الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقالة الثامنة
التفسير بالإعجاز العلمي قائم على الظنِّ والاحتمال، وليس على اليقين
المقالة الثامنة
التفسير بالإعجاز العلمي قائم على الظنِّ والاحتمال، وليس على اليقين
لقد بقي تفسير القرآن بما ورد في كتب العلوم التجريبية والكونية يسمَّى بالتفسير العلمي، وهو اجتهاد في ربط بعض ظواهر الكون المكتشفة حديثاً بالقرآن، وإبراز أن القرآن قد دلَّ عليها، وهذه النتيجة لا تختلف عن الانتقال من تسمية هذه الظاهرة التفسيرية الجديدة باسم الإعجاز العلمي، فهذا يفسر، وذاك يفسر، وإنما الاختلاف في كون المفسَّر به نظرية أو حقيقة.
وفي كلا الحالتين (أي: كونه تفسيراً علميّاً أو إعجازاً علميّاً) لا يختلف الحال في أن تفسير القرآن بهذا أو ذاك إنما هو تفسير احتمالي ظني.
فلو وصلنا إلى ظاهرة كونية ما، إلى كونها حقيقة علمية ثابتة، فإنَّ رَبْطَنَا لها بالقرآن، وجعلنا لها تفسير لآية من الآية جهد بشري ظني احتمالي، وهو كأي تفسير اجتهادي آخر غيره لا يختلف عنه، ولا شكَّ أن مخرج هذا التفسير هو الرأي والاجتهاد.
ومن ادعى في (الإعجاز العلمي) خلاف ذلك، فهذا يدلُّ على خلل علمي في فهم التفسير عند الجازم بالتفسير بالإعجاز العلمي.
ولأضرب لكم مثالاً تتضح به المسألة:
يقول الشيخ عبد الله المصلح: (إن الإعجاز العلمي هو الأمر
الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة الذي يتعلق ببحث قضية علمية وصل العلم فيها إلى سقف المعرفة، وكانت دلالة النص عليها دلالة ظاهرة، فاتفقت الحقيقة العلمية مع الدلالة الشرعية الظاهرة الواضحة في القرآن والسُّنَّة .. الله سبحانه وتعالى حدثنا في كتابه عن أخفض وأدنى بقعة في الأرض ذاكرا أنها البقعة التي وقعت فيها معركة بين الروم والفرس، فقال جلَّ ذكره:{الم *غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2] أين غلبت؟ {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 3] في أدنى بقعة من الأرض تحت مستوى سطح البحر وهي المنطقة القريبة من بحيرة طبرية إحدى بقاع أغوار الأردن، والتي تنخفض عن سطح البحر 395م.
{غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} أي: في تلك البقعة المنخفضة .. فكيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم ومن أخبره بذلك؟
إنه الله الذي خلق الأرض ويعلم حقائقها وأسرارها سبحانه وتعالى .. لقد فهم أكثر الأولين أن الأدنى هو الأقرب؛ لأن المعركة وقعت في منطقة متاخمة للجزيرة العربية، وهو فهم صحيح يحتمله النص لغةً وحدثاً إلاّ أن مكتسبات العلم الحديث أعطتنا معنى هو أكثر دقة في بيان دلالة اللفظ القرآني على موقع الحدث .. وهو ما لم يكن من الأولين أن يدركوه في ضوء إمكاناتهم ومعارفهم .. إن أدنى الأرض أخفضها وأدناها عن مستوى سطح البحر، وهذا المعنى لم يكن معروفاً أو مكتشفاً من الناحية الجيولوجية، وعُرف حديثاً بعد أن رُصدت بقاع الأرض وأجريت الدراسات لمعرفة أعلى بقعة في العالم عن مستوى سطح البحر، وهي قمم جبال الهملايا بشرق آسيا، وأدنى نقطة في منطقة البحر الميت. وفي ضوء هذا المعنى يكون القرآن قد أخبرنا عن أدنى بقعة في الأرض وهي الأرض التي دارت فيها تلك المعركة. ويؤكد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما
فسَّرها بأرض الأردن وفلسطين، وهذه بعض شواهد الإعجاز في القرآن وهي كثيرة ومتجددة) (1).
إن النتيجة التي يريد أن يصل إليها الشيخ الفاضل أن (أدنى) في الآية بمعنى (أخفض)، والسؤال القائم كالآتي:
هل يمكن (الجزم) بأن هذا المعنى مرادٌ من الآية؟
إذا كان نعم، فما الدليل؟
وإذا كان لا، فإن معنى هذا أن دلالة الآية على هذا الاكتشاف الذي يُقال بأنه حقيقة علمية دلالة احتمالية ظنية، وما دام دلالة احتمالية ظنية فأين مقام الإعجاز؟!
وأما قوله حفظه الله: (فاتفقت الحقيقة العلمية مع الدلالة الشرعية الظاهرة الواضحة في القرآن)، فإن دعوى الاتفاق ظنيٌّ وليس يقينيّاً، فهو في نظر بعض الناس فقط، وهذا محل نظر واجتهاد، فالحقيقة العلمية قد تكون صحيحة، والآية الشرعية لا خلاف فيها، لكن الخلاف في دعوى الاتفاق والربط بين هذه الحقيقة العلمية وتلك الحقيقة الشرعية، وهذا الاتفاق الظني هو مناط الإعجاز العلمي عند المعتنين به.
ولا يخفى على من ينظر في كلام بعض المعتنين بالإعجاز من إيراد تفسيراتهم بالإعجاز العلمي على أنها حقٌّ مطلقٌ، ويعبِّرون بعبارات توهم هذا، ومن ذلك قول الشيخ الفاضل هنا:{غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 2 - 3] أي: في تلك البقعة المنخفضة .. فكيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم ومن أخبره بذلك؟
فقوله هذا يلزم منه أن محمداً صلى الله عليه وسلم عرف هذا المعنى، ولكننا لا نجد فيما بين يدينا من كتب التفسير أي إشارة لمعرفته صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى.
وإذا كان لا نجد أي إشارة في كتب التفسير لمعرفته صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى،
(1) ينظر كلامه على هذا الرابط: http://www.nooran.org/0/ 3/3 - 1.htm.
فإن هذا التعبير من الشيخ عبد الله ادِّعاءٌ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يجوز إلا ببرهان.
ومما قد يقوله من يرى صحة هذا الادعاء أنه عرفه ولم يخبر به.
وهذا يعني أن هذا المعنى الذي عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر لبعض المعاصرين فقط دون غيرنا من الصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا، فهل يُعقل مثل هذا؟!
وأما إن قال قائل: إنك حملت كلام الشيخ عبد الله على غير محمله، وهو يريد أنه عرف اللفظ، وهو (أدنى) قراءة.
فأقول: إن هذا لا يُتصوَّر فيه الاختلاف، فكلنا نقر ونجزم بذلك؛ لأنه بلغنا عنه صلى الله عليه وسلم، وإنما الخلاف في معنى (أدنى) فلينتبه لذلك.
ومحصلة القول: أننا لو أجزنا تفسير (أدنى) بأنه (أخفض)، وليس هو كذلك عندي، فإن هذا التفسير رأي واجتهاد واحتمال وظنٌّ، وليس تفسيراً يقينيّاً بأن هذا المعنى مرادٌ من هذا اللفظ.
وإذا أدركت هذا بان لك وظهر سقوط شطر من مصطلح الإعجاز العلمي الذي يقوم في تفسيراته على الظن والاحتمال.