المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقالة السابعةمصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور - الإعجاز العلمي إلى أين

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقالة الأولىالإعجاز العلمي في القرآن

- ‌المقالة الثانيةتقويم المفاهيم في مصطلح الإعجاز العلمي

- ‌حقيقة الإعجاز العلمي ومؤداه

- ‌المقالة الثالثةالإعجاز العلمي

- ‌المقالة الرابعةتصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي

- ‌الفصل الأولأهمية تفسير السلف وكيفية التعامل معه

- ‌المبحث الأولأهمية تفسير السلف

- ‌المبحث الثانيكيفية التعامل مع تفسير السلف

- ‌المبحث الثالثاحتمال الآية القرآنية للمعاني المتعددة

- ‌الفصل الثانيضوابط قبول التفسير المعاصر

- ‌الضابط الأول: أن يكون القول المفسَّر به صحيحاً في ذاته:

- ‌الضابط الثاني: أن تحتمل الآية هذا القول الحادث:

- ‌الضابط الثالث: أن لا يبطل قول السلف:

- ‌الفصل الثالثاعتراضات على تفسير السلف

- ‌المبحث الأولوجود الخطأ في تفسير آحاد السلف

- ‌المبحث الثانيالإسرائيليات ومخالفتها للقضايا العلمية المعاصرة

- ‌المقالة الخامسةهل يصح أن ينسب الإعجاز للسُّنَّة

- ‌المقالة السادسةتعريف الإعجاز العلمي بالسبق هل هو دقيق في التعبير عن مضمونه

- ‌المقالة السابعةمصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور

- ‌المقالة الثامنةالتفسير بالإعجاز العلمي قائم على الظنِّ والاحتمال، وليس على اليقين

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس الفوائد العلمية

- ‌مراجع البحث

- ‌الفوائد

الفصل: ‌المقالة السابعةمصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور

‌المقالة السابعة

مصطلح الإعجاز العلمي عند الطاهر بن عاشور

كان من بركات اللقاء بالشيخ المفيد الدكتور محمد الحمد؛ اللقاء الذي عقدته الجمعية السعودية للقرآن الكريم وعلومه (مساء الأحد 28/ 12/1428هـ) كان من بركاته أن فتح الذهن على موضوع (الإعجاز العلمي) عند الطاهر بن عاشور، وقد فتح هذا الباب الدكتور عادل الشدي بسؤاله للشيخ الدكتور محمد الحمد: هل تحدث الطاهر بن عاشور عن الإعجاز العلمي؟

وقد توقف الشيخ محمد آنذاك في الإجابة نفياً أو إثباتاً، وصار بيني وبينه مباحثة سريعة حول الموضوع بعد اللقاء، وقررنا مراجعة التفسير، ولما ظفر بمواطن من تصريحه بذلك هاتفني بها، ثم تتبعت مواطن ورود هذا المصطلح عنده فرأيت أن أكتب في هذا الموضوع مقالة سريعة، وأملي أن أتبعها ببحث أكثر تقصِّياً إن شاء الله، ودونكم هذا الموضوع:

لقد ذكر الطاهر بن عاشور (الإعجاز العلمي) في حديثه في المقدمة العاشرة في إعجاز القرآن، وقد نبَّه على نوعين من أنواع العلم، فقال: «إن العلم نوعان: علم اصطلاحي، وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور، ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.

ص: 175

وأما العلم الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك الحقائق النافعة عاجلاً وآجلاً.

وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه، وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب؛ لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات المختلفة، ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقاً كما أشار إليه فخر الدين الرازي» (1).

ثم ذكر اشتمال القرآن على النوعين، ومما ذكر في النوع الثاني: «وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئاً فشيئاً انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله؛ لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم.

وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص: {قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 49، 50]، ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألفوه

» (2).

ويلاحظ أن مدلول العلم عند الطاهر بن عاشور أوسع من مدلول المعتنين بالإعجاز العلمي الذين جعلوه في (العلوم التجريبية)، وقد ظهر

(1) التحرير والتنوير (1: 126).

(2)

التحرير والتنوير (1: 127).

ص: 176

أثر توسع المدلول عنده في التطبيقات التي استخرجتها من كتابه، وهي قريبة من العشرين موضعاً، وسأذكر منها ما يدل على هذا المقال:

أولاً: إطلاقه على ما يُسمى عند بعض المعاصرين بالإعجاز التاريخي:

1 -

في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَاكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43].

قال: «هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف عليه السلام من السجن.

والتعريف في {الْمَلِكُ} للعهد؛ أي: ملك مصر، وسماه القرآن هنا ملكاً ولم يسمه فرعونَ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكاً لمصر أيامَ حَكَمَها (الهِكسوس)، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرِّخو الإغريق بملوك الرعاة؛ أي: البَدو، وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة (طِيبة) كما تقدم عند قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} [يوسف: 21]، وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفاً لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى، ويقدّر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف عليه السلام كان في مدة العائلة السابعة عشرة.

فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبّر عن ملك مصر في زمن موسى عليه السلام بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي.

وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف عليه السلام

ص: 177

فرعون وما هو بفرعون؛ لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية، وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبَة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف عليه السلام في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك».

2 -

في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، قال:«ومن لطائف القرآن في اختيار لفظ العهد للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم أن ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم، فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بالعهد؛ لأنها وصايات الله تعالى لهم، ولذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق، وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم وهم أشح به، منهم في كل شيء، بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين، فمجيئه على لسان النبي العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب» .

ثانياً: الإعجاز العلمي في اصطلاح المعاصرين:

1 -

في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَانَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، قال: «وحرف (ثم) في قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة، إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم.

ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم (العلَقة) فإنه وضْع بديع لهذا الاسم، إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم، بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم، والعلقة: قطعة من دم عاقد.

والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ، وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلُّق الجنين.

ص: 178

وعطف (جَعل العَلقةِ مُضغةً) بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء، إذ اللحم والدم الجامد متقاربان، فتطورهما قريب، وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة».

وانظر أيضاً: تفسيره لقوله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} في سورة العلق.

2 -

في قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ *يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6 - 7]. قال: «وأُطنب في وصف هذا الماء الدافق لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علماً ويقيناً.

ووُصف أنه يخرج من {بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} لأن الناس لا يتفطنون لذلك، والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز، فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب.

و {الصُّلْبِ} : العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات.

{وَالتَّرَائِبِ} : جمع تريبة، ويقال: تَريب. ومحرّر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقُوَتَيْن والثَّديين ووسموه بأنه موضع القلادة من المرأة.

والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.

وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} الضمير عائد إلى {مَاءٍ دَافِقٍ} وهو المتبادر، فتكون جملة {يَخْرُجُ} حالاً من {مَاءٍ دَافِقٍ} أي: يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه.

وبهذا قال سفيان والحسن؛ أي: أن أصل تكَوُّن ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب،

ص: 179

إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب؛ لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورِئَتَيْن.

فجعل الإِنسان مخلوقاً من ماء الرجل لأنه لا يتكوّن جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل، فإذا اختلط ماء الرجل بما يُسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بُوَيضات دقيقة يثبت منها ما يتكوّن منه الجنين ويُطرح ما عداه.

وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإِنسان من ماء الرجل وماءِ المرأة بذكر الترائب؛ لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة.

ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة، فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب: الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذَنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة، ومقرها الأنثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة.

ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى: ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حُويصلة من حويصلات يشتمل عليها مَبيضان للمرأة وهما بمنزلة الأنثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مَبيض يشتمل على عدد من الحُويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين، وخروج البيضة من الحُويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة فإذا انتهى نموها انفجرتْ فخرجت البَيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النموَّ وخروجُها من الحويصلة في وقت حيض المرأة، فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها.

وأصل مادة كِلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في

ص: 180

عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب، ثم ينتهي إلى عرق يسمى الحَبْل المَنَوي مؤلف من شرايين وأوْرِدَةٍ وأعصابٍ وينتهي إلى الأنثيين، وهما الغدتان اللتان تُفرزانِ المني، فيتكون هنالك بكيفية دُهنية وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنْثيان مادةً دهنية شحمية، وذلك عند دغدغة ولَذع القضيب المتصل بالأنثيين فيندفق في رحم المرأة.

وأما بالنسبة إلى المرأة، فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب؛ لأن فيه موضع الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحاملُ للبويضات التي منها النسل، والحيض يسيل من فَوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطُّهر، والرحم يأتيها عصب من الدماغ.

وهذا من الإِعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علمٌ به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة وقد بيَّنها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة، فقال: تغتسل إذا أبصرت الماء. فقيل له: أترى المرأة ذلك؟ فقال: وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك؟! إذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءَها أشبه أعمامه» .

ثالثاً: موافقة العقل الحق:

هذا النوع الذي ذكره لا يستريب فيه مسلم، إذ العقل الصحيح لا يناقضه النص الصريح مطلقاً، وكون العقل يتوصل إلى حدود وتقسيمات ومعلومات صحيحة فإنه لا يمكن أن يختلف ما يتوصل إليه الناس بعقولهم الصحيحة مع ما جاء في القرآن.

في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

ص: 181

وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

قال: «ويندرج في التي هي أحسن ردّ تكذيبهم بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجّه، مثل قوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، وقوله:{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ *اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68، 69].

والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة، وأن الرسول إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة، وذلك كله بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ومن أحوال المخاطبين من خاصّة وعامّة.

وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملاً على هذه الأحوال الثلاثة؛ بل قد يكون الكلام حكمة مشتملاً على غِلظة ووعيد وخالياً عن المجادلة، وقد يكون مجادلة غير موعظة، كقوله تعالى:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].

وكقول النبي: «إنك لتأكل المِرباع، وهو حرام في دينك» ، قاله لعديّ بن حاتم وهو نصراني قبلَ إسلامه.

ومن الإعجاز العلمي في القرآن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحقّ، وهي البرهان والخطابة والجَدل المعبّر عنها في علم المنطق بالصناعات، وهي المقبولة من الصناعات، وأما السفسطة والشعر فيَرْبَأُ عنهما الحكماء الصادقون بله الأنبياء والمرسلين.

قال فخر الدين: إن الدعوة إلى المذهب والمقالةِ لا بدّ من أن تكون مبنيّة على حُجّة، والمقصود من ذكر الحجّة إما تقرير ذلك المذهب

ص: 182

وذلك الاعتقاد في قلوب السامعين، وإما إلزام الخصم وإفحامُه.

أما القسم الأول فينقسم إلى قسمين؛ لأن تلك الحجّة: إما أن تكون حُجّة حقيقية يقينية مبرأة من احتمال النقيض، وإما أن لا تكون كذلك بل تكون مفيدة ظناً ظاهراً وإقناعاً، فظهر انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة:

أولها: الحجّة المفيدة للعقائد اليقينية، وذلك هو المسمّى بالحكمة.

وثانيها: الأمارات الظنّية، وهي الموعظة الحسنة.

وثالثها: الدلائل التي القصد منها إفحام الخصم، وذلك هو الجَدل.

وهو على قسمين؛ لأنه: إما أن يكون مركّباً من مقدّمات مسلّمة عند الجمهور، وهو الجدل الواقع على الوجه الأحسن، وإما أن يكون مركّباً من مقدّمات باطلة يحاول قائلها ترويجها على المستمعين بالحيل الباطلة، وهذا لا يليق بأهل الفضل. اهـ.

وهذا هو المدعو في المنطق بالسفسطة، ومنه المقدمات الشعرية وهي سفسطة مزوّقة.

والآية جامعة لأقسام الحجّة الحقّ جمعاً لمواقع أنواعها في طرق الدعوة، ولكن على وجه التّداخل، لا على وجه التباين والتقسيم كما هو مصطلح المنطقيين، فإن الحجج الاصطلاحية عندهم بعضها قسيم لبعض، فالنسبة بينها التبايُن، أما طرق الدعوة الإسلامية فالنسبة بينها العموم والخصوص المطلق أو الوجهي، وتفصيله يخرج بنا إلى تطويل، وذهنك في تفكيكها غير كليل.

فإلى الحكمة ترجع صناعة البرهان؛ لأنه يتألف من المقدمات اليقينية وهي حقائق ثابتة تقتضي حصول معرفة الأشياء على ما هي عليه.

ص: 183

وإلى الموعظة ترجع صناعة الخطابة؛ لأن الخطابة تتألف من مقدّمات ظنّية لأنها مراعى فيها ما يغلب عند أهل العقول المعتادة، وكفى بالمقبولات العادية موعظة، ومثالها من القرآن قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء: 22]، فقوله:{وَمَقْتًا} أشار إلى أنّهم كانوا إذا فعلوه في الجاهلية يُسمونه نكاح المَقت، فأجري عليه هذا الوصف لأنه مُقنع بأنه فاحشة، فهو استدلال خطابي.

وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدلّة المسلّمة بين المتحاجَيْن أو من الأدلّة المشهورة، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ولا يلتحق بمرتبة الحكمة، وقد يكون مما يُقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة، وسمّاه حكماء الإسلام: جدلاً تقريباً للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية».

وقبل أن أختم هذا المقال أحبُّ أن أبين نظر الطاهر بن عاشور في مقام الإعجاز العلمي بأنواعه، قال:«وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه؛ أي: مجموع هذا الكتاب، إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة، نحو قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]» (1).

وهذا يفيد في أن بيان الإعجاز في هذه القضية ـ عنده ـ إنما هو بالأمر الكلي، وليس بالتفاصيل، فالآية الواحدة المبينة للإعجاز العلمي لا يلزم أن تقوم مقام الحجة في الإعجاز، وإنما يكون مقام الحجة بمجموعها الذي نص عليه القرآن أو أشار إليه، وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى بيان وإيضاح.

(1) التحرير والتنوير (1: 129).

ص: 184