الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقالة الرابعة
تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي
(1)
الحمدُ لله الذي جعل كتابه الكريم لا يَخْلَقُ من كثرة الردِّ، وأصلِّي وأسلِّم على أفضل الخلق محمد بن عبد الله، أرسله الله رحمة للعالمين، ومبلّغاً للدين، فأتمَّ الله به النعمة على العالمين، ثمَّ أثني بالصلاة والسلام على آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الغرِّ الميامين، وعلى من تبعهم، وسار على نهجهم إلى يوم الدين، اللهم احشرنا في زمرتهم، واجعلنا ممن قلت فيهم:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
أما بعد: فإن كتاب الله تعالى نزل بلسان عربي مبين، وعَلِمَهُ جيل السلف مجتمعين، فلا يمكن أن يقال: إن آية منه لم يقع لهم فيها الفهم الصحيح، ومن قال: إن آية لم يفهمها هؤلاء، فإنه قد زعم النقص في البيان الرباني والنبوي على حدٍّ سواء، فالله سبحانه وتعالى يقول {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، ويقول:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، ويقول:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]، ويقول:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17]، ويقول:
(1) بحث علمي محكم نُشِرَ في مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد الثاني/ذو الحجة/1427هـ ديسمبر/ك1 2006م.
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ويقول:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، ويقول:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، ويقول:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]، وغيرها من الآيات التي تدل على أن الله قد بيَّن كلامه بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا إلغاز، وأنه يسَّر للناس فهمَه كما قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 22]، وهذا التيسير لا يمكن أن يكون لجيل متأخر دون الجيل المتقدم من السلف.
مشكلة البحث:
1 -
إنه من خلال قراءتي فيما سطَّره بعض المعاصرين ممن اعتنوا بإبراز (الإعجاز العلمي) في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ رأيت أن اعتمادهم على المأثور عن السلف قليلٌ جداً، وجُلُّ اعتمادهم على كتب التفسير المتأخرة، فتراهم ينسبون القول إلى القرطبي وأبي حيان والشوكاني على أنهم هم السلف.
وهؤلاء العلماء الكرام وغيرهم لا شكَّ أنهم سلف لنا، لكن مصطلح السلف عند علماء الشريعة لهم زمن محدود، وليس كالإطلاق اللغوي الذي يشمل كل من سبقك، وقد كان في فعل بعضهم قطع لسلسلة التفسير، ولعدم الرجوع إلى أقوال السلف في الآية.
وإن الراصد لحركة التفسير يعرف أن الذين لا يعتمدون قول السلف (الصحابة والتابعين وأتباعهم) هم أهل البدع الذين أصَّلوا أصولاً عقلية، ثم حاكموا آيات القرآن عليها، فما وافق أصولهم من ظواهر القرآن قالوا به، وما خالف أصولهم أوَّلوه لكي يوافقها.
وحاشا المخلصين من المعتنين بالإعجاز العلمي أن يكونوا
كأولئك، لذا كان يحسن بالمتخصِّصين في علوم القرآن تنبيههم على هذا الأمر، لئلا يقعوا في محذور وهم لا يشعرون.
2 -
في هذا العصر الذي برز فيه سلطان العلوم الكونية والتجريبية سعى نفر من المسلمين إلى إبراز سبق القرآن إلى كثير من هذه المكتشفات المعاصرة، لكنَّ بعضهم تنقصه الآلة التي يستطيع بها معرفة صحة مطابقة تلك القضية في تلك العلوم للآية التي يحمل عليها ذلك التفسير الحادث، كما أن الملاحظ على هؤلاء أنهم لا يعرفون قول السلف في الآية لكي لا يناقضوه، وإن ذكروه فإنهم لا يعرفون وجهه، ولا تراهم يفقهون مدلول قولهم؛ لأنهم لا يعرفون طرائق هؤلاء السلف الكرام في التعبير عن التفسير، وفي اختلافات التنوع عندهم، فإذا رأوا خلاف عبارة ظنوا أنهم مختلفون، ولا تراهم يعرفون كيف يوفِّقون بين أقوالهم.
كما تجدهم يحرصون على الرجوع إلى معاجم اللغة لبيان بعض المدلولات التي يحتاجونها، ولا تراهم يرجعون إلى تحريرات السلف في هذه الأمور، وهم أهل اللغة، ولهم فيها السبق.
ولما كان الأمر كذلك، أردت أن أكتب في هذه الحيثية، لأبيِّن لإخواني الكرام ممن يسلكون بيان إعجاز القرآن الكريم على هذه الطريقة؛ أبيِّن لهم كيف يمكنهم التعامل مع أقوال السلف أثناء بحوثهم العلمية التي يربطون بها المكتشفات المعاصرة بآيات القرآن، لكي لا يقع عندهم ردٌّ لأقوال السلف أو نقض لأقوالهم بلا علم.
وقد سمَّيته: (تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي).
مصطلحات البحث (1):
التفسير:
إن القرآن يحتوي على عدد من العلوم، منها التفسير، وقد وقع خلاف في تعريف التفسير، وأوضحها ـ والله أعلم ـ: بيان معاني القرآن الكريم.
لأن مدلول التفسير من جهة اللغة هو البيان، والمراد من المفسر بيان المعاني، أما العلوم الأخرى التي يحتوي عليها القرآن فإنها ليست من التفسير؛ فعدُّ الآي ـ مثلاً ـ من علوم القرآن، لكنه ليس من التفسير؛ لأنه لا يُبنى على معرفة عدِّ الآي فهم لمعنى آية من الآيات، والمقصود أنه يحسن أن ننتبه إلى الفرق بين علوم القرآن المرتبطة بسوره وآياته، وعلم التفسير الذي هو بيان معانيه، فكل ما له أثر في بيان معانيه، فهو من العلوم التي ينبغي للمفسر الاعتناء بها ليستطيع بيان معاني القرآن على الوجه المَرضيِّ.
السلف:
الأصل اللغوي لكلمة السلف يدل على السبق والتقدم، فكل ما تقدمك فهو سلف، وهذا الإطلاق اللغوي يشمل كل من سبقك من الناس، لذا إذا قلت: المفسر القرطبي من السلف، فإن ذلك قول صحيح من حيث اللغة. غير أن للعلماء اصطلاحاً خاصًّا في المراد بالسلف، وقد اختلفوا في تحديد الفترة الزمنية التي يقف عندها هذا المصطلح، والغالب في ذلك أنهم الصحابة والتابعون وأتباعهم ممن التزم الكتاب والسُّنَّة.
والسلف في مصطلح المفسرين لا يخرج عن هذه الطبقات الثلاث بدلالة أنك إذا رجعت إلى التفاسير التي جمعت مأثور السلف ـ كتفسير الطبري وابن أبي حاتم ـ تجدها تعتمد على ما نُقِل عن هذه الطبقات الثلاث، وتراها تقف عند طبقة أتباع التابعين.
(1) سأسلك سبيل الاختصار والتقرير هنا؛ لأن هذا المقال ليس مجالاً لتفصيل الاختلاف في تعريف هذه المصطلحات.
ومِن ثَمَّ، فإن مصطلح السلف عند الباحث هم أهل هذه الطبقات الثلاث.
أصول التفسير:
هي الأسس العلمية التي يرجع إليها المفسر حال تفسيره لكلام الله وتحريره للاختلاف في التفسير.
وإن من أهم مسائل هذا العلم ثلاثة أمور كلية:
الأول: مصادر التفسير (النقل والرأي)، وطرقه (القرآن والسُّنَّة وأقوال السلف واللغة).
الثاني: الإجماع في التفسير، والاختلاف فيه (أنواعه، وأسبابه، وطرق المفسرين في التعبير عنه).
الثالث: كيفية التعامل مع اختلاف المفسرين (قواعد الترجيح).
وتفصيل هذا يؤخذ من كتب هذا العلم (1)، وليس هذا مجال تقرير
(1) من الكتب المتخصصة في هذا العلم:
1 -
مقدمة في أصول التفسير، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
2 -
الفوز الكبير في أصول التفسير، للعلامة ولي الله الدهلوي.
3 -
التكميل لأصول التأويل، للمعلم المحقق عبد الحميد الفراهي.
وقد شارك المعاصرون في الكتابة تحت هذا العنوان، ومن هذه الكتب في هذا العلم:
1 -
أصول التفسير وقواعده، لخالد العك.
2 -
أصول التفسير ومناهجه، للأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي.
3 -
فصول في أصول التفسير، للدكتور مساعد بن سليمان الطيار.
4 -
التفسير أصوله وضوابطه، للأستاذ الدكتور علي بن سليمان العبيد.
كما أن هناك كتابة في موضوع من موضوعاته، ومن ذلك:
1 -
اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره، للأستاذ الدكتور سعود الفنيسان.
2 -
قواعد الترجيح، للدكتور حسين الحربي.
3 -
أسباب اختلاف المفسرين، للأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشايع.
4 -
قواعد التفسير، للدكتور خالد السبت.
هذه المسائل برمَّتها، وإن كانت ستأتي إشارات موجزة لبعض مسائل هذا العلم.
الإعجاز العلمي:
تكاد تتفق كلمة الباحثين في الإعجاز العلمي على أن المراد به: سبق القرآن إلى الإخبار بأمور كانت غير معلومة للجيل الذين نزل عليهم القرآن، وظهرت معرفتها في هذا العصر المتأخر.
وبعد، فإني قسمت هذا البحث إلى مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة:
المقدمة، وذكرت فيها مشكلة البحث ومصطلحاته.
الفصل الأول: أهمية تفسير السلف وكيفية التعامل معه.
المبحث الأول: أهمية تفسير السلف.
المبحث الثاني: كيفية التعامل مع تفسير السلف.
المبحث الثالث: احتمال الآية القرآنية للمعاني المتعددة.
الفصل الثاني: ضوابط القول بالتفسير المعاصر.
الضابط الأول: أن يكون القول الحادث صحيحاً في ذاته.
الضابط الثاني: أن تحتمل الآية القول الحادث.
الضابط الثالث: أن لا يبطل قول السلف.
الضابط الرابع: أن لا يقصر معنى الآية على التفسير الحادث.
الفصل الثالث: اعتراضات على تفسير السلف.
المبحث الأول: وجود الخطأ في تفسير آحاد السلف.
المبحث الثاني: الإسرائيليات ومخالفتها للقضايا العلمية المعاصرة.
الخاتمة، وفيها ذكر أهم النتائج والتوصيات.