الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منها من يروم البحث في الإعجاز العلمي، لكي يكون بحثه على أصول علمية صحيحة. فمعرفتهم له مهمٌّ للغاية، ولا يمكنهم الانفكاك عنه؛ لأنهم قد يقعون في تخطئة أقوال صحيحة، وهم لا يشعرون، ولو أدركوا هذا الأصل لما حصل منهم مثل هذه التخطئة لبعض أقوال المفسرين.
المبحث الثالث
احتمال الآية القرآنية للمعاني المتعددة
ما دمت قد ذكرت لك بعض الأمثلة التفسيرية، وطريقة معالجتها من جهة التفسير، وكيفية احتمال الأقوال الحادثة، فيحسن أن أرجع بك إلى الأصل الذي تنبثق منه هذه التطبيقات، وهو أن الآية إذا احتملت أكثر من معنى صحيح ليس بينها تناقض جاز حمل الآية عليها، وقد نصَّ العلماء على هذه القاعدة في مواطن كثيرة، وسأذكر لك بعض نصوص العلماء في ذلك:
1 -
قال محمد بن نصر المروزيُّ (ت:294)(1): «وسمعتُ إسحاقَ (2) يقولُ في قولِه: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]: قدْ يمكنُ أنْ يكونَ تفسيرُ الآيةِ على أولي العِلْمِ (3)، وعلى أمراءِ السَّرَايَا (4)؛ لأنَّ الآيةَ الواحدةَ
(1) محمد بن نصر، أبو عبد الله المروزي، الإمام الفقيه، رحل في طلب العلم، واستوطن سمرقند، أخذ عن إسحاق بن راهويه وغيره، وأخذ عنه ابنه إسماعيل وغيره، توفي سنة (294هـ). تاريخ بغداد (3: 315 - 318)، سير أعلام النبلاء (14: 33 - 40).
(2)
هو إسحاق بن راهويه المروزي، الحافظ المحدث، له كتاب التفسير، توفي سنة (238هـ). تاريخ بغداد (6: 345 - 355)، معجم المفسرين لعادل نويهض (1: 85 - 86).
(3)
قال به: ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وأبو العالية، ومجاهد، وبكر بن عبد الله المزني، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن أبي نجيح،، وعطاء بن السائب، والحسن بن محمد بن علي.
ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: الدكتور عبد الله التركي (7: 179 - 181)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب (3: 989).
(4)
قال به: أبو هريرة، وابن عباس، وميمون بن مهران، والسدي، وابن زيد. =
يفسِّرُها العلماءُ على أوجهٍ، وليس ذلك باختلافٍ. وقد قالَ سفيانُ بنُ عُيَينَةَ: ليسَ في تفسيرِ القرآنِ اختلافٌ إذا صَحَّ القولُ في ذلكَ (1). وقالَ: أيكونُ شَيءٌ أظهرَ خِلافاً في الظَّاهرِ منَ الخُنَّسِ؟
قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: هي بقرُ الوحشِ (2).
وقالَ عليٌّ: هي النُّجومُ (3).
قالَ سفيانُ: وكلاهما واحدٌ؛ لأنَّ النُّجومَ تَخْنُسُ بالنَّهارِ وتظهرُ باللَّيلِ، والوَحْشِيَّةُ إذا رأتْ إنسيّاً خَنَسَتْ في الغيطانِ (4) وغيرِها، وإذا لم ترَ إنسيّاً ظهرتْ.
قالَ سفيانُ: فَكُلٌّ خُنَّسٌ.
قالَ إسحاقُ: وتصديقُ ذلك ما جاءَ عنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الماعونِ (5)، يعني أنَّ بعضَهم قالَ: الزَّكاةُ، وقال بعضُهم: عاريةُ المتاعِ.
قالَ: وقالَ عكرمةُ: الماعونُ: أعلاه الزَّكاةُ، وعاريةُ المتاعِ منه (6).
قالَ إسحاقُ: وجَهِلَ قومٌ هذه المعاني؛ فإذا لم توافقِ الكلمةُ الكلمةَ قالوا: هذا اختلافٌ. وقدْ قالَ الحسنُ ـ وذُكِرَ عنده الاختلافُ في
= ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (7: 176 - 178).
(1)
أخرجه كذلك سعيد بن منصور عن سفيان، ينظر قسم التفسير من كتاب السنن، تحقيق: سعد الحميِّد (5: 312).
(2)
ينظر قوله في: تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24: 155)، ورواه كذلك عن: أبي ميسرة، وجابر بن زيد، ومجاهد، وعبد الله بن وهب، وإبراهيم النخعي.
(3)
ينظر قوله في: تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24: 152، 153)، ورواه كذلك عن: بكر بن عبد الله، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.
(4)
الغيطان: المطمئن من الأرض. ينظر: القاموس المحيط، مادة (غوط).
(5)
في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .
(6)
ينظر في أقوال السلف في ذلك في تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله التركي (24: 665 - 678).
نحوِ ما وصفْنا، فقالَ ـ: إنما أُتِيَ القومُ منْ قِبَلِ العُجْمَةِ (1)» (2).
ولعلَّ في هذا المثالِ العزيزِ ما يدلُّ على ظهورِ هذه المسألةِ عندَ علماءِ السَّلَفِ، وأنهم كانوا يَعُونَهَا جيداً، حيثُ جعلوا هذه المحتملاتِ الصحيحة الواردةَ على النَّصِّ مقبولةً، ولم يَرُدُّوها.
ولفهم السلف لهذه القاعدة وتعاملهم بها؛ تجد عن بعضهم قولين متغايرين غير متضادين في الآية، وقد يحملها ـ من لا يدرك هذه القاعدة، ولا يفقه أصول التفسير ـ على أنها أقوال متناقضة، وهي ليست كذلك، وليس المجال مجال عرض بعض هذه الأمثلة، لكن أكتفي بمثال عزيز عن حبر الأمة ابن عباس (ت:64هـ)، فقد ورد في تفسير قوله تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] ما رواه ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي، حدثنا النفيلي، حدثنا إسماعيل عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: «لها وجهان، قال: ذكر الله عندما حرمه، قال: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه» (3)، فانظر، كيف نصَّ على وجهين متغايرين في معنى الجملة؟ وما ذاك إلا لإعمال هذه القاعدة الجليلة، وهي تعدد المحتملات الصحيحة للفظ القرآني.
فإن قلت: ألا يفتح هذا باب الوقوع في التفسيرات الباطلة والمحتملات الفاسدة؟
فالجواب: إن هناك أصول علمية من سار عليها، واجتهد في تحقيقها، فإنه يكون قد سار على الطريقة المثلى المرجوَّة، فإن وصل إلى
(1) أخرج البخاري هذا القول عن الحسن البصري بأخصر من ذلك، قال:«أهلكتهم العجمة» ، ينظر: التاريخ الكبير (5: 93).
(2)
السُّنَّة، لمحمد بن نصر المروزي (ص: 7 - 8).
(3)
تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (9: 3068).
الصواب، فذلك عين المطلوب، وإن لم يصل إلى الصواب كان مخطئاً مأجوراً، أما إذا لم يعتمد هذه الأصول، فإنه مخالف من بداية الطريق، لذا لا يمكن الالتقاء معه، فالخطان سيكونان متوازيان، وأنَّى لهما أن يلتقيا؟!
واعلم أن كل من نقص علمه، أو نقص اعتماده على المصادر الصحيحة، فإنه سيقع في الخطأ لا محالة، وليس بمعذور إلا إذا لم يستطع التعلم، ولم يكن إليه سبيل، أما أن يكون بين علماء وطلاب علم، ولا يحرص على تعلم الأسلوب الصحيح للتفسير، فليس ذلك بمعذور، بل إن العتب عليه مضاعف، لعدم حرصه على سلوك السبيل الصحيح لتفسير كلام الله، مع حرصه على الكلام فيه.
2 -
عندَ تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] قالَ الشَّنقيطيُّ (1)(ت:1393هـ): «
…
فقوله رضي الله عنه: إلَاّ فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابِ اللهِ (2)، يدلُّ على أنَّ فَهْمَ كتابِ اللهِ تتجدَّدُ به العلومُ والمعارفُ التي لم تكنْ عند عامَّةِ الناسِ، ولا مانعَ من حمل الآيةِ على ما حملها المفسِّرونَ، وما ذكرْناه أيضاً أنَّه يُفْهَمُ منها، لِمَا تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ مِنْ أنَّ الآيةَ إنْ كانت تحتملُ معانيَ كلُّها صحيحٌ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا على الجميعِ، كما حَقَّقَه بأدلتِهِ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو العباسِ بنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله في رسالتِهِ في علومِ القرآنِ (3)».
(1) أضواء البيان (3: 124).
(2)
هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3)
لعلَّه يريد الموضع الذي في مقدمة التفسير، وهو قوله: «ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين: إما لكونه مشتركاً في اللفظ؛ كلفظ قسورة الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد. ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره.
وإما لكونه متواطئاً في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9]، وكلفظ:{وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ *وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3] وما أشبه ذلك. =
3 -
جعلَ الطَّاهِرُ بنُ عاشورَ (ت:1393هـ) مقدمةً منْ مقدماتِ تفسيرِهِ خاصَّةً بهذه القاعدةِ، وعَنْوَنَ لها بقولِه:«المقدِّمَةُ التَّاسعةُ: في أنَّ المعاني التي تَتَحَمَّلُهَا جُمَلُ القرآنِ، تُعْتَبَرُ مُرادَةً بها» (1).
ولو ذهبت إلى سرد نصوص العلماء وتطبيقاتهم في هذه المسألة لطال المقام، وما ذكرته ففيه الغنية لمن أراد أن يتذكر.
وإذا جاز احتمال الآية لأكثر من معنى، فإنما ذلك لأن المفسر لا يستطيع الجزم ـ في حال الاحتمال ـ بأن هذا هو مراد الله دون ذاك؛ لأن أدلة الترجيح قد تستوي في نظره، أو قد يرى أحد الأقوال أقوى من الآخر من غير إبطاله، وإن أبطله فإنما يبطله بالدلائل العلمية، وليس لأنه يخالف قوله، أو أنه لا يدرك وجه هذا القول، فيردُّه، ويكون القصور والنقص في ردِّه وليس في القول.
* * *
= فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك. فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد بها هذا تارة، وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه، إذ قد جوَّز ذلك أكثر الفقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام.
وإما لكون اللفظ متواطئاً فيكون عاماً إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني». مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق الدكتور عدنان زرزور (ص: 39 - 51).
(1)
التحرير والتنوير (1: 93)، وقد تحدث عنها حتى (ص: 100).