الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5)
أحمد الشقيري يرحب بالجزائر في (الأمم المتحدة)
تولى (أحمد الشقيري) الدفاع عن (قضية الجزائر) في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، في مرات عديدة، وعندما أعلن استقلال الجزائر، وتوجه وفد الجزائر ليدخل الجمعية منتصرا، وقف (أحمد الشقيري) مرحبا في كلمة رائعة ستبقى محتفظة بقيمتها التاريخية، قدر احتفاظها بأهميتها الأدبية (*).
…
ها قد جاءت إليكم الجزائر، إنها الجمهورية الجزائرية، الدولة الأفريقية، المغربية العربية، وقد حققت كامل حريتها وسيادتها واستقلالها.
ها قد جاءت إليكم الجزائر، وقد أعلنت عشية استقلالها سياستها القومية، وفي طليعتها الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
وها قد جاء إليكم وفد الحكومة الجزائرية، إلى هذه المنظمة العالمية، يحمل إليكم أوراق اعتماده، كتبت في الميدان، وما يزال غبار المعركة يملأ حواشيها.
(*) أحمد الشقيري (قصة الثورة الجزائرية) دار العودة - بيروت - ص 160 - 163.
وانني أغتنم هذه الفرصة المهيبة لأعرب عن أصدق التهنئة الأخوية للجزائر، لحكومتها ولشعبها الباسل، إننا معتزون بانتصار الشعب الجزائري الشقيق، فخورون ببطولته، مبتهجون بنضاله المجيد.
ولقد أصبحت الجزائر، وبعد زمان طويل، معنا في هذه المنظمة العالمية، دولة حرة كاملة السيادة والاستقلال، ولقد كانت الجزائر إلى عهد قريب، ولثماني سنين خلت، واحدا من البنود التي تدرج على جدول أعمال الأمم المتحدة، وكم وكم جرى النقاش طويلا حول ما إذا كانت القضية الجزائرية يجب أن تدرج على جدول الأعمال، أو تستبعد منه، وكم أفضنا في شرح عدالى هذه القضية، وكم أسهبنا في سرد وقائعها وأحداثها. لقد انتهى كل ذلك الآن، وأسدل الستار إلى الأبد، ولم تعد القضية الجزائرية، بعد اليوم، بندا على جدول الأعمال؛ إن الجزائر، في هذا اليوم، تتبوأ مقعدها الرفيع في المجتمع الدولي بكل جدارة واستحقاق.
إن هذا الاحتفال الرائع، بانضمام الجزائر إلى الأمم المتحدة، ليس من المراسم المألوفة ولا من التقاليد المعتادة، ولا هو مجاملة تفرضها الآداب الدولية، إن في حجم هذا الاحتفال من المعاني ما هو أجل وأرفع، إنه يوم نقيم فيه صلاة النصر، لانتصار الحرية والاستقلال، إننا نعتبره يوم الشكر بالنسبة للأمم المتحدة بأسرها تقديرا لنعمة الاستقلال، وعرفانا لفضائل الحرية، وتتويجا للنضال الإنساني من أجل الكرامة والسيادة.
دعوني أؤكد لكم أني لا أقول قولي هذا شوقا إلى الفصاحة، أو رغبة في البلاغة، إنه الحق لا مراء فيه، والحقيقة لا ريب فيها،
فلسنا نحن الآن أمام مناسبة نحتفل فيها بدخول عضو آخر إلى الأمم المتحدة، مع جلال هذه المناسبة وروعتها، إنها تتجاوز تكريس دولة جديدة تدخل الأسرة الدولية، إن الذي يوشك أن يدخل هذه المنظمة العالمية، ليس مجرد دولة فحسب، ذلك أن في ركاب هذه الدولة، تدخل طائفة من المبادىء الحية، ومجموعة من العقائد النيرة، وفيض من الذكريات الغالية، وكنز من التضحيات والفداء، بل سيرة مجيدة للكفاح الدامي الذي يخوض الإنسان في سبيل تحقيق ذاته وتقرير مصبره.
إن تمثال الحرية ينتصب عاليا على شواطىء القارة الأمريكية، وهكذا تنتصب الجزائر اليوم بيننا شامخة لتعبر عن أقدس المعاني الإنسانية. إن الجزائر بترابها الغالي وشعبها الباسل تقف بيننا لتكون مثلا للبطولة، وتجسدا للشجاعة، ورمزا للثبات والمدارة، وعنوانا رائعا لإرادة الإنسان وتصميمه على العيش بحرية في عالم تسوده الحرية، حرية حقيقية، تحرره من الظلم والاستعباد.
وفي هذه اللحظة التاريخية، فإنا لنذكر بعقولنا وقلوبنا الكفاح البطولي لشعب الجزائر. لقد خاض هذا الشعب العظيم معركة مريرة لا يتسع المقام لسرد سيرتها الآن، ولست أريد أن أذكر الألوف وألوف من زهرة الأجيال الجزائرية المتعاقبة الذين قضوا نحبهم في معارك التحرير عبر مائة واثنين وثلاثين عاما من الكفاح
…
لا، ولا أريد أن أذكر الألوف من الضحايا الفرنسيين الذين سقطوا في الميدان، سقطوا أبرياء ولكن من أجل قضية باطلة، ولست أريد أن أذكر قصص العناء والشقاء التي تمرس بها شعب بكامله في نضاله من أجل الحرية، بل إنني لا أريد أن أذكر حملات التدمير والإجرام التي قامت بها الجماعات الفرنسية المتطرفة، لتكون الدليل القاطع أن
الاستعمار في النهاية يلقى مصرعه على أيدي القوى الاستعمارية ذاتها.
أجل إننا لا نريد أن نذكر هذه المآسي التي تقشعر لهولها الأبدان، فهذه لحظة فرح وابتهاج، مع أن تلك المآسي وذكرياتها الرهيبة تملك علينا مشاعرنا. نحس الآن في أعماق ضميرنا أننا فرحون مبتهجون، إن هذه اللحظة البهيجة التي نعيشها الآن تفرض علينا مشاعر الفرح، وتفرض علينا أن نسلم انفسنا للفرح، وها نحن نجتمع الآن في هذه القاعة لنفرح.
ودعوني أيها السادة أقول، من غير إساءة لأحد، أو إهانة لأحد، دعوني أقول من على هذا المنبر العالمي، دون أن أخشى تفنيدا، انه ما من شعب قد تحمل أعباء النضال، بصبر وعزم وإيمان كما تحمل الشعب الجزائري الشجاع، وإنني أقف الآن على هذا المنبر لأحيي في الشعب الجزائري بطولته النادرة وتصميمه الذي لا يقهر.
إني أشعر في الوقت ذاته بأنه يجب علي أن أوجه كلمة إلى فرنسا، وإلى الجنرال ديغول بالذات، لقد وجهت إلى فرنسا في الدورات السابقة كلمات قاسية وفي لهجة خشنة، وإني لأعترف أن كلماتي في أوقات معينة كانت بالغة الصرامة والضراوة، وإن تكن الحق كل الحق، لقد كانت الظروف الصارمة الضارية هي التي فرضت تلك العبارات الصارمة الضارية.
ولكننا الآن نجد أنفسنا وجها لوجه أمام ظروف أخرى، إن الصداقة مع الجزائر هي صداقة مع الأمة العربية بأسرها، نحن مع الجزائر في السراء والضراء، إن أصدقاء الجزائر هم أصدقاؤنا،
وإن أعداء الجزائر هم أعداؤنا، نحن مع الجزائر في السلم وفي الحرب، في الولاء وفي العداء، في الشدة وفي الرخاء، ولهذا فإن فرنسا تستطيع أن تتأكد أن عهدا جديدا من العلاقات العربية - الإفرنسية ينتظر المصالح المشتركة بين الأمة العربية من جانب، وفرنسا من جانب آخر. وإن مساهمة الرئيس (ديغول) في هذا المجال لا شك أنها مساهمة عظيمة قدر الشخصية العظيمة التي يتمتع بها الرئيس ديغول. لقد كان للرئيس ديغول دورا رفيعا في بناء صرح الحرية، ولا نملك إلا أن نسجل له هذه المكرمة البارزة بكل تقدير وإعجاب، إن الرئيس ديغول قد حرر فرنسا مرتين، وإني أقول مرتين بكل تأكيد، في المرة الأولى استطاع الرئيس ديغول أن يحرر فرنسا من النازية، وفي المرة الثانية كان للرئيس ديغول دور كبير في تحرير فرنسا من الاستعمار - استعمار الجزائر -، ولكنني أرغب أن أؤكد أن المرة الثانية أدعى للخلود من المرة الأولى. إنه الأمر مجيد أن يحرر المرء نفسه من استعباد الغير، ولكن الأروع والأرفع أن يحرر المرء نفسه من أن يستعبد الغير، وانطلاقا من هذه المفاضلة، فإننا نزن عظمة الجنرال ديغول، ونقوم شخصيته الرفيعة.
لقد فتحت الجزائر أبواب الأمم المتحدة على مصراعيها، بالدماء والعرق والدموع، بعد أن ظلت طويلا وهي مقفلة في وجهها، وإننا نناشدكم أن تظل الأمم المتحدة مفتحة الأبواب حتى يتيسر لجميع الشعوب أن تدخلها وهي تمارس حريتها وسيادتها واستقلالها، يومئذ تصبح الأمم المتحدة منظمة عالمية حرة، جديرة باسمها وميثاقها
تشرين الأول - أكتوبر - 1962