الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
أهمية تفسير السلف وكيفية التعامل معه
المبحث الأول
أهمية تفسير السلف
إن معرفة تفسير السلف أصل أصيل من أصول التفسير، ومن ترك أقوالهم، أو ضعف نظره فيها، فإنه سيصاب بنقص في العلم، وقصور في الوصول إلى الحق في كثير من آيات القرآن (1).
وإن من استقرأ تاريخ السلف مع كتاب الله؛ وجد تمام عنايتهم بكتاب الله حفظاً وتفسيراً وتدبراً واستنباطاً، كيف لا؟! وكتاب الله هو العصمة والنجاة، لذا لا تراه خفي على الصحابة شيء من معانيه ولم يستفصلوا من الرسول صلى الله عليه وسلم فبقي عليهم منه شيء غامضٌ لا يعرفونه.
وكذا الحال بالتابعين، الذين هم أكثر طبقات السلف في التفسير، وعددهم فيه كثير، لقد سألوا عن التفسير، واستفصلوا فيما غمُض عليهم، ولهم في ذلك أقوال، ومن أشهرها ما رواه الطبري بسنده عن الشعبي، قال:«والله ما من آية إلا سألت عنها، لكنها الرواية عن الله تعالى» (2).
وروى بسنده عن مجاهد، قال: «عرضت المصحف على ابن عباس
(1) قد أشار بعض العلماء إلى أهمية معرفة علم السلف وما لهم فيه من الفضل، ومن أنفس ما كُتِب في ذلك كتاب (فضل علم السلف) لابن رجب الحنبلي.
(2)
تفسير الطبري، تحقيق معالي الدكتور عبد الله التركي (1: 81).
ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأسأله عنها» (1).
وبقي الحال كذلك في أتباع التابعين الذين كانوا أكثر طبقات السلف تدويناً للتفسير، وجمعاً لما روي عن الصحابة والتابعين، وفي عصرهم ظهر أول مدوَّن كاملٍ في التفسير (2)، وكان لهم أقوال في التفسير، كما كان لهم اختيارات من أقوال من سبقهم، وهذا يعني أن من استقرأ تفسير السلف وجد أنهم قلَّما يتركون آية لا يتكلمون عنها، ويبينون ما فيها من المعاني، سواءٌ اتفقوا في تفسيرهم أم كان اختلافهم فيه اختلاف تنوع (3)، أو اختلاف تضادٍّ (4)، والتضاد في تفسيرهم قليل.
كما سيظهر للمستقرئ أن ما تركوه إنما هو واضح ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وأنَّ كثيراً مما بحثه المتأخرون إنما يتعلق بمسائل علمية خارجة عن حدِّ التفسير الذي هو بيان معاني القرآن، وبحث بعض هذه المسائل موجود في تفاسير السلف، لكنه توسع وزاد في تفاسير المتأخرين.
لكن مما يحسن ذكره هنا أن يعرف المفسر المعاصر أن اجتهاده في التفسير سيكون في أمرين:
الأمر الأول: الاختيار من أقوال المفسرين السابقين.
الأمر الثاني: الإضافة على ما قاله السلف، ولكن يحرص على أن يكون مضيفاً لا ناقضاً ومبطلاً لأقوالهم.
(1) تفسير الطبري، تحقيق معالي الدكتور عبد الله التركي (1: 85).
(2)
أعني: تفسير مقاتل بن سليمان.
(3)
التنوع: ما تحتمله الآية من أقوال؛ كتفسيرهم للصراط المستقيم بأنه القرآن أو الإسلام، وهو يحتمل هذين الأمرين احتمالاً متنوعاً لا متناقضاً متضادّاً، فلو قيل بهما معاً لأمكن ذلك.
(4)
هما القولان اللذان إذا قيل بأحدهما في الآية سقط الآخر؛ كتفسير القرء بالطهر والحيض، فإذا قيل بالطهر سقط الحيض، وإذا قيل بالحيض سقط الطهر، إذ لا يمكن اجتماعهما في زمن واحدٍ بحيث يُطلب من المرأة أن تتربص بالأطهار والحيض معاً.
ومثال هذه المسألة في جملة: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، فهذه الجملة واضحة المعنى من حيث التفسير، لكن المراد بيانه هو ذلك المسلوب، ما هو؟
والمتقدمون يقولون: وإن يسلب الذباب الآلهة والأوثان شيئاً مما عليها من طيب أو طعام وما أشبهه لا تقدر الآلهة أن تستنقذ ذلك منه، وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من السلف؛ منهم: عبد الله بن عباس (1)، والسدي الكبير (2)، وابن جريج (3)، وعلى هذا المعنى سار المفسرون خلفاً، ولم يغفلوا عن بيان المثل المضروب الذي هو المقصود بضرب المثل، ومن ذلك ما قاله الطبري (ت:310): «
…
وإنما أخبر ـ جَلَّ ثناؤه ـ عن الآلهة بما أخبر عنها في هذه الآية من ضعفها ومهانتها = تقريعاً منه بذلك عَبَدَتَها من مشركي قريش؛ يقول تعالى ذكره: كيف يُجعل لي مِثْلٌ في العبادة ويُشرَك فيها معي ما لا قدرة له على خلق ذباب = وإن استذلَّه الذباب فسلبه شيئاً عليه لم يقدر أن يمتنع منه ولا ينتصر، وأنا الخالق ما في السماوات والأرض، ومالكٌ جميعَ ذلك، والمحيي من أردت، والمغني ما أردت ومن أردت؟! إنَّ فاعل ذلك لا شك أنه في غاية الجهل» (4).
وفي هذا العصر ظهر اكتشاف غريب في الذباب، وهو أنه إذا ابتلع شيئاً من الطعام، فإنه يتحول في جوفه إلى مواد أخرى لا يمكن
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله (5: 308 - 309).
(2)
ذكره السيوطي في الدر المنثور، ونسبه إلى ابن أبي حاتم (10: 540).
(3)
زاد المسير (5: 308).
(4)
تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (16: 636 - 637).
استرجاعها إلى مادتها الأولية (1).
وهذا المعنى المذكور ينطبق على الوصف المذكور في الآية، وهو قوله تعالى:{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، لكن من الذي لا يستطيع استنقاذه عند من يذهب إلى هذا التفسير؟
سواءً أقال: لا تستطيع الآلهة، أو قال: لا يستطيع الناس، فإن الوصف صحيح منطبق على معنى الجملة، لكن السياق في الآلهة وليس في الناس كما ترى.
وهذا القول إذا قيل به على أنه احتمال ثانٍ مما تحتمله الآية، فإنه يصح تفسير الآية به على أنه مثال آخر من أمثلة ما لا يستطيعون استنقاذه مما يأخذه الذباب، وليس بمبطل لقول السلف.
وتفسير السلف أولى لأن ما قالوه ظاهر لجميع الناس يدركونه بلا حاجة إلى مختبرات، بخلاف القول المعاصر الذي لم يره إلا النادر من الناس، ولا يدركه تمام الإدراك إلا القلة منهم، فليس كل الناس عندهم مختبرات يمكنهم أن يروا تحوُّل مادة الطعام التي يأكلها الذباب.
ومع هذا الترجيح يبقى ما قاله المعاصرون قولاً صحيحاً محتملاً يمكن القول به، لكن القاعدة السليمة في ذلك: أن تثق بمعرفة السلف وتفسيرهم لجميع القرآن، وأنهم لم يخرجوا عن الفهم الصحيح في تفسيرهم، ثم تعرف ما يمكن لمن جاء بعدهم عمله من الاختيار أو الزيادة المقبولة.
وهذا المثال التطبيقي هو المنهج لمن أراد أن يزيد على تفسير السلف، وأن يأتي بجديد من المعاني أو الاستنباطات، فهو لا يترك ما قالوه، ولا يجمد عنده فلا يأتي بجديد.
(1) ينظر على سبيل المثال: موسوعة الإعجاز العلمي، ليوسف الحاج أحمد، نشر مكتبة ابن حجر بدمشق (ص: 514).