة تعكس التحول العميق الذي طرأ على الحركة العمالية بعد مدة طويلة من التطور وخاصة عقب الانقلاب الثوري الذي أثاره الكفاح من أجل الاستقلال الوطني. وتختلف الهيئة المركزية الجزائرية الجديدة عن سواها من المنظمات النقابية في جميع الميادين، وتختلف عنها خاصة بانتفاء الوصاية عليها وباختيار القادة والهيكل المحكم والتوجيه السليم والتضامن الأخوي في الجزائر، وفي شمال أفريقيا، وفي العالم أجمع:

1 -

إن الطابع الوطني يبدو في حرية ذاتية أساسية تقضي على جميع التناقضات التي تلازم كل وصاية خارجية، ويظهر أيضا - هذا الطابع الوطني - في حرية كاملة لمعالجة كل ما له علاقة بالدفاع عن العمال الذين تتلاحم مصالحهم الحيوية بمصالح كل الشعب الجزائري.

2 -

ليست الإدارة متألفة من أعضاء يتم اختيارهم من بين أقلية جنسية لم تعرف الاضطهاد الاستعماري، ولكنها متألفة من رجال وطنيين لهم وعي وطني يشحذ فيهم روح الكفاح ضد الاستغلال

ص: 59

الاجتماعي والبغض العنصري.

3 -

لا يتكون - عمودها الفقري - من أرسقراطية عمالية (كالموظفين وعمال السكة الحديدية) ولكنه يتألف من الطبقات التي هي أكثر عددا وأشد تعرضا للاستغلال الفادح (كعمال الموانىء والمناجم والعمال الزراعيين، أي المنبوذين الذين تركوا كالفريسة تحت رحمة السادة أصحاب مزارع الكروم).

4 -

إن الروح الثورية تطهر الجو النقابي باستئصال روح الاستعمار الجديد والتعصب الوطني المتولد عنه، وليس ذلك فحسب، بل إنها تطهره أيضا بتكوين الظروف والشروط الملائمة لإظهار الأخوة بين العمال، أخوة لا تنفذ إليها روح العنصرية.

5 -

إن الروح النقابية التي طالما حصرت في نطاق المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وبقيت بمعزل عن النشاط العام الشامل، قد باتت مؤهلة لتجاوز العوائق التي كانت تعطل الكفاح، وذلك لتحقيق المزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية.

6 -

لقد كانت الطبقة العاملة الجزائرية موصوفة بالقصور، وبأنها لا تستحق التوعية والترشيد، وجاءتها الآن الفرصة: لا من أجل القيام بدور ثانوي منحط في الحركة الاجتماعية الفرنسية، ،وإنما من أجل التعاون الزاهر مع الحركة العمالية في شمال أفريقيا (المغرب العربي - الإسلامي) وفي العالم كله.

7 -

إن الاتحاد العام للنقابات الجزائرية (س. ج. ت) سيضطر حتما إلى الانحلال والاضمحلال، شأنه في ذلك شأن شبيهاته من المنظمات النقابية في تونس والمغرب، وسيفسح المجال (للاتحاد العام للعمال الجزائريين) الذي هو النقابة الوطنية

ص: 60

الحقيقية الوحيدة التي التف حولها جميع العمال الجزائريين دون تفريق أو تمييز.

وينبغي لجبهة التحرير الوطني أن لا تهمل الدور السياسي الذي يمكن لها أن تقوم به لمساعدة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وتكمل عمله النقابي الحر في سبيل تعزيز هذه الهيئة النقابية وتقويتها.

وعليه، يجب على المناضلين في جبهة التحرير الوطني أن يكونوا من أشد الناس إخلاصا لها، وأكثرهم نشاطا وأوفرهم اهتماما باحترام القواعد الديموقراطية، جريا على عادة التقاليد في كل حركة عمالية حرة، ولهذا الغرض يجب تحاشي (تجنب) التعميم، والأخذ بكل حالة من الحالات بصورة مستقلة، وتحديد أشكال النشاط طبقا للظروف الوقتية - المرحلية - (مثل وقف العمل - الشغل - وقفا محدودا، وتنظيم إضرابات محلية للتضامن).

* - إشراك العمال الأوروبيين في الحركة.

* - تحقيق التعاطف مع جيش التحرير الوطني، وتحويل المقاومة إلى تأييد عملي عن طريق الاكتتاب - الاشتراك - وتجهيز المجاهدين، والقيام بأعمال التخريب - الاتلاف - والاضرابات التضامنية والاضرابات السياسية.

ج - حركة الشباب

يمتاز الشباب الجزائري بما طبع عليه من النشاط والحيوية والإخلاص والبطولة، كما أنه يمتاز بأمر نادر وهو أنه يمثل ما يقرب من نصف مجموع السكان بسبب ازدياد المواليد بصفة استثنائية، وهو يمتاز أيضا بالنضح المبكر، حيث أنه بنتيجة البؤس والشقاء

ص: 61

والاضطهاد الاستعماري، قد انتقل من طور الطفولة إلى طور الرجولة، مختصرا مرحلة المراهقة إلى الحرية التي يصبو إليها بولع وشغف مع ازدراء الخوف والاستهانة بالموت، وهو يجد في الثورة الجزائرية، ومآثر جيش التحرير الوطني، والنشاط الذي تقوم به جبهة التحرير الوطني، ما يستجيب لشجاعته التي يغذيها شعور وطني شريف نبيل.

إنه بذلك يمثل الجانب الأعظم من قوة جبهة التحرير الوطني، وركنا متينا من أركان مقاومتها الجبارة.

د - المثقفون وأصحاب المهن الحرة.

مما دل دلالة واضحة على سلامة التوجيه السياسي وصحته، عودة المثقفين أو أصحاب المهن الحرة، إلى حظيرة الوطن الجزائري، وكون وعيهم الوطني لم تقض عليه محاولة (فرنستهم) وكذلك إقلاعهم عن المواقف الفردية والتي يمكن إصلاحها وعليه يجب:

1 -

تكوين لجان نشاط من بين المثقفين الوطنيين للأمور التالية:

أ - القيام بدعاية لاستقلال الجزائر.

ب - الاتصال بالديموقراطيين الأحرار من الإفرنسيين.

ج - افتتاح الاكتتابات.

ويجب على جبهة التحرير أن تسند اليهم بطريقة حكيمة صائبة مهمات معينة محدودة في الميادين التي يمكن لهم أن يقوموا فيها بعمل مفيد، كالأعمال السياسية والإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية وما إلى ذلك.

ص: 62

2 -

تنظيم مصالح صحية تشتمل على:

أ - جراحين وأطباء وصيادلة يكونون على اتصال بعمال المستشفيات (مثل الأطباء).

ب - تنظيم العلاج والحصول على الأدوية والضمادات.

ج - تنظيم عيادات في الأرياف للإشراف على معالجة المرض ومن يكون منهم في طور النقاهة.

د - التجار والصناع.

كانت النقابة التجارية الجزائرية التي يحتكرها (شيافينو) سيد الغرفة التجارية بالتعاون مع حركة (بو جاد) العنصرية الاستعمارية الفاشستية، لا تجد بجانبها إلا الفراغ التام، لعدم وجود هيئة مركزية تجارية وصناعية حقيقية، يديرها وطنيون كفيلون بالدفاع عن الاقتصاد الجزائري. ومن أجل هذا، فإن الاتحاد العام للتجار الجزائريين سيحتل مكانة هامة إلى جانب المنظمة الشقيقة، وهي (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) ومن واجب جبهة التحرير الوطني أن تساعد هذه المنظمة النقابية على التطور والتوسع، بتكوين الظروف والشروط السياسية المناسبة، وذلك بالعمل على:

1 -

مكافحة الضرائب.

2 -

مقاطعة كبار التجار الاستعماريين (البوجاديين) الذين يمدون الحرب الاستعمارية بمؤازرة نشيطة.

و- الحركة النسائية.

(سبق عرضها في الكتيبات السابقة)(*).

(*) انظر الكتاب الثالث عشر من هذه المجموعة (المجاهدة الجزائرية والارهاب الاستعماري).

ص: 63

4 -

البحث عن الأنصار.

يعتمد الجزائريون، أول ما يعتمدون، على أنفسهم في تحرير بلادهم، ويوصي العمل السياسي، (مثله مثل العلم العسكري وفي الحرب) بعدم إهمال أي عامل من العوامل، ولو كان ظاهره قليل الأهمية لإحراز النصر. ومن أجل هذا، شرعت (جبهة التحرير الوطني) وكانت موفقة، في تعبئة جميع القوى الوطنية، وهي تريد بذلك عدم السماح للعدو الاستعماري بالاستناد إلى جميع الأقليات، وحرمان الثورة من التضامن الدولي معها. وتتطلب عملية البحث عن الأنصار معالجة مراكز القوى التالية:

أ -الأحرار الجزائريون.

ب - الأقلية اليهودية.

ج - نشاط جبهة التحرير في فرنسا.

د - تضامن الشمال الأفريقي.

أ - الأحرار الجزائريون

للأقلية الأوروبية في الجزائر أهمية من حيث العدد، ينبغي أن يحسب لها حسابا، على خلاف ما في تونس والمغرب. وهذه الأقلية الأوروبية تعززها هجرة مستمرة إلى بلادنا مدعمة بعون رسمي، وهي تمد النظام الاستعماري بقسم كبير من أشد أعوانه تعنتا وعنصرية، ولكن الأوروبيين لا يشكلون كتلة متراصة حول المسيرين - الزعماء - من كبار المعمرين، وذلك بسبب التمايز بينهم في توزيع الامتيازات، وبسبب الدور الذي يمارسونه في المراتب الاقتصادية والإدارية والسياسية في نطاق النظام الاستعماري.

إن روح التفوق العنصري عندهم هي روح عامة، غير أن مظاهرها تختلف عن الحالة الجنوبية المعروفة عند أهل الجنوب من الولايات المتحدة، وهي تتأرجح بين حدي (التعصب الأعمى)

ص: 64

و (النفاق المختفي وراء العطف الأبوي). والاستعمار الفرنسي القابض على زمام الإدارة الجزائرية والشرطة والصحافة والإذاعة، قد استطاع غير ما مرة أن يمارس ضغطا على الرأي العام ويحوله الى فكرة رجعية. ومما يدل على مهارته ومقدرته في تدبير المكائد والدسائس في الاستفزاز، هو ما جرى من المظارات الصاخبة بمناسبة ذهاب (سوستيل) ويوم 6 - شباط - فبراير - 1956، وكانت نتيجتها خضوع رئيس الحكومة؛ لفرنسة واستسلامه (للمستوطنين).

وقد عمد الاستعمار بلوغ هدفه، على قذف الفزع في القلوب، فاتهم الحكومة بإهمال الأقلية الأوروبية، غير الإسلامية وإلقائها بين يدي (الوحشية العربية) وتركها ضحية (للحرب الدينية) وتسليمها لمكيدة أفظع من مكيدة (سان برتيليمي) الشهيرة. وييدو أن الشائعات التي اختلقها بوق الاستعمار (ريجاس) وأذاعها الجلاد (باتكي كريغو) في الصورة البشعة (الحقيبة أو الموت) أصبحت اليوم صورة تافهة.

والأحزاب الوطنية القديمة لم تول هذه المسألة ما تستحقه من الأهمية، فهي لم تكن تهتم إلا بالرأي العام الإسلامي، وكثيرا ما غفلت عن التصريحات النابية التي كان يدلي بها من حين لآخر بعض الدجالين المرابين الذين كانوا في الواقع يعينون العدو الأكبر، ولا زال الهجوم المضاد - المعاكس - حتى اليوم، ضعيفا ولا تستطيع الصحافة الديمرقراطية في فرنسا أن توقف السموم التي يبثها الاستعمار، ووسائل التعبير التي بيد جبهة التحرير الوطني غير كافية، ومن حسن الحظ أن المقاومة الجزائرية لم ترتكب أخطاء خطيرة تبرر التصريحات التي تنشرها الصحافة الاستعمارية الموالية للمصلحة البسيكولوجية للجيش الاستعماري، وقد دل على أكاذيبها

ص: 65

المفضوحة ما شهد به الصحافيون الفرنسيون والأجانب، وهذا الذي جعل الكتلة الاستعمارية العنصرية التي ظهرت يوم 6 - شباط - فبراير - تأخذ في التصدع، وأخذت البلبلة تزول وتفسح المجال شيئا فشيئا للشعور الواقعي، وثبت أن الرأي القائل بالحل العسكري الذي يهدف إلى إبقاء على ما كان عليه، إنما هو وهم باطل، وأصبحت مسألة الساعة اليوم هي: بعد رجوع السلم عن طريق المفاوضات، ما هي الوضعية التي ستخصص للذين يعتبرون الجزائر وطنا كريما سخيا، حتى بعد زوال حكم (بورجو)؟، وقد ظهر في هذا الشأن اختلاف في الميول والاتجاهات:

1 -

أصل هذه الميول هي فكرة (الحياد) وهي تعبر عن الأمل في ترك الغلاة من الاستعماريين يدافعون عن امتيازاتهم التي يهددها الوطنيون (المتطرفون).

2 -

أنصار الحل الوسط، أي المفاوضات لتنظيم جماعة جزائرية، تحتل موقعا متوسطا بين (الاستعمار الفرنسي) و (الاستعمار العربي) المتأخر، وذلك بإحداث جنسية مزدوجة.

3 -

أقوى الآراء جرأة، هي التي تقبل استقلال الجزائر والجنسية الجزائرية، بشرط الاعتراض على التدخل الأمريكي والبريطاني والمصري.

وهذا في الواقع تحليل مختصر لا يهدف إلى شيء سوى إبراز الخلاف الموجود في الرأي العام الأوروبي.

وعليه فمن الخطأ الفادح الذي لا يغتفر، أن ينظر إلى جميع الأوروبيين واليهود من سكان الجزائر بعين واحدة كما أنه من الخطأ الذي لا يغتفر توهم الوصول إلى كسبهم جميعا لصالح قضية التحرر الوطني، والهدف الذي

ص: 66

بجب إدراكه هو عزل العدو الاستعماري الذي يضطهده الشعب الجزائري - لذلك ينبغي لجبهة التحرير الوطني أن تعمل على تعزيز هذه الظاهرة النفسانية وتطويرها للقضاء على نشاط جزء كبير من السكان الأوروبيين، وليست غاية الثورة الجزائرية أن (تلقي في البحر) بالسكان الأوروبيين، ولكنها تريد تحطيم نير الاستعمار الوحشي، وليست الثورة الجزائرية حربا أهلية، ولا حربا دينية، وكل ما تريده الثورة الجزائرية هو أن تسترد الاستقلال الوطني، لإقامة جمهورية ديموقراطية اجتماعية تضمن مساواة حقه بين جميع سكان الوطن بدون تفريق ولا تمييز.

ب - الأقلية اليهودية

إن تقرير هذا المبدأ الأساسي الذي تقبله جميع المبادىء الأخلاقية العالمية يساعد على خلق في الرأي العام الاسرائيلي في استمرار تعايش سلمي يرجع تاريخه إلى آلاف السنين. فقد كانت الأقلية اليهودية، بادىء الأمر، متأثرة بالحملة التي شنها الاستعماريون لإضعاف معنوياتهم؛ فنادى ممثلوها في المؤتمر اليهودي العالمي الذي انعقد بلندن، بتمسكهم بالجنسية الفرنسية التي تجعلهم في مكانة أرقى من مكانة مواطنيهم المسلمين، ولكن تفجر الحقد للجنس السامي الذي أعقب المظاهرات الاستعمارية الفرنسية قد أحدث في نفوسهم اضطرابا عميقا لم يلبث أن تبعه رد فعل سليم للدفاع عن النفس، وكان أول رد فعل من جانبهم هو الاحتماء من خطر الوقوع بين نارين، وكانت أول ظاهرة له هي التبرؤ من اليهود أعضاء لجنة (8 تشرين الثاني - نوفمبر) و (الحركة البوجادية)؛ فقد خشي اليهود أن تثير حركة هؤلاء سخطا يتسبب في الانتقام من الطائفة كلها، ولقد أبدت المقاومة الجزائرية استقامة لا

ص: 67

خلل فيها، حيث قصرت ضرباتها كلها على الاستعمار وحده، فأدرك المترددون القلقون من اليهود أن هذه المقاومة التي تمتاز بالإباء والشهامة، ما هي إلا غضبة الضعفاء ضد الطغاة المتجبرين. ولقد قام في الحين رجال مثقفون وطلبة وتجار وبادروا إلى إثارة حركة في الرأي العام تدعو إلى شل أيدي كبار المعمرين وأعداء اليهود، وذلك لأنهم لم يكونوا بضعيفي الذاكرة، إذ انهم لم ينسوا نظام (فيشي) الوضيع الذي أخرج (185) مرسوما من القوانين والأوامر التي بمقتضاها حرموا من حقوتهم طوال أربع سنوات (من الحرب العالمية الثانية)، وطردوا من الإدارات والجامعات، وأخرجوا من ديارهم ومتاجرهم، وردوا من حليهم وجوارهم، وفرضت على إخوانهم اليهود في فرنسا ضريبة جماعية (بمبلغ مليار فرنك) وكانوا يطاردون ويعتقلون في محتشد (درانسي) ويرسلون في قطارت إلى (بولونيا) حيث قضى اأكثرهم نحبه في بيوت التعذيب، والنار ذات الوقود. وبعد تحرير فرنسا، سرعان ما استرد اليهود الجزائريون حقوقهم وأموالهم بفضل تأييد النواب المسلمين، وذلك بالرغم من اعتراض الإدارة الفرنسية التي بقيت متمسكة بمذهب (بيتان). فهل بلغ اليهود من السذاجة بحيث أصبحوا يعتقدون اليوم أن انتصار الاستعماريين الغلاة يجعلهم في مأمن من الأهوال والويلات التي عرفوها، وهم الذين صبوها عليهم فيما مضى؟

لا يزال اليهود الجزائريون حتى اليوم، لم يتغلبوا على اضطراب ضمائرهم، ولا عرفوا بعد أية وجهة يتخذونها، وأملنا أن يسير الكثير منهم على أثر أولئك الذين استجابوا لنداء الوطن الجزائري الكريم، وصادقوا الثورة بمطالبتهم منذ الآن في فخر واعتزاز بالجنسية الجزائرية، وإن اختيارهم هذا يعتمد على التجربة والخبرة والعقل

ص: 68

السليم والتبصر بالأمور. وعلى الرغم من الصمت الذي يلزمه (حاخام الجزائر العاصمة) على نقيض كبير الأساقفة الذي وقف موقفا كريما، حيث قام بشجاعة، وعلى مسمع ومرأى من الدنيا، فندد بالظلم الاستعماري، فإن أغلبية الجزائريين لم يعدوا الطائفة اليهودية ملتحقة بصف العدو نهائيا، وقد قضت جبهة التحرير الوطني على الاستفزازات الكثيرة التي دبرها الاخصائيون في الولاية العامة. وإذا استثنينا العقوبات الفردية التي أنزلت بالشرطة والحركة الإرهابية المضادة للمسؤولين عن جرائم، اقترفت ضد السكان الأبرياء، فقد تمت صيانة البلاد الجزائرية من كل ثورة ضد اليهود، ومقاطعه التجار اليهود قد قمعت في مهدها وقبل انطلاقها، وكان المفروض أن تعقب مقاطعة التجار (الميزابيين)؛ هذا الذي يفسر كون النزاع العربي - الإسرائيلي، لم يكن له في الجزائر صدى خطير، الأمر الذي كان - لو وقع - يصفق له أعداء الشعب الجزائري. وقد برهنت الثورة الجزائرية بالفعل على أنها جديرة بثقة الأقلية اليهودية، وأنها جديرة بأن تكفل لليهود حظهم من السعادة في الجزائر المستقلة، ولا تحتاج الثورة لاكتساب هذه الصفحة إلى البحث عما سجله تاريخ بلادنا من دلائل على التسامح الديني، والتعاون في أرقى وظائف الدولة والتعايش الصادق النزيه.

إن اضمحلال النظام الاستعماري الذي استخدم الأقلية اليهودية، واتخذها درعا لتخفيف الضربات النازلة على الاستعمار، ليس معناه القضاء حتما على هذه الأقلية بالفقر، وليس أسخف من الافتراض القائل (بأن الجزائر لا تكون شيئا مذكورا إذا انفصلت عن فرنسا). إن الازدهار الاقتصادي الذي تناله الشعوب المحررة أمر

ص: 69

بدهي ظاهر للعيان، وفعلا فإن (الدخل الوطني - الإيراد) يتزايد أهمية، ويضمن لجميع الجزائريين حياة أكثر رفاهية ورخاء، وبناء على ما سلف ذكره، توصي جبهة التحرير الوطني يما يلي:

1 -

تشجيع ومساعدة تأليف لجان وحركات من بين الديموقراطيين الأحرار الجزائريين حتى الذين لهم أهداف معينة محدودة بادىء الأمر، ومثال ذلك:

أ - لجنة للسعي ضد الحرب في الجزائر.

ب - لجنة تدعو للمفاوضة والسلم.

ج - لجنة تدعو للجنسية الجزائرية.

د - لجنة لمساعدة ضحايا القمع.

هـ - لجنة لدراسة القضية الجزائرية.

و- لجنة للدفاع عن الحريات الديموقراطية.

ز - لجنة لتجريد منظمات البوليس المدني (الشرطة) من السلاح.

ح - لجنة لإعانة العمال الزراعيين، ومؤازرة النقابات، وتأييد الإضرابات، وحماية الأطفال والنساء الذين يستغلهم الاستعمار.

2 -

مضاعفة الدعاية بين الجنود والمجندين، وذلك:

أ - بتزويدهم بالكتب والصحف (الجرائد) والمجلات والمنشورات المناهضة للاستعمار.

ب - بإنشاء لجان لاستقبال الجنود أثناء الإجازة.

ج - بتمثيل روايات مسرحية تحرض على الكفاح الوطني في سبيل الاستقلال.

د - زيادة اللجان التي تضم نساء المجندين للمطالبة بتسريح

ص: 70

أزواجهم من الجندية.

ج - نشاط جبهة التحرير في فرنسا.

1 -

توسيع تأييد الرأي العام الديموقراطي.

إن تحليل الآراء السياسية للديموقراطيين الأحرار في فرنسا، من شأنه أنه يساعد على إدراك وجوه الخلاف الموجودة في وسط الرأي العام الفرنسي الذي يتأثر بسرعة طبقا للشعور الشعبي، وما من شك في أن جبهة التحرير الوطني تعلق نوعا من الأهمية على المساعدة التي يمكن أن تقدمها لقضية المقاومة الجزائرية تلك الطبقة المتفتحة من الشعب الفرنسي الذي لا يطلع إطلاعا كافيا على ما يرتكب باسمه من الفظائع التي يعجز البيان عن وصفها، وإنا لنقدر مساعدة ممثلي الحركة الديموقراطية الحرة الفرنسية التي تهدف إلى فرض الحل السياسي حقنا للدماء المهرقة هدرا، وقد أصبحت إدارتها في (باريس) مدعمة معززة، وهي مهمة سياسية كبيرة لإطال المفعول السلبي للنشاط الذي تقوم به الرجعية الاستعمارية وذلك مثل: (القيام باتصالات سياسية مع المنظمات والحركات واللجان القائمة ضد الحرب: بالصحافة والاجتماعات الشعبية والاضرابات التي تنظم ضد ترحيل الجنود وشحن الآلات الحربية إلى الجزائر.

2 -

تنظيم الهجرة الجزائرية في فرنسا

يعتبر الجزائريون المهاجرون إلى فرنسا رأس مال ثمين بالنسبة إلى عددهم وطابعهم الذي يمتازون به من الفتوة وحب الكفاح وقوتهم السياسية، وإن مهمة جبهة التحرير في تعبئة هذه القوى كلها، هي مهمة كبيرة الخطورة، لا سيما وأنها تستلزم في الوقت

ص: 71

ذاته كفاحا شديدا لا هوادة فيه لاستئصال شأفة النزعة (المصالية).

1 -

إثارة الرأي العام الفرنسي والأجنبي، وتنويره، بنشر الأخبار والمقالات في الصحف والمجلات، وينبغي في هذا الشأن جمع كل المكافحين ذوي الخبرة والدراية والمثقفين والطلبة.

2 -

الدأب بصورة مستمرة، من غير كلل ولا ملل، على بيان فشل النزعة المصالية كتيار سياسي، وتورطها مع الدوائر القريبة من الحكومة الفرنسية، الأمر الذي يفسر أن هذه النزعة ليست موجهة ضد الاستعمار، ولكنها موجهة ضد جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني.

د - تضامن الشمال الأفريقي

لقد فشل الاستعمار، وفشلت مشروعاته وتصميماته فشلا ذريعا أمام تشدد (جبهة التحرير الوطني) ومواصلة (جيش التحرير الوطني) لكفاحه القوي الشديد، كما فشل أمام الاتحاد الكامل والعام الذي جمعه ورص بنيانه مثله الأعلى في الاستقلال الوطني. ومن جهة أخرى، فإن حكومتي تونس والمغرب قد وقفتا، بفضل ضغط الشعبين الشقيقين، موقفا صريحا من هذه المشكلة التي يرتهن بها التوازن في شمال أفريقيا، وهذا ما يدعو جبهة التحرير الوطني إلى الحفز والتشجيع على:

1 -

تنسيق السعي الحكومي في البلدين الشقيقين للضغط على الحكومة الفرنسية في الميدان الديبلوماسي.

2 -

توحيد النشاط السياسي بإنشاء لجنة تنسيق بين الأحزاب الوطنية الشقيقة وجبهة التحرير الوطني، وذلك:

أ - بإنشاء لجان شعبية لتأييد الثورة الجزائرية.

ص: 72

ب - التدخل بمختلف الوجوه في جميع المناطق.

3 -

الاتصال الدائم بالجزائريين المقيمين في المغرب وتونس (القيام بعمل إيجابي ملموس لدى الرأي العام والصحافة.

4 -

التضامن بين الهيئات النقابية المركزية: (الاتحاد العام التونسي للشغل) و (الاتحاد المغربي للشغل) و (الاتحاد العام للعمال الجزائريين).

5 -

التعاون بين اتحاد الطلبة الثلاثة.

6 -

تنسيق نشاط الهيئات الاقتصادية المركزية الثلاث.

5 -

الجزائر أمام العالم

قامت الديبلوماسية الفرنسية بنشاط كبير في الميدان الدولي للحصول حيثما أمكن، ولو لمدة قصيرة، على مساعدة أدبية ومادية، أو حياد في شيء من العطف، أو الالتزام بموقف سلبي، وكان أقصى ما أحرزته المساعي الديبلوماسية الفرنسية هو بعض التصريحات القلقة التي أفضى بها الممثلون للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والحلف الأطلسي على سبيل المداراة والمجاملة، بيد أن الصحافة العالمية والصحافة الأمريكية - بصفة خاصة - لم تفتأ تندد بالأعمال الإجرامية والفظائع الحربية، التي يقوم بها جنود (اللفيف الأجنبي) و (جنود المظلات) مثل: التنكيل بالشيوخ والنساء والأطفال وتقتيل المثقفين والمدنيين الأبرياء وتعذيب المساجين السياسيين الوطنيين وإكثار المعتقلات، وإعدام الرهائن، وتطالب الصحافة العالمية الاستعمار الفرنسي بالاعتراف العلني الرسمي بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بكامل

ص: 73

الحرية، وإن (الكفاح الجبار الذي يقوم به جيش التحرير الوطني) وانتصاراته الباهرة التي أثبتت للجميع أنه جيش لا يقهر بفضل إجماع الشعب الجزائري على التعلق بالحرية، مثله الأعلى، الذي يسعى من أجله قد أخرج القضية الجزائرية من النطاق الفرنسي الذي قيدها فيه الاستعمار الفرنسي، ويرجع الفضل في هدم هذه الأسطورة القائلة (بالجزائر الفرنسية) إلى (مؤتمر باندونغ) والى الدورة العاشرة (للجمعية العامة للأمم المتحدة).

وهل يعقل أو يمكن تغيير جنسية شعب لمجرد غزو بلاده واحتلالها من طرف جيش أجنبي؟ ..

أن الجزائريين لم يقبلوا في وقت من الأوقات (فرنسة الجزائر) لا سيما وأن هذه الصفة التي أريد فرضها عليهم، لم تمنع الاستعماريين من اعتبارهم غرباء في وطنهم، يحرمون حتى مما يتمتع به الأجانب تحت سمائه من الحرية والتقدير، وقد خنق الاستعمار أنفاس اللغة العربية التي هى اللغة القومية، لغة الأغلبية الساحقة من السكان، ومحى تعليمها العار محوا كليا منذ بدء الاحتلال، بتشتيت شمل الأساتذة والطلاب وباغتصاب الأوقاف، كما انتهكت حرمة الديانة الإسلامية، وشوه وجهها السمح بتسخير القائمين عليها واستئجارهم من طرف الإدارة الاستعمارية، وقد حارب الاستعمار الفرنسي الحركة الإصلاحية (لجمعية العلماء) وأيد الطرائف الطرقية المسخرة برشوة بعض شيوخ الزوايا.

وكم يظهر خبث (بيدو) و (لاكوست) و (سوستيل) و (الكردينال فلتان) خبثا مشينا، إذ أنه أوقع أصحابه في هوة من النذالة والخيانة عندما حاولوا خداع الرأي العام الفرنسي وتضليله، زاعمين أن الثورة حركة قائمة على التعصب الديني في خدمة نشر

ص: 74

الإسلام في العالم. إن الثورة الجزائرية لا تميز نفسها على بقية الطوائف الدينية المختلفة التي تسكن البلاد الجزائرية، ولكنها تميز فقط أنصار الحرية والعدل والكرامة الإنسانية من جهة أخرى، وليس أدل على هذا من إنزال العقاب الشديد بالخونة من رجال الدين في حرم المسجد. وعلى عكس ذلك، فبفضل النضج السياسي الذي بلغه الشعب الجزائري، وبفضل الحكمة والبصيرة اللتين تمتاز بهما إدارة (جبهة التحرير الوطني) أمكن فضح مساعي الاستعمار المتجددة وإحباطها، حيث كانت هذه المساعي الاستعمارية تثير التحديات والاستفزازات لإشعال نار الفتن والاضطرابات ضد المسيحيين، وإعلان العداء للأجانب، وما الثورة الجزائرية رغم كل الدسائس والتحريضات التي تقوم بها الدعاية الاستعمارية، إلا كفاحا وطنيا يعتمد على أساس قومي وسياسي واجتماعي، وليست الثورة الجزائرية تابعة للقاهرة أو لندن أو موسكو أو واشنطن، وإنما هي ثورة تسير في مجراها الطبيعي طبقا للتطور التاريخي للإنسانية والذي لم يعد يرضى بوجود أمم مستعبدة على وجه الأرض؛ وهذا ما جعل قضية (استقلال الجزائر) قضية عالمية، ومشكلة تتحكم في جميع مشاكل الشمال الأفريقي، وسترفع الدول الافريقية - الآسيوية قضية الجزائر إلى هيئة الأمم المتحدة من جديد.

وإذا ظهر عند هذه الدول الصديقة إبان الدورة الأخيرة لجمعية الأمم المتحدة اهتماما بالغا للتوفيق بين الجانبين، بحيث أفضى بها إلى سحب مناقشة القضية الجزائرية من جدول أعمال الهيئة الدولية، فليس لها اليوم مثل هذا الموقف بعد أن نكثت فرنسا بجميع الوعود التي قطعتها على نفسها. وقد كان موقف البلاد العربية عامة ومصر خاصة سببا في ذلك الفتور، فقد كان تأييدها للشعب

ص: 75

الجزائري محدودا ومرهونا بتطورات ديبلوماسيتها، ذلك أن فرنسا كانت تضغط على بلاد الشرق الأوسط عن طريق المساعدة الاقتصادية والعسكرية، والمعارضة لحلف بغداد، وقد حاولت بصفة خاصة أن تضغط بكل قواها لشل الأسلحة النفسية والأدبية التي بيد جيش التحرير الوطني، ومنها على الخصوص إذاعة (صوت العرب). أما البلاد غير العربية من الكتلة الأفريقية - الآسيوية، فقد كانت حريصة أن لا تبدو أكثر حماسة من البلاد العربية، من جهة، وكانت راغبة من جهة أخرى القيام بدور محدد في قضايا مثل نزع السلاح والتعايش السلمي. وعلى كل حال، فإن تدويل القضية الجزائرية في طورها الحاضر، قد زاد من قوة الشعور العالمي بضرورة استعجال تسوية هذا الصراع المسلح الذي قد يمتد إلى عامة البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا والشرق الأوسط بل قد يعم العالم أجمع.

كيف نوجه نشاطنا الدولي؟.

تقع القاعدة الأساسية نشاطنا في هذا الميدان، في البلاد العربية، وفي مصر بوجه خاص، ولم تكن اتصالاتنا بساسة البلاد الشقيقة، ولا تزال، سوى اتصالات حليف مع حلفائه، ولم تكن اتصال آلة بيد مستعملها، ومن واجبنا أن نحرص بانتظام على المحافظة على استقلال الثورة الجزائرية استقلالا تاما، كما ينبغي القضاء على المزاعم التي أشاعتها الحكومة الفرنسية وديبلوماسيتها وصحافتها الكبرى لإظهار ثورتنا في مظهر ثورة مصطنعة زائفة مدبرة من الخارج، وليس لها جذور في الشعب الجزائري المكبل بالقيود، ولذلك يجب:

1 -

حمل دول مؤتمر باندونغ على ممارسة ضغط سياسي وديبلوماسي واقتصادي مباشر على فرنسا علاوة على مساعيها لدى

ص: 76

هيئة الأمم المتحدة.

2 -

السعي للحصول على تأييد الدول والشعوب الأوروبية بما فيها البلاد الشمالية، والديموقراطيات الشعبية، وكذلك بلاد أمريكا اللاتينية.

3 -

الاعتماد على المهاجرين العرب في بلدان أمريكا اللاتينية.

ولهذا الغرض عززت (جبهة التحرير الوطني) الوفد الجزائري القائم بمهمة (البعثة الخارجية) وقد أصبح لديها:

1 -

مكتب دائم لدى هيئة الأمم المتحدة، وفي الولايات المتحدة.

2 -

وفد في البلاد الآسيوية.

3 -

وفود متنقلة لزيارة العواصم، والمشاركة في التجمعات الثقافية العالمية، وتجمعات الطلاب والنقابات وغيرها.

4 -

دعاية مكتوبة قائمة على وسائلنا الخاصة، من تنظيم مكاتب صحيفة ونشر التقارير وعرض الوثائق بالصور والأفلام.

الخلاصة:

منذ عشر سنوات، وبعد الحرب العالمية الثانية، حدث انفجار هائل زعزع أركان الامبريالية، وقد انطلق تيار التحرير الوطني المكبوت منذ زمن بعيد، فهز الشعوب الأسيرة ووقعت انتفاضة شاملة، فدفعت البلاد المستعمرة الواحدة تلو الأخرى إلى السعي وراء مستقبل زاهر من الحرية والسعادة.

وخلال هذه الحقبة القصيرة من الزمن استطاع ثمانية عشر شعبا أن يخرج من ظلمات العبودية الاستعمارية، وتتبوأ مقعدها تحت شمس الحرية والاستقلال الوطني.

ص: 77

ستعيش حرا يا ولدي

ص: 78

فحطمت شعوب سورية ولبنان وفييتنام والهند والفزان أغلالها وغادرت سجن الاستعمار الفرنسي المظلم، ثم أعربت شعوب المغرب الثلاثة بدورها عن عزمها وقدرتها على أن تأخذ مكانها في مجمع الأمم الحرة، وأن الثورة الجزائرية التي نشبت في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 لسائرة في طريقها السوي، ولا شك في أن الكفاح لا يزال شاقا ومريرا، وإن هذا الجهاد المسلح الطويل الذي يقوم به الشعب الجزائري الصامد، تحت إشراف جبهة التحرير الوطني وإدارتها الحازمة سيكلل بالنصر لا محالة.

وسيمحى يوم 5 تموز - يوليو - 1830 الأسود المشؤوم بالقضاء على نظام الاستعمار الممقوت لقد اقترب اليوم الذي يجني فيه الشعب الجزائري الثمار الطيبة اللذيذة لتضحياته المريرة الأليمة وشجاعته السامية الكريمة وهي:

استقلال الوطن الذي سيخفق فوقه العلم الجزائري رمزا للحرية والسيادة.

ص: 79