الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
اعتراضات على تفسير السلف
قد يقع عند بعض المعتنين بالإعجاز اعتراض على هذه القضية من جهتين:
الأولى: أن الواحد من السلف قد يخطئ، فكيف أكون ملزَماً بقوله.
الثانية: أن في تفسير السلف إسرائيليات، وبعضها يتعلق بأمور كونية أو تجريبية قد ثبت خطؤها.
وهاتان مسألتان من المهم دراستهما في هذا المقام، وإليك تفصيلهما في المبحثين الآتيين:
المبحث الأول
وجود الخطأ في تفسير آحاد السلف
أقول: إن وقوع الخطأ من الواحد منهم غير بعيد، سواءً أكان في التفسير، أم في معرفة هذه القضايا كما هي في الواقع، إذ قد يتكلمون في ذلك باجتهادهم، أو بما وصلهم من العلم المعاصر لهم.
لكن الحكم بالخطأ لا يتأتى لكل واحد، ولا بدَّ من التريث حال الحكم بالخطأ على تفسير ما، وليس هناك ما يمنع من التخطئة إذا ثبت وقوع الخطأ، لكن الذي يحسن التنبه له أن بعض أقوالهم قد يكون لها وجه يجهله المخطِّئ، ولو حمله على ذلك الوجه الذي ذكره الواحد من السلف لصحَّ عنده، وهذا باب في أصول التفسير مهم، وهو (توجيه
أقوال السلف) فمن تعلَّم طرائق توجيه أقوالهم وجد كثيراً منها له وجه معتبر، وإن كان غير راجح عند بعض العلماء، ولأذكر لك مثالاً تهتدي به في هذا المقام.
ذكر الطبري (ت:310هـ) تفسير السلف لاستحياء النساء من قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، وذهب جمهورهم في التعبير عن ذلك بأنهم يبقونهنَّ على قيد الحياة، ثم ذكر قولاً لابن جريج يخالف تعبيره تعبيرَهم، قال: «وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج فقال بما:
حدثنا به القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين بن داود قال: حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: {وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} قال: يسترقُّون نساءكم.
فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: {وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} : إنه استحياء الصبايا الأطفال إذ لم يجدهن يلزمهن اسم نساء، ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله:{وَيْسَتَحْيُونَ} : يسترقُّون، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية، وذلك أن الاستحياء استفعال من الحياة، نظير الاستبقاء من البقاء، والاستسقاء من السقي، وهو من معنى الاسترقاق بمعزل» (1).
ولو التمست لتفسير ابن جريج (ت:150هـ) وجهاً في التأويل، وذهبت إلى أنه فسَّر جملة {وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} بلازمها، وهو كون هؤلاء الفتيات الصغيرات سيكنَّ رقيقات حال كِبَرِهنَّ واستطاعتهن للخدمة، لكان وجهاً حسناً مليحاً، فيكون تفسير الجمهور مبيناً عن معنى اللفظ من جهة
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط: دار هجر (1: 651).
اللغة، وتفسير ابن جريج (ت:150هـ) مبينٌ عن لازم هذا الاستحياء، وهو الاسترقاق، فإذا ذهبت بقوله هذا المذهب صار القولان مقبولين، ولَمَا احتجت إلى ردِّ قول ابن جريج (ت:150هـ) كما ذهب إلى ذلك الإمام الطبري (ت:310هـ) الذي ذهب بقول ابن جريج (ت:150هـ) إلى التفسير اللفظي، فأنكره عليه.
ولو سار من يبحث في الإعجاز العلمي على هذا النموذج، وحرص على تفهُّم قول السلف، واجتهد في تخريج أقوالهم، وتعرَّف على طريقتهم في التفسير لسَلِم من انتقاد أقوالهم، والتنقُّص لعلمهم، كما وقع في كتاب (من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار) فقد جاء في هذا البحث عبارات ما كان لها أن تكون لو كان الباحث يتبع منهج الاعتداد بقول السلف، والحرص على تفهُّم أقوالهم، وتخريجها بحملها على المحمل العلمي المناسب لها، ومما جاء في هذا الكتاب ما يأتي:
1 -
في تعليقه على أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53]، قال:«ولم يتيسر للمفسرين الإحاطة بتفاصيل الأسرار التي ألمحت إليها الآية؛ لأنها كانت غائبة عن مشاهدتهم، وتعددت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية» (1).
ثم ذكر أقوال المفسرين: ابن الجوزي وأبي السعود والبيضاوي والشنقيطي وطنطاوي جوهري وغيرهم، ثم قال: «فتأمل كيف عجز البشر عن إدراك تفاصيل ما قرره القرآن الكريم، فمن المفسرين من ذكر أن البرزخ أرضاً أو يبساً (حاجز من الأرض).
(1) من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، نشر هيئة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنَّة/رابطة العالم الإسلامي (ص: 17).
ومنهم من أعلن عجزه عن تحديده وتفصيله، فقال:«هو حاجز لا يراه أحد» ، وهذا يبين لنا أن العلم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه ما يفوق إدراك العقل البشري في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد عصره بقرون.
وكذا الأمر في الحجر المحجور، فقد ذهب بعض المفسرين إلى حملها على المجاز، وذلك بسبب نقص العلم البشري طوال القرون الماضية
…
» (1).
ثم ذكر ما توصل إليه الباحثون المعاصرون في عالم البحار في مسألة البرزخ والحجر المحجور، ثم قال: «فانظر كيف حارت العقول الكبيرة عدة قرون ـ بعد نزول القرآن الكريم ـ في فهم الدقائق والأسرار، وكيف جاء العلم مبيناً لتلك الأسرار، وصدق الله القائل:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل: 93]، وانظر كيف استقر المعنى بعد أن كان قلقاً
…
» (2).
ومؤدى هذا الكلام أن المفسرين السابقين لم يهتدوا إلى معرفة معنى هذه الآية، وأن معناها لم يظهر إلا في هذا العصر.
ولا يخفاك أن هذا من عدم فهم أصول التفسير، وتقرير صحة ما ذهب إليه المفسرون من السلف، ثم بناء علم آخر عليه، وليس الاعتراض عليه كما هو الحال في هذا المثال.
والباحث الكريم الذي توصل إلى هذه النتيجة في فهم معنى الآية لم يبين للقارئ عدم تطابق ما ذكره المفسرون مع معنى الآية بأي وجه من الوجوه، بل راح يفند أقوالهم بالجملة، ثم يبيِّن أن ما توصل إليه
(1) من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، نشر هيئة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنَّة/رابطة العالم الإسلامي (ص: 20 - 21).
(2)
من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، نشر هيئة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنَّة/رابطة العالم الإسلامي (ص: 31).