الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة الإعجاز العلمي ومؤداه
إن النتيجة التي سيصل إليها من يريد البحث في هذا المجال هي صدق القرآن وأنه وحي منَزَّل من عند الله.
وهذه النتيجة هي حقيقة هذه البحوث المتكاثرة في أنواع الإعجاز التي ظهرت في هذا الوقت المعاصر، كما أنها هي النتيجة الكبرى لأنواع الإعجاز التي ذكرها العلماء السابقون، خصوصاً ما هو أصل هذه المسألة (أي: الإعجاز)، وهو التحدي بالقرآن، فعدم وقوع المعارضة، بعد التحدي به، والإخبار بعدم وقوعه أيضاً بقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24] = دليل على صدق القرآن، كما أنَّ عدم القدرة على الإتيان بمثله دليل على صدق القرآن.
والمقصود أنَّ نهاية البحث في هذا الموضوع هو التنبيه على صدق القرآن إذ أخبر عمَّا كان خافياً عن البشر إبَّان نزوله، فظهر بتقدم العلم التجريبي صحة ما أخبر به القرآن.
وإذا انطلقت من هذا المنطلق، جاز لك أن تنسب صحة دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما أورده من أخبار في سُنَّته المطهرة.
وهذه النتيجة لا تكون هي أصل المسألة، فيُطلَق عليها اسم الإعجاز.
فإن قلت: أيعني هذا أن لا يتحدث متحدثٌ عن الإعجاز العلمي في القرآن؟
فالجواب: لا، بل الحديث في ذلك نافع، لكن يُنتبه لأمور:
الأول: أن لا يُسمى البحث في قضايا العلم التجريبي بهذا الاسم (الإعجاز العلمي).
الثاني: أن لا يُنطلق في الحديث من القرآن لأجل إثبات أن القرآن قد تحدث عن هذه القضية أو تلك.
الثالث: أن يُنطلق في الحديث عن هذه الأمور من باب بيان عظمة الله في خلقه، وإن جاءت الآيات في البحث عن عظمة الله في خلقه فمجيئها على سبيل الاستشهاد لا على سبيل تقرير ما فيها من أمور متعلقة بالبحوث التجريبية.
وسيظهر الفرق جليّاً بين الطريقتين في البحث:
فالانطلاق من بيان عظمة الخلق سيجعل الباحث غير مقيَّد بموضوع معيَّنٍ يريد إثباته، بل سيكون حديثه عامّاً، فيتحدث عن عموم القضية الكونية؛ كالحديث عن النجوم على سبيل العموم، فتأتي القضايا التي ذكرها القرآن في معرض الحديث عنها، دون أن يكون القصد إلى إثبات مطابقة العلم التجريبي لما فيها من معانٍ ودلالات.
أما لو انطلق من الآيات لتقرير مسألة الإعجاز العلمي، فإنه سيكون مقيَّداً بإثبات دلالة القرآن دلالة واضحة لا لبس فيها على تلك القضية التي يذكرها، وسيدخل في أمرين:
الأول: لزوم ما لا يلزم، حيث يُلزم نفسه بما ليس لازماً أصلاً في البحث والتقرير.
الثاني: أنه يدخل إلى القرآن بمقررات سابقة تجعله يلوي عنق النصِّ إلى هذه المقررات من حيث لا يشعر. بل إن بعضهم قد يشعر لكنه يتكلف الربط، ولو على سبيل المجاز الذي حذَّر منه بعضُ منظري
الإعجاز العلمي (1)، وذلك كثير في هذا الباب.
وسأذكر مثالين في هذه المسألة:
الأول: في تفسير قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16].
ذهب الأستاذ الدكتور زغلول النجار في تفسير هاتين الآيتين إلى مذهب جديد لم يُسبق إليه، وهذا المذهب الذي ذهب إليه إنما كان بسبب ما ظهر عنده من العلم الجديد في دراسة النجوم.
وقد فصَّل المعنى اللغوي للفظتين (الخنس والكنس)، وجعل الخُنوس بمعنى الاختفاء الكامل.
وليس من شكٍّ أن أصل الخنوس الاختفاء، كما نقله عن ابن فارس، لكن زيادة قيد (الكامل) في قوله:«ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء» (2)، لا دليل عليه من نقل ولا عقل ولا لغة، وإنما هو بسبب هيمنة تلك القضية الفلكية على ذهنه أثناء تفسيره لهذه الآية.
وجعل الكنوس من مادة كَنَس يَكْنِسُ، ومنها المِكْنَسَةُ، ولم يجعله من كناس الظَّبي (أي: بيته) كما ذهب إليه بعض مفسري السلف وغيرهم.
(1) يقول زغلول النجار: «عدم التكلف، أو محاولة لَي أعناق الآيات من أجل موافقتها للحقيقة العلمية، وذلك لأن القرآن أعز وأكرم عندنا من ذلك؛ لأنه كلام الله الخالق، وعلم الخالق بخلقه هو الحق المطلق الكامل الشامل المحيط بكل علم آخر، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 70 - 71).
وجاء في مجلة الإعجاز العلمي الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي (ع1: 16): «أن تراعى القواعد البلاغية ودلالاتها، خصوصاً قاعدة أن لا يُخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية» .
(2)
من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 216).
والمعنى الذي ذهب إليه في معنى الكنوس حادث، وإنما قاده إليه تلك القضية الفلكية التي لا يتناسب معها جعل الكنوس من الكِناس، وإنما يناسبها جعله من الكَنْسِ.
وهذا الاختيار لهذين المعنيين ما كان ليكون لو لم يكن له معرفة بما يُسمى بالثقوب السود التي هي حالة من حالات النجوم ذكرها الفلكيون المعاصرون.
فلو لم يعرف هذا ما كان ليطرأ عليه هذا المعنى البتة، وهذا يَدُلَّك على أن هذا أسلوب الاعتقاد المُسبق، ثم الاستدلال له.
يقول الأستاذ الدكتور زغلول النجار بعد حديثه عن تكوُّن الثقوب السوداء: «
…
فسبحان الذي خلق النجوم وقدَّر لها مراحل حياتها، وسبحان الذي أوصلها إلى مرحلة الثُّقب الأسود، وجعله من أسرار الكون المبهرة، وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة الحالكة السواد الغارقة بالظلمة، وجعل لها من الظواهر ما يعين الإنسان على إدراك وجودها على الرغم من تسترها واختفائها، وسبحان الذي مكَّنها من كنس مادة السماء وابتلاعها وتكديسها، ثم وصفها لنا قبل أن نكتشفها بقرون متطاولة بهذا الوصف القرآني المعجز، فقال عز وجل:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]، ولا أجد وصفاً لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السود أبلغ من وصف الخالق سبحانه وتعالى لها بالخنس الكنس، فهي خانسة؛ أي: دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها، وهي كانسة لصفحة السماء، تبتلع كل ما تمر به من المادة المنتشرة بين النجوم، وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء، وهي جارية في أفلاكها المحدَّدة لها، فهي خُنَّس جوار كُنَّس، وهو تعبير أبلغ بكثير من تعبير الثقوب السود الذي اشتهر وذاع بين المشتغلين بعلم الفلك، ُ ٌ ً ي ى و ِ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السود تسمية مجازية عجيبة تنطبق انطباقاً دقيقاً على الوصف القرآني: «الخنس الجوار الكنس» كما فصَّلناه آنفاً، وذلك حين يسمونها بالمكانس الشافطة العملاقة التي تبتلع (أو تشفط) كل شيء يقترب منها إلى داخلها
…
» (1).
مناقشة هذا التفسير:
أولاً: إن تلك القضية الفلكية لا يمكن لمثلي أن يرفضها، فلست أمتلك أدوات البحث التي تؤهلني أن أوافق أو أرفض، لكني ـ وأمثالي كثيرون ـ لا يملكون إلا قبول مثل هذه القضية إذا جاءت من متخصص بهذا العلم، وهذا يعني أنه ليس مجالي مجال إسقاط هذه القضية، ولا يمكن أن يسقطها إلا متخصص يظهر له خلافها، ويُثبِتَ بالبراهين خطأها.
وهذا يعني عندي أن قضية الثقوب السود وما فيها من تحليلات مقبولة من حيث النظر الفلكي، مع أنه يقع في نفسي أن الأيام حُبلى بما قد يُظهر خلاف ما هو موجود الآن من معلومات لدى الفلكيين عن هذه الثقوب السود، وأنه قد يظهر ما يخالف ما استقر العلم عليه الآن، والتغير سمةٌ بارزة في العلوم التجريبية والكونية حتى تصل إلى مطابقة الحقيقة.
ثانياً: إن الأستاذ الدكتور زغلول النجار قد وضع ضابطاً في تفسير القرآن بالإعجاز العلمي، وهو أن يفسر بالقضايا التي لا رجعة فيها (2).
ويفرق بين تفسير القرآن من جهة الإعجاز العلمي، ومن جهة التفسير العلمي، فيقول: «فالإعجاز العلمي يُقصد به هنا: إثبات سبق
(1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 227 - 228).
(2)
من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 71).
القرآن الكريم بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون، أما التفسير فهو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآية القرآنية؛ إن أصاب فيها المفسر فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، والمعول عليه في ذلك هو نِيَّتُه، وهنا يجب التأكيد على أن الخطأ في التفسير ينسحب على المفسر ولا يمس جلال القرآن» (1).
وقد أشار إلى قضية أخرى في سبب تفريقه بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي، فقال:«أما موضوع الإعجاز العلمي: فهو موقف من مواقف التحدي الذي نريد أن نثبت به للناس كافة أن هذا القرآن ـ الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم في أمة كان غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين» (2).
وهنا وقفات:
الأولى: هل وجه التفريق بين هذين المصطلحين صحيحٌ؟
إن الذي دعا إلى هذا التفريق أمر خارجٌ عن حدِّ التفسير، مما يعطيك أنَّ هذه البحوث التي تراعي هذا التفريق ـ إن وجدت هذه المراعاة ـ لا تخرج مخرجاً صحيحاً من باب تفسير القرآن، بل هي دخيلة عليه.
فمن الذي اشترط مقام التحدي في الإعجاز العلمي دون التفسير العلمي؟!
إنَّ ذلك تحكُّمٌ، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ، كما أنه من باب لزوم
(1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 72).
(2)
من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تقديم أحمد فراج (ص: 36).
ما لا يلزم، إذ المفسر للقرآن لا ينظر إلى هذا الفرق المذكور، ولا ينتظر ثبوت تلك النظرية ثبوتاً يقينيّاً يوصلها إلى درجة الحقيقة التي لا مرجع عنها، فبيان كلام الله أوسع من تحجيره بهذه التحجيرات.
ولا حرج على المفسر الذي يمتلك أدوات التفسير أن يفسر القرآن بهذه النظريات إذا كان فيها بيان لمعنى تحتمله الآية، وإن وقع في خطأ في ربط الآية بنظرية من النظريات، فهو كمن وقع في خطأ في وجه من وجوه التفسير، فما دام عالماً فلا تثريب على طريقته العلمية، لكن لا يعني هذا قبول تفسيره بهذه النظرية التي قد يُخالَف حملها على الآية، وهذا هو مهيع التفسير في تاريخه الممتد من جيل الصحابة الكرام إلى عصرنا الحاضر.
الثانية: من الذي يمكنه أن يُثبت أن ما توصل إليه العلم البشري هو الحقيقة التي لا رجعة فيها؟!
إنَّ هذه القضية من الأهمية بمكان، وإنها أول ما يجب تقريره عند الذين يبحثون في الإعجاز العلمي.
فإذا كان هناك فرضيات ونظريات وحقائق، فمن الذي يمكنه أن يُفرّق بينها؟
وما هي شروط ارتقاء الفرضيات والنظريات إلى حقائق؟
لقد فسَّر بعض المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري بعض آيات القرآن على نظريات كانت تُعدُّ من الحقائق في وقتهم، ثمَّ تبدَّلت تلك الحقائق، وظهر أنها ليست كذلك، فهل كان سيقال لهذا آنذاك: إن هذه ليست حقيقة، بل هي نظرية؟
إن قصور العلم البشري، وطريقة وصوله إلى حقائق هذا الكون الفسيح مما لا يخفى على الباحثين في العلم التجريبي.
وأعود فأقول: هل قضية الثقوب السود مما لا رجعة فيه عند الباحثين في الفلك؟
هل يمكن الجزم بذلك، بحيث تَصِحُّ القضية العلمية من هذه الجهة أوَّلاً؟
إنَّ الملاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي أنهم يأتون بهذه القضايا على أنها مما لا يقع فيه خلاف، وأنها محسومة لا يمكن أن يُرجع عنها، ونحن غير المتخصصين ـ كما قلت سابقاً ـ لا يمكن الواحد منَّا رفض هذا أو ذاك، فلسنا ممن يمتلك أدوات الرفض، بل ترانا على القبول والتسليم ثقةً بمن نقل لنا تلك العلوم، ونراه قد فهمها فهماً سليماً.
الثالثة: هل انطبقت الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم التي نظَّرها الأستاذ زغلول النجار في كتابه (1)، أو أنَّ التنظير غير التطبيق؟
وسآخذ هذا في جانب (اللغة والسياق وتفسير السابقين للآية) في وقفات:
الوقفة الأولى: هل ما ذهب إليه من تفسير الخنوس والكنوس صحيح؟
إنَّ مادة خنس كما أشار في نقله من ابن فارس تدلُّ على الاختفاء، لكن من أين جاء بدلالة الاختفاء الكامل، كما سبق ملاحظة ذلك، فهذا القيد ليس من جهة اللغة قطعاً.
أما مادة كنس ففيها المعنيان اللغويان اللذان ذكرهما، وهما: الكنس؛ بمعنى إزالة شيء عن شيء، والكنوس، وهو الدخول في البيت، وقد اختار الأول بسبب تلك القضية الفلكية التي سيطرت عليه،
(1) تُنظر هذه الضوابط في كتابه: من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 68 - 72).
وزاد الأمر أن جعل مادة (الكُنَّس) صيغة منتهى الجموع، فقال:«وعندي أن الكُنَّس هي صيغة منتهى الجموع للفظة كانس؛ أي: قائم بعملية الكنس وجمعها (كانسون)، أو (كَنَّاس) وجمعها (كَنَّاسون)، والكانس والكَنَّاس هو الذي يقوم بعملية الكنس؛ أي: سفر شيء عن وجه شيء آخر وإزالته» (1).
ولست أدري من أين جاء بصيغة منتهى الجموع هذه؟! وهو قد اشترط «حسن فهم نص القرآن الكريم وفق دلالة الألفاظ في اللغة العربية، ووفق قواعد تلك اللغة العربية، وأساليب التعبير فيها، وذلك لأن القرآن الكريم قد أنزل بلسان عربي مبين» (2).
فها هو لسان العرب، فأين وجد صيغة منتهى الجموع، وإنما ظهرت له ـ فيما يبدو ـ من أجل أنه يقول بأنها تلك النجوم التي تكنس صفحة السماء فلا تُبقي شيئاً خلفها، فكأنه أخذ من هذا المعنى صيغة منتهى الجموع، وهذا مأخذ غير لغوي، والله أعلم.
الوقفة الثانية: النظر في السياق:
أليس في السياق ما يشير إلى النجوم بعمومها؟ فهي التي تتصف بالخنوس؛ أي: التأخر عند ظهورها في أول الليل بسبب اختفائها في ضوء النهار، ثم هي دائمة الجريان في فلكها، ثمَّ هي تكنس في آخر الليل؛ أي: تدخل في كناسها، وهو ضوء النهار المشرق، فهذه النجوم تتناسب مع الآيات الكونية المرئية للناس أجمعين، وهي ما جاء في الآيات بعدها:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ *وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17 - 18]، بخلاف تلك النجوم الشافطة التي لا يراها إلا أقلُّ الناس، بل أندرُهم،
(1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 214).
(2)
من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 70).
والقَسَمُ في غالب القرآن يأتي بشيء ظاهر للناس، أو بشيء له أثر ظاهر، أو بشيءٍ قد عُلم من طريق السمع؛ كالملائكة.
الوقفة الثالثة: تفسير السلف لهذه الآيات:
لقد ذهب السلف في تفسير هذه الأوصاف إلى مذهبين:
الأول: أنها النجوم والكواكب، ويكون خنوسها بتأخرها عن الظهور أول الليل، وكنوسها بدخولها في ضوء الصباح بعد آخر الليل، وجريانها كائن في كل أحوالها.
الثاني: أنها بقر الوحش والظباء، ويكون خنوسها بتأخرها إذا رأت إنسياً، وكنوسها بدخولها في كِناسها؛ أي: بيتها، وجريانها في الغيطان والحقول.
ويلاحظ على هذين التفسيرين أنهما ذكرا أمراً يعرفه من نزل عليهم الخطاب، ولا يحتاجون فيه إلى أدوات وآلات ليظهر لهم ذلك الأمر الخفي في هذه الأوصاف، وهذا الاختلاف بينهم من قبيل اختلاف التنوع، وجائزٌ أن يراد به هذا أو ذاك، وسببُ الاختلاف الاشتراكُ في الوصف بين النجم والكواكب من جهة، والبقر الوحش والظباء من جهة أخرى.
وإن كان التفسير الأول أنسب لمقام ذكر الآيات الكونية بعدها، غير أن الثاني محتمل أيضاً.
أما الأستاذ الدكتور زغلول النجار، ففهم تفسير السلف على النحو الآتي: «ولا يُعقل أن يكون المقصود في الآية الكريمة للفظ الكنس هي المنْزوية المختفية، فقد استوفى هذا المعنى باللفظ (الخنس)، ولكن أخذ اللفظتين بنفس المعنى دفع بجمهور المفسرين إلى القول بأن معنى:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]: أقسم قسماً مؤكداً
بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل، وهو معنى الخنس، والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء وبقر الوحش؛ أي: في مغاراتها، وهذا معنى الجوار الكنس» (1).
وهذا الذي ذكره هنا هو أحد أوجه التفسير كما ترى، وهو لم ينتبه إلى الفرق الذي ذكره المفسرون بين حالة الخنوس وحالة الكنوس، فهم لم يقولوا بالتأكيد ولا ترادف المعنى بين الخنوس والكنوس كما فهمه هو من كلامهم (2).
وكلامهم واضح في التفريق بين الحالتين، فالخنوس يتحدث عن أول ظهور النجوم في الليل، والكنوس يتحدث عن آخر وقت النجوم في الليل عند دخولها في ضوء الصباح، فالحديث إذاً عن مرحلتين مختلفتين، وليس عن مرحلة واحدة فيكون من باب التأكيد كما فهمه الأستاذ الدكتور زغلول من كلامهم، وكلامهم واضح وضوحاً لا لبس فيه، فقد نقل قول القرطبي (ت:661هـ) الآتي: «هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها؛ أي: تستتر كما تكنس الظباء في المغارة، وهو الكِناس» .
الوقفة الرابعة: هل هناك تفسير معاصر معتمد على العلم التجريبي غير ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور زغلول؟
لقد ذكر الأستاذ الدكتور تفسيراً آخر معتمداً على ظاهرة فلكية أخرى، وأنَّ الوصف في الآية للمذنبات، وهي أجرام سماوية ضئيلة الكتلة وتتحرك في مدارات بيضاوية حول الشمس، وهي تُرى كلما اقتربت من الشمس، وهي تظهر وتختفي بصورة دورية على فترات تطول
(1) من آيات الإعجاز العلمي .. السماء في القرآن (ص: 214).
(2)
هذه مشكلة نقع فيها ـ نحن المتأخرين ـ فقد نفهم كلام بعض السلف على غير وجهه، ثم نردُّ على فهمنا، ونحن نحسب أننا نردُّ على قولٍ خطأٍ عندهم.
وتقصر، ثمَّ ذكر بعد ذلك كيفية تَكوُّن هذه الظاهرة الفلكية ومم تَتَكَوَّن، ثمَّ قال: «ووجه الشبه الذي استند إليه هذا النفر من الفلكيين المسلمين المعاصرين بين المذنبات والوصف القرآني (الخنس الجوار الكنس) هو أن المذنَّب يقضي فترة تتراوح بين عدة أيام وعدة شهور مجاوراً للشمس في زيارة خاطفة، فيظهر لنا بوضوح وجلاء، ولكنه يقضي معظم وقته فترة دورانه بعيداً عن الشمس فيختفي عنا تماماً ويستتر، فإذا ما اقترب من الشمس ظهر لنا وبان، ولكن سرعان ما يقفل راجعاً حتى يختفي تماماً عن الأنظار، واعتبروا ذلك هو الخنوس.
ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء» (1).
وإذا تأملت هذا الردَّ الذي ذكره رأيت أنه ردٌّ مجملٌ غيرُ قويٍّ، ولا هو مقنعٌ، وهو مبني على فهم خاصٍّ لمعنى الخنوس ـ كما سبق بيانه ـ، وليس لمعنى الخنوس في اللغة، وإذا كان ذلك كذلك، فما المانع ـ عنده ـ من وصف هذه المذنبات بالخنوس والكنوس؟!
ما الذي يجعل هذه المذنبات لا تدخل في معنى الخنوس والكنوس ما دامت تتصف بهذين الوصفين، وما دام الأمر يرجع إلى تقرير قضية فلكية مبهرة، ثمَّ إلى ربطها بالقرآن؟!
أي فرق بين ما ذهب إليه هؤلاء الفلكيون، وما ذهب إليه هو من جهة الاعتماد على العلم الفلكي وطريق الاحتجاج به في تفسير الآية؟!
فيما يظهر لي أنه لا فرق بينهم في هذا، وإذا كان ذلك كذلك، فمن ذا الذي يمكنه الفصل بالصواب بين الفريقين؟
فمن ذهب في تفسير الأوصاف إلى المذنبات أظهر احتجاجه في
(1) من آيات الإعجاز العلمي، السماء في القرآن الكريم (ص: 216).
معنى وصفها بالخنوس والكنوس، ومن ذهب في تفسيرها إلى الثقوب السود أظهر احتجاجه في وصفها بالخنوس والكنوس، فمن المرجع هنا؟
إن علم الفلك ليس هو المرجع بلا ريب، فهو عندهم صحيح في هاتين القضيتين، فالمذنبات حقيقة فلكية مبهرة، والثقوب السود حقيقة فلكية مبهرة، وما دام الأمر كذلك من جهة علم الفلك، وهو أنه يُصحِّح تلك الحقيقتين ولا يرفضهما صار الأمر إلى شيء آخر، وهو صحة انطباق الأوصاف على القضيتين الفلكيتين، وبالرجوع إلى المعاني فإنه يجوز فيهما معنى الخنوس والكنوس على تجوز في معنى الكنوس الذي ذهب إليه الأستاذ الدكتور زغلول، فصار الأمر يحتاج إلى نظر آخر لمعرفة صحة إرادة هاتين القضيتين أو إحداهما (1)، وليس هناك ما يُرجِّح إحداهما على الأخرى، والمفسر الذي يمتلك أدوات التفسير هو الأقدر على الترجيح في هذه الأمور، وليس الفلكي.
المثال الثاني: في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].
يقول الدكتور المهندس فائق العبيدي: «يقول الله تعالى في سورة العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، ويخبرنا العلم الحديث أن الوهن هنا لم يُقصد به وهن المادة المكونة لبيت العنكبوت (الشبكة العنكبوتية)، ولكنه وَهَن الصلات الاجتماعية والتفكك الأسري لبيت العنكبوت حيث سيطرة الأنثى على الذكر.
(1) يلاحظ أنَّ كلا الفريقين ذهب في تفسيره للخنس والكنس إلى أمور لا يراها عموم الناس بادية لهم، فهل يا تُرى يذهب القَسَمُ إلى مثل هذا الخفيِّ، ويُترك القَسَم بما هو ظاهر لكثير من الناس، أو لجميعهم؟!
ومن الحقائق المتعلقة بهذا الأمر: أن العلم قد أثبت بالقياس أنَّ خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصُّلب بثلاث مرات، وأقوى من خيط الحرير وأكثر مرونة، وهذا الخيط يحمل أوزاناً أكبر منه بعشرات المرات، فيكون نسيج العنكبوت بالنسبة لاحتياجه وافياً بالغرض وزيادة، وهو بالنسبة إليه قلعة آمنة، وهذا من نتائج تصنيف العلم الحديث للمواد؛ إذ يضع نسيج العنكبوت ضمن مجموعة البوليمرات أو اللدائن الطبيعية، وقد ذكر القرآن بعض المواد مثل المعادن؛ الحديد والذهب والفضة والنحاس، وكذلك الفخاريات؛ كالصخر والجبال والصلصال والطين وغيرها، بالإضافة إلى مجموعة اللدائن، ومن ضمنها خيط العنكبوت وبيوت النحل وغيرها
…
الحقيقة الثانية: هي أن العلم كشف مؤخراً أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت وليس الذكر، وهي حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن، وإذا ما لاحظنا الآية الكريمة:{اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41]، وتاء التأنيث الساكنة دلالة على الأنثوية؛ أي: هي المسؤولة عن اتخاذ البيت وإدارة شؤونه.
الحقيقة الثالثة: هي أن الضعف والوهن هنا دلالة اجتماعية وليست مادية، ثمَّ إن الآية خُتمت بالقول:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]؛ أي: أنهم لا يعلمون هذا، وسيعلمونه مستقبلاً بعد تقدم العلم التطبيقي والتجريبي.
والواقع أن هنا سرّاً بيولوجيّاً كشف عنه العلم، فحقيقة أن بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن وصفه، بالأمان والسكينة والطمأنينة، فالأنثى تقتل ذكرها بعد التلقيح وتأكله، والأبناء يأكلون بعضهم بعد الخروج من البيض. ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده بعد أن يلقح أنثاه، ولا يحاول أن يضع قدمه في بيتها، وتغزل أنثى العنكبوت بيتها ليكون فخّاً وكميناً ومقتلاً لكل حشرة تفكر أن تقترب منه، أو تدخله زائراً
كانت أم سائلاً فإنها تقتل وتلتهم، وهذا سر هذه المذبحة، والوهن كلمة عربية تعبر عن غاية الجهد والمشقة والمعاناة، وهذا شأن من يلجأ لغير الله ليتخذ منه معيناً ونصيراً» (1).
مدارسة هذا التفسير:
أولاً: يلاحظ أن الباحث لم يرجع إلى المفسرين ولا إلى اللغويين لتقرير ما يحتاج إلى تقرير، ولمعرفة مدى قرب تفسيره من تفسير هؤلاء السالفين، فهل يا تُرى نحن في غِنى عن تفسيرهم وفهمهم للقرآن؟!
ثانياً: يلاحظ انطلاق الباحث من العلم التطبيقي أو التجريبي إلى القرآن، فهو يريد التوفيق بين ما جاء في العلم التجريبي مع ما جاء في القرآن، وهذا ظاهر جدّاً في مقالته هذه، وهو لم يذكر غير رأيه المبني على العلم التجريبي المعاصر.
ثالثاً: نَفْيُ علم السابقين بكون أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت = غيرُ سديد، فإنَّ عدم علمنا برأيهم لا يعني العدم، فلو ورد منهم إثباتُ خلافِ ذلك أو نفيُه لصحَّ ما ذكره الباحث هنا.
وليُعلم أن الذين نزل عليهم الخطاب عربٌ يفهمون تعبيراته وخطاباته، فإن كان التعبير بتاء التأنيث دلالة على الأنثوية ـ كما قال الباحث ـ فذلك مما يدركه العربي بلا ريب، فهذا لسانه، وهو أدرى به، وسيفهم أن المتَّخِذَ للبيت هو الأنثى؛ لأن الله نسب إليها الاتخاذ، وكون هذه القضية لم يدركها المعاصرون إلا بالملاحظة والتجربة لا يعني أن السابقين لا يعرفونها.
رابعاً: إن هذا التفسير خروج عن المتبادر للذهن، والمعروف من حال بيت العنكبوت، فهو ضعيفٌ لا محالة، وما كشفه العلم الحديث لا
(1) مجلة آيات (ع7/ 1425هـ/ص: 26 - 27).
يغيِّر من واقع وهن بيت العنكبوت الذي يمكن إزالته بقشَّة فضلاً عن عودٍ، فأي وهن بعد هذا؟
وهذا المعنى هو الذي فهمه المفسرون، ولم يعرِّجوا على هذا المعنى الذي ذكره الباحث.
خامساً: إن هذا التفسير الحادث ينبو عنه السياق، والسياق يدل على عدم إرادته، فالآية سيقت للدلالة على ضعف الكفار في اتخاذهم أولياء من دون الله، وأنهم كمثل العنكبوت الذي يعتمد على بيته الذي لا يقف أمام قشةٍ ولا هبة ريحٍ، وليس المجال مجال تشبيه بالوهن الاجتماعي الذي ذهب إليه الباحث، فما وجه الربط بينه وبين اتخاذ الأولياء من دون الله، وتخصيص الوهن بالدلالة الاجتماعية ونفي المادية تحكُّمٌ، وإنما صدر منه لأجل هذه المعلومات الحديثة عن العنكبوت.
سادساً: نفي العلم في قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] يعود إلى قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41] فيكون: لو كانوا يعلمون هذا المثل المضروب لهم في أنهم اتخذوا أولياء لا يُعتمدُ عليهم.
ويحتمل أن يعود إلى أوهن البيوت، ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت.
وعلى كلا الاحتمالين نَفَى عنهم العلم، وهذا ظاهر النصِّ، لكن قول الباحث:«وسيعلمونه بعد تقدم العلمي التطبيقي والتجريبي» فمما لا يدلُّ عليه نظم الجملة لا من قريب ولا من بعيد أبداً.
وإنما قال ما قال بتأثير هذه المعلومات العنكبوتية التي ظهرت في هذا العصر، فهو قد اعتقد بهذه المعلومات، ثمَّ استدل لها.
مسألة: هل لهؤلاء المعتنين بربط الآيات بالعلوم الحديثة سلف؟
لقد فُتِنَ أقوام بالتقدم المادي في العلوم التجريبية والتطبيقية، وظهر في حياتهم المختلفة آثار هذا الافتتان، وصار بعض المسلمين أسيراً لما يصدر من الغرب؛ كأي أمة منهزمة تنظر إلى ما عند هازمها، فتزدري ما عندها من العلم، سواءً شعر هؤلاء أم لم يشعروا.
ولقد فُتن جماعة من المسلمين قبل هذا العصر بعلومٍ من نتاج أقوام سابقين كعلوم اليونان، ووصل الحال بتطبيق علومهم على علوم المسلمين، وتحكيمها عليها، بل بالغ بعضهم فرأى أن الفلسفة والشريعة لا تتناقضان، وراح يحمل الشريعة على معاني الفلسفة، فكتب في ذلك (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال).
وإذا تأمَّلت عمل هؤلاء وجدت أنهم رأوا علوماً لا غبار عليها في نظرهم، ونظروا في الشريعة فوجدوا أنها تتوافق مع هذه العلوم ـ في نظرهم ـ فحملوا هذه على تلك، وجعلوا المشكاة التي تصدر عنها هذه وتلك واحدةً.
وإذا تأملت عملهم هذا وجدت ـ قطعاً ـ أنهم يضطرون إلى تأويل النصوص الشرعية ـ بل تحريفها بعض الأحيان ـ لتوافق ما في الفلسفة من معلومات، فالأصل عندهم العلوم الفلسفية، والشريعة تُعرض عليها ليُعرف منها ما هو موافق لها وإلَاّ أُوِّلَ ليوافق الفلسفة.
وإذا تأملت ما يقوم به بعض من خاض غمار الإعجاز العلمي وجدت أن حاله كهذا الحال، فهو يدخل إلى تفسير آيات القرآن وفي ذهنه معلومات سابقة قد ملأت فكره وعقله، فيرى من النصوص ما يظن أنه يوافق ما عنده من معلومات في العلم الذي يتخصص به، فيحملها على ما عنده من هذه المعلومات، وقد يصيب في بعضها، كما قد يخطئ في بعضها الآخر.
وقد يكون الفرق بين العلمين أن الأمور التي تُدرس في العلم المعاصر يوصل فيها إلى حقائق ملموسة، قد تصل إلى حدِّ اليقين فيها، بخلاف أمور الفلسفة التي تعتمد على العقل في تقدير صحة قضاياه.
ولا يخفى على الباحث أن المدرسة العقلية قديمها وحديثها تدخل في هذا الإطار، فهم يجتمع فيهم أنهم قوم اعتقدوا معاني، ثمَّ أوَّلوا النصَّ القرآني على وِفقِ ما يعتقدون.
وأذكر على سبيل التذكير أن الأمر يجب أن ينطلق من الأمور الآتية:
1 -
أن يكون المنطلق من القرآن الكريم إلى تقرير هذه القضايا.
2 -
الأخذ بمأثور السلف في التفسير، وفهم مرادهم فيه، ومعرفة وجوه التفسير التي ذكروها.
3 -
إتقان اللغة من جهة المفردات ومن جهة الأساليب، لمعرفة كيفية استنباط علاقة القضايا المذكورة في العلم التجريبي أو غيره بالآية وبتفسير السلف، إذ قد تكون القضية المستدل لها مناقضة لسياق الآية ومعناها، أو مناقضة لتفسير السلف أو مندرجة تحت قول عندهم، أو تكون محدثة لقول جديد مغاير غير مناقض.
مسألة: هل يلزم أن يظهر لكل جيل معجزة قرآنية؟
من الطريف أن غلبة موضوع الإعجاز العلمي أفرزت دعوَى مفادها ما ذكره مثل الدكتور محمد حسن هيتو، قال: «والقرآن أُنزل معجزة لكل زمان وجيل ومكان، ولم يكن إعجازه قاصراً على الجيل الأول ـ كما بينا سابقاً ـ ولذلك كان لا بد لهذا الجيل المعاصر أن يجد في القرآن المعجزة، ولئن فاته الوقوف عليها عن طريق اللغة، فلن يفوته الوقوف عليها عن طريق العلوم المعاصرة.
كما أن أهل الأجيال القادمة سوف يجدون فيه الإعجاز، ولكن لا ندري كيف سيكون ذلك.
ربما كان عن بعض الطرق التي نعرفها اليوم، وربما كان عن بعض الطرق التي سيعرفها إنسان المستقبل، وهي خافية علينا الآن. ولا يجوز لأي إنسان أن يمنع مثل هذا ما دام خاضعاً للضوابط العلمية السابقة التي ذكرناها من قوانين الشرع وقواعد اللغة» (1).
وهذا الذي ذكره من كون المعجزات متعددة للقرآن، وكونها تظهر للأجيال فيه نظر من عدة وجوه:
الأول: أنه غير لازمٍ تَنَوُّعُ الإعجازِ في القرآن على حسب العصور، فما زال المسلمون جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، لم يظهر لهم وجوه إعجاز جديدة، بل بقوا على ما ذكره السابقون من وجوه الإعجاز، ولم تظهر الأنواع الحادثة ـ كالإعجاز العلمي والتاريخي والنفسي وغيرها ـ إلا في هذا العصر، فدعوى أن يظهر للقرآن في كل قرن وجيل وجه من الإعجاز دعوى لا يوافقها تاريخ المسلمين.
أما دعوى أنه سيظهر له أنواع أخرى من الإعجاز تتناسب مع الأجيال القادمة، فتلك في علم الغيب، والله أعلم بغيبه.
الثاني: أن التقليل من فهم المعاصرين لوجه الإعجاز الذي وقع به التحدي، وهو ما كان طريقه لغة العرب فيه تنقُّصٌ لأهل هذا العصر، فإن كان المتكلم لا يدرك ذلك، فليس يعني هذا أن غيره لا يدركه.
كما أن هذه الوجوه الإعجازية التي يذكرونها لا يدركها إلا قلة من الناس، فالباحثون في ذلك العلم الذي يُدَّعى للقرآن الإعجاز فيه هم الذين يدركونه ويعرفونه تمام المعرفة، أما غيرهم، فهم يسلمون لأصحابه المتكلمين فيه، خصوصاً إذا أوتوا حسن بيان وعرض.
(1) المعجزة القرآنية .. الإعجاز العلمي والغيبي، للدكتور محمد حسن هيتو (ص: 154).
والعجيب أنَّ بعض من تحدث عن الإعجاز العلمي تراه يقلل من وجه التحدي، وهو ما كان مرتبطاً باللغة، وهو وجه النظم والبيان، يقول الأستاذ الدكتور زغلول النجار: «
…
ومع تسليمنا بالإعجاز البياني للقرآن الكريم، وبأنه المجال الذي نزل كتاب الله يتحدى به العرب ـ وهم في قمة من أعلى الفصاحة والبلاغة والقدرة على البيان ـ أن يأتوا بشيء من مثله، إلا أن البيان يبقى إطاراً لمحتوى، والمحتوى أهم من الإطار» (1).
ومقابل ذلك تراه يرفع من شأن الإعجاز العلمي، فيقول: «
…
ووسيلتنا في تحسين صورة الإسلام في العالم هي حسن الدعوة إليه بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة والمنطق السوي، وخير ما نقدمه في ذلك المضمار مما يتناسب مع طبيعة العصر ولغته هو الإعجاز العلمي للقرآن الكريم؛ لأننا نعيش في زمن أدار غالبية الناس ظهورهم فيه للدين، ولم تعد قضايا الغيب المطلق من بعث بعد الموت، وعرض أكبر أمام الله الخالق، وخلود في حياة قادمة؛ إما في الجنة أبداً، وإما في النار أبداً، وغيرها من قضايا الدين؛ لم تعد تحرك فيهم ساكناً، ولكنهم في نفس الوقت فتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة، فإذا أشرنا إلى سبق القرآن الكريم في الإشارة إلى عدد من حقائق الكون قبل أن يصل الإنسان إلى شيء منها بعشرات المئات من السنين، وهو الذي أنزل على
(1) المفهوم العلمي للجبال في القرآن الكريم، للأستاذ الدكتور زغلول النجار (ص: 8). وهذا الكلام فيه خلل من جهتين:
الأولى: أنه يمكن أن يُؤدى المحتوى بدون هذا الإطار، وهذا فيه فقدان للجانب الأكبر من التحدي الذي تحدى الله به العرب.
الثانية: أن هذا الإطار لو جاء بغير هذا المحتوى لما كان معجزاً. وهذه اللوازم الفاسدة لهذا القول تجعل القائل به يتريث في إطلاق مثل هذه العبارات التي تحتمل معانٍ فاسدة.
نبي أمي صلى الله عليه وسلم في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، فإن ذلك سوف يحرك عقولهم وقلوبهم، وسوف يحضهم على قراءة كتاب الله الذي ما اطلع عليه عاقل إلا وشهد أنه لا يمكن أن يكون إلا كلام الله الخالق سبحانه وتعالى
…
» (1).
وفي هذا التقليل من شأن التحدي القائم إلى يوم الدين ورفع ما يُسمَّى بالإعجاز العلمي = نظرٌ بيِّن، وهو كلام إنشائي خطابي لم يُقم عليه دليلاً علمياً موثَّقاً، فدعوى أن قضايا الغيب لم يَعد الناس يعتنون بها يُكذِّبه واقع الناس في الشرق والغرب من عنايتهم بالخرافة والسحر والتنجيم والشعوذة، كما أن دعوى أن الناس فتنوا بالعلم ومعطياته مما يكذبه واقع عموم الناس الذين يحرصون على الاستفادة من المنتجات الحضارية دون البحث عن كيفية تركيبها أو طلب تعلُّم ذلك، ولَهَثَ الناس خَلْف رغباتهم، وطلب إشباعها يدلُّ على بُعدهم عن التأثر بالعلم. بل إن الأقدر في الكلام ـ حتى ولو كان مبطلاً ـ هو الذي يستطيع إقناع الناس، وهذا ظاهر من صور حياة الناس اليوم، فهل كان العلم هو الوسيلة التي سَطَى بها الغرب علينا؟! أو كانت القوة؛ وإن خالفت العلم؟!
أما ما يتعلق بإدراك البيان القرآني عند المسلمين، فإنه وإن كان في حقِّ جمهورهم ضعيفاً، إلا أنه لا يزال في أعيانهم من يدركُ ذلك الفرق البين الواضح بالعلم والتحقيق دون ذلك التذوق النفسي الذي يهجم عليها دون مقدمات فتحسُّ بشيءٍ غامضٍ لا تستطيع التعبير عنه مما تجده من روعة القرآن.
كما أنَّ دعوى أن الإعجاز العلميَّ هو الكفيل بدعوة هؤلاء، فيها تزيُّدٌ ومجازفةٌ في تقدير الأمور، فإن كان الحديث عن الإعجاز العلمي
(1) مجلة الإعجاز العلمي.
موجهاً للمسلمين، فسبيله في تقوية الإيمان، وإن كان موجَّهاً للكفار فهم ـ عندي ـ على طبقات ثلاث:
الأولى: طبقة الساسة والمنظرين لهم، وهؤلاء يناصبون الإسلام العداء ظاهراً، ولا يُقرُّون به.
الطبقة الثانية: طبقة الباحثين في العلوم من أعضاء هيئة التدريس وغيرهم من المفكرين والمثقفين، وواقع الدعوة بالإعجاز العلمي أنه موجَّه لهؤلاء، وما آمن منهم إلا قليل.
الطبقة الثالثة: عامة الناس، وهم الأغلب في العدد، وهؤلاء ليس لهم شأن بالعلم والجدل، بل همُّهم وعنايتهم بلقمة عيشهم واتباع رغباتهم، ومن عاش في الغرب أو الشرق ظهر له ذلك، من ثمَّ، فإن تضخيم جانب العلم عند الغرب، ـ وأنهم لا يقتنعون إلا بالعلم ـ فيه نظرٌ، بل هو شرفٌ لا يدَّعونه، فكيف ننسبهم إليه، والحضارة الغربية أو الشرقية تقوم على أفراد قلائل، بل إن الغرب عنده قدرة على استقطاب الباحثين من الشرق ليرفعوا لواء حضارتهم، والموضوع في هذا يطول.
ثم إنه لم يكن شأن الإسلام في دعوة الناس بهذا الأسلوب، ولا أراه مما تقوم به الدعوة، فهل المقصود بيان الحقِّ الذي في الإسلام فقط؟!
إن كثيراً من المعرضين عنه اليوم، بل كبار محاربيه يعلمون بأنه حقٌّ، ويصدق فيهم قول الله تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
ومقام الإعجاز في الدعوة إلى الله مما يحتاج إلى بحث وتقويم نقدي غير مندفع بالعواطف الجياشة التي قد تغلب على طبيعة البحث العلمي، فتخرج نتائجه مرضية للعواطف لا للعلم الحقِّ.
مسألة: أنواع التفاسير المرتبطة بالعلوم التجريبية:
إن النظر في علاقة قضايا الإعجاز العلمي بالتفسير مهمة جدّاً، وهي تعطي صورة واضحة للقرب أو البُعد الدلالي من الآية، ويمكن تقسيم الآيات التي تعرَّضوا لها إلى قسمين:
القسم الأول: آيات معانيها ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير.
القسم الثاني: آيات تحتاج معانيها إلى تفسير، سواءً أكانت ألفاظها مما هو معروف الدلالة، أم كان مما هو غامض الدلالة.
أما في القسم الأول، فإن الأمر لا يعدو أن يكون بيان المعتني بإظهار الإعجاز أنه وصل إلى هذه الحقيقة الكونية التي تحدثت عنها الحقيقة القرآنية، فيلتقي في هذا كلام المتكلم عما خلقه، هذا منتهى الأمر، ومن أمثلة ذلك:
في مقالة بعنوان (الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي) كتب الجيولوجي محمد بن جابر محمود كلاماً حول هذه الآية، واختصرت منه آخر كلامه، وهو التعليق على هذه الآية ـ مع ما فيه من طول ـ إلا أن المقام يقتضيه، قال: «النواحي العلمية الإعجازية في القرآن الكريم:
عندما ذكر الله تعالى في الآية السابقة قسوة قلوب بني إسرائيل شبَّهها بإحدى الأشياء المحسوسة لدى البشر وهي الحجارة، ثم في إشارة لكون قلوبهم أقسى من الحجارة ذكر أن الحجارة تتفاوت في قسوتها ليعلم أن قلوبهم أقسى من أقسى الحجارة. ثم برزت بعض النواحي الإعجازية عند الحديث عن هذه الأشياء المحسوسة لتكون ذات
دلالة على السبق القرآني لهذه الظاهرة العلمية لمن يتفكر ويبحث فيها من المتقدمين والمتأخرين.
وقد أتت هذه النواحي الإعجازية مجملة غير مفصَّلة لتبقي مجال التفكير مفتوحاً وفرص اكتشاف الحقيقة متساوية لجميع من أنزل إليهم هذا القرآن من الأولين والآخرين.
الناحية الإعجازية الأولى: في هذه الآية: تتمثل في أنه عند ذكر قسوة الحجارة ذكر معها أحد الظروف التي لها تأثير كبير على التغير في هذه القسوة وهو وجود الماء والمقدار النسبي لضغطه داخل الحجارة ونفاذية الحجر. يذكر إدقر دبليو سبنسر (Edgar W. Spencer) في كتابه (مدخل إلى تركيب الأرض): (أنه كلما زاد ضغط الماء داخل الحجارة فإنها تكون أضعف وأكثر قابلية للتكسر (Brittle) ، ويشترط سبنسر لهذا التأثير (أن تكون الحجارة ذات نفاذية كبيرة نسبيّاً بحيث تسمح بتوزيع متماثل للضغط في الأجزاء المختلفة من الحجارة)، وهذا الشرط يعني أن يكون الحجر قابلاً لأن ينفذ الماء خلاله أو منه بسهولة بحيث يمكن أن يمر خلال الحجر أو يتدفق منه معدلات كبيرة نسبيّاً من الماء. فإذاً هنا ربط بين ضغط الماء ـ الحاصل من كميات الماء التي من الممكن أن تتدفق من الحجر ـ وقابلية الحجر للتكسر، وهذه الحقيقة التي دُرست وحُققت في المختبرات قد أثبتها القرآن الكريم ملخصة في قوله تعالى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البقرة: 74] ففي لفظة {يَتَفَجَّرُ} إشارة إلى أمرين:
الأول: هو وجود الماء تحت ضغط عالٍ داخل الحجر.
والثاني: هو تعرض الحجر للتكسر وليس للتشقق، وذلك بسبب هذا الضغط العالي، حيث إن كلمة التفجر بالنسبة للتحجر تعني التفكك القوي المفاجئ، أما (لفظة الأنهار) فتدل على غزارة المياه التي تخرج من هذا النوع من الحجر، وبالتالي إلى النفاذية الكبيرة لذلك الحجر،
وهذه الناحية الإعجازية فيها تبيين العلاقة الوثيقة بين قابلية الحجر للتكسّر والضغط العالي للماء في داخل الحجر وكذلك نفاذية الحجر.
الناحية الإعجازية الثانية: هي في الوصف الدقيق للنوع الثاني من الحجارة في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة: 74] هذا الوصف مبني على أن تفاوت الحجارة في قسوتها إنما هو مرتبط بعوامل أخرى غير التركيب الكيمائي للحجارة، وفي هذه الحالة هناك ربط لقسوة الحجارة بالضغط القليل للماء الموجود في المسامات بين الحبيبات المكونة للحجارة. يذكر (إدقر دبليو سبنسر) وصف هذا الربط بأنه تحت ظروف الضغط القليل للماء داخل الحجارة فإن قوة الاحتكاك بين الحبيبات الصغيرة التي تتكون منها الحجارة تكون قليلة جدّاً فتبدأ الحجارة بالتشقق تدريجيّاً في المواضع التي يكون فيها ارتباط الحبيبات ببعضها ضعيفاً فتنفصل الحبيبات وتتباعد عن بعضها البعض دون أن تتكسر الحبيبات نفسها، ومع هذا التشقق تحدث زيادة دائمة في حجم الحجارة مما يجعلها في هذه الحالة من النوع اللدائني (Ductile Rock) ، ويتدفق الماء من خلال التشققات بشكل غير عنيف لأن ضغط الماء داخل الحجارة ليس قوياً، ويكون هذا التدفق بكميات قليلة نسبياً لكون الشقوق ليست كبيرة.
وهذا الوصف العلمي لقسوة الحجارة وعلاقتها بالمقادير النسبية لضغط الماء ومعدل تدفقه من الحجارة قد أورده الله تعالى بشكل دقيق في بضع كلمات في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} فيبدأ بقوله {وَإِنَّ مِنْهَا} أي: وإن من الحجارة نوع آخر في قسوته غير النوع الذي ذكر في الجزء الأول من الآية، {لَمَا يَشَّقَّقُ} أي: لما يتصدع أو يتكون فيه شقوق، وصيغة يشقق هنا فيها دلالة على المطاوعة؛ أي: أن الحجارة شققت بسبب ضغط الماء فتشقق استجابة لهذا الضغط {فَيَخْرُجُ} أي: يسيل ويتدفق من غير اندفاع لأن كلمة يخرج في هذا الجزء من الآية ذكرت في مقابلة {يَتَفَجَّرُ} [البقرة: 74] في الجزء
السابق من الآية والتي تدل على الاندفاع بقوة، ثم قوله {الْمَاءُ} [البقرة: 74] للدلالة على أن الماء الذي يخرج من هذا النوع من الصخر إنما يكون بكميات قليلة، وهذا يأتي من كون كلمة {الْمَاءُ} أتت في مقابلة كلمة {الأَنْهَارُ} [البقرة: 74] في الجزء السابق من الآية، والأنهار جمع نهر وهو اسم دال على هيئة معينة من الماء الكثير.
الناحية الإعجازية الثالثة: وهي ناحية علمية وفيها لمحة إعجازية لغوية في نفس الوقت تتجلى هذه الناحية الإعجازية في قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] وفي قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا} [البقرة: 74]، حيث يدل اللفظ في هذين المقطعين من الآية على التبعيض؛ أي: أن هذين النوعين من الحجارة هما على سبيل المثال لا الحصر.
ومن ذلك يمكن الاستنباط أن الحجارة قد تكون أنواعاً كثيرة من حيث قسوتها باعتبار الظروف المختلفة التي تكون فيها الحجارة عندما تتعرض للإجهاد وغيرها.
واستكمالاً للتدبر في الآية نلاحظ أن الجزء المتبقي من الآية هو قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] يتحدث عن نوع آخر من الحجارة يهبط من خشية الله، وقد ذكر كثير من المفسرين أن معنى {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} أي: يتردى من أعلى الجبل، كما ورد عند بعضهم أن الهبوط مجاز على الخشوع منها والتواضع الكائن فيها انقياداً لله عز وجل.
قلت والله أعلم: المراد بالهبوط رغم أن ظاهر المعنى لا يدل على علاقته بقسوة الحجارة من الناحية الميكانيكية إلا أنها تنفعل من خشية الله بالهبوط كما تنفعل الحجارة الأخرى لما تتعرض له من ضغط الماء سواء كان الضغط قليلاً أو كثيراً. ولعل العلم يكشف يوماً ما عن المعنى المراد بالهبوط في هذه الآية إن لم يكن مجازيّاً» (1).
(1) الإعجاز العلمي (مجلة تصدر عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنَّة ـ رابطة العالم الإسلامي ـ العدد السابع/جمادى الأولى: 1421هـ).
ويمكن القول بعد هذا النقل الذي لا بدَّ منه ـ مع طوله ـ أنَّ ما قدَّمه الباحث لا يعدو التنبيه على وجود هذه الأنواع من الحجارة في الأرض، فوافق الخُبر الخَبر، وذلك أمر لا محالة منه لأن خالق الحقيقة الكونية هو قائل الحقيقة القرآنية، فلا يمكن أن يتخلف خبره عن خلقِه.
ولعلك تلاحظ أن الوصول إلى ما قرَّره القرآن بعبارة موجزة سهلة من أمر هذه الحقيقة = استغرق أبحاثاً حتى وصلوا إليها.
كما أنَّ الباحث لم يُجنِّب نفسه ما نهى عنه منظِّرو الإعجاز من البعد عن المجاز والقول به، فذهب إلى ما لم يدركه من هبوط بعض الحجارة إلى احتمال المجاز، وذلك التخريج فيه نظر، فهو قد وصل إلى إدراك الحقيقة في التمثيل بالحجارة من النوعين الأولين، فهلَاّ سلَّم الأمر لله، وترك احتمال المجاز، فقد يصل غيره فيما بعد إلى ما لم يصل له، وإن لم يصل فليس علينا أن نعدو ظاهر القرآن إلى القول بالمجاز لأجل شبهة عارضة، ونحن نعلم أن الله قادر على كل شيء، وقد قال:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
وأما القسم الثاني، وهو الآيات التي تحتاج معانيها إلى تفسير، فمن أمثلته ما ورد في قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
وهذه الآية للسلف فيها قولان:
الأول: وإنا لقادرون، مأخوذ من الوُسْعِ، وهو القدرة والطاقة.
الثاني: جاعلوها ذات سعة، فهو من السَّعةِ والانفساح.
وهذا على حكاية حالها بعد خلقها، وأنها خُلِقت واسعة فسيحة.
وجاء في علم الفلك ما يدل على أنَّ الكون يتمدد، وبنى عليه بعضهم أنَّ هذا التمدد الذي توصل إليه علماء الفلك هو المقصود بقوله:
{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 74]، وفي حمل الآية على هذا الكشف إشكال.
وهذا المعنى المذكور فيه زيادة في التفسير من جهة المعنى، فصار في الآية ثلاثة معانٍ.
وقد يقع التفسير المعاصر في تحديد مبهم خلاف ما حدَّده السلف، والأمر المذكور عند السلف وعند المعاصرين يدخل في معنى هذا الإجمال المحتمل، وذلك في مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، والمقصود بذلك الأمر المجمل هو: ما المسلوب الذي لا يُمكنهم أن يستنقذوه من الذباب؟
فالسلف يقولون بأن الذباب يقع على الطعام أو الطيب الموضوع للآلهة، ولا تستطيع هذه الآلهة أو من يعبدها أن تسترجع منه ما يعلق بأطراف الذباب، لضآلة ما يأخذه من هذا الطعام أو الطيب، فلا هم يستطيعون ردَّه ولا آلهتهم تستطيع ذلك، وهذا المعنى حقٌّ بلا ريب.
وقد ورد في الإعجاز العلمي ما يأتي: «إن الله سبحانه ضرب لنا مثلاً أن الذين تعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإذا سلبهم الذباب شيئاً، لا يستطيعون أن يسترجعونه منه، ولقد أثبت العلم الحديث الإعجاز العلمي لهذه الآية، فلو وقف الذباب على قطعة بطيخ مثلاً يبدأ في إفرازاته التي تمكنه من امتصاص أو لعق المواد الكربوهيدراتية وغيرها مما تحتويه البطيخة وعندئذ تبدأ هذه المواد بالتحلل إلى مواد بسيطة التركيب، وذلك من أجل امتصاصها، فالذباب لا يملك جهاز هضمي معقد لذلك يلجئ إلى الهضم الخارجي وذلك من خلال إفراز عصارات هاضمة على المادة المراد التغذية عليها، ثم تدخل هذه المواد المهضومة خارج الجسم إلى الأنبوب الهضمي حتى يتم
امتصاصها لتسير في الدورة الدموية إلى خلاياه ويتحول جزء منها إلى طاقة تمكنه من الطيران وجزء آخر إلى خلايا وأنسجة ومكونات عضوية وجزء أخير إلى مخلفات يتخلص منها جسم الذباب، فأين قطعة البطيخ؟ وما السبيل إلى استرجاعها، ومن يستطيع أن يجمع الأجزاء التي تبدو في طاقة طيران الذباب والأجزاء التي تحولت إلى أنسجة» (1).
وإذا كانت هذه المعلومة حقيقة ثابتة، فهي وجه آخر من وجوه ما يسلبه الذباب ولا يستطيعون ردَّه، وليس هذا الوجه هو المقدَّم في التفسير، فالأولى في التفسير ما يدركه الناس بما يعرفونه من واقعهم اليومي، أما هذا الذي اكتُشِف حديثاً، فهو مما لا يُدرك إلا بالمعامل والمختبرات، وليس لنا ـ عموم الناس ـ إلا التصديق بصحة تلك الدراسات، أما وقوع الذباب وأخذه من الطعام فالمرء يشاهده في أحيانٍ كثيرة.
وقد يكون التفسير المبني على العلوم التجريبية والكونية مقوٍّ لما ورد عن السلف، فالسلف ذهبوا إلى معنى في تفسير قوله تعالى:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]، فقد ورد في التفسير عنهم قولان:
الأول: أن نجعل يده مستوية بلا تفاريق في الأصابع كخفِّ البعير، وهذا قول جمهور السلف.
وهذا يجعل الفائدة من الأصابع في القبض والبسط والإمساك منعدمة، فلا يكون لها فائدة إذا كانت مجتمعة.
ووجه هذا التوعُّد: إنَّا قادرين على أن نجمع عظامه بعد موته كقدرتنا في هذه الدنيا على تسوية بنانه كخف البعير، هذا توجيه هذا القول.
(1) آيات قرآنية في مشكاة العلم، يحيى المجري، نقلاً عن موقع:
(http://www.55a.net/105.htm#_ftn1)
الثاني: نعيد أطراف أصابعه كما كانت بعد أن تبلى ويبلى جسده كله.
وفي هذا إشارة إلى قدرة الله على إعادة ما هو دقيق لطيف من جسم الإنسان، وكأن المعنى: بلى إنا قادرين على جمع ما هو أدقُّ من العظام، وهي تلك الأطراف اللطيفة.
وقد جاء في العلم المعاصر ما يفيد بعلمٍ خاصٍّ بالبنان، وهو ما يسمى بالبصمة، ووجدوا أنَّ كل إنسانٍ له بصمة تخصُّه لا يمكن أن يشاركه فيها أحدٌ، وحملوا سبب ذكر البنان على هذا المعنى الذي ذكروه.
وإذا تأمَّلت هذا القول، والقول الذي قبله لا تجدُ بينهما اختلافاً، فالأولون نظروا ـ بما وصلهم من علم ـ إلى ما في البنان من دقة ولطافة وحسن تفاريق، فحملوا سبب ذكرها على هذا المعنى.
والمعاصرون زاد عندهم تفصيل أدقُّ في البنان، فذكروه، ولا يعني هذا أنَّ ما ذكره الأولون غير صحيح، لكن ما قاله السلف له وجه صحيح، وما ذكره المعاصرون قولٌ محتملٌ، والله أعلم.
مسألة: هل يلزم تجهيل السلف بما في القرآن من هذه الوجوه الجديدة؟
إن المجال لا يتسع لمقدمة لا بدَّ منها، فأكتفي بالإشارة إليها، وهي منْزلة علم السلف وتفسيره، وقيمته بالنسبة لتفسيرات المتأخرين، وتلك قضية مهمة غفل عنها كثيرٌ ممن دخل في الإعجاز العلمي، ففرح بما أوتي من العلم، وظنَّ ـ جهلاً منه ـ أنَّ تفسيرات السلف تفسيرات ساذجة، وليس فيها قيمة علمية، وتلك بلية بلا ريب.
وأقول: إنَّ المقام الذي يجب علينا أن نقومه أمام تفسير السلف يتمثَّل في أمور:
الأول: معرفة ما منَّ الله عليهم به من التقدم في الإسلام، والإحاطة بعلم الشريعة، والإدراك لمعاني كلام الله مما نحتاج ـ نحن المتأخرين ـ إلى أن ندرك مرامي تفسيراتهم، ودقة أقوالهم في ذلك.
الثاني: أن نفهم كلام السلف ونعرفه، لكي لا نتعجَّل في ردِّه.
الثالث: أن نبني عليه ولا ننقضه.
الرابع: أن نعلم أن اختلافهم ـ في الغالب ـ اختلاف تنوع، وقد يكون راجعاً إلى قولٍ، وقد يكون راجعاً إلى قولين أو أكثر.
فإن كان راجعاً إلى قولٍ، فقد يكون القول المعاصر داخلاً في أحد أقوالهم، وقد يكون معنًى جديداً.
فإن كان معنًى جديداً فضابط قبوله أن لا ينقض قولهم، ويردَّه.
وإن كان راجعاً إلى أكثر من قولٍ، فإما أن نختار من أقوالهم، وإما أن نأتي برأي جديد يكون مع أقوالهم على سبيل التنوع لا المناقضة.
وهذا المقام، فيه سعة في اختيار قول والإعراض عن الأقوال الأخرى، لكن لا يكون الاختيار والترك إلا بعلم؛ لأنه قد يكون المتروك هو القول الصحيح.
الخامس: أنَّ عدم قولهم بهذا مبني على مسألة مهمة، وهي التفريق بين أمرين:
الأمر الأول: أنه لا يوجد في القرآن ما لم يعرف له السلف معنى صحيحاً، وهذا يعني أنهم ـ بجمهورهم ـ فسروا القرآن كله، ولم يفت عليهم شيءٌ من معانيه.
الأمر الثاني: أنَّ للقرآن وجوهاً غير التي ذكرها السلف، وأنه يجوز تفسير القرآن بالوجوه الصحيحة التي تحتملها الآية، وهذا يعني أنه قد يرد عند المتأخرين من وجوه القرآن ما لم تكن دواعيه موجودة عند السلف،
فيفسره المعاصرون على ما ظهر عندهم من الدواعي، ويكون تفسيرهم مقبولاً إذا كان جارياً على أصول التفسير الصحيحة.
وهذه المسألة من الأهمية بمكان، وأكتفي هنا لضيق المقام بدليل واحد فقط، وهو أنَّ بعض السلف نزَّل بعض الآيات على أقوام ممن جاءوا بعد التَّنْزيل، مع أن الآيات نزلت في أناس معاصرين له، ولم يُنكر ذلك من صنيعهم، وهذا الذي يعمل به المعاصرون من هذا الباب، والله أعلم.
ومن أمثلة ما ورد عنهم:
قال الطبري: «وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} يقول: فلما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} يقول: أمال الله قلوبهم عنه.
وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوَّام، قال: ثنا أبو غالب عن أبي أمامة في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} قال: هم الخوارج».
وإذا فُهِمت هذه المسألة ظهر أنه لا داعي للتهييج بكون السلف لا يعرفون هذه الوجوه، وإنما يكون ذلك لو أن السلف عرفوا هذه الوجوه واستنكروها، والمقام في مثل هذا الحال أن يُوقف عند ما استنكروه، ولا يُقال به.
أما المقام هنا، فإنه من باب حدوث أمر جديد يحتمل تنزيل الآية عليه، وإدخاله في معناها، وهذا يحتاج إلى ضوابط يُضبط بها ما يمكن قَبوله وما لا يمكن قَبوله من هذه الأقوال الحادثة.
مسألة: في ضوابط قبول التفسيرات المبنية على العلوم الكونية والتجريبية:
بعد هذا المطاف في هذا المقال أقف عند نقطته الأخيرة، وهي ضوابط قبول التفسيرات المبنية على هذه العلوم المعاصرة، فأقول:
إنَّ من المهم جدّاً لدارس علم التفسير أن يعرف الصحيح من الضعيف في التفسير، ولا يمكنه ذلك إلا إذا كانت هناك ضوابط وقواعد واضحة يعمل بها.
وقد اطلعت على ما كتبه بعض المعتنين بالإعجاز من الضوابط فألفيتها تحتاج إلى ضبط وتدقيق، وأنَّ هناك ضوابط لم تُذكر، وإليك ما ظهر لي مما أراه في ضوابط قبول هذه التفسيرات:
أولاً: أن تكون القضية المفسَّرُ بها صحيحةً في ذاتها، فإن كانت باطلة فلا يصحُّ أن يُحمل القرآن عليها:
وتظهر صحتها من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: صحتها من جهة الوقوع.
الوجه الثاني: دلالة اللغة عليها.
الوجه الثالث: عدم مناقضتها للشرع.
أما الوجه الأول: فلا يمكن أن يدركه إلا المتخصص بتلك الواقعة من فلكي أو طبيب، أو جيولوجي، أو غيرهم؛ كلٌّ في تخصصه.
وما ذلك إلا لأنَّ العالم بالتفسير، أو بالشريعة لم يدرس هذه العلوم ليدرك صحة الواقعة من خلافها، لذا فإنه يعتمد على ما يذكره العالم بتلك الواقعة ثقةً به في علمه، فإذا أخبر الطبيب عن الظلمات الثلاث بحسب ما وصل إليه علم الطب الآن، فإنه لا سبيل للمفسر إلى إنكار ذلك، بل شأنه التصديق ثقة بالمخبر عن ذلك.
أما الوجه الثاني والثالث: فإن المفسر أقدر فيهما من العالم بالواقعة الكونية أو التجريبية، ويمكنه معرفة صحة دلالة اللغة على تلك الواقعة، أو عدم مناقضتها للشرع، وأضرب على ذلك مثالين موجزين لضيق المقام:
الأول: من فسَّر الذرة في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. بأنها الذرَّة الإلكترونية، وذلك غير معروف في لغة العرب، فلا يصح التفسير بها.
الثاني: من فسَّر قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] بأنها الأطوار الداروينية في نظرية النشوء والارتقاء، وتلك النظرية مصادمة للشرع، وهي باطلة مردودة.
ثانياً: أن لا تناقض قول السلف (الصحابة والتابعين وأتباعهم):
وقد مضت الإشارة إلى تفصيل القول في ذلك، وأنَّ المناقضة إنما تكون في ردِّ ما اتفقوا عليه، أو ردِّ جميع تفسيراتهم؛ لأنَّ من لوازم ذلك أن يكون في القرآن شيء من معانيه جهِله المسلمون منذ عهد الصحابة إلى وقت ظهورِ هذه القضية العلمية، واكتشافِ وجه ارتباطها بمعنى الآية، وهذا لازم باطل بلا ريب، والقول بجهل السابقين بمعنى الآية مطلقاً يدل على وجود خلل في تنظير القضية.
والصواب في ذلك: أن يُقبل ما قاله السلف، ويضاف إلى أقوالهم ما تحتمله الآية من المعاني الصحيحة التي يحتملها السياق.
ثالثاً: أن تحتمل الآية القضية المفسَّر بها:
إن الملاحظ أنَّ من يتوجه إلى بيان القرآن بالمكتشفات المعاصرة يحرص على ربط بعض تلك المكتشَفات بالقرآن، ويقع الخلل عنده في الربط.
فقد تكون القضية التي ثبتت في المكتشفات صحيحة لا ريب فيها، ولكن الآية لها دلالة عند السلف لا توافق تلك القضية المكتشفة، فيأتي من يعتني بهذا الأسلوب، فيجعل الآية تدلُّ على ما ثبت في الاكتشاف المعاصر، وقد تكون الآية لا تدلُّ عليه، فهل يدلُّ قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] على ما اكتُشِف حديثاً من أنَّ الإنسان إذا صعد في طبقات الجو العليا يضيق تنفسه بسبب قِلَّة الأكسجين؟
ذلك ما يحتاج إلى تحرير، لأنَّ القضية التي اكتُشِفت قضية كونية صحيحة، والآية لها دلالة، فهل من دلالاتها هذه القضية؟
وأقول: إنَّ كثيراً من القضايا التي رُبِطت بالقرآن تكون قد ثبتت علميّاً، لكن الأمر هنا في صحة دلالة القرآن عليها، والله أعلم.
والنتيجة في مثل هذه: أن تكون القضية المكتشفة صحيحة، ولا تناقض تفسير السلف، لكن الآية لا تحتملها ولا تدل عليها.
وهذه المسألة ـ وهي صحة دلالة الآية على المكتشفات العلمية ـ هي محور الخلاف، ومحل النِّزاع الذي يحتاج إلى تحرير؛ إذ الأقوال الباطلة المبنية على علم باطل لا يدلُّ عليها القرآن قطعاً.
رابعاً: أن لا يُقصر معنى الآية على هذا التفسير المعاصر:
هذا الضابط يتداخل مع الضابط الثاني، وهو أن لا يناقض قول السلف، وإنما أُفردَ للتنبيه على أنه قد يُفهم من عرض المكتشفات العلمية دون الأقوال الأخرى المحتملة؛ أن الآية لا تدلُّ إلا على هذا التفسير الحادث دون ما سواه، وعلى هذا فهو ضابطٌ احترازيٌّ يحسن بمن يتعرَّض للتفسير أن يتنبَّه له، وأن يذكر ـ ولو على سبيل الإجمال دون
التفصيل ـ أن في الآية أقوالاً أخرى صحيحة، حتى يزول عند السامع احتمال أن التفسير المعاصر هو المراد دون غيره.
وبعد:
فإنني لا زلت أدعو إلى التؤدة والتريُّث في إثبات كون القرآن دلَّ على هذه المكتشفات المعاصرة، لأنه يُبنى على ذلك أمورٌ هي من الأهمية بمكان، ومنها:
1 -
القول على الله بأنَّ هذه القضية المكتشفة أحد مراداته في كلامه، وإذا كان هذا القول بلا علم، فإنه من المحرمات التي ذكرها الله في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
2 -
الاعتماد على ربط هذه القضية في إثبات صحة الرسالة، مع أن صحتها تثبت بما هو دون ذلك.
3 -
أنَّ كثرة الاستدلال بهذه القضايا على صحة الرسالة تجعل الإسلام ديناً عقليّاً بحتاً، فالداخل فيه لا يمكن أن يقتنع به إلا بهذا الأسلوب، وذلك مخالف لطبيعة الإسلام، فكثيرٌ ممن ربطوا الإسلام بهذا العقل دون العقل الفطري وقعوا في الضلال؛ ككثير من المتكلمين والفلاسفة الذين عاشوا في ظل الإسلام؛ كابن سينا وابن رشد وغيرهم.
4 -
أنه مما لا يخفى على الباحثين في الأمور الكونية والتجريبية أن العلم البشري ناقص، وأنه يتطور مرة بعد مرة، ولا يأمنون أنَّ ما يعدونه اليوم حقيقة يكون غدّاً تاريخاً علميّاً لقضية أخرى، ولا يكون الفهم السابق هو الصواب.
والدعوى بأنه لا يُفسَّر القرآن إلا بما ثبت يقيناً دعوى فقط، والواقع الذي يمارسه من يربط القرآن بالمكتشفات المعاصرة يخالفه، فما
إن تظهر قضية يحس الباحث أن القرآن دلَّ عليها إلا وانصرف ذهنه من حيث لا يشعر إلى إثبات الربط بينها وبين القرآن، وقد مضى التعليق على قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16].
وأخيراً، فإن بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السُّنَّة، يأخذها بنظره العلمي التجريبي، ولا يدرك حقيقة الوحي، وأنَّ هذا القرآن من عند الله، فبينه وبين ذلك حجاب مستور، والله أعلم.
ومن ثمَّ، فإن العناية بالأمر الأول ـ وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه ـ يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني ـ وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي ـ لوجهين:
الوجه الأول: أنه هو المجال الوحيد الذي سبقنا فيه أعداؤنا، ولا بد لنا من منافستهم في ذلك، والسعي للتقدم عليهم فيه.
الوجه الثاني: أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسُّنَّة، بل إنهم سوف يعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسُّنَّة التي وصل إليها البحث الغربي الكافر.
وإذا بقي همُّنا منصبّاً على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كل جديد في العلوم، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا، وما ذاك إلا بسبب أنَّ موقفنا نحن المسلمين موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدمه.
والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع، لذا لا بدَّ من أن يواكب العلم قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم
وتحافظ عليه، وإلا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة.
وأختم هذه المقالة فأقول: إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح، ولولا ضيق المقام لأشرت إليها، وإني أسأل الله أن يوفقني ويعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه.
* * *
المقالة الثالثة
الإعجاز العلمي