الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
الصراع على حدود الجزائر
ضاقت القوات الاستعمارية ذرعا بضربات جيش التحرير الوطني التي أفقدتها صوابها، ولم تنفع كل المحاولات لعزل الجزائر عن جارتيها (المغرب وتونس)، وفشلت الخطوط المكهربة وحواجز الأسلاك الشائكة وحقول الألغام في احتجاز المجاهدين وعزلهم عن قواعدهم في تونس، وعلى هذا قام سلاح الجو الإفرنسي بالإغارة على قرية (ساقية سيدي يوسف) التونسية في يوم 8 شباط - فبراير - 1958، وأدت هذه الضربة العسكرية التي اعترفت فرنسا بمسؤوليتها عنها، إلى قيام موجة من السخط ضد فرنسا عند دول كثيرة في العالم، ولقد قيل في الدفاع عن هذه الغارة، بأنها استهدفت جماعات المجاهدين الجزائريين الذين جعلوا من الساقية قاعدة لهم. وعلى الرغم من أن جثث الضحايا السبعين لم تضم مجاهدا جزائريا واحدا، إلا أن الحادث لفت أنظار العالم إلى قضية، كانت قد غدت معقدة كل التعقيد منذ العام 1956، وهي تتناول دور تونس في الحرب الجزائرية؛ فمنذ حصلت تونس على استقلالها في آذار - مارس - 1956، وقفت الحكومة التونسية موقفا دقيقا بين فرنسا والجزائر، أو بين الحياد
والتأييد، ولا ريب أن عواطف التونسيين كانت مع الشعب الجزائري في معركته، كما كان كثير من الجزائريين يريدون من تونس أن تحارب إلى جانبهم لتحقيق استقلال البلدين، ولكن الرئيس التونسي (الحبيب بورقيبة) كان يعتقد بأن في مقدوره تحقيق الاستقلال لبلاده الصغيرة بالصبر والأناة وعلى مراحل، ودن حاجة إلى العنف وسفك كثير من الدماء في حرب عامة شاملة؛ وقد قدم (بورقيبة) إلى إخوانه الجزائريين كل عون ممكن باستثناء الاشتراك في الحرب. وعندما وقع العدوان الفرنسي على (ساقية سيدي يوسف) كان عدد المجاهدين الجزائريين في تونس يزيد كثيرا على عدد أفراد الجيش التونسي الصغير، وكان المجاهدون الجزائريون يستخدمون هذا الملجأ الأمين للتدريب والاستجمام - للجرحى والمرضى - وتجميع السلاح والنقل. وعلى هذا فقد بات من المحتمل جدا امتداد جبهة الصراع لتشمل المغرب كله، لا سيما وأن القيادة العسكرية في الجزائر كانت تمارس عملها بحرية، ومن غير الرجوع إلى الحكومة الفرنسية التي كان عليها احتمال
مسؤولية كل فشل عسكري من غير أن يكون لها رأي فيه. وقد قبلت الحكومتان الفرنسية والتونسية وساطة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، لإيجاد تسوية لحادث (ساقية سيدي يوسف) وقضية (طلب تونس جلاء جميع القوات الفرنسية عن أراضيها)، واستمر ممثل الولايات المتحدة (المستر مورفي) وممثل بريطانيا (المستر هارولد بيلي - الذي عين بعد ذلك سفيرا لبريطانيا في القاهرة) يتنقلان الأسابيع الطوال بين تونس وباريس في محاولة للوصول إلى حل وسط. وقدمت الحكومة التونسية في أثناء هذه المباحثات، إلى المبعوثين الأمريكي والبريطاني وجهات نظرها
ثوار وهم في مقتبل العمر لم يرهبهم الاستعمار
في المشكلة الجزائرية، وتم الوصول في مطلع شهر نيسان - أبريل - إلى حل وسط، يقضي بانسحاب جزئي للقوات الفرنسية من تونس، على أن تعود إلى التجمع في قاعدة (بنزرت) مع بعض الشروط الأخرى التي قبلت بها حكومة (غايار)، لكن الجمعية الوطنية الفرنسية، رفضت هذا الاتفاق مما أدى إلى سقوط حكومة
(غايار) وإلى أزمة طويلة.
…
وقعت في غضون ذلك أحداث هامة على الصعيد الأفريقي، فقد قررت (لجنة التنسيق والتنفيذ) في شهر شباط - فبراير - 1958 - إقامة (حكومة جزائرية) عندما تسنح الفرصة المؤاتية لإقامتها، وكان تشكيل مثل هذه الحكومة في المنفى، أو في منطقة (محررة) موضع الدراسة منذ عهد طويل، ولكن الصعوبات على ما يبدو في طريق تشكيلها كانت عديدة وبالغة؛ إذ أن إقامة حكومة داخل الجزائر ذاتها، والمحافظة عليها إجراء عسكري بارز، إذ أن في وسع الجيش الفرنسي أن يركز هجومه في مثل هذه الحالة على قاعدة واحدة. أما على الصعيد الديبلوماسي، فإن إقامة حكومة في المنفى قد تؤدي إلى اعتراف الدول العربية والإسلامية وغيرها، ولكنها قد تؤدي في الوقت ذاته إلى تعقد العلاقات بين تونس والمغرب من ناحية وبين فرنسا من الناحية الأخرى، وفي هذه الحالة، يضعف ما لدى جارتي الجزائر المغربيتين من قدرة التأثير على سياسة فرنسا، ولهذا فقد كان قرار شهر شباط - فبراير - معلقا على الفرصة المؤاتية، ولم تظهر هذه الفرصة إلا بعد بضعة أشهر.
اشتركت (جبهة التحرير الوطني) في شهر نيسان - أبريل - في مؤتمر (أكرا) للدول الأفريقية المستقلة، وتلقت تأييدا حارا من
المؤتمر لقضية استقلال الجزائر، وقد وعدت الدول الأفريقية بالعون الديبلوماسي وغيره من أنواع المساعدة، كما وعدت بإرسال وفد أفريقي مشترك يتولى الدعوة للقضية الجزائرية، ودعت (جبهة التحرير الوطني) الدول الأفريقية إلى مساعدتها في عرض قضيتها على الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي أواخر شهر آب - أغسطس - ذهبت عدة وفود أفريقية إلى أوروبا وإلى أمريكا اللاتينية، لاطلاع حكوماتها وشعوبها على القضية الجزائرية وحثها على تأييدها.
بدت قضية وحدة الشمال الأفريقي (أقطار المغرب العربي - الإسلامي) في نهاية شهر نيسان - أبريل - 1958 قريبة كل القرب، بعد أن طال البحث فيها والتحدث عنها؛ فقد عقد (حزب الاستقلال المغربي) و (حزب الدستور الجديد التونسي) و (جبهة التحرير الوطني الجزائري) مؤتمرا في (طنجة) بين السابع والعشرين والثلاثين من نيسان - أبريل - 1958 - للبحث في حرب الجزائر وآثارها، وقد أعلنت الأحزاب الثلاثة في سلسلة من القرارات:(حق الشعب الجزائري الذي لا يرقى إليه الشك في السيادة والاستقلال، كشرط وحيد لإنهاء النزاع الجزائري - الفرنسي) وهذا يعني أن المؤتمر قد أقر صيغة معدلة، للشرط المسبق الذي وضعته جبهة التحرير. وقرر المؤتمر أيضا:(أن تعمل الأحزاب السياسية الثلاثة على حشد كل ما لدى شعوبها وحكوماتها من قوى لدعم الشعب الجزائري المجاهد في سبيل استقلاله)، وأوصى المؤتمر أخيرا:(بتشكيل حكومة جزائرية بعد التشاور مع الحكومتين التونسية والمغربية - المراكشية).
واقترح المؤتمر تشكيل مجلس استشاري مغربي، يعقد
جلسات منتظمة ويدرس القضايا المتعلقة بالمصلحة المشتركة، ويتخذ التوصيات الضرورية بشأنها، كما أوصى بعقد اجتماعات لزعماء (البلدان الثلاثة) لدراسة تنفيذ التوصيات التي يتخذها المجلس الاستشاري، وأوصت الأحزاب المشتركة حكوماتها:(بأن لا تعالج القضايا المتعلقة بمصير الشمال الأفريقي في ميدان العلاقات الخارجية والدفاع، بصورة فردية، وقبل أن يتم وضع الدساتير الاتحادية الفيدرالية). ولقد كان هذا القرار الهام بالنسبة (لجبهة التحرير الوطني) التي لم تكن قد اتخذت الشكل الشرعي للحكومة بعد، قيمة كبرى، إذ أكد حقها بأن يتم الرجوع اليها واستشارتها في العلاقات الأفريقية الشمالية مع البلاد الأخرى ولا سيما فرنسا (*)، وقرر المؤتمر إقامة أمانة عامة دائمة تضم ستة أعضاء يمثل كل اثنين منهم بلدا من البلاد المشتركة، على أن يكون لها مكتبان أحدهما في الرباط والآخر في تونس، وقد اختارت جبهة التحرير زعيمين لتمثيلها في جهاز الأمانة العامة وهما (أحمد بو منجل وأحمد فرنسيس)، واستنكر المؤتمر (وجود القوات الأجنبية) في شمال أفريقيا، وطالب بأن تتوقف القوات الفرنسية فورا عن استخدام الأرض المغربية والتونسية كقواعد للعدوان على الشعب الجزانري وأخيرا، أعلن المؤتمر: (بلسان شعوب
(*) نشب خلاف في صيف العام (1958) بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني، حول تفسير هذه التوصيات، وقد قبلت الحكومة التونسية اقتراحا فرنسيا بإنشاء خط لأنابيب الزيت من الصحراء الجزائرية إلى أحد الموانىء التونسية، ولكن جبهه التحرير الوطني عارضت المشروع، وحل الخلاف بصدور تأكيد تونسي بأن لا يسير الزيت في الأنابيب المذكورة، حتى تنال الجزائر استقلالها.
الجزائر الثائرة - جوان غيلسبي - دار الطليعة - بيروت - 1961 ص 193 - 200 و215.
شمال أفريقيا الممثلة في المؤتمر استنكاره لموقف تلك الدول التي تزود فرنسا بالعون، الذي لا يؤدي إلا إلى خسارة هذه الدول لصداقة الشعوب المشار إليها). وأعرب القرار عن الأمل في (أن تتخلى تلك الدول عن تلك السياسة التي تنزل الكوارث بالسلاح والتعاون العالميين) ثم وجه (نداء سريعا وجديا إلى هذه الدول لوقف كل عون سياسي وعسكري يؤدي إلى استمرار الحرب الاستعمارية في المغرب العربي)، وقد هللت جبهة التحرير لقرارات (مؤتمر طنجة) بحماسة بالغة.
واجتمع ممثلو الحكومتين التونسية - والمغربية، و (لجنة التنسيق والتنفيذ) الجزائرية في منتصف شهر حزيران - يونيو - عام 1958 في (بلدة المهدية) في (تونس) لتنفيذ توصيات مؤتمر طنجة، وبحث المجتمعون في التعاون السياسي والديبلوماسي ولكن تأليف حكومة الجزائر قد تأجل، وإن كان المؤتمر قد أكد حق الشعب الجزائري في السيادة والاستقلال.
…
واجه مؤتمر (المهدية) مشكلة تعتبر من أخطر المشاكل العسكرية والنفسانية التي ظهرت طوال الحرب الجزائرية، وكان الجيش الفرنسي والمستوطنون في الثالث عشر من أيار - مايو - عام 1958، قد تحدوا سلطات باريس وألفوا لجنة للأمن العام، وتسلسلت الأحداث بعد ذلك مما أسفر عن مجيء الجنرال (ديغول) إلى رئاسة الوزارة الفرنسية في الأول من حزيران - يونيو - وقد طالبت (لجنة الأمن العام) ومؤيدوها بالاتحاد التام بين فرنسا والجزائر، وبالتفاهم بين الفرنسيين والجزائريين. وعلى الرغم من أن الجنرال ديغول لم يرفض الحركة الداعية إلى الإدماج عن طريق
التكامل، إلا أنه اقترح أن تحتل الجزائر (مكانا خاصا) في كيان جديد يضم فرنسا وممتلكاتها وراء البحار.
قام (ديغول) في شهر آب (أغسطس) بجولة طاف بها ممتلكات ما وراء البحار، وعرض عليها الاستقلال، إما فورا عن طريق اقتراع سلبي في الاستفتاء الدستوري الذي تقرر إجراؤه في 28 أيلول - سبتمبر - 1958 أو في أي وقت تشاء بعد الانضمام إلى المجموعة الفرنسية - الأفريقية. ولكن (الجزائر) لم تعط هذا الخيار، وانما تقرر أن تشترك في الاستفتاء وما يتلوه من انتخابات، على أن يجري البحث (في البقية) مع الممثلين الذين سينتخبون، وكان من المقرر أن تبث نتيجة الاستفتاء في مصير دستور ديغرل للجمهورية الفرنسية الخامسة سواء بالقبول أو الرفض. أما من الناحية العملية، فقد رأى المقترعون الجزائريون أن هذا الاستفتاء يعني الاقتراع على (ديغول) و (السلام)، بينما رأى المستوطنون ورجال الجيش الفرنسي في الاقتراع (بنعم) خطوة نحو دمج الجزائر بفرنسا عن طريق التكامل. وهكذا بدأت (عملية الاستفتاء) على صورة حملة نفسية شاملة قام بها الجيش الفرنسي لحمل أكبر عدد من الجزائريين على الاقتراع (بنعم)، وفي الوقت ذاته على الجيش على تطوير مخططاته العسكرية في محاولة جديدة للقضاء على الثورة.
لقد جاءت معركة الاستفتاء، بعد أربع سنوات من الحرب، لتصعد بقضية ولاء الجزائريين لفرنسا حتى الذروة. ومع مضي أيام الصيف، كان الجيش الفرنسي، وقد قبض عسكريا وسياسيا على زمام البلاد بقوة وعنف، يحاول استخدام كل سلاح نفسي للتأثير على الاقتراع، وكان التزام الجيش (لتحالف الثالث عشر من أيار)
عميقا كل العمق، على الرغم من اختلاف دوافعه عن دوافع المستوطنين. فبعد أن مني الجيش بهزائم متعاقبة في العام (1940) لحقت به هزائم أخرى في الهند الصينية (فييتنام) و (السويس) حيث كان الجنرال (جاك ماسو) ذاته يقود قوات المظليين، ورأى الآن في الجزائر فرصته الأخيرة للنصر ولاستعادة الهيبة والثقة بالنفس. ولم يكن للجيش أي برنامج سياسي للجزائر باستثناء شيء واحد، وهو أن لا تتكرر الهزيمة، وقد اضطر في حرب الجزائر المتقطعة إلى الاقتتال مع أساليب حرب العصابات التي تعتمد على مبدأ (اضرب واهرب) في مناطق جبلية وعرة، ومستخدما في حربه ضد الثوار أحدث أسلحة حلف الأطلسي. وأدى الافتقار إلى الأمن، وانتشار أعمال التدمير في جميع أنحاء البلاد، إلى تجزئة قواته ونشرها في كل مكان لحماية كل مزرعة وكل مركز وكل مصدر للمياه، وكل شبكة للخطوط الحديدية، وقد لجأ في مجابهة أعمال العنف في المدن إلى ممارسة أبشع أنواع القمع والإرهاب ضد المدنيين؛ بحجة تعذيب المشبوهين للحصول على المعلومات، ولم تؤد هذه الأساليب إلى استنكار الأحرار من الفرنسيين فحسب، بل إلى (أزمة ضمير) على المستويات العليا في الجيش ذاته، ولقد شرح ليبيرالي فرنسي كاثوليكي هذا الموقف بقوله:
(
…
لقد اقترع البرلمان الفرنسي على منح الصلاحيات الكاملة - لروبرت لاكوست - وزير الجزائر، الذي أصدر أوامره بدوره إلى - الجنرال ماسو - قائد المظليين في الجزائر بإعادة النظام إلى البلاد بكل الوسائل التي يراها مناسبة، وبضمنها التعذيب، دون إعطائه أوامر خطية تنص على ذلك. وهكذا وجد الجيش نفسه
منغمسا في السياسة والاجراءات، وهو تحول سيؤدي حتما إلى نكسة جديدة يمنى بها الجيش، وإلى إذلال آخر. وقد اهتبل الجيش فرصة الأزمة الوزارية الطويلة، وغياب السلطة الشرعية المألوفة في شهر أيار - مايو - يحاول الحصول على تلك الضمانة، وكان الجيش يرى أن السبيل الذي لجأ إليه مفهوم كل الفهم).
وهكذا، وفي تلك الذروة العاطفية التي صحبت أحداث الثالث عشر من أيار - مايو - والأيام التي تلته، تعلق الجيش بحبل سياسة الدمج، وهي سياسة ذات تاريخ طويل، وعدد مختلف من المعاني؛ إذ أنها تعني بالنسبة إلى الكثيرين من ضباط الجيش مساواة غامضة بين جميع الجزائريين على الرغم من أن معاملة الجزائريين على قدم المساواة مع المستوطنين الأوروبيين قد تسفر عن نتائج لم تدرس الدراسة الكافية، وهي تعني أيضا سياسة التآخي، وسد تلك الثغرة النفسية التي اتسعت وعمقت إبان الثورة. وعندما قبض رجال الجيش على ناصية الحكم، اعتقد الكثيرون منهم أن واجبهم غدا في إكمال تلك (الرسالة التحضيرية - التمدينية) التي فشلت فرنسا في أدائها طوال الأعوام التي انقضت منذ احتلالها للبلاد في العام (1830)، وآمن البعض منهم أيضا أنهم يقفون في الخط الأمامي من النضال ضد الشيوعية، زاعمين أن جبهة التحرير، وهي التي تتبع الأساليب التقليدية في الحروب الثورية هي آلة في يد الشيوعية، إن لم تكن شيوعية في حد ذاتها. وقد تأثرت نظرة الجيش إلى الثورة الجزائرية، بالتجارب المريرة التي تعرض لها عدد كبير من ضباطه إبان حرب الهند الصينية، لا سيما وأن الكثيرين منهم كانوا قد قضوا عدة سنوات في أمر الفييتناميين، وبالأعمال التي تتعلق بالخدمات الاجتماعية التي مروا
بها أيضا، والتي جعلتهم على اتصال بأكثر الطبقات الجزائرية بؤسا وفقرا، لا سيما وأن الجماهير الغالبة من الطبقة المختارة كانت قد انضمت إلى الجبهة.
جاءت نتائج الاستفتاء طبقا للأرقام التي نشرها الفرنسيوف (96،5) في المائة أجابوا (نعم) و (3،5) بالمائة أجابوا (لا). وهذه النسبة تشير إلى تقسيم الأصوات إلى (صالحة) و (غير صالحة) ولكنها لا تتحدث عن القصة كلها؛ فقد تم تسجيل (4،335،009) من الناخبين اقترع منهم (3،445،060). وكان بينهم (3،416،088) أصواتهم صالحة اقترع منهم (3،299،908) بنعم و (115،791) بلا.
إننا إذا ما تطلعنا إلى أرقام النسجيل التي تضم طبعا جميع المستوطنين الصالحين للاقتراع والجنود الفرنسيين، يتضح لنا أن هناك عددا كبيرا من الجزائريين لم يسجلوا في القوائم الانتخابية قد يبلغون المليون، لأنهم تمكنوا من تجنب التسجيل على الرغم من جميع محاولات الفرنسيين وقيام الضباط شخصيا بزيارة القرى لتسجيل المقترعين، وهؤلاء الذين لم يسجلوا، لم يكونوا جميعا من أعضاء جيش التحرير الوطني، بل جزائريين يعارضون الحكم الفرنسي. وهكذا تظهر هذه الأرقام أيضا أن أكثر من مليون شخص من الذين سجلوا لم يقترعوا أيضا، وجميع هؤلاء من الذين لو اقترعوا لقالوا (لا)؛ إذ أنهم كلهم من الجزائريين، وتكون نتيجة أرقام الفرنسيين أنفسهم أن أكثر من مليوني جزائري، أي أكثر من نصف عدد الذكور البالغين قد تمكنوا من إظهار معارضتهم للنظام الاستعمار الفرنسي، بشكل أو بآخر.
لم تحاول (جبهة التحرير الوطني) أن تهتم (بلعبة الأرقام)
هذه منذ البداية، بل أعلنت استنكارها للاستفتاء على أنه تزييف للنظم الديموقراطية، وكما وقع في معركة (مدينة الجزائر - ذاتها)، فإنه لم تكن كفتا الميزان في معركة الاستفتاء متعادلتين، ذلك لأن وطأة ضغط الجيش الفرنسي وقعت على المدنيين من الجزائريين، وهم أقل قدرة على المقاومة والاحتمال، وكان على (جيش التحرير الجزائري) أن يختار بين أحد أمرين، إما أن يستخدم القوة لمنع الشعب الجزائري من الاشتراك في الاستفتاء، أو أن يسمح لهم باتخاذ موقف (عمل ما يمكن عمله) ليجنبهم عنف الجيش الفرنسي وإرهابه، وقد ترك جيش التحرير الوطني الجزائري اتخاذ القرار النهائي للقادة المحليين، وبالطبع، آثر الكثيرون منهم عدم اتخاذ أي إجراء عسكري، فجاءت نتيجة الاستفتاء الظاهرة، بانتصار الفرنسيين شيئا مؤلما لهم.
لم تكن (جبهة التحرير الوطني) - بدهيا - فانطة كل القنوط من نتائج معركة الاستفتاء؛ فمنذ اللحظة الأولى التي تولى فيها الجنرال (ديغول) السلطة، قامت جبهة التحرير بتخظيط استراتيجية دقيقة تستهدف إعلاء مكانتها، وتوطيد دعائم ثقة الجزائريين، بقدرتها على مقاومة أية حكومة فرنسية مهما كانت قوية. وفتحت (جبهة التحرير الوطني) في شهر آب - أوت - (جبهة قتال) ثانية في فرنسا ذاتها، ووقعت سلسلة من الهجمات الرائعة على المؤسسات العسكرية والبوليسية، والأهداف الاقتصادية بما في ضمنها مخازن النفط ومستودعاته، مما أشار إلى قوة جبهة التحرير الوطني في الأرض الفرنسية ذاتها، وأدى اعتقال عدد كبير من العمال الجزائريين وتعذيبهم الى توسيع الخلاف بين الفرنسيين وشعب المغرب العربي - الإسلامي.