المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ جبهة التحرير الوطني - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٥

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ جبهة التحرير الوطني

1 -

‌ جبهة التحرير الوطني

عاشت جزائر المجاهدين حياة الثورة الدائمة، وقد أخذت هذه الثورة أشكالها المختلفة وفقا للظروف المرحلية التي كانت تتفاعل فيها، حتى إذا ما جاءت سنة 1954، كانت حالة الهياج قد وصلت ذروتها، وكانت حالة الهياج هذه تجد تعبيرا لها في الصراع على (البرامج الانتخابية) و (قوائم الانتخابات)، وكان تزييف الانتخابات يحبط الآمال في إحراز انتصارات حقيقية لمصلحة الشعب المجاهد، وفي الوقت ذاته، فإن نجاح أنصار الفرنسيين في انتخابات (الجمعية الجزائرية) - جماعة أو (بني وي وي) و (نعم نعم) - ثم سيطرة المستوطنين على هذه الجمعية كانتا تضاعفان من مشاعر الإحباط، الأمر الذي كان يعزز من مكانة الوطنيين الحقيقيين، والذين كانوا يعملون في السر من أجل معالجة نقاط ضعفهم، ومناقشة تطورات الموقف، وأخذت ثقة الوطنيين في أي تطور سلمي تختفي وتضمحل لتفسح المجال أمام أفكار القوة والعنف، وكان خزان الشعب الجزائري العظيم يقف وراء عملية الجدل الفكري، ويظهر استعداده للانتقال من مجال الجدل والنقاش الى ميدان الصراع المسلح.

ص: 15

كانت الجزائر خلال تلك السنة (1954) تعيش أزمة اقتصادية خانقة، حتى بات الشعب على حافة المجاعة، وكان الاتصال اليومي والمستمر بين مسلمي الجزائر، وبين الطبقات الثرية من المستوطنين - أصحاب الامتيازات - تزيد من شعور الغضب لدى جماهير المسلمين، وتذكرها بأسباب بؤسها وشقائها، وتثير فيها كل مساوىء التمييز العرقي - العنصري -، وجاءت الهزة الأرضية في (الأصنام - أو أورليانز فيل كما كان يسميها الفرنسيون) في صيف سنة 1954، لتبرز بشكل مثير أسوأ مظاهر التمييز العنصري، وبات الشعب الجزائري كله، من فلاحية إلى عماله وتجاره، ومن فقرائه إلى أثريائه، وهو على استعداد للقيام بأي عمل للتعبير عن غضبه الذي تجاوز حدود القدرة على الاحتمال.

كان الزعماء في الميدان الدولي يتابعون مراقبة الأوضاع بدقة، وأخذ الشعب يسمع بأخبار الشعوب الجديدة التي استقلت حديثا، وظهرت الى عالم الوجود بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من التفاوت بينها وبين القوى التي واجهتها، وأثبتت أحداث تونس (في العام 1952) أن القوة، حتى ولو مارستها بضع مئات من مجاهدي الجبال، قد تؤدي الى نتائج عظيمة.

والى الغرب، في مراكش أو المغرب، تابع المجاهدون استخدام العنف للتعبير عن غضبهم ضد الاستعمار الفرنسي الذي أبعد مليكهم (مولاي السلطان محمد الخامس) ونفيه من البلاد، وظهر ان الوطن العربي كله يتأجج في حالة ثورة واشتعال، وهكذا لم يعد توجيه هذه التيارات الجزائرية العميقة باتجاه الثورة في حاجة الى أي شيء آخر غير القادة والأسلحة. وكان رد فعل

ص: 16

الزعيم (مصالي الحاج) تجاه هذه الأوضاع أنه حاول تركيز جميع الصلاحيات في شخصه (*) على اعتبار أنه الشخص الوحيد الذي يثق هو فيه، وقد حاول أعضاء اللجنة المركزية الوصول الى الوحدة، عن طريق خلق انشقاق حزبي جديد، وكان ثمة آخرون يملكون (روح العزيمة) وهم خلافا للمعتدلين، غير محدودين في وسائلهم التي يلجؤون اليها لقلب الموقف؛ وقد شعروا بأن زعاماتهم التقليدية قد تخلت عنهم وخيبت آمالهم، واعتقدوا انهم قد وصلوا الى (اللحظة المؤاتية) للانتقال الى العمل المباشر.

قام تسعة من الشبان في مطلع سنة (1954) بتأليف (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) وهم: حسين آية أحمد، وأحمد بن بللا، ومحمد العربي بن مهيدي، ومحمد بوضياف، ومصطفى ابن بو العيد، ورابح بيطاط، ومراد ديدوش، ومحمد خيضر وكريم بلقاسم، وتولى كريم تمثيل (القبائل) وبن بو العيد (الأوراس) وبن مهيدي (وهران) وبيطاط (الجزائر -

العاصمة) وديدوش (شمال قسنطينة) بينما تولى بوضياف، وهو منظم ماهر، أعمال الارتباط بالنسبة الى خارج الجزائر.

كان معظم هؤلاء الشباب من مناضلي (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) وينتمون الى الطبقات الوسطى أو الفقيرة في المجتمع الجزائري، وسبقت لهم خدمة فعلية في الجيش الجزائري والمنظمة الخاصة، كما سبق لهم أن قضوا فترات في السجون الفرنسية، وكان منظمو اللجنة الثورية ينحون باللائمة

(*) يمكن هنا التذكير بما تضمنه الكتاب الثامن من هذه المجموعة (الصراع السياسي على نهج الثورة الجزائرية) من أجل دراسة الموقف العام لمرحلة ما قبل الثورة.

ص: 17

على كل من أنصار (مصالي) وأنصار (اللجنة المركزية) على الخلافات الداخلية التي مزقت (حركة انتصار الحريات)، وقد اعتقدوا ان البحث عن الوحدة يجب ان يتم في القاعدة الحزبية لا بين قادة الحزب وزعمائه، وأن على كل مجموعة من المناضلين ان تنشق على كل من الفئتين وان تبحث بنفسها ازمة الحزب. ورفضت (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) من ناحيتها حجج كل من الفريقين، ولكنها كانت أقرب فى الاتجاه السياسي إلى جماعة (اللجنة المركزية) إذ رأت أن الوحدة ضرورة للنجاح، وإن اختلفت معها في موضوع التوقيت الضروري اللازم، واعتقدت أن الوحدة ليست شرطا مسبقا للأخذ بزمام المبادرة، بل رأت على النقيض أن العمل هو خير سبيل للتقريب بين الجزائريين الذين يحبون وطنهم.

وتابع أعضاء (اللجنة الثورية) عند الاجتماعات السرية بين آذار (مارس) وتشرين الأول (أكتوبر) 1954، واجتمع كريم بلقاسم ومصطفى بن بو العيد في (الجزائر) وهما يمثلان قاعدتي الثورة الأساسيتين (القبائل والأوراس) واتفقا على حمل السلاح ضد الحكم الاستعماري وسرعان ما انضم إليهما الزعماء الأربعة الآخرون وحددوا المسؤوليات والأهداف، واتخذوا في اجتماعهم التاريخي الذي عقدوه في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) قرارهم الخطير بالبدء بالثورة في ليل (عيد جميع القديسين) أي في الساعة الواحدة من صباح الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)، واجتمع في غضون ذلك زعماء لجنة الثورة الموجودون في الخارج، في مراكز الاصطياف في سويسرا، لتنظيم عمليات شراء الأسلحة، وحشد تأييد الوطنيين الآخرين، وانضم عدد من أنصار (اللجنة المركزية) الى الحركة، لكن جميع المحاولات التي بذلت لإقناع (مصالي

ص: 18

الحاج) والمقربين من أنصاره بالعودة إلى (الجماعة) باءت بالفشل.

وقعت نحوا من ثلاثين هجمة متزامنة في جميع أنحاء الجزائر، على مختلف الأهداف العسكرية والبوليسية في صباح الأول من تشرين الثانى (نوفمبر) 1954، وقد اشترك فى هذا الهجوم نحوا من ألفين الى ثلاثة آلاف مجاهد، سلاحهم على الأغلب بنادق الصيد والأسلحة المحلية الأخرى، وقد تمكنت مفارز الهجوم الصغيرة من الانسحاب بعد اداء المهام التي عهد اليها بأدائها، وأقام اعصاء اللجنة الثورية في منطقة جبال الأوراس قواعد لعمليات مستمرة، يشنونها من المعاقل الجبلية التي لا يستطيع الفرنسيون الوصول اليها. وهكذا بدأت الثورة، أو الأزمة الطويلة التي (حولت التنافر الى وحدة).

تحولت (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) عشية يوم الثورة الى (جبهة التحرير الوطني) من الناحية السياسة، والى (جيش

التحرير الوطني) من الناحية العسكرية.

نظم في الوقت ذاته نسق قيادي ثان، ضم فيمن ضمهم (عمارنه وعبانه وناصر) عن القبائل، و (زيروت وبن طوبال) في شمال قسنطينة، و (شيهاني ونواوره) في الأوراس و (بوصوف) في وهران، و (سويداني ودحلب وبن خده) في الجزائر العاصمة؛ وكانت القيادة تتألف على الغالب من عسكريين يتمتعون بصلاحيات واسعة لاتخاذ القرارات المحلية، ومن بعض الجزائريين الذين يعيشون في خارج البلاد والذين تنحصر مهمتهم بالدرجة الأولى في الحصول على الاسلحة والمعدات للمجاهدين. وكانت مهمة (البعثة الخارجية)، كما اسميت فيما بعد،

ص: 19

الشعب الجزائري كله في السجن الاستعماري الكبير

ص: 20

مهمة للغاية؛ وهي تنظيم طرق الإمدادات عبر أراضي تونس والمغرب (مراكش) لفتح جبهات حربية جديدة في البلاد.

وظل هؤلاء الشبان يقودون (ثورة الجزائر) حتى شهر آب (اغسطس) عام (1956)، وانضم اليهم في غضون هذه المدة عدد من الأفراد المهمين من اعضاء اللجنة المركزية لحركة (انتصار الحريات الديموقراطية) ومن (الاتحاد الديموقراطي) لأنصار البيان - فرحات عباس) و (جماعة العلماء - أحمد توفيق المدني) واخد اكثرهم يعمل في (البعثة الخارجية) التي أخدت توسع نشاطها الدبلوماسي.

يظهر من ذلك ان هناك ثمة تداخل كبير بين القيادات السياسية والعسكرية القائمة في القمة من (جبهة التحرير الوطني) و (جيش التحرير الوطني)؛ ولقد ضمت جبهة التحرير الأعضاء الرئيسيين في هذه القيادات ضمن هيئتيها الحاكمتين، أما على المستويات المنخفضة، فعلى الرغم من الترابط القائم بين جهاز الجبهة وجهاز الجيش، فإن الجهازين منفصلين إلى حد ما؛ فعلى جميع مستويات الجيش، يرتبط المفوضون السياسيون أو المثقفون بالقيادة العسكرية، وهم يحملون نفس الرتب التي يحملها إخوانهم العسكريون، ويتولى المفضون السياسيون مهمة إعداد القواعد للعمليات العسكرية، عن طريق الدعاية والنشاط الإعلامي، وكذلك إقامة الإدارات المحلية للعناية بالشؤون غير العسكرية أثناء إقامة الجيش في منطقة من المناطق وبعدها، وتقوم الجبهة بمجهود أساسي في هذا الميدان لإقامة دولة داخل دولة، تتولى بالنسبة إلى الجزائريين سرا وعلانية، في المناطق المحررة، جميع الأعمال التي كانت تقوم بها الإدارة الفرنسية حتى الثورة، فيعمل المفوضون

ص: 21

السياسيون في كل قرية على تنظيم (مجالس الشعب).

وكما رفضت الجبهة فكرة (القيادة الفردية) على مستوى القيادة العليا، فكذلك فعلت على مستوى القاعدة حيث نظمت القيادة على أساس جماعي، والمهمة الرئيسية لهذه القيادة هي تنظيم العلاقات القوية بين قوات الثورة وجمهور الشعب، وتعبئة المنطقة للحرب، وتأمين جميع المتطلبات الأساسية للمواطنين. وتقوم (المجالس الشعبية) على أساس الانتخاب، ويرأس كل مجلس منها رئيس مسؤول عن القضايا المدنية، وعن نقل الشكاوى المحلية إلى السلطات العليا في كل الأحوال، وتتخذ القرارات بصورة مشتركة داخل (مجالس الشعب)، وهناك عضو ثان مسؤول عن القضايا المالية، مثل جمع الضرائب على أساس (القدرة على الدفع) واستخدام هذه الأموال بالطريقة الصحيحة، وثمة موظف ثالث مسؤول عن شؤون الدعاية والإعلام، وهو يقوم بتوزيع أنباء جبهة التحرير وجيشها، ويعمل على دعم الروح المعنوية، ويكتشف الخونة ويبلغ عنهم، ويؤمن توزيع البريد والاتصالات السريعة، ويتولى أيضا شؤون التعليم الابتدائي (الأولي)؛ وهذا الموظف هو المساعد المحلي للمفوض السياسي في المنطقة كلها، وهناك موظف رابع مسؤول عن شؤون التموين والمواد الغذائية، وخامس عن قضايا الشرطة والأمن العام، ولديه الصلاحيات لاستدعاء شرطة الجيش عند الضرورة، ويتولى بعض الأعمال الأخرى، مثل: توزيع المياه في القرية، وتنظيم الملاجىء وأمور الدفاع السلبي ضد السلطات الفرنسية؛ ويقوم هذا الموظف بإبلاغ قيادة الجبهة فورا عن كل ما يحدث، كما يعمل على تأمين إخفاء مجاهدي جيش التحرير في القرى إذا ما لزم الأمر، وينظم الاجتماعات التي تعقد في المنطقة

ص: 22

لقد عملت قيادة (جبهة التحرير الوطني) على تطوير تنظيمها بما يتناسب مع تطور عملها، غير أن التطور الحاسم لم يأخذ أبعاده الحقيقية إلا من خلال (مؤتمر الصومام) الذي عقد في 20 - آب - أغسطس - 1956، وما تم اتخاذه من مقررات في هذا المؤتمر.

ص: 23