المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الحمدُ لله نزَّل الكتاب، تحدَّى به الثقلين، فما وقع في - الإعجاز العلمي إلى أين

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقالة الأولىالإعجاز العلمي في القرآن

- ‌المقالة الثانيةتقويم المفاهيم في مصطلح الإعجاز العلمي

- ‌حقيقة الإعجاز العلمي ومؤداه

- ‌المقالة الثالثةالإعجاز العلمي

- ‌المقالة الرابعةتصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي

- ‌الفصل الأولأهمية تفسير السلف وكيفية التعامل معه

- ‌المبحث الأولأهمية تفسير السلف

- ‌المبحث الثانيكيفية التعامل مع تفسير السلف

- ‌المبحث الثالثاحتمال الآية القرآنية للمعاني المتعددة

- ‌الفصل الثانيضوابط قبول التفسير المعاصر

- ‌الضابط الأول: أن يكون القول المفسَّر به صحيحاً في ذاته:

- ‌الضابط الثاني: أن تحتمل الآية هذا القول الحادث:

- ‌الضابط الثالث: أن لا يبطل قول السلف:

- ‌الفصل الثالثاعتراضات على تفسير السلف

- ‌المبحث الأولوجود الخطأ في تفسير آحاد السلف

- ‌المبحث الثانيالإسرائيليات ومخالفتها للقضايا العلمية المعاصرة

- ‌المقالة الخامسةهل يصح أن ينسب الإعجاز للسُّنَّة

- ‌المقالة السادسةتعريف الإعجاز العلمي بالسبق هل هو دقيق في التعبير عن مضمونه

- ‌المقالة السابعةمصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور

- ‌المقالة الثامنةالتفسير بالإعجاز العلمي قائم على الظنِّ والاحتمال، وليس على اليقين

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس الفوائد العلمية

- ‌مراجع البحث

- ‌الفوائد

الفصل: ‌ ‌مقدمة الحمدُ لله نزَّل الكتاب، تحدَّى به الثقلين، فما وقع في

‌مقدمة

الحمدُ لله نزَّل الكتاب، تحدَّى به الثقلين، فما وقع في تحدِّيه ريب، وأصلِّي وأسلِّم على خير البشر؛ محمد بن عبد الله طيِّب الذكر، وعلى آله الأحباب، وأصحابه الكرام أولي الألباب، أما بعد:

فإني أسأل الله أن يقيني شرَّ نفسي، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يكون قصدي وهمِّي الذبُّ عن كتابه، وحمايته مما يلحقه من التحريف، وأن يُبعد عنِّي حظَّ النفس، ونزغ الشيطان.

وإني أسأله أن يُبصِّرني بالحق أينما كان، ويرزقني اتِّباعه، ويجنبي الخطأ والباطل، ويرزقني اجتنابه.

وبعد:

فهذه مقالات كتبتها في أوقات متباعدة، وكان أولها عام 1423هـ، وآخرها عام 1427هـ، كتبتها في تصحيح مسار (الإعجاز العلمي)، وإني لأرجو أن أكون وُفِّقت فيها إلى الصواب.

ولما طلب مني بعض الإخوة نشر هذه المقالات = رأيت أن أقدِّم لها بمقدمة تتعلق بمفهوم المعجزة على سبيل الاختصار؛ لتكون تمهيداً للحديث عن (الإعجاز العلمي)، فأقول ـ وبالله التوفيق ـ:

إنه ما من نبي إلا وكانت له آية تدل على صدقه في كونه مرسلاً من ربَّ العالمين، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.

ص: 5

لكن هذا لا يلزم منه أن تكون آيات الأنبياء عليهم السلام قد حُكيت لنا، فنحن لا نعرف آيات يونس عليه السلام، ولا سليمان عليه السلام، ولا يحيى عليه السلام، ولا إدريس عليه السلام، وعدم معرفتنا بها لا يعني عدم وجودها، بل نؤمن بوجودها بدلالة الحديث النبوي.

والأنبياء عليهم السلام تكون لهم أكثر من آية، وتتمايز هذه الآيات في عظمتها، لذا لا يلزم أن تكون كل آية من آياتهم مما برع به أقوامهم، وإنما يقال: مما يدركه أقوامهم، فعيسى عليه الصلاة والسلام كان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه بإذن الله (1)، وكذلك كان يخبر قومه بما يدَّخرونه في بيوتهم، فهل برع القوم في كل هذه الأمور؟!

وكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كانت أعظم آياته القرآن الكريم، وكان من آياته انشقاق القمر، والإسراء إلى بيت المقدس، وغيرها كثيرٌ، فهل برع العرب بكل موضوع هذه الآيات؟!

(1) يذكر بعض العلماء أن قوم عيسى عليه الصلاة والسلام قد برعوا في الطبِّ، ولم أجد لهذه المعلومة أصلاً صحيحاً، فقومه هم اليهود، ولم يشتهر اليهود بالطبِّ، ولعل قولهم هذا كان نتيجة لمقدمة عقلية (أي: أن كل نبي يأتي بمعجزة من جنس ما برع به قومه)، وكانت معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام تتعلق بإبراء المرض وإحياء الموتى، فظنوا في قوم عيسى عليه الصلاة والسلام معرفة الطبِّ والعناية به، وإلا فما الذي برع فيه قوم عيسى عليه الصلاة والسلام لما قال لهم إنه يُخبرهم بما يدَّخرون في بيوتهم؟!

وأول من رأيته أشار إلى هذا الجاحظ (ت:255هـ)، قال:«وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله، وعلى خاصة علمائه الطب، وكانت عوامهم تعظِّم على ذلك خواصهم، فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى، إذ كانت غايتهم علاج المرضى، وإبراء الأكمه إذ كانت غايتهم علاج الرمد، مع ما أعطاه الله عز وجل من سائر العلامات، وضروب الآيات؛ لأن الخاصة إذا بُخعت بالطاعة، وقهرتها الحجة، وعرفت موضع العجز والقوة، وفصل ما بين الآية والحيلة، كان أنجع للعامة، وأجدر أن لا يبقى في أنفسهم بقية» .

ص: 6

لذا فإن الأصوب أن يقال: إن مقام النظر أن تكون الآية مما يدركها قوم النبي عليه السلام؛ سواء برعوا فيها أو لم يبرعوا، تحدَّى بها النبي عليه السلام أو لم يتحدَّ بها، عارضها قومه أو لم يعارضوها، كانت ابتداءً أو كانت بطلب من القوم.

وقد شاع تسمية آيات الأنبياء عليهم السلام بالمعجزات، حتى غلب لفظ المعجزة على لفظ الآية في آيات الأنبياء، والوارد في القرآن تسميتها بالآية والبرهان والسلطان والبيِّنة.

ومنه قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} ، وقوله تعالى:{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .

وقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَاتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأَتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

وقوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَاكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

والآية: العلامة الدالة على صدق الرسول بأنه مُرسل من ربه، وهذا المصطلح هو الغالب في القرآن والسُّنَّة من بين المصطلحات الأخرى التي جاءت فيهما، وبقي هذا المصطلح في كلام الصحابة

ص: 7

والتابعين وأتباعهم (1)، حتى إذا برز أهل الجدل من المعتزلة، ودخلوا في جدالهم فيما بينهم (2) أو مع بعض الزنادقة الذين يطعنون في الإسلام، وقد ينتسبون إليهم أحياناً (3)؛ لما برز هؤلاء ظهر عندهم الحديث عن (المعجزة)(4)، وكانت كشأن غيرها من المصطلحات الحادثة البعيدة عن

(1) يرد سؤال في محلِّه، وهو: لماذا لم يتكلم الصحابة والتابعون وأتباعهم عن (المعجزة وإعجاز القرآن = الآية) كما هو الحال عند من بعدهم؟

الذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن الأمر مرتبط بالحاجة، فإعجاز القرآن كان مستقرّاً في أذهانهم، ولم يكن في عصرهم من يشكُّ في هذا أو يتكلم فيه؛ لذا لم تقع الحاجة إلى الكلام المسهب فيه، واقتصر الأمر على تفسير الآيات المتعلقة بالمعجزات من جهة بيان المعاني فحسب.

(2)

قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص: 64): «وسأل آخرٌ آخرَ عن العلم فقال له: أتقول إن سميعاً في معنى عليم؟ قال: نعم. قال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} هل سمعه حين قالوه؟ قال: نعم. قال: فهل سمعه قبل أن يقولوا؟ قال: لا. قال: فهل علِمه قبل أن يقولوه؟ قال: نعم. قال له: فأرى في سميع معنى غير معنى عليم. فلم يجب!

قال أبو محمد: قلت له وللأول: قد لزمتكما الحجة، فلم لا تنتقلان عما تعتقدان إلى ما ألزمتكما الحجة؟ فقال أحدهما: لو فعلنا ذلك لانتقلنا في كل يوم مرات! وكفى بذلك حيرة! قلت: فإذا كان الحق إنما يعرف بالقياس والحجة وكنت لا تنقاد لها بالاتباع كما تنقاد بالانقطاع فما تصنع بهما؟ التقليد أربح لك، والمقام على أثر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بك».

(3)

ومن هؤلاء ثمامة بن الأشرس، وهو منسوب للمعتزلة، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث:«ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله تعالى ويؤمن به. ومن المحفوظ عنه المشهور أنه رأى قوماً يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة فقال: انظروا إلى البقر! انظروا إلى الحمير! ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا العربي بالناس؟!» .

(4)

لقد كنت أتأمل سبب ظهور الحديث عن المعجزة عند المعتزلة، فبان لي أمرٌ أرجو أن أكون قد وُفِّقت فيه، وهو أن المعتزلة كانوا بحاجة إلى القول بالإعجاز بشرطي خرق العادة والتحدي لضعف قولهم في القرآن، فالقرآن عندهم (مخلوق)، لذا فالإعجاز لن يكون ذاتياً فيه، بل سيكون مخلوقاً فيه أيضاً، فاضطروا إلى النظر في الإعجاز لأجل هذا، والله أعلم. =

ص: 8

مصطلحات الكتاب والسُّنّة، لكن قدَّر الله لها الشيوع والذيوع.

لو وازنْتَ بين مصطلح القرآن والسُّنّة (الآية)، وهذا المصطلح الحادث (المعجزة) = لبان لك أن مصطلح القرآن والسُّنّة لا يحتاج إلى تلك الشروط التي عَرَّف بها هؤلاء مصطلح المعجزة؛ لأن الآية هي العلامة الدالة على صدق النبي، وهي مستلزمة لذلك إذا نطق بها، وعلى هذا جميع آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

أما مصطلح المعجزة، فاحتاج من يقول بها إلى تقييدات لها سمَّوها (شروط المعجزة)، وقد بُنيت هذه الشروط شيئاً فشيئاً حتى تكاملت إلى سبعة شروط عند المتأخرين (1)، وما دعاهم لذلك إلا الحرص على عدم انخرام التعريف الذي اختاروه لآيات الأنبياء وسمَّوه بالمعجزات.

= ثم إني نظرت في أقوالهم، فوجدت قول النَّظَّام بالصرفة هو أنسب وأليق بقول المعتزلة في (خلق القرآن)؛ لأن الإعجاز علي قوله سيكون خارجًا عن القرآن (المخلوق عن رأية).

(1)

قال الإيجي: (البحث الأول في شرائطها، وهي سبع:

الأول: أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه

الثاني: أن يكون خارقاً للعادة إذ لا إعجاز دونه

الثالث: أن يتعذر معارضته، فإن ذلك حقيقة الإعجاز.

الرابع: أن يكون ظاهراً على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له

الخامس: أن يكون موافقاً للدعوى

السادس: ألا يكون ما ادعاه وأظهره مكذباً له

السابع: أن لا يكون متقدماً على الدعوى بل مقارناً، لها لأن التصديق قبل الدعوى لا يعقل

) المواقف للإيجي، تحقيق عبد الرحمن عميرة (3: 338 - 339).

وبعض المتقدمين كان يكتفي بثلاثة منها، كما ذكر القرطبي:(فأما حقيقتها: فهو أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة). الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام، للقرطبي المفسر، تحقيق أحمد حجازي السقا (ص: 239).

ص: 9

وكما وقع الخلل في تعريف المعجزة، وقع الخلل أيضاً في أمور متعلقة بها يأتي بيان بعضها بإيجاز إن شاء الله.

وبما أن الأنبياء عليهم السلام ليست لهم معجزة واحدة، فإن ما يذكره بعض العلماء من شروطٍ للمعجزة فإنها لا تتناسب مع معجزات الأنبياء، ومن أهم الشروط التي ذكروها: أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي، وهذا الشرط لا يتناسب مع كثير من معجزاتهم، بل إنها كلها ـ إلا القرآن ـ لم يُتحدَّ بها، فبعضها عارضها الكفار ظنّاً منهم أنه بمقدورهم الغلبة على النبي عليه السلام كحال السحرة مع موسى، وبعضها طلبها المشركون آية للتصديق، ولم يتحدَّهم بها النبي عليه الصلاة والسلام؛ كانشقاق القمر، وبعضها حدث بين قوم مؤمنين؛ كانبجاس الماء لموسى عليه السلام، وما كان كذلك، فليس مقامه مقام التحدي، وبعضها حدث للنبي عليه الصلاة والسلام قبل نبوته؛ كشقِّ الصدر الذي كان له قبل بعثته (1).

ومن هنا تعلم أن اشتراط التحدي في تسمية المعجزة ليس بسديد، وإنما الذي دعا إليه هو حصر الحديث عن آيات الأنبياء بالآية العظمى لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن الكريم الذي تحدى الله به الإنس والجن.

وبمناسبة ذكر التحدي فإن بعض العلماء ذهب إلى التفريق بين المعجزة والكرامة بتفريقات منها: أن المعجزة يتحدى بها النبي عليه الصلاة والسلام، والكرامة تقع للولي ولا يتحدى بها.

وهذا التفريق محض اصطلاح، بل يصح تسمية ما يظهر على يد

(1) روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقةً، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طستٍ من ذهبٍ بماء زمزم، ثم لأمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعني ظِئْرَهُ ـ فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.

ص: 10

الولي معجزة، لكنها لا تكون كمعجزة النبي عليه الصلاة والسلام من حيث العظمة، ويمكن أن تظهر لوليٍّ غيرِه، أما معجزة النبي عليه الصلاة والسلام فلا تظهر ـ إن ظهرت ـ إلا لنبي مثله، لذا ورد التحدي في بعض معجزات الأولياء لإثبات صدق الدين الذي يتبعه، ومن ثَمَّ فإن التفريق بالتحدي ليس عليه دليل من واقع المعجزات التي ظهرت على يد نبي أو ولي.

ومما وقع من شروط المعجزة، وليس موافقاً لواقع معجزات الأنبياء دعوى (أن تكون المعجزة مقارنةً لدعوى النبوة)، والحال أن هناك معجزات كانت قبل دعوى النبوة، وهناك معجزات حصلت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما ظهر بعده من معجزات غيبية أخبر عنها القرآن الكريم، كقوله تعالى:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فقد دخل غير العرب في دين الله أفواجاً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لهذا الخبر.

ومما وقع في تعريف المعجزة من خلل ما يُذكر من كون المعجزة خارقة للعادة، وقد أوقع هذا الشرط فريقين في الخلل لكونهم لم يفرقوا بين خوارق العادات حيث جعلوها من جنس واحد، فمنع قوم خرق العادة لغير النبي عليه الصلاة والسلام فأنكروا الكرامات والسحر، واختلط على آخرين فجعلوا السحر من جنس ما يُخرق من العادة للأنبياء عليهم السلام، وذهبوا إلى أنه لا يمكن التفريق بين معجزة النبي عليه الصلاة والسلام وغيرها = إلا بالتحدي أو بدعواه أنه نبي من عند الله سبحانه.

والحق في هذا أن خرق العادة الذي يكون للأنبياء لا يستطيعه أحد من الخلق مطلقاً؛ لأنه من عند الله تأييداً لنبيه وتصديقاً له، ولو استطاعه غيرهم لاختلط على الناس الأمر.

ص: 11

لذا يمكن القول بأن خرق العادة نوعان:

الأول: الخرق المطلق الكلي، وذلك لا يكون إلا لنبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.

الثاني: خرق نسبي، وهو ما يقع لغيرهم، وهذا الخرق يتفاضل فيه الناس، فالسحرة ـ مثلاً ـ بعضهم أقوى في خرق عادة السحرة من بعض لذا يمكن معارضته فيما بينهم، أما ما يأتيهم من جهة النبي عليه الصلاة والسلام فإنهم يقرون بأنه مما لا يمكنهم صنعه ـ إلا ادعاءً كاذباً ـ ولا معارضته، لذا آمن السحرة بموسى لِمَا علموا من كون ما أتى به لا يمكن أن يكون من جنس ما يأتي به المخلوق أبداً.

كما أن مما يحسن التنبه له في موضوع (معجزات ـ آيات ـ الأنبياء) أنها ليست هي الطريق الوحيد لإثبات نبوة الأنبياء، لذا تجد أن أغلب الناس يؤمنون بدون أن يظهر لهم البرهان والحجة على معجزة من المعجزات، ومما يدلُّ على ذلك الأمثلة على ذلك ما وقع من أسئلة هرقل (ملك الروم) لأبي سفيان، فقد استدل هرقل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بأحواله، والأحوال من أعظم ما يمكن فيه معرفة الكاذب من الصادق.

واليوم ترى ـ وقبله كذلك ـ فئاماً من الناس يؤمنون برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن طريق إيمانهم به هو المعجزات، بل كان إيمانهم بأقل من ذلك بكثير، وهذا معروف مشتهر بين من يدعون الكفار إلى توحيد الله وتعبيد الناس له.

ومما يحسن التنبه له في (إعجاز القرآن) أن هذا المصطلح أحدث بلبلة في التفريق بين ما تُحدِّي به العرب صراحة وبين (دلائل الصدق) الأخرى التي فيه التي سمَّاها العلماء (أنواع الإعجاز القرآني)؛ كالإخبار بالغيوب، فظنَّ بعض الناس أنها داخلة في التحدي، والصحيح أنها دلائل صدق، لكنها ليست مما تَحدى الله به الإنس والجن، وأوضح

ص: 12

الأدلة على ذلك أن الله قد نزل بالتحدي إلى سورة من مثل القرآن في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

وإذا جمعت الوجوه التي حُكيت في أنواع الإعجاز ـ سوى الصرفة ـ وجدت أنها لا تكون في كل سورة، بل تتخلف في كثير من السور، فمثلاً: ليس في كل السور إخبار بالغيب.

أما الذي يوجد في كل سورة بلا استثناء فهو الوجه المتحدى به، وهو ما يتعلق بالنظم العربي لهذا القرآن (لغة وبلاغة وأسلوباً) بأي اصطلاح اصطلح عليه العلماء؛ كقول بعضهم: الإعجاز البلاغي، وقول آخرين: الإعجاز البياني

إلخ، فإن مرجعها إلى النظم العربي المتميز لهذا القرآن الكريم.

والتأمل في هذا النظر الذي ذكرته لك يُبينُ لك حقيقةً مهمة، وهي أن الوصف بالتحدي منطبق على هذا الوجه دون ما سواه، وأن المتحدى به هو المعجز إعجازاً تامّاً تامّاً، بحيث لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وإذا تأملت ما ورد في القرآن عن العرب من وصف القرآن بأوصاف = وجدت أن هذه الأوصاف مرتبطة بالكلام أكثر من ارتباطها بالمضمون الذي هو جديد عليهم، وليس من علومهم (1)، فقالوا: قول ساحر، وقالوا: قول كاهن، وقالوا: قول شاعر، قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ

(1) هذا الموضوع، وهو تميز موضوعات (معلومات) القرآن وعلوَّها وجِدَّتَها على العرب من البحوث المهمة التي يحسن الكتابة فيها، والملاحظ أن العرب لم يستطيعوا أن يعترضوا على موضوعات القرآن سوى أنهم وصفوه بأساطير الأولين، وبأنه إفك، وبأنه مما درسه أو أخذه عن غيره، وكلها تخرصات ووهم وظنون قد ردَّ الله عليها في القرآن تفصيلاً، ثم ردَّ عليها إجمالاً بالتحدي بأن يأتوا بسور من مثله.

ص: 13

بِمَا تُبْصِرُونَ *وَمَا لَا تُبْصِرُونَ *إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ *ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال تعالى:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} .

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ *قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ *فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .

وقال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} .

وكذا إذا أضفت ما ورد في السيرة من أوصاف الكفار لروعة هذا الكتاب، كالوصف الوارد عن الوليد بن المغيرة في سبب نزول قوله تعالى:{إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ، وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي، عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا: والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألستُ أكثرهم مالاً وولداً. فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال

ص: 14

الوليد: أقد تحدث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] إلى قوله: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [المدثر: 28].

وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله:{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} الآية [المدثر: 19]، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] قبض ما بين عينيه وكلح.

والمقصود أن الذي ينتظم ـ من وجوه الإعجاز المحكية ـ في كلِّ سورة، ولا يتخلف عن واحدةٍ منها = هو ما يتعلق بالنظم العربي، وهو المتحدَّى به، دون ما سواه من أنواع الأوجه المحكية في إعجاز القرآن.

وإذا جاز لنا أن نعدل عن مصطلح (أنواع إعجاز القرآن) إلى (دلائل صدق القرآن)، فإنه يمكن القول بأن وجوه صدق هذا الكتاب تظهر في جوانب كثيرة جداً:

منها ما دلَّ عليه الله بقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .

ومن وجوه صدقه حفظُه من التبديل والتغيير طيلة هذه القرون، ومن وجوه صدقه كونُه حقّاً في كل أموره كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لَا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، إلى غير ذلك من وجوه الصدق الكثيرة التي سمَّاها بعض العلماء (وجوه الإعجاز) كما فعل السيوطي (ت:911هـ) في كتابه (معترك الأقران في إعجاز القرآن).

وبعض دلائل الصدق (أنواع الإعجاز) ليست مختصةً بالقرآن، بل هي مرتبطة بكلام الله سبحانه وتعالى، سواءٌ أكان كلامَ الله النازل على إبراهيم عليه

ص: 15

الصلاة والسلام (الصُّحف)، أو على موسى عليه الصلاة والسلام (التوراة)، أو على عيسى عليه الصلاة والسلام (الإنجيل)، أو على غيرهم من الأنبياء؛ لذا فإن ما يحكيه بعض المعاصرين من وجوه إعجاز جديدة؛ كإطلاق مصطلح (الإعجاز العقدي) أو (الإعجاز التشريعي) أو (الإعجاز العلمي) أو غيرها = فإنها غير مختصَّة بالقرآن وحده، بل هي عامَّةٌ في كلام الله النازل على رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام.

وبعد ..

فإن الحديث عن (المعجزة) طويل، وليس المراد في هذه المقدمة التفصيل، بل لقد أجملت كيما لا يتشعب الحديث ويطول.

وأخيراً أقول: ليس المراد في نقدي لمصطلح (المعجزة) التخلي عن هذا المصطلح الذي توارد عليه العلماء جيلاً بعد جيل، وإنما المراد تصحيح بعض ما وقع في هذا الموضوع، والاجتهاد في ردِّ تعريف المعجزة إلى مصطلح الكتاب والسُّنّة قدر الطاقة.

ويمكن تعريف المعجزة بالآتي:

آية النبي المختصَّة به، الخارقة للعادة، التي لا يقدر الخلق على الإتيان بمثلها، الدالة على صدق النبي تارة، وعلى غير ذلك تارة.

وإني لأسأل الله أن يغفر لي ولوالدي ولأهل بيتي، وأن يسددني ويبارك لي في وقتي، وأن يجعلني من خدم كتابه الكريم، إنه سميع مجيب.

الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار الأستاذ المشارك بقسم الدراسات القرآنية كلية المعلمين/جامعة الملك سعود

ATTYYAR@HOTMAIL.COM ATTYYAR@GMAIL.COM WWW.TAFSIR.NET

ص: 16

المقالة الأولى

الإعجاز العلمي في القرآن

ص: 17